السيد جمال الدين الأفغاني (٥)
ماتت جريدة العروة الوثقى، ولكن لم يمت أثرها، فقد أحيت روح كثير من المتنورين في العالم الشرقي، وأيقظتهم من سباتهم، وبصَّرتهم بسوء حالهم مع الاحتلال، وعلَّمتهم كيف يكتبون ويخطبون ويدعون إلى الشعور بالقومية الذي سمي بعدُ بالاستقلال؛ فإن قلنا إنها كانت أول شرارة في الشرق لإلهاب الشعور بالكراهية للحكم الأجنبي لم نُبعد، فقد كتبت في الجامعة الإسلامية والرابطة الشرقية والمسألة المصرية والسودانية والهندية، وعالجتها كلها في حماسة وتهييج بالغين، ونظرت إلى كل ذلك في ضوء السياسة الدولية العامة، والتفتت إلى الشعوب تحركها وتثير شعورها، والحكومات المختلفة تبين لها أضرارها من احتلال الشرق؛ وهكذا وهكذا.
لم تتأثر بالدعوة وقتئذاك الشعوب ولا الحكومات الأجنبية ولا المحلية، وإنما تأثرت بها طبقة قليلة من المستنيرين في الأقطار الشرقية المختلفة تأثرًا كان نواة للحركات الوطنية بعد. ولست أزعم أنها كانت النواة الوحيدة، ولكن كانت النواة الأولى.
على كل حال عطلت الجريدة وانفرط عقد التأمين بأمرها. فالشيخ محمد عبده وميرزا باقر يعودان إلى بيروت، والسيد جمال الدين إلى فارس بناء على دعوة من الشاه ناصر الدين. تلقاه الشاه والعلماء والأمراء في حفاوة، ولكن سرعان ما دبت الغيرة إلى نفس الشاه وأحس خطره فتنكر له، فاستأذن السيد في الرحيل ورحل إلى سان بطرسبرج عاصمة روسيا، وأقام نحو ثلاث سنين من سنة ١٨٨٦ – سنة ١٨٨٩.
لماذا اتجه إلى روسيا وماذا عمل في هذه المدة؟
- (١)
حال المسلمين الروسيين وعددهم نحو ثلاثين مليونًا وكانوا يعاملون في عهد القياصرة معاملة ظالمة جائرة، فلعله حاول باتصاله برجال الحكم إذ ذاك أن يلطف من ظلمهم ويخفف من جورهم. وقد عرف عنه أنه سعى عند القيصر في طبع المصحف وبعض الكتب الدينية لمسلمي الروس فأذن له في ذلك.
- (٢)
ما كان لروسيا من أثر كبير في سياسة الشرق ومناهضتها للسياسة الإنجليزية في آسيا، وضغطها الشديد على الدولة العثمانية، والعمل على إتعابها، وتقطيع أوصالها؛ ومع هذا التنافس والمخاصمة على الشرق بين انجلترا وروسيا فإن كثيرًا من السياسيين يرون أن هذه المنافسة أفادت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أكثر مما أفادت روسيا. فلولا ضغط الروس على الدولة العثمانية ما سهل على فرنسا الاستيلاء على الجزائر وتونس، ولا على إيطاليا الاستيلاء على طرابلس، ولا على انجلترا الاستيلاء على مصر.
على كل حال انغمس «السيد» أثناء إقامته في روسيا في السياسة الدولية وحرض روسيا على سياسة إنجلترا. ونشر في الجرائد الروسية مقالات في السياسة الأفغانية، والفارسية، والعثمانية، والروسية، ونقد السياسة الإنجليزية، وقابل القيصر فسأله عن آرائه في الشرق، ثم سأله عن سبب خلافه مع الشاه، فقال إنه الحكومة الشورية، أدعو إليها ولا يراها. قال القيصر: الحق مع الشاه؛ فكيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته. قال السيد: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه من أن يكونوا أعداءه يترقبون له الفرص. فلم يعجب القيصر هذا الحديث، وقام: علامة الإذن له بالانصراف.
