محمد بن عبد الوهاب (١)
هو زعيم الفرقة التي تسمَّى الوهابية، وتعتنق مذهبه الحكومة الحاضرة في الحجاز.
نشأ في بلدة تسمى «العيينة» في نجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة، وسافر إلى المدينة ليتم تعلمه؛ ثم طوَّف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغداد، وسنة في كردستان، وسنتين في همذان؛ ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوف، ثم رحل إلى «قم»، ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة.
وأهم مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله»، والتي تميز الإسلام بها عما عداه، والتي دعا إليها «محمد» ﷺ أصدق دعوة وأحرًها؛ فلا أصنام ولا أوثان، ولا عبادة آباء وأجداد، ولا أحبار ولا نحو ذلك. ومن أجل هذا سَمَّى هو وأتباعه أنفسهم «بالموحدين»؛ أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليه خصومهم، واستعمله الأوروبيون، ثم جرى على الألسن.
وقد رأى أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع، ودخله كثير من الفساد.
فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليه، والمشرِّع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره؛ لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه؛ هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده، لا شريك له؛ فمعنى لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسيِّر العالم وَفقًا لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو، وهذا هو محور القرآن: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
إذن فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى الإشراك مع الله كثيرًا من خلقه؟ فهذه الأولياء يُحَجُّ إليها، وتقدّم لها النذور، ويعتقد فيها أنها قادرة على النفع والضر؛ وهذه الأضرحة لا عداد لها تقام في جميع أقطاره، يشدُّ الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها، ويتذللون لها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم؛ نفى كل بلدة وليّ وأولياء، وفي كل بلدة ضريح وأضرحة تُشْرَك مع الله تعالى في تصريف الأمور ودفع الأذى وجلب الخير، كأن الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين، يُتقرَّب إليه بذوي الجاه عنده وأهل الزلفى لديه، ويُرْجَون في إفساد القوانين وإبطال العدل؛ أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ وقولهم: هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ؟!
إنها قصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجودها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي.
وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه «محمد بن عبد الوهاب»، وهو أن الله وحده هو مشرع العقائد، وهو وحده هو الذي يحلل ويحرم، فليس كلام أحد حجة في الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين، فالله يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ؛ فكلام المتكلمين في العقائد، وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا، إنما إمامنا الكتاب والسنة، وكل مستوفٍ أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد، بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام — حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صح من السنة — ما يؤديه إليه اجتهاده. وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين، إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مقلدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مقلد مثلهم، حتى انحط شأنهم وتفرقوا أحزابًا يلعن بعضهم بعضًا، ولا منجاة من هذا الشر إلا إبطال هذا كله، والرجوع إلى الدين في أصوله، والاستقاء من منبعه الأول.
وهكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك، والتوحيد في التشريع فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة.
هذا هو أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب، وعلى هذا الأساس بُنِيَت الجزئيات.
اقتفى في دعوته وتعاليمه عالِمًا كبيرًا، ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو «ابن تيمية»، وهو — مع أنه حنبلي — كان يقول بالاجتهاد ولو خالف الحنابلة، وكان حرَّ التفكير في حدود الكتاب وصحيح السنة، ذاق اللسان، قوي الحجة، شجاع القلب لا يخشى أحدًا إلا الله، ولا يعبأ بسجن مظلم، ولا تعذيب مرهق، فهاجم الفقهاء والمتصوفة، ودعا إلى عدم زيارة القبور والأضرحة وهدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة، ولم يعبأ إلا بما ورد في الكتاب والسنة، وخالف إمامه أحمد بن حنبل إذا أداه اجتهاده إلى ذلك.
فيظهر أن «محمد بن عبد الوهاب» عرف ابن تيمية عن طريق دراسته الحنبلية، فأعجب به، وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب، فكان ابن تيمية إمامه ومرشده وباعث تفكيره، والموحى إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح.
دعا مثله إلى رد البدع، والتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله وحده لا إلى المشايخ والأولياء والأضرحة، ولا بوساطة توسل ولا شفاعة، وزيارة القبور إن كانت فللعظة والاعتبار، لا للتوسل والاستشفاع، فهم لا يملكون شيئًا بجانب الله وقوانينه الثابتة التي لا تتخلف والتي نظم الله بها كونه؛ فالذبح للقبور والنذور لها والاستغاثة بها والسجود عندها شرك لا يرضاه الله، وهو هدم للتوحيد — الذي جاء به الإسلام — من أساسه، ومثل ذلك تجصيص القبور وبناية الأضرحة، وتشييد الأبنية عليها وكسوتها بالحرير المذهَّب وما إلى ذلك، فكل هذه لا يعرفها الإسلام.
فكانت دعوة ابن عبد الوهاب حربًا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد، فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغنَّى فيها ويرقص، ولا «محمل» يتبرك ويتمسح ويُحتفَل به هذا الاحتفال الضخم، وهو ليس إلا أعوادًا خشبية لا تضر ولا تنفع.
كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يزال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في صفاته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك؛ فلا إله إلا الله معناها كل ذلك. والكتب المملوءة بالتوصلات كتب ضارة بالعقائد، كدلائل الخيرات، وما في البردة من مثل قوله:
وقوله:
وقوله:
ونحو ذلك، أقوال فاسدة كاذبة، فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه.
لقد كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له من سبب إلا العقيدة، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وكانت لا إله إلا الله معنا السمو بالنفس عن الأحجار والأوثان وعبادة العظماء وعدم خوف من الموت في سبيل الحق، ولا خوف من استنكار المنكر والأمر بالمعروف مهما تبع ذلك من عذاب، ولا قيمة للحياة إذا بذلت في رفع لواء الحق ودفع الظلم، وهذا هو الفرق الوحيد بين العرب في الجاهلية والعرب في الإسلام، وبهذه العقيدة وحدها غزوا وفتحوا وحكموا. ثم ماذا؟
ثم لم يتغير شيء إلا العقيدة، فتدنّوا من سموِّ التوحيد إلى حضيض الشرك، فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد أخشاب وقبور أولياء، وركنوا إلى ذلك في حياتهم العامة؛ فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه، والبقرة تحيا إذا نذرت للسيد البدوي أو مثله، وتموت إذا لم تنذر، وهكذا في الأمراض والعلل والغنى والفقر، كلها لا ترجع إلى قوانين الله الطبيعية وإنما ترجع إلى غضب الأرواح ورضاها. ومثل هذه النفوس الضعيفة التي تذل للحجر والشجر والأرواح لا تستطيع أن تقف أمام الولاة والحكام الظالمين تأمر بمعروف أو تنهاهم عن منكر، فذلوا للحكام والأغنياء كما ذلوا للأخشاب والأحجار. وما زال كل قرن يمر تزداد معه الآلهة عددًا وتزداد النفوس ذلة، حتى وصلت الحال بالأمة الإسلامية إلى فقد سيادتها، وانهيار عزتها. ولا يلح آخر الإسلام إلا بما صلح به أوله، فلا بد من العودة إلى الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة، ولا بد من هدم هذه البدع والخرافات باللين إن نجح، وبالقوة إن لم ينجح، والله المستعان.
لم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدنية الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد علي باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها؟ فعنده أن العقيدة والروح هما الأساس وهما القلب، إن صلحا صلح كل شيء وإن فسدا فسد كل شيء، وطبيعي أن يكون هذا هو الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر.
•••
أما بعد، فإن التوحيد الصحيح المطلق المجرد عن شائبة كل تجسيم، المنزَّه عن كل تشخيص، الذي يصل العبد بربه من غير وساطة ولا وسيلة، مطلب عسير لا يستطيعه إلا الخاصة أو خاصة الخاصة، أما من عداهم فيشعرون بالتوحيد لحظات ثم سرعان ما يتدهورون ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص، وأسلوب من التجسيم على نحو ما، ثم يتخذون من الصالحين وسائل وزلفى — كان ذلك في الجاهلية وكان ذلك في الإسلام بعيد البعثة إلى الآن.
فالمؤرخون يروون أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بَنيَّة على اللات، فأمر النبي بهدمها فطلبوا منه أن يترك هدمها شهرًا لئلا يروِّعوا نساءهم وصبيانهم حتى يُدخلوهم الدين، فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها.
وفي الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تُسمى «ذات أنواط» كانوا يعلِّقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها، فسأل بعض المسلمين رسول الله أن يجعل لهم كذلك «ذات أنواط» فنهاهم عن ذلك.
ولما جاء عمر شعر أن بعض الناس أخذ يحن إلى العادات الجاهلية القديمة، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله ﷺ تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقُطعت.
ولما رأى عمر كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجليه الصخرة عند فتح بيت المقدس، قال له: «ضاهيت والله اليهودية يا كعب».
وهكذا ما لبث بعض الناس حتى تراجع عن التوحيد المطلق الذي جاء به الإسلام، لأن التحرر من المادة بكافة أشكالها، والإفلات من قيود الحس، والتسامي إلى الله فوق المادة وفوق الحس وفوق التشخيص يتطلب منزلة رفيعة من السمو العلي تعجز عنه الجماهير.
وقال النبي ﷺ «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»
ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرحال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهم إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عذب وأهين ورمي بالكفر والإلحاد كما فُعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية، فعذِّب وسجن؛ وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا فدعا مثل هذه الدعوة فرمي بالكفر. وأخيرًا جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير وتفسيره لجزء «عم» بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد.
هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب فماذا كان شأنها ومصيرها؟