نظرة في إصلاح متن اللغة العربية
اللغة العربية لغتنا، فيجب أن تخضع لحياتنا، تنمو بنمونا، وتسير مع زمننا وزمن من يأتي بعدنا، تسايرنا في تقدمنا وتكون أداة طيِّعة لتطورنا، لا أن تقسرنا على أن نرجع إلى الوراء، ونعيش عيشة القرون الوسطى. ولغة كل أمة عنصر من عناصر تكوينها، ورقيها أو انحطاطها، لها الأثر الكبير في تكوين النزعات والأخلاق فيها؛ فإن اللغة متن الأدب، والأدب غذاء العقول والأرواح، وهو الطابع الذي يطبع الأمة بطابع السمو أو الضعة، والمرة أو الذلة.
ونظرة واحدة إلى تاريخ اللغة العربية وموقفنا منها الآن، يبين لنا مدى، الخطر الذي يحيط بنا؛ وهو يتلخص في أن جماعة من العلماء في صدر الدولة العباسية ساحوا بين قبائل العرب يجمعون منهم مفردات اللغة، وكان برنامجهم ألا يأخذوا عن حضرى قط، ولا عمن خالط الحضر من أهل التخوم، وكلما أمعنت القبيلة في البداوة كانت أولى بالنقل عنها، كقيس وتميم وأسد ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، وأودعوا كل ذلك كتبهم التي صارت نواة لمعاجم اللغة، وهم — من غير شك — يشكرون كل الشكر على ما بذلوا من جهد وكابدوا من عناء. ولكن موضع الخطأ فيهم أنهم ومشايعيهم رأوا أن اللغة العربية ليست إلا هذا الذي جمعوه، لا يصح أن تزيد ولا تنقص، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه النظرة أنهم يريدون ألا يستعمل الناس أيام الدولة العباسية البالغة مبلغًا عظيمًا من الحضارة إلا ما كان يستعمله هؤلاء البدو في معيشتهم البدوية، ومحال ذلك — لهذا رأينا اللغة غنية غنى مفرطًا في أدوات البدو ووسائل معيشتهم، فقيرة جدًا في حاجات المدنية ووسائلها، ولهذا اضطر غيرهم — بعد أن ضغطت عليهم المدنية — إلى التعريب بعد أن أعرضوا عنه، نزولًا على حكم الطبيعة وتطور العمران، وخلطوا ما أحذوه عن القبائل بما عربوه من الأمم الممدنة، فأضاعوا بذلك القاعدة الأولى التي رسموها لأنفسهم، وهي الأخذ عن العرب الخلص فقط، ولو كانوا أدركوا هذه النتيجة لسمحوا لأنفسهم من أول الأمر بالأخذ عن القبائل التي اختلطت بالعجم أيضًا، فهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم.
على كل حال أدرك الناس أن متن اللغة البدوي لا يكفي للحياة الحضرية إذ ذاك، فأكملوه بالتعريب وبتوسيع الاشتقاق وبالقياس، وسايرت حركة الاجتهاد في اللغة حركة الاجتهاد في التشريع؛ ثم أصيب العرب بالضربة الشنيعة في الأمرين معًا، وهو إقفال باب الاجتهاد في التشريع وباب الاجتهاد في اللغة، وهو حكم قاس لا يمكن تنفيذه فيهما إذا ماتت الأمة، وماتت اللغة (لا قدر الله)، فلما لم تمت الأمة تحايل بعض العلماء على فتح باب الاجتهاد في التشريع بوسائل ضعيفة وحيل سخيفة. فلما لم تنجح هذه الحيل كانت الضربة المخجلة، وهي إهمال التشريع الإسلامي والاعتماد على التشريع الأوروبي إلا في حدود ضيقة كالأحوال الشخصية. وأما في اللغة فكذلك نمت اللغة العلمية على حساب اللغة العربية، واستعمل الناس في حِرَفهم وصناعاتهم وحياتهم اليومية الكلمات التي يرون أنفسهم في حاجة إليها، ولو أخذا من اللغات الأجنبية محرفة، ولم تبق اللغة العربية الفصيحة إلا في تعليم التلاميذ ريثما يؤدون الامتحان، أو على أقلام الخاصة الذين يشعرون بضيقها وكثيرًا ما يفرون عند كتابتهم من وصف الحياة الواقعية من جزمة وطربوش وجاكتة إلى كلمات عامة: كحذاء وقلنسوة ولباس ونحو ذلك، مما تكون فيه الحقيقة في واد والكلام في واد، ولو استمررنا على ذلك لكانت نتيجة اللغة نتيجة التشريع.
ولا علاج لهذا الأمر إلا فتح باب الاجتهاد لأن إقفاله كان هو الداء.
وإذا ثبت لنا الاجتهاد بدأنا بذكر بعض مقترحات متواضعة نقبعها بغيرها إن شاء الله:
-
فأولًا: نظرة واحدة إلى اللغة العربية ترينا أنها واسعة سعة عظيمة أكثر مما يلزم في
بعض المواضع، ضيقة ضيقًا شديدًا أكثر مما يلزم في مواضع أخرى، كالثوب يطول أحد
كمية أمتارًا، ويقصر كمه الآخر فلا يكون إلا شبرًا.
والسبب في ذلك هو ما ذكرت أن اللغة العربية كانت لغة قبائل مختلفة بدوية، فما كان منها يتصل بحياة البدو من الإبل وحياتها وصفتها، والأرض وأنواعها، والخيام وما إليها، فغنيٌّ غنى مفرطًا يدل على ذكاء العرب ومقدرتهم ودقة ملاحظاتهم، حتى يتركوا شيئًا من ملابسات حياتهم إلا لحظوه ووضعوا له اسمًا، وكانت كل قبيلة تفعل ذلك؛ فلما جمع العلماء اللغة من قبائل مختلفة تنوعت الأسماء المتعددة للشيء الواحد، وهذا علة ما نسميه بالمترادفات — وما كان منها يتصل بحياة الحضر كالملابس الحضرية والأطعمة الحضرية فقليل، وأكثره جاء من التعريب في العصر العباسي. فإذا أتينا إلى زمننا ورأينا الحضارة الغربية ومنتجاتها رأينا من الطبيعي قصورًا واضحًا، فإذا قارنا الناقة وأنواعها وأجزاءها بالطيارة وأنواعها وأجزائها، والعقاقير البدوية بالعقاقير الحضرية، والصناعة اليدوية بالصناعة الحضرية الخ، وجدنا الغنى المفرط في الأولى والفقر المدقع في الثانية، وهكذا. وعلاج ذلك في نظري أمور:
- التخفف من كثير من مفردات اللغة التي في المعاجم، فلا بد من طرح
بعض الألفاظ وإماتتها إلا أن تودع في كتب مؤرِّخة للغة، وهذا عمل
ضروري لتفسح مجالًا للكلمات الجديدة في المسميات التي نحن في حاجة
إليها؛ وإلا فإذا نحن أبقينا القديم كما هو وأضفنا إليه الجديد
لتضخم متن اللغة تضخمًا يعجز عنه أي متعلم. وأولى الكلمات بالإماتة
هي:
- (أ) الكلمات الحوُشية التي يمحها الذوق ويكرهها السمع،
والتي عبر عنها أصدق تعبير الصفي الحلي إذ
يقول:
إنما الحيزبون والدردبيسوالطخا والنقاخ والعلطبيسلغة تنفِرُ المسامع منهاحين تروى وتشمئز النفوسوقبيح أن يذكر النافر الوحــشي منها ويترك المأنوسأين قولي هذا كثيب قديمومقالي عقنقل قدموسخل للأصمعي جوب الفيافيفي نشافٍ تخف منه الرؤوسإنما هذه القلوب حديدولذيذ الألفاظ مغناطيس
فلننزل على حكم الصفي الحلي ونستبعد هذه الألفاظ وأمثالها. وكما يكون عملنا في المعاجم التفتيش عما يصلح، يكون من عملنا أيضًا النفتيش عمالا يصلح، وتقرير استبعاده وعدم إدخاله في المعاجم الجديدة.