ثم سافر إلى أوروبا على نية أن يزور معرض باريس سنة ١٨٨٩، وفي أثناء سفره من روسيا إلى باريس نزل بمونيخ في ألمانيا، وتقابل مع شاه الفرس ناصر الدين، فعرض عليه العودة معه إلى فارس، واعتذر إليه عما كان، ووعده أن يمهد له طريق الإصلاح الذي يقترحه، فرفض السيد أولًا وقبل أخيرًا.
ها هو السيد في طهران، يلتف حوله جمهور من العلماء والعظماء، ويتبلور فيه ما في نفوس الخيرين من ميل إلى الإصلاح، فيسعى هو ومن التف حوله إلى وضع المشروعات في إصلاح الإدارة، وإقامة العدل، وتقنين القوانين؛ وفوق ذلك تنظيم الحكم النيابي للبلاد. والحركة تشتد وتمتد، والشاه يظهر الاستعداد لقبول هذه المطالب، والنفوس العاملة تفرح لقرب النصر، والأمل في الخير، ولكن سرعان ما اكفهر الجو وأنذر بالصواعق؛ فقد وسوس الصدر الأعظم للشاه أن الحكم النيابي يسلبه سلطانه، والنظام الإداري والقانوني المقترح أعلى من مستوى الناس، ونحو ذلك من مقالات السوء التي سمعنا مثلها في مصر أيام إقامة «السيد» فيها، وفي تركيا أيام مدحت، وفي كل مكان وزمان يدور فيهما النزاع بين دعاة الإصلاح ودعاة الرجعية.
فتجهم الشاه له وأحسَّ «السيد» الخطر منه، فخرج إلى مقام «عبد العظيم» أحد أحفاد الأئمة — على بعد نحو عشرين كيلو من طهران — والفرس يعدون مقامه حرمًا من دخله كان آمنًا. اتخذه السيد مركزًا لدعايته وخطبه وتهييج الرأي العام لطلب الإصلاح، وبعض العلماء والوزراء والضباط يحجون إليه ليسمعوا خطبه، ويصغوا إلى آرائه، ويعودون وقد شحنوا قوة كهربائية بقدر تحملهم للشحنة، وكلهم ثائر هائج يريد الإصلاح. وأقام على ذلك أشهرًا والبلاد يزداد غليانها، ومركز الشاه والحاشية يزداد خطرًا، والمنشورات تذاع، والكتب الغفل من الإمضاء تصل إلى الشاه بالعدل أو العزل، وبالحكم النيابي أو تولية غيره.
فما راع «السيد» إلا خمسمائة جندي مسلحون يهجمون عليه غير حافلين بحرم الشيخ عبد العظيم ولا بمرض السيد مرضًا شديدًا. وكما يصف هو: «سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها في الشناعة … ثم حملني زبانية الشاه — وأنا مريض — على برذون، مسلسلًا، في فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهر يريَّة؛ وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين»، (ومنها سافر إلى البصرة) يعاني ألم المرض الذي اشتد عليه من هذا الحادث وكاد يودي به لولا لطف الله.
فلو رأيته نم لرأيت رجلًا أكلت منه حُمَّى الحمية حمى المرض، وقد تجمع دمه في رأسه يحتقن، وفي وجهه يلتهب، وفي عينه تقذف بالشرر، كيف يهان هذا الهوان وهو الرفيع النسب، العزيز الحسب؛ العظيم الجاه، العالي المنزلة في دينه وشرفه وعقله، ورغبته في الخير، كيف يرجوه الشاه أن يأتي بلده ويعده أن ينفذ إصلاحه، ويعلي كلمته، ثم يعامله معاملة العبد يطرد، والذليل يصفع. والحقير يُهان.
لقد آلى أن ينتقم منه شر انتقام، وألا تهدأ نفسه حتى ينزله عن عرشه، وقد بَرَّ فيما أقسم. فأخذ يكتب إلى علماء الدين المسموعي الكلمة يهيجهم على الشاه، ولا يتورع أن يصفه بأقبح الصفات، ويبين ضرره على الأمة، ويثير عاطفتهم الدينية، ليشغبوا عليه حتى يخلع. وكان الشاه قد تعاقد مