السيد جمال الدين الأفغاني (٢)
أما مدرسته الثانية غير النظامية فكانت أكبر أثرًا وأعم نفعًا، وهي التي كان يتلقى عليه فيها زواره في بيته، وعظماء الرجال عند زيارته لهم في بيوتهم، وخاصة المفكرين والمثقفين عند تحلقهم حوله في «قهوة البوسطة»، وجمهور الناس عند اجتماعهم به في المناسبات.
في هذه المدرسة تلقى دروسه أمثال: محمود سامي البارودي، وعبد السلام المويلحي، وأخيه إبراهيم المويلحي، ومن الشباب أمثال: محمد عبده وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحاق؛ وغيرهم.
وفي هذه المدرسة حوَّل مجرى الأدب ونقله من حال إلى حال. كان الأدب عبد الأرستقراطية، لا همّ له إلا مدح الملوك والأمراء، والتغني بأفعالهم وصفاتهم مهما كانوا ظلمة فجارًا؛ فكل حاكم سيد الوجود في زمانه، آت بالمعجزات في أعماله، معصوم من الخطأ فيما يأتي به، يبتز مال الناس غصبًا فلا يلام على ما غصب ولكن يُمدح على ما أنفق، ويقتل من شاء فلا يُسأل عمن قتل ولكن يشاد بفضله إذا عفا. الفن والأدب والشعر والنثر موسيقى لطربه، وبهلوان لتسليته، وعبيد مسخرة لنهش أعدائه، ومدح أوليائه. الأديب الصغير مداح للغني الصغير، والأديب الكبير مداح للأمير الكبير — فأتى جمال الدين فسخر الأدب في خدمة اشعب؛ يطالب بحقوله ويدافع عن ظلمه، ويهاجم من اعتدى عليه كائنًا من كان، يبين للناس سوء حالهم ومواضع بؤسهم، ويبصِّرهم بمن كان سبب فقرهم، ويحرضهم أن يخرجوا من الظلمات إلى النور، وألا يخشوا بأس الحاكم، فليست قوته إلا بهم، ولا غناه إلا منهم، وأن يلحوا في طلب حقوقهم المغصوبة، وسعادتهم المسلوبة. فخرج على الناس بأدب جديد ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم، وينشد الحرية، ويخلع العبودية، ويفيض في حقوق الناس وواجبات الحاكم، ويجعل من الأديب مشرفًا على الأمراء، لا سائلًا يمد يده للأغنياء، وهذه نغمة جديدة لم يعرفها المسلمون منذ عهد الاستبداد.
قال الشيخ محمد عبده في وصف حال مصر قبل مجيء «جمال الدين»: «إن إهالي مصر قبل سنة ١٢٩٣هـ كانوا يرون شؤونهم العامة بل والخاصة ملكًا لحاكمهم الأعلى ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم، يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله، أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيًا يحق له أن يبديه في إدارة بلاده، أو إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحًا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مصرَّفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم. وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية — ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي باشا الكبير إلى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامية أيام محمد علي باشا الكبير وإبراهيم باشا، لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار، ولا فوائد تلك المعارف. ومع أن اسماعيل أبدع مجلس الشورى في مصر سنة ١٢٨٣، وكان من حقه أن يعلّم الأهالي أن لهم شأنًا في مصالح بلادهم، وأن لهم رأيًا يرجع إليه فيها، لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن له ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشورية، لأن مبدع المجلس قيده في النظام وفي العمل، ولو حدَّث إنسانًا فكرُه السليم بأن هناك وجهةَّ خير غير التي يوجهها إليها الحاكم لما أمكنه ذلك؛ فإن بجانب كل لفظ نفيًا عن الوطن، أو إزهاقًا للروح، أو تجريدًا من المال».
كان الأدب ظلًا لهذا الموقف، وصورة صادقة لهذا المنظر، فأدباء مصر أمثال السيد علي أبو النصر، والشيخ علي الليثي، وعبد الله باشا فكري تتصفح آثارهم فماذا ترى؟ غزلًا في حبيب، أو رسالة إلى صديق، أو مدحًا لأمير، أو استعطافًا له، أو اعتذارًا إليه، أو وصف سفينة، أو شكرًا على هدية. أما مصر وحالة شعبه، وبؤس قومه، وظلم حكامه، وحقوق الناس، وواجبات حكومته، فلا تعثر منها على شيء.
- (١)
كوّن جماعة من الكهول والشبان حبب إليهم الكتابة ورسم لهم خطتها، وأوحى إليهم بالمعاني الجديدة التي يكتبونها، وشجعهم على إنشاء الجرائد، يكتب فيها ويستكتب لهم من توسم فيه المقدرة. مثال ذلك أنه شجع «أديب إسحاق» — بعد أن اتصل به اتصالًا وثيقًا وتتلمذ له طويلًا — على أن ينشئ جريدة اسمها «مصر»، وكان جمال الدين يرسم له خطة السير فيها ويكتب بنفسه بعض مقالاتها باسم مستعار هو «مظهر بن وضاح»، ثم أوعز إليه بالانتقال إلى الإسكندرية، وأنشأ بها صحيفة يومية اسمها «التجارة»، وكان جمال الدين يستكتب لهاتين الصحيفتين الشيخ محمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وأمثالهما، هذا إلى ما يكتبه جمال الدين بنفسه. وكان مما كتبه مقالان أحدهما في الحكومات الشرقية وأنواعها، والثاني سماه «روح البيان في الإنجليز والأفغان» كان لهما صدى بعيد. ولقيت الصحيفتان رواجًا كبيرًا، ولفتت إليهما الأنظار بروحهما الجديد، ثم أغلقهما «رياض باشا».
وكذلك فعل في توجيه الكتاب إلى الكتابة في الوقائع المصرية وأمثالها، فربى بذلك طائفة من الكتاب تحسن — الكتابة — وتحسن اختيار الموضوعات التي تمس حياة الأمة في صميمها؛ فيكتب «أديب إسحاق» — مثلًا — تحت عنوان «أوروبا والشرق»: «قُضى على الشرق أن يهبط بعد الارتفاع، ويذل بعد الامتناع، ويكون هدفًا لسهام المطامع والمطالب، تعبث به أيدي الأجانب من كل جانب …» الخ.
ويقول الشيخ محمد عبده: «إن الحاكم — وإن وجبت طاعته — هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم؛ ولا يرده عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته، إلا نصح الأمة له بالقول والفعل».
ويتصل به الكاتب الإسرائيلي الفكة «يعقوب مصنوع» فينشئ مجلة هزيلة اسمها «أبو نضارة» ينتقد فيها سياسة اسماعيل باشا.
كل هذا كان النواة الأولى في الشرق للصحافة الشرقية والكتاب الذين يعالجون شؤون الوطن وحالة الشعوب.
وفي الحق أن الظروف التي أحادت بجمال الدين كانت مساعدة على ذلك: فالحال في مصر هي كما وصفنا من قبل، والنفوس جازعة من المراقبة الثنائية ونحوها، وإسماعيل نفسه يشجع نقد التدخل الأجنبي وإن لم يشجع نقد شخصيته، فكان يسره مقالات أمثال «الوقائع المصرية» و«مصر» و«التجارة»، ولا يسره أمثال «أبو نضارة»، فكان الأمر أن البلاد أصبحت مستودع «بنزين»، وجمال الدين «عود ثقابها»، فلما أشعله اشتعلت، ولولا هذه الظروف لخابت دعوته في مصر كما خابت في فارس والآستانة.
- (٢)
ومسلك آخر سلكه جمال الدين في مدرسته الشعبية، وهو أحاديثه التي كان ينثرها هنا وهناك في المقهى، وفي المحافل، وفي بيوت الزيارة. وكان رحمه الله قليل الاحتفال بالأكل، قليل النوم، كثير السهر، قوي الشهوة للكلام، تواتيه المعاني ويطاوعه اللسان، فكان يجد مادة للكلام في كل شيء: في السجارة يشعلها، وفي أي منظر يراه، وفي الطفل يسأله فيجيب أو لا يجيب، وفي حادثة زواج أو حادثة طلاق. وهكذا يستطيع أن يخلق أمتع الحديث من الشيء العظيم والشيء التافه ومن كل شيء. وكانت مصر — بحمد الله — مليئة بالأحداث في هذا الزمان، فكانت تغنيه أحداثها العظام عن خلق الأحاديث المرتجلة، وكان له القدرة على أن يلهب مستمعه، فلا يزال يروح على الفح حتى يلهبه، فإذا جليسه يرى بعد الجلسة راحته في السير لا في الركوب. وفي العمل لا في السكون، كأنه يريد أن يجاوب جسمُه قلبه، ويناغم عمله نفسه.
وكان له مذهب في الكلام يتفق مع شهوته؛ وهو أن يحدث من يفهم ومن لا يفهم، ومن يستعد ومن لا يستعد، كالسحاب ينزل الغيثفتنتفع به الأرض الصالحة وتسوء به الأرض الفاسدة، ولا عيب على السحاب. يقول الشيخ محمد عبده في هذا: «كان السيد جمال الدين يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه أنه يجذب مخاطبه إلى ما يريد، وإن لم يكن من أهله، وكنت أحسده على ذلك، لأنني تؤثر فيَّ حالة المجلس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلًا قابلًا واستعدادًا ظاهرًا».
وهذا هو السر في وجود مدرسة في مصر عجيبة تحسن السمر والحديث، وتشقيق الكلام وحسن الاستطراد، وتأخذ على السامع لبه، من أمثال محمد عبده، وسعد زغلول، والهلباوي، ولطفي السيد، وكلهم من تلاميذه في هذا الباب.
قال سليم بك العنحوري: «كان من ديدن «جمال الدين» أن يقطع بياض نهاره في داره، حتى إذا جن الظلام خرج متوكئًا على عصاه إلى مقهى قرب الأزبكية، وجلس في صدر فئة تتألف حوله على هيئة نصف دائرة، ينتظم في سمطها اللغوي والشاعر والمنطقي والطبيب والكيماوي والتاريخي والجغرافي والمهندس والطبيعي، فيتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، وبسط أعوص الأحاجي لذيه، فيحل عُقَد إشكالها فردًا فردًا، ويفتح إغلاق طلاسمها ورموزها واحدًا واحد، بلسان عربي مبين لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل في قريحة لا تعرف الكلام، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين، ولا يبرح هذا شأنه حتى يشتعل رأي الليل شيبًا … فيقفل إلى داره بعد أن ينقد صاحب المقهى كل ما يترتب له في ذمة الداخليين في عداد ذلك الجمع الأنيق».
ويقول في موضع آخر: إنه في خلال سنة ١٨٧٨. زاد مركزه خطرًا لأنه تدخل في السياسة، وأخذ يقرب منه العوام، ويقول لهم في أثناء كلامه ما معناه: «إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنت تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخشف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم — التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهم — بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم صامتون. فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رءوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية، لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة … تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك الخ؛ وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت.
انظروا أهرام مصر، وهيا كل منفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوه، وحصون دمياط، فهي شاهدة يمَنَعه آبائكم وعزة أجدادكم.
هُبّوا من غفلتكم! اصحوا من سكرتكم..! عيشوا كباقي الأمم أحرارًا سعداء.
ومنذ ذلك الحين طارت شرارة الثورة العرابية».
بهذا انقلب «الشيخ» من معلم في حجرة إلى معلم أمة: يخاطب العامة والخاصة، ورجل الشارع والمتربع في دست الوزارة.
ومن تمام برنامجه في هذا الباب أن انضم إلى المحفل الماسوني الاسكتلندي لأنه يضم كثيرًا من علية القوم، لعله بذلك يتمكن من إيصال أفكاره إليهم، ويضم طائفة من المصريين والأجانب، فلعل حرية القول فيه تكون أتم، ولكن ما دخَلَ «السيد» فيه حتى ثارت ثائرته، وأخذ يهاجمه في تصرفه، وينقده بخطبه المتوالية، غاظة من المحفل أنه وجد أعضاءه لا يحبون أن يتكلموا في السياسة فقال: «أول ما شوقني للعمل في «بناية الأحرار» عنوان كبير خطير: حرية — مساواة — إخاء، وأن غرضها «منفعة الإنسان — سعي وراء دك صروح الظلم — تشييد معالم العدل المطلق»، ولكن كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة وعجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل من بين اسطوانتي المحافل الماسونية!
إذا لم تتدخل الماسونية في سياسة الكون — وفيها كل بَنْاء حر، وإذا كانت آلات البناء التي بيدها لا تستعمل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة وإخاء ومساواة، وإذا كانت لا تدك صروح الظلم والعتو والجور، فلا حملت يد الأحرار مطرقة، ولا قامت لبنايتهم زاوية قائمة».
وهكذا نقدها في عدم تدخلها في السياسة، وتنازع أعضائها على الرياسة، ورغبتهم في إغماض عينهم على ما يقع على الأمة من ظلم.
وهكذا اتسعت دائرة نفوذه وأعماله، فقد بدأ يدرس في حجرة، ثم أخذ يسيطر على عقول مستمعيه في «قهوة»، ثم ها هو يريد أن يسيطر على الوزارات ومصالح الحكومة بمحفله. وكان يدرّس في بيته كتب الفلسفة والحكمة، فإذا به في مجتمعاته ومنتدياته يشرح حالة الأمة الاجتماعية، ويبين حقوقها وواجباتها، ثم إذا به آخر الأمر يضع يده في صميم الحياة السياسية.
خلقة فيه ظهرت منذ كان شابًا يلعب دوره في نصرة أمير على أمير في ولاية الأفغان، لا يقنع حتى يتزعم، ولا يهدأ حتى يضع يده على الأزرار التي تصرّف الأمور، ولكنها أزرار مشحونة بالكهرباء مثيرة للاضطراب، هو لا يعبأ بها ولكنها على رغمه تنال منه.
ماذا كان يريد السيد جمال الدين في مصر؟
يريد في دراسة النظامي توسيع عقول الطلبة، وتفتيح آفاق جديدة في فهم العالم، وتعليم الحرية في البحث، وإيجاد شخصيات من الطلبة تبحث وتنقد وتحكم؛ خالفت النص أو وافقته، خالفت المعروف المألوف أو وافقته.
ويريد في درسه العلم أن يتحرر الشعب من العبودية للحكام، ويفهموا موقفهم من الحاكم، وموقف الحاكم منهم: كل يعرف حدوده ويؤدي واجبه، فإذا تعدى الحاكم هذه الحدود قال له الشعب: «لا» بملء فيه — يريد تكوين رأي عام واسع الثقافة قوي حازم، يفهم الأمور الداخلية والخارجية، ويكوّن لكل ما يعرض من الحوادث العظام رأيًا يقنعه ثم يفرضه على أولي الأمر حتى لا يتلاعبون به، يفهم أن من حقه أن يعيش عيشة صالحة ينعم بدخله وله غلة جهده، فإذا أخذت الحكومة منه الضرائب فعلى قدر ما تستدعيه المصالح العامة لا الشهوات الشخصية، ولذلك كان من حقه الإشراف على وجوه الدخل والخرج.
ويريد في السياسة أن يقتنع الشعب بحقه في الحكم؛ فإذا فهم ذلك — وهذا ما عمله جمال الدين وصحبه — طالب بالمجلس النيابي، فيعطاه بناء على فهمه وطلبه وقدرته لا على أنه منحة تمنح له، فإذا أعطيه بجهده كان أجدر بالمحافظة عليه، وحرص عليه حرصه على دمه، فاستقر وثبت، ولم تستطع سلطة ما أن تلغيه أو تهمله:
استدعاه الخديوي توفيق باشا إلى سراي عابدين وقال له: «إني أحب كل خير للمصريين، ويسرني أن أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجات الرقي والفلاح؛ ولكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل جاهل، لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس والأقوال المهيجة، فيلقون أنفسهم والبلاد في تهلكة».
لقد رأيناه أول عهده في مصر يرى أن مجلس النواب لا قيمة له ما دام المصريون على ما هم عليه من قلة التنبه، وضعف اليقظة، وقلة الشجاعة. ثم رأيناه آخر عهده يلح في طلب الحكم النيابي يحرِّض عليه. فلعله رأى من الأحداث واستبداد الحكام، ونضج الأمة في السنين الثمان ما غير رأيه وعدّل خطته.
لقد كان الأمير توفيق في آخر أيام اسماعيل باشا يقدره ويدين بمبادئه. وكان السيد يلتقي به في المحفل الماسوني، ويتوسم فيه الخير إذ ولى بعد اسماعيل، ولكن الخديوي توفيق لما تولى الحكم سعى إليه الساعون، وأوعز إليه الموعزون، فاجتمع مجلس الوزراء وقرر نفي السيد جمال الدين «لأنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا»، فمثُلت لنا من جديد رواية سقراط، وقبض عليه وعلى خادمه الأمين الفيلسوف الأمي أبي تراب في ٦ رمضان سنة ١٢٩٦، ٢٤ أغسطس سنة ١٨٧١، وأودعا في باخرة سارت بهما إلى بمباي. وكان هذا آخر العهد بالأستاذ في مصر، وإن لم يكن آخر عهدها بآرائه ومبادئه.