- (ب) كذلك استبعاد كثير من المترادفات التي لا حاجة إليها، فما حاجتنا إلى أن يكون للعسل ثمانون اسمًا، وللسيف نيِّف وخمسون، وللحية نحو مائتين، وللمصيبة نحو اربعمائة، في حين أن أهم من ذلك كله ليس له اسم واحد. لقد مضى الزمن الذي كنا نعد فيه كثرة المترادفات مفخرة للغة، واضطرتنا كثرة مخلوقات المدنية أن نحمد الله إذا وجدنا لكل مادة في الحياة اسمًا واحدًا يصطلح الناس عليه، ويتفاهمون به. نعم إن بعض المترادفات ليس مترادفًا لدلالته على وصف أو نحو ذلك، ولكن الكثير منها لا يدل على شيء غير الذي يدل عليه اللفظ الآخر فلا حاجة إليه — ونعم، إن كثرة المترادفات ضروري للشعر العربي الذي تلتزم فيه القصيدة وحدة القافية والروى، ولكن هذا في نظري عيب آخر يضاف إلى عيوب المترادفات، فوحدة القافية والروى في القصيدة الطويلة أضعفت من الشعر إلا على يد المهرة، وجعلت الشعراء يشدون المعاني شدًا ليعثروا على القافية لا أن يأتوا بالقافية التي تلائم المعنى، وما علينا لو تعددت القوافي في القصيدة الواحدة، فذلك أروح للسمع، وأفسح مجالًا للشاعر.
- (جـ) كذلك حذف كلمات الأضداد والقضاء عليها بتاتًا مثل قولهم: «ولي إذا أقبل وولي إذا أدبر؛ وشعبتُ الشيء إذا أصلحته، وشعبته إذا شققته؛ وأفدت المال إذا أعطيته غيري، وأفدته استفدته؛ وقسط جار، وقسط عدل؛ والغريم المطالب، والغريم الطالب، ونحو ذلك من مئات الكلمات. فهذا أسخف شيء في اللغات وهو مفسد للقصد منها، فإن اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على الشيء وضده لضاعت قيمة اللغة، وكان هذا تعمية لا إبانة، وتغطية لا كشفًا، واللغة لم توضع لتكون ألغازًا. وعلة وجود الأضداد في اللغة العربية أن العلماء جمعوا الكلمات من القبائل المختلفة، فقد تكون الكلمة دالة على معنى في لغة، وعلى ضده في لغة أخرى، فكانت كل قبيلة حكيمة في نفسها؛ فلماذا يريدوننا أن نجمع بين المتناقضات؟ وكما ولد اختلاف القبائل هذا التضاد، ولد أيضًا كثرة المشترك في اللغة، فكم معنى للعين وللخال وغير ذلك مما يجعل الذي يريد أن يفهم نصًا من النصوص حائرًا بين جملة معان كلها صالح، ولكن لا يستطيع الجزم بأحدها. ولعل القارئ لشرح ابن الأنباري للمفضليات يرى في كل قصيدة الاختلاف في فهم المعاني لكثرة هذا المشترك، ولكن لا أريد حذفه بتاتًا كما أريد حذف المتضاد، فالحاجة إليه شديدة، ولكن أريد التخفف منه قدر الإمكان.
- (أ) الكلمات الحوُشية التي يمحها الذوق ويكرهها السمع،
والتي عبر عنها أصدق تعبير الصفي الحلي إذ
يقول:
هذه أمثلة من أمثلة تضييق الواسع. وأما الناحية الأخرى، وهي توسيع الضيق، فأبوابها التعريب والاشتقاق والقياس، وكلها اتبعت في العصر العباسي، ثم كان الخطأ في التضييق على أنفسنا في استعمالها مع شدة حاجتنا إليها.
أما التعريب، فقد سار مجمعنا اللغوي وبعض العلماء عليه سيرًا محمودًا، وقضوا جزءًا كبيرًا من وقتهم في تعريب المصطلحات العلمية والفنية، وليس عليهم إلا أن يستمروا في طريقتهم في تعريب أدوات الصناعة وسائر أدوات الحضارة، مع توسع في المنهج الذي يسيرون عليه، وقد أفرد لذلك بحثًا آخر. وأما الاشتقاق والقياس فكلاهما يتدخل في الآخر في بعض صوره، فلأجمع بينهما في الكلام، وأسق بعض الأمثلة لما أريد منهما:- (١) إنا نعرف صيغ الزوائد، كأفعل وفعل وفاعل وانفعل وافتعل واستفعل
الخ، ونعرف المراد منها في الأعم الأغلب؛ فيقولون إن فاعل للمشاركة
مثلًا، وافتعل لاتخاذ شيء كاختتم اتخذ خاتمًا، واستفعل للطلب
كاستغفر الله، وتفاعل لحصول شيء تدريجًا كتزايد النيل، وتواردت
الإبل، إلى آخر ما قالوا.
ولكن وجه العيب أنهم قصروا ذلك على ما سُمع، ولم يبيحوا لعلماء اللغة أن يتوسعوا في هذا الاستعمال متى احتيج إليه وكان جاريًا على أساليب اللغة. ما الذي يمنع من أن أقول خابرته كما قالوا نابأته والمعنى في الاثنين واحد؟! وما المانع أن أقول استلفتُّ نظره وفيها معنى طلبت إليه أن يوجَّه نظره؟! ونحو ذلك. إن أكثر المتزمتين في اللغة لا همّ لهم إلا أن يخطِّئوا كل ذلك لأنه لم يرد في المعاجم؛ والذي أريد: أن يكون كل هذا قياسيًا متى انطبق على القواعد الصرفية ودعت الحاجة إليه. وكذلك الشأن في المصادر، فقد نصوا على أن الفعل إذا دل على حرفة فقياس مصدره فِعالة كالخياطة والحياكة، فلنعم ذلك إذا شئنا كالبرادة والنقاشة؛ وفَعَلان يدل على التقلب كالجولان والغليان فنقيسه في مثله متى احتجنا إليه، ولو لم ينصوا عليه؛ وصيغة فعَّال تطلق على صاحب الحيوان ومروِّضه، فقالوا: فيل وفّيّال، فلم لا نقول إذا احتجنا قِرْد وقَرَّاد، وكلب وكلاّب، وهكذا؟!
- (٢) كذلك من أصعب الأبواب وأكثرها خلطًا في اللغة العربية المذكر
والمؤنث، فيؤنَّث المذكر، فيقال: هو رواية للشعر وعلامة، ونسابة،
ويذكر المؤنث فيقال هي كاعب وناهد؛ وهناك ألفاظ يطلق فيها اللفظ
الواحد على الذكر والأنثى من غير تغيير كقولهم: شاب أملود، وجارية
أملود، وبعير ظهير، وناقة ظهير، أي قوي، وجمل ضامر وناقة ضامر.
وهناك الحيرة في أسماء هل هي مؤنثة أم مذكرة؟ كالدرع والرمح
والرحم، فلا بد من الإمعان في الكشف عليها، وقد لا تجد نصًا؛ وهناك
ما يذكر ويؤنث على السواء، كالسلاح والصاع والسكين والدواء والسوق
والعسل والروح — فيجب العمل على تسهيل هذه الصعاب المربكة والجرأة
في تنظيمها، ووضع قواعد عامة لها، ولو خالفنا فيها بعض النصوص، من
مثل:
- (أ) جواز تأنيث كل مؤنث بإلحاق تاء التأنيث به، فنقول: هي كاعبة وناهدة، وشاب أملود وجارية أملودة، وجمل ضامر وناقة ضامرة.
- (ب) كل ما لم يرد فيه نص فالأنثى بالهاء والمذكر من غيرها، من غير توقف على نص.
- (جـ) كل ما ليس مؤنثًا حقيقيًا كأسماء الجماد إذا لم تكن فيه علامة التأنيث كالدلو والبئر والأرض والسماء والنجم يجوز تذكيره وتأنيثه، كما روى صاحب المصباح عن ابن السكيت وابن الأنباري إذ قالا: «إن العرب تجترئ على تذكير المؤنث إذا لم تكن فيه علامة التأنيث».
وعلى الجملة فالواجب تنظيم هذا الباب بالقواعد التي ذكرت ونحوها، وإزالة الصعاب التي شوّهت اللغة وجعلت تعلمها عسيرًا.
كذلك يجب ألا نفهم أن اللغة العربية التي نملكها هي عمل العرب في البادية وحدهم، بل إن اللغة العربية هي عمل هؤلاء مصمومًا إليه عمل الأدباء والعلماء الذين عانوها وعالجوها إلى اليوم؛ وبعبارة أخرى يجب أن نفهم أن اللغة ليست ما جمعه الخليل وابن دريد والجوهري ونحوهم من ألسنة العرب وحدهم، بل اللغة أيضًا ما استعمله ذوو الذوق العربي من أمثال أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبو العلاء ومن أتى بعدهم على منوالهم، فإذا استعمل هؤلاء لفظًا أو تعبيرًا لم يرد في المعاجم، ووجدناه يسد حاجة من حاجاتنا استعملناه وعددناه عربيًا، فالألفاظ التي استعملها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني — من مثل: ندر الرجل، وتندر إذا جاء بالنادرة، وندر بفلان وتنادر عليه إذا جعله موضع نادرته — عربية كالتي نطق بها الأعرابي؛ وإذا استعمل المقرى «التذكرة» بمعنى الرقعة التي يكتب فيها ليتذكر فهي عربية؛ والألفاظ الاصطلاحية التي استعملها ابن خلدون ليسد بها حاجته في علم الاجتماع عربية ويجب أن تدخل في المعاجم.
وهذا كله يسلمنا إلى القول بغربلة ما سموه الدخيل، وإدخال ما يصلح منه في معاجمنا كالأصيل تمامًا بلا تفرقة إلا إذا وضعنا معجمًا تاريخيًا، وقد قام الأستاذ «دوزي» في ذلك مقامًا حسنًا بمعجمه الذي وضعه في معاني الكلمات المستحدثة التي رودت في كتب المتأخرين.
هذا رأيي في التوسيع والتضييق، وليس ما ذكرت إلا أمثلة قليلة يمكن التوسع فيها إذا قبل المبدأ.
- التخفف من كثير من مفردات اللغة التي في المعاجم، فلا بد من طرح
بعض الألفاظ وإماتتها إلا أن تودع في كتب مؤرِّخة للغة، وهذا عمل
ضروري لتفسح مجالًا للكلمات الجديدة في المسميات التي نحن في حاجة
إليها؛ وإلا فإذا نحن أبقينا القديم كما هو وأضفنا إليه الجديد
لتضخم متن اللغة تضخمًا يعجز عنه أي متعلم. وأولى الكلمات بالإماتة
هي:
-
ثانيًا: من أشق الأمور على دارس اللغة العربية وزن الفعل الثلاثي ماضيه ومضارعه من
أوزان الفعل الستة، والمتخصص في دراسة اللغة يشيب ولا يستطيع الجزم بصحة نطقه
في هذا الباب أهو من باب نصر أو ضرب أو ذهب الخ، ولو ترك هذا الأمر على حاله ما
أمكن النطق الصحيح الدائم مهما طال الزمن وكثر الدرس، بل في كثير من الأحيان
نشك فنرجع إلى المعاجم في بعض الصيغ فلا تنص أو تختلف أو تحيز! ومما يزيد الأمر
صعوبة أن الفعل الواحد يكون له وزن أو وزنان إذا كان بمعنى خاص، وله وزن آخر أو
وزنان إذا كان بعنى آخر، ويضطرب الباحث بين هذه النصوص، وإذا لم يضطرب فلا
يستطيع إحصاءها واستيعابها والأمن من الزلل فيها.
وقد أدرك هذه الصعوبة بعض العلماء قبلنا فاجتهدوا فيها، فقد روى القاموس في مقدمته عن أبي زيد الأنصاري: «إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فعل فأنت في المستقبل (أي في الفعل المضارع) بالخيار إن شئت قلت يفعُل (بضم العين)، وإن شئت قلت يفعِل (بكسرها) فتقول: حشر يحشِر ويحشُر، وعكف يعكِف ويعكُف الخ».
وهو اجتهاد حسن لا بأس به، ولكن يجب أن يكون لنا من الحق ما لأبي زيد، فننظم الأفعال الثلاثية كلها ولا نقتصر على ما كان من باب «فعل»، ولا نجيز أن يكون مضارع فعل من باب ينصر أو يضرب، فإن هذه توسعة ضارة لا حاجة إليها، بل نكتفي بوزن واحد وليكن وزن يضرب. فإذا جاز لأبي زيد أن ينظم بعض التنظيم، فنحن أحوج ما نكون إلى التنظيم الكامل وأقدر منه.
وهناك أبواب أخرى في اللغة العربية مسبِّبة للخلط والاضطراب، كباب التعدي واللزوم، وباب العدد، والمصادر وكثرتها وبعثرتها، وجموع التكسير واضطرابها الخ، وكلها تحتاج إلى ضبط ولو بتضحية.
- وأخيرًا: لا بد من تقرير فتح باب الاجتهاد في اللغة لتنظيمها وضبط الفوضى فيها، وهذا لا يكون إلا بالاعتقاد أن اللغة ملكنا لا أنا ملك لها، نتصرف فيها كما يتصرف المُلاك في أملاكهم، بالهدم والبناء والتغيير والتبديل؛ إنما يجب أن يكون التصرف تصرف العقلاء لا السفهاء، فنربط جديدنا بقديمنا، ولا نبني إلا ما نحن في حاجة إليه، ونبنيه على خير وجه يحقق الغرض المطلوب، ونختار في بنائه خير البناة.
إن الوضع الذي وضعنا فيه أنفسنا إزاء اللغة وضع خطأ لقد وضعناها وضع الإلهة المالكة المقدسة ووضعنا أنفسنا منها وضع العبد الذليل الخاضع. والوضع الصحيح أننا نحن السادة وهي العبدة الطيعة، وليس يصح أن ننتظر رأيًا من أبي زيد، ولا كلمة من الأصمعي، ولا تخريجًا من الأشموني، لنلجأ إليه ونعتصم به في الإصلاح، فعقولنا أقدر على فهم حاجتنا، ونظرنا وتفكيرنا أقدر على تنظيم بيتنا.
إني لأعجب من أن كثيرًا من المصلحين تنبهوا إلى خطر الجمود في التشريع ونادوا بالاجتهاد فيه مع الاحتفاظ بالأصول الكلية في الدين، ولكن لم أجد داعيًا إلى الاجتهاد في اللغة، مع أن للجمود فيها خطرًا لا يقل عن خطر الجمود في التشريع! ومصداق ذلك انصراف أكثر المتعلمين عنها متى نالوا حظًا من لغة أجنبية، وقلة من يجيدها قراءة وكتابة كأنها لغة إضافية لا لغة أصلية.
ثم لا خطر من هذا الاجتهاد مطلقًا متى أحكم طريقه، ومتى حوفظ على مقومات اللغة. وليست مقومات اللغة في هيئتها وبناء كلماتها وطريقة الاشتقاق منها ونحو ذلك، بل إن تنظيمها وتحديد الفوضى فيها يرفع من شأنها ويزيد من حيويتها، ويكثر من سواد من يجيدها.
وهنا سؤال يصح أن يوجه، وهو لمن يكون هذا الحق في الاجتهاد؟
والجواب: أن شأن اللغة شأن غيرها من الفقه وسائر العلوم والفنون، كل متمكن من فرع دارس له متخصص فيه نضج فيه ذوقه، له الحق أن يقترح وينادي بنظريته التي يراها حقًا، والمتخصصون في هذه المادة ينظرون إلى رأيه ونظرياته ويقررونها أو يرفضونها أو يعِّلونها، ثم بعد ذلك الهيئات الرسمية في التشريع تأخذ ما تراه صحيحًا من أقوال هؤلاء العلماء، وتتخذ منها قانونًا لها، والمجامع العلمية المعترف بها من الأمة تقرر صحة النظرية العلمية أو خطأها، وتدخل في عداد العلم ما ثبتت صحته وهكذا؛ فكذلك الشأن في اللغة لكل كاتب وشاعر أن يستعمل من الكلمات اللغوية ما يؤدي غرضه ويعرضه على الناس ليجاروه أو يرفضوه، والمجامع الرسمية كمجمعنا ومجمع دمشق تأخذ من هذا كله ومما يعرضه عليها أعضاؤه بجدهم وبحثهم ما تراه صالحًا، وتعدُّه وتذيعه على الناس ليكون دستورًا. ثم لا بد أن يكون هناك اتصال بين المجمع والحكومة اتصالًا تشريعيًا؛ فإذا قرر المجمع مثلًا رسم الألف اللينة في الآخر ألفًا مطلقًا، فلا قيمة لهذا القرار إلا أن تصدر وزارة المعارف بذلك أمرًا لاستعماله في مدارسها وكتبها وإلزام المعلمين باتباعه، وهكذا حتى يكون للإصلاح نتيجة فعلية؛ ولنتبع في ذلك ما اتبعته الأمم الحية في إصلاح لغتها وكتابتها وننتفع من تجاربها، ونتجنب أخطاءها، والله الموفق.