أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة
لاحظ الطفل، وأمعن النظر في تصرفاته، وراقب البواعث على حركاته وسكناته، تخرج بنتيجة حتمية، وهي أنه أناني مفرط الأنانية، يرى أن أهم ما في الوجود شخصه، وكل شيء حوله يجب أن يكون له؛ ما يصدر عنه من أعمال فإنما هي لجسمه، وللذة يلتذها جسمه، ليس يهمه أي شيء يتصل بغير شخصه، لا يعنيه من أمه إلا أن ثدييها وعاء للبنه؛ كل ما له من عمل، وكل ما له من شعور، وكل ما له من فكر، وكل ما له من رغبات، فإنما هي موجهة نحو ذاته؛ فإذا أحس فراعًا من الزمن ليس فيه شيء مما يشتهي ويلتذُّ بكى، لو كُلف أن يرسم خريطة العالم كما يرى، واستطاع ذلك، لَرَسَمَ شخصه فقط، وكان هو العالم وحده وما عداه من شيء فلخدمته.
لاحظه بعد ذلك وهو ينمو، تجده يتحول من «أنا» قليلًا قليلًا إلى «نحن» شيئًا فشيئًا، فهو يبدأ يشعر بأسرته بجانب شخصه، ثم بتلاميذ مدرسته بجانب نفسه، ويتعلّم دروس الأخذ والإعطاء بعد أن كان درسه الوحيد هو الأخذ، ويضم إلى العمل لشخصه العمل لغيره، ويعتاد ألا يعمل فقط ما يحب، بل يعمل أيًا ما يجب، ويعمل ما تقتضيه التقاليد، ويعمل خوف الاستهجان أو العقوبة أو نحو ذلك — يتعلم ذلك كله في أسرته وفي مدرسته، وفي ألعابه وفي شارعه؛ ويتولد فيه شعور وتفكير ورغبات للعمل للغير، كما تولَّدَتْ فيه من قبل هذه الأمور للعمل لشخصه.
ويَرقَى فيه الشهور ﺑ «نحن» إذا اتسع أُفُقه في الحياة العامة، وخرج من المدرسة وتولّى عملًا، وعامل الناس وتبادل معهم المنافع والمصالح، فيشعر بأن هناك أناسًا غير أسرته وغير مدرسته وغير معارفه، وأنه مرتبط ببعضهم في التعامل، ويشعر بأن هناك مسئولية مُلقاة على عاتقه نحو من يعمل معهم، وأنه خاضع لقوانين البلاد، وله ربواط بقومه وأهل دينه ونحو ذلك، كما يشعر أنه يجب عليه العمل، لا كما يحب كالطفل، ولا طاعة للتقاليد أو خوفًا من العقوبة كالفتى، ولكن ليحصل رزقه يقوت به نفسه أو أهله أو مَنْ يحمل عبئهم؛ وهكذا تراه يبعُد بعض الشيء من «أنا» ويقرُب من «نحن»، ولكن في حدود ضيقة معينة.
فإذا نحن سمونا لدراسة «الرجال» وعظماء الناس، رأينا استغراقًا وعمقًا في «نحن»، وضمروا في «أنا»؛ رأينا الرجل العظيم الناضج يصل إلى منزلة يرى معها أن لا قيمة لحياته إلا إذا ارتبطت بحياة الناس والعمل لإسعادهم، لا يقتصر على علاقاته الطيبة بمن حوله في الأعمال العادية، ولكن يضع نصب عينه العمل لترقية الناس روحيًا ونفسيًا وماديًا؛ لا يرى أن مسئوليته هي نحو أسرته فقط، ولا أصدقائه فقط، ولا قريته أو مدينته فقط ولكن لأمته خاصة، وللإنسانية عامة إن وسعه الجهد والكفاية؛ هو واسع النظر، عميق الفهم، رحب الصدر، متسامح أمام ما يشمل العقل من العصبية الوطنية والدينية والخلافات، الحزبية؛ يختبر حاجات الناس وأسباب شقائهم في الناحية التي هو مُعَدٌّ لها، ثم يوجه إرادته لرفع الشقاء عنهم، وجلب السعادة لهم ما أمكن، ويحمل مسئولية ذلك في لذة وسرور وتضحية، ولا بأس إن كان فقيرًا، ولا بأس إن لم تُنبته أُسرة أرستقراطية، ولا بأس إن لم يتسلَّح بقوَّة، فهو يشعر أن نُبل غرضه قوة فوق قوة المال، وفوق الأسرة النبيلة، وفوق أسلحة الناس.
