السيد جمال الدين الأفغاني (٣)
أقام السيد في حيدر أباد في الهند منفيًا لا يسمح له بمفارقتها، ولا يستطيع أن يشترك في عمل إلا حديثًا مع زائر، أو قراءة في كتاب، أو ردًا على سؤال.
وفي هذه المدة ألّف كتابه المشهور في «الرد على الدهريين» وعنوانه «رسالة في إبطال مذهب الدهريين، وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران». وقد كتبها بالفارسية ثم ترجمت إلى الأردية، ثم ترجمها الشيخ محمد عبده بمعاونة عارف بالفارسية وهو تابع السيد جمال الدين، عارف أبو تراب.
ردّ في هذه الرسالة على «داروين» ومذهبه في النشوء والارتقاء، وعلى أمثاله ممن ذهبوا مذهبه.
وقد يعجب القارئ من تعرضه لمثل هذا البحث وهو يتطلب كما — فعل «داروين» — تخصصًا في العلوم الطبيعية من جيولوجيا، وفسيولوجيا، وبيولوجيا، وأمبريولوجيا (علم تكوين الأجنة) وغير ذلك.
ولكن عذر السيد أن مذهب «داروين» قد أثار موجة من الإلحاد قوية — وإن لم يكن داروين نفسه ملحدًا — وطغا في عصره مذهب المادية القائل بأن العالم له أساس واحد هو المادة، ولا شيء وراءها، وكل شيء في الحياة مظهر من مظاهرها حتى الفكر والعاطفة؛ والمادة لا تحد ولا تفنى، وقوانينها أبدية لا تتغير، وهي قديمة أزلية أبدية، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء، وإنما تتغير الأشكال؛ وبناء على ذلك فلا نفس ولا روح، ولا دين، ولا إله.
وهذا المذهب قديم تراه في البوذية، وعند قدماء المصريين، وعند بعض فلاسفة اليونان، وظهر في العصور الحديثة في الثورة الفرنسية؛ ودعا إليه كثير من الفلاسفة في انجلترا، وفرنسا، وألمانيا؛ وعرفه العرب قديمًا وسموا أصحابه «الدهريين» وحكى مذهبهم الجاحظ والشهرستاني وغيرهما من مؤرخي المذاهب.
ولكن ليس أقوم ما فيها الرد على داروين، وإنما أقوم ما فيها إثبات قيمة الدين، وضرورته للإنسان، وأثره في رقيه، وأثر الإلحاد في انحطاطه. وهذا هو ما يبلغ فيه جمال الدين الذروة.
- العقيدة الأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضي وأنه أشرف المخلوقات.
- والعقيدة الثانية: يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال وباطل.
- والثالثة: جزمه بأن الإنسان ورد هذه الدنيا لتحصيل كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال من دار ضيقة الساحات، كثيرة المكروهات، جديرة بأن تسمى «بيت الأحزان» إلى دار فسيحة الساحات، خالية من المؤلمات، لا تنقضي سعادتها، ولا تنتهي مدتها.
ويشرح أن هذه الأسس التي أتت بها الأديان هي علة العمران، وعليها تتوقف سعادة الإنسان، وأن الماديين أو الدهريين أو النيشريين تؤدي تعاليمهم إلى إنكار هذه الأسس فتنزل الإنسان منزلة الحيوان، وتفقده الوازع على الخير، وتُعده لحياة جامدة ضيقة جافة لا قلب لها، ولا سمو فيها، وفي هذا انتكاس لخلقه، وهدم لكيانه، وحرمان مما أعده الله له.
- أولها: صقل العقول بصقال التوحيد، وتطهرها من لوث الأوهام. فمن أهم أصوله الاعتقاد بأن الله منفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الأفعال، وأن من الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد — علويًا كان أو سفليًا — يكون له في الكون أثر من نفع أو ضر، أو إعطاء أو منع، أو إعزاز أو إذلال، …؛ أو نحو ذلك من خرافات كل واحدة منها كافية في إعماء العقول وطمس أنوارها.
- وثانيها: أن الإسلام فتح أبواب الشرف للأنفس كلها، وأثبت لكل نفس صريح الحق في السمو … ومحق امتياز الأجناس، وتفاضل الأصناف، وقوَّم الناس بالكمال العقلي والنفسي؛ فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة لا بأي شيء آخر. وقد لا نجد من الأديان الأخرى ما يجمع أطراف هذه القاعدة.
- وثالثها: أن الإسلام يكاد يكون منفردًا بين الأديان بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون … فهو كلما خاطب خاطب العقل، وكلما احتكم احتكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة. وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل، وانطفاء نور البصيرة.
- ورابعها: أن الإسلام أوجب تعليم سائر الأمة وتنوير عقولها بالمعارف والعلوم، وفرض نَصْب المعلم ليؤدي عمل التعليم، وإقامة المؤدب الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فقال: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وقال: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
وعلى هذه الأركان الأربعة بُنِىَ الإسلام، وكل ركن منها له الأثر البالغ في تقويم المدنية وتشييد بناء النظام، وتدعيم السعادة الإنسانية، وقد دارت حالة المسلمين رقيًا وانحطاطًا حسب تمسكهم بهذه العناصر وتخليهم عنها.
هذا ما عمله «جمال الدين» في حيدر أباد.
ثم رأيناه في لندن سنة ١٨٨٣ ولم يطل الإقامة بها، ثم سافر منها إلى باريس، وكان قد كتب إلى تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، ليوافيه بها من منفاه في بيروت ففعل.
ما برنامجه؟ ماذا ينوي من العمل بعد ما جرب، وبعد ما نال من الأحداث ونالت منه؟
ها هو والشيخ محمد عبده يتشاوران فيما يصنعانه من الإصلاح.
فأما الشيخ محمد عبده فكاد يدب إليه اليأس من الجيل الحاضر، بعد أن خبر الناس في حوادث عرابي وغدرهم، وقلة وفائهم، وتكالبهم على مصالحهم الشخصية، فأشار على السيد جمال الدين أن يذهبا إلى مكان بعيد غير خاضع لسلطان دولة تعرقل سيرهما، ثم ينشئان فيه مدرسة للزعماء يختاران لها التلاميذ من نجباء الناشئين من الأقطار الإسلامية، ومن يتوسمان فيهم الخير، ثم يربيانهم على منهج قويم يختارانه، ويعدانهم للزعامة والإصلاح، قال: «فلا تمضي عشر سنين حتى يكون عندنا كذا وكذا من التلاميذ الذين يتبعوننا في ترك أوطانهم، والسير في الأرض لنشر الإصلاح المطلوب فينتشر أحسن انتشار».
أصدرا من الجريدة ثمانية عشر عددًا في ثمانية أشهر، ظهر العدد الأول في ١٥ جمادى الأولى سنة ١٣/١٣٠١ مارس سنة ١٨٨٤، وظهر للعدد الأخير في ٢٦ ذي الحجة سنة ١٧/١٣٠١ أكتوبر سنة ١٨٨٤.
ماذا كان الغرض من هذه الجريدة؟
- (١)
بيان الواجبات على الشرقيين التي كان التفريط فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات.
ويستتبع ذلك بيان أصول الأسباب ومناشئ العلل التي أفسدت حالهم وعمت عليهم طريقهم. وإزاحة الغطاء عن الأوهام التي حلت بهم.
- (٢)
إشراب النفوس عقيدة الأمل في النجاح، وإزالة ما حل بها من اليأس.
- (٣)
دعوتهم إلى التمسك بالأصول التي كان عليها آباؤهم وأسلافهم، وهي ما تمسكت به الدول الأجنبية العزيزة الجانب.
- (٤)
الدفاع عما يرى به الشرقيون عمومًا والمسلمون خصوصًا من التهم، وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون في المدنية ما داموا متمسكين بأصول دينهم.
- (٥)
إخبار الشرقيين بما يهمهم من حوادث السياسة العامة والخاصة.
- (٦)
تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية، وتمكين الألفة بين أفرادها، وتأمين المنافع المشتركة بينها، ومناصرة السياسة الخارجية التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
أراد السيد أن يدعو إلى إصلاح المسلمين دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا. وإذ كان الإسلام تمتزج فيه العقائد بالنظم الاجتماعية، بالنظم السياسية كانت دعوته شاملة لهذه المناحي الثلاثة.
كان المثل الأعلى له حالة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، من حيث العقيدة والصفات الخلقية والنظام السياسي.
فيرى أنهم كانوا موحدين حقًا، معتزين بدينهم، لا تفرقهم المذاهب والنحل، مترابطين برباط الأخوة، فيهم خلق الإباء والشمم، يبذلون أعز شيء في سبيل عقيدتهم وعزتهم، ينشرون بينهم العلم ما استطاعوا، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر في غير هوادة.
ثم دخل الفساد على توالي الزمن من خمسة أبواب: من عقيدة الجبر؛ والخطأ في فهم القضاء والقدر حتى صرفت النفوس عن الجد في الأعمال؛ ومما أدخله الزنادقة على تعاليم الإسلام في القرنين الثالث والرابع، فجعلوا المسلمين شيعًا وأحزابًا، وأضعفوا قوة الدين بما أدخلوا من تعاليم فاسدة؛ ومما أحدثه السوفسطائية من أفكار، وعدّهم الحقائق خيالات تبدو للنظر؛ ومما عمله كذبة المحدثين من وضع أحاديث ينسبونها إلى رسول الله وفيها السم القاتل لروح العمل والإباء، وفيها ما يستوجب ضعفًا في الهمم، وفتورًا في العزائم، ومن ضعف التربية والتقصير في إرشاد الجمهور إلى أصول دينهم، ونشر العلم بينهم. وزاد في بعض المقالات أسبابًا أخرى أهمها تفكك الروابط بين أجزاء الأمة، فلا ترابط بين العلماء بعضهم وبعض، ولا بين العلماء والأمراء، ومنها أن الدين الإسلامي جعل أمته أمة مجاهدة قوية محاربة، يأمرها الله بقوله: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ، فلما استهانت بهذا الأمر؛ ولم تِعدٌ لكل موقف عدته ذلت بعد عزة وضعفت بعد قوة.
وكان يختار بعض هذه الأسباب ويوسعها تفصيلًا، أو يفردها في مقال. كما فعل في مقال القضاء والقدر. وكان من عادته أن يلهب النفوس بأسواط النقريع، ثم يدخل الأمل عليها بأن هذه عوارض يمكن أن تزول ما سلم الأصل، مذكرًا دائمًا بحالة المسلمين في العهد الأول، وعزتهم الأولى.
وخشى أن هذا النظام الذي يدعو إليه يثير الشقاق بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى في الأقطار الإسلامية، فقال: «لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانًا ومدافعتنا عن حقوقهم نقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم، ويتفق معهم في مصالح بلادهم، ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة، فليس هذا من شأننا، ولا مما ندعو إليه، ولا مما يبيحه ديننا، ولا تسمح به شريعتنا الخ».
وقادة هذا التفكير في نوع الحكومة التي يأملها، والأخلاق التي يرجوها من العزة والشمم والقوة، أن يناهض — في الجريدة — الاحتلال الأجنبي في الأقطار الإسلامية — وخاصة في مصر — بكل قوته، ويؤلِّب عليه في غير هوادة. وقد شغل هذا أكبر جزء من الجريدة من كتابة مقالات ورواية أخبار وتعليق عليها، واستعمل لهذا الغرض أشد أنواع التعبير، وأعنف أساليب التهييج، واستغل حوادث المهدي في السودان لإثارة الشعور وإهاجة النفوس. واستعمل إلى جانب الجريدة رسلًا متخفين يذهبون إلى الأقطار المختلفة مزودين بالتعاليم التي لا يستطيع نشرها في الجريدة، فرسول إلى موسكو، ورسول إلى الحجاز، حتى أرسل الشيخ محمد عبده مرة — وهو محكوم عليه بالنفي — إلى مصر وتونس.
كان من نتيجة ذلك أن أحس من بيده السلطة على الحكومات الهندية والمصرية الخطر من الجريدة، فأمر بمنعها من الدخول، وأصدرت وزارة نوبار قرارًا بالتشدد في منعها.
فلما أحست الجريدة شدة المراقبة، واستحالة وصول الأعداد إلى أصحابها إلا في القليل النادر، وفي كثير من التحايل احتجبت.
احتجبت والأسى يحز في نفس القائمين عليها؛ فلا من دعوهم لبوا الدعوة فثاروا يطلبون أن يكون أمرهم بيدهم، ولا الجريدة استطاعت أن تستمر في دعوتها حتى تؤدي رسالتها.
وبهذا انتهت مرحلة أخرى من حياة «السيد» مدتها ثلاث سنين قضاها في باريس كلها عناء، وكلها جهاد، انتهت بما أحزنه وخيب أمله، وإن كانت المعاني لا تنعدم كما أن المادة لا تنعدم.