إذا كانت جماهير الناس يعملون للأجر، ويقوِّمون العمل بالمال، فإن أُعطوا كثيرًا عملوا كثيرًا، وإن أُعطوا قليلًا عملوا قليلًا، ويفاضلون بين عمل وعمل بقدر ما يدر من ربح، فإن هؤلاء العظماء يعملون لأنهم يلذُّهم العمل، ويقوّمون العمل بمقدار ما يحقق من خير لأمتهم وللإنسانية أجمع؛ يدأبون في العمل، ويعرضون حياتهم للخطر في سبيل مرض يكتشفونه وداء يعالجونه به، أو في سبيل تحرير العقول من أغلالها، أو تحرير العقيدة مما أفسدها، أو يحاربون الظلمة والطغاة لتحقيق العدل في الأمة أو العالم، يحتملون في ذلك العذاب ألوانًا، لأن عشقهم للحق غلب حبهم للذات، وهيامهم ﺑ «نحن» أضعف حبهم لـ «أنا». فإذا قال الطفل «أنا»، وقال الإنسان العادي «أُسرتي»، قال الرجل «أُمتي»، أو «عالمي»؛ وإن تلذذ الناس بالعمل يربح، تلذذ هو بالفكرة تنجح؛ وإن تساءلوا عند العمل: ماذا نجني من دَخْل؟ تساءل هو: ماذا يستلزم العمل من جهد؟
قد منحهم الله قوة من فوَّته، وقدرة على الخَلْق من قدرته: يخلقون النافع فيما حولهم، ويبتدعون الجمال ينشرونه في دائرتهم، فهم — دائمًا — مصدر نفع وجمال. حدَّدوا غرضهم في الحياة، فعلموا أنهم لا يصلون إليه إلا إذا فهموا حق الفهم دنياهم التي يعيشون فيها، وطبائع نفوس الناس في الاستجابة للإصلاح والنفور منه.
يلتذّون تحمُّل التبعات كما يلتذ الجبناء الهرب منها، يواجهون الصعوبات بابتسام، ويتقبلون الهزيمة ريثما يستعدُّون للوثوب؛ أقوياء في خصومتهم. صابرون في هزيمتهم، كرماء سمحاء في انتصارهم؛ آلوا على أنفسهم أن يكونوا قوة محاربة للشر المحيط بهم حتى ينهزم، وأن يكونوا ضوءًا يدافع الظلام حتى ينجاب، يكرهون من أعماق نفوسهم المرض والجهل والفقر، والسخافة والتخريف، وكل عيوب البشرية، ومع هذا يمزجون كراهيتهم لهذه الأشياء بالعطف على المنكوبين بها حتى ينقذوهم منها.
كافأتهم الطبيعة على حسن صنيعهم براحة ضميرهم وطمأنينة بالهم، لأن الطبيعة فرضت أن يكون الإنسان اجتماعيًا، وفرضت أن ينبع سنَّة الارتقاء، فأثابت مَن جرى على سننها، وعاقبت مَنْ خالف قوانينها؛ فإذا رأيت سأمًا وضجرًا بالحياة، وميلًا إلى الانتحار، وجنونًا بعد عقل، وشقاوة نفس بعد سعادة، فثم — ولا شك — قانون طبيعي خولف، وطريق مستقيم عدل عنه.
•••
ثم الأمر في النفس ليس كالأمر في الجسم فقد ينضج الجسم ويكتمل، والنفس لا تزال على حالها نفس طفل؛ فالشاعر كان محقًا حين قال: «جسم البغال وأحلام العصافير»، وفي الناس حولنا أشكال وألوان من هذا القبيل، رجولة جسم وطفولة نفس، ومقياس ذلك الذي لا يتخلف هو ضمير «أنا» و«نحن»؛ فإن رأيت لا شيء إلا «أنا» رأيت طفلًا مهما كان جسمه وسنه، وإن رأيت «نحن» كثيرًا و«أنا» قليلًا رأيت رجلًا، والرجال قليل.
هناك من ليس أمامه في الدنيا إلا جسمه، يبحث حياته عن الأكل الطيب والملبس الطيب والنعيم الطيب، وذلك كل تفكيره، وكل سعيه، وكل غرضه؛ ركزوا في صحة جسمهم ونعيمه كل شعورهم، وكل عواطفهم، وكل ملذاتهم؛ فإن عملوا عملًا خارج هذه الدائرة فلهذه الغاية، تعرفه بالإفراط في العناية بنوع ما يأكل، ومقدار ما يأكل، وبهندامه وبمرآه في المرآة، وبالحذلقة في حركاته وسكناته ونحو ذلك، ثم لا شيء؛ فهذا طفل كبير.
وإن شئت فعُد من هذا القبيل ناسكًا راهبًا لا يفكر في أحد من بني آدم حوله، ولا يهمه حال قومه سياسيًا ولا اجتماعيًا، ولا يعنيه شقوا أم سعدوا، ولا يحمل تبعة شيء، ولا يُصادق أحدًا، ولا همَّ له في الحياة إلا نفسه وعبادته؛ أليس هو الآخر طفلًا كبيرًا شغلته «أنا» عن «نحن»؟
وهناك مَنْ يَحُد العالم بحدود نفسه، إذا فكر فكر فيها، وإذا عمل عمل لها، لا يعنيه من العمل إلا مقدار ربحه منه، خسر الناس أو كسبوا، لا يمنعه من الغش في عمله إلا خوف العقوبة، فإن أمنها عمل ما شاء ليربح مالًا، أو يكسب شهرة، أو يحقق غرضًا من أغراضه لنفسه، تعلم درس الأخذ ولم يتعلم درس العطاء، وليست الدنيا كلها وما فيها إلا قنطرة يعبر عليها للوصول إلى غايته، فهذا كذلك طفل كبير.
وهناك مَن يهرب — كالطفل — من كل تبعة، لا يقتحم الحياة ولكن ينتظر القدر، ولا يزاحم ولكن ينتظر الحظ، إن عرض له شيء متعب تنحَّى عنه إلى شيء مريح.
وهناك أسوأ من هذا: من رفع نفسه فوق الناس، فهم لم يخلقوا إلا له، ولم تُخلق عيونهم إلا لتقع على مطلبه، ولا آذانهم إلا لتصغى إلى كلمته، ولا أيديهم إلا للعمل في خدمته، يسير في الحياة على ما يهوى، ويحب أن يسير الناس فقط على ما يهوى، فهذا أيضًا طفل كبير؛ وكم في الناس من أطفال كبار، وهم في طفولتهم أشكال وألوان.
•••
ارسم خطًا مستقيمًا رأسيًا، وضع في أسفله «أنا» وفي أعلاه «نحن»، وامتحن نفسك: كيف أنت في عملك، هل لا تنظر إلا إلى شخصك، أو تراعي فيه مصلحة قومك؟ وكيف أنت في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك، وهل تؤدي زكاة مالك، وزكاة علمك، وزكاة فنك، وزكاة كفايتك، أو تشح بكل ذلك، فلا تنفقه إلا لمال أكثر تحصله، أو جاه تبتغيه؟ وكيف أنت في نيَّاتك ومقاصدك، هل يؤلمك بؤس الناس وشقاؤهم وفقرهم، فتتعاطف معهم، وتعمل جهدك لإسعادهم، أو أنت وبيتك، ثم على الدنيا العفاء؟ وحدد بذلك كله مركزك من الخط المستقيم، فإذا قربت جدًا من «أنا» فهذا دليل الطفولة ولا محالة، وإن قربت جدًا من «نحن» فأنت رجل.
هذا هو التقويم الصحيح للناس، وهو — مع الأسف — غير ما تواضعوا عليه، إنهم يقدرون الرجل بماله وبجاهه وبمنصبه، وبكل شيء إلا قيمته الحقيقية؛ ولو راعيت هذا المقياس الحق الذي ذكرنا لرفعت من شأن عامل بسيط على صاحب مصنع كبير، وموظفًا في الدرجة الثامنة على موظف في الدرجة الأولى، ومعلمًا أوليًا على سري كبير، وكناسًا مخلصًا على طبيب غير مخلص، وجنديًا مجهولًا على قائد مشهور. ولكن أتى لنا المدنية الحقة التي تهدم نظام القيم المتعفِّن لتضع مكانه نظامًا للقيم نظيفًا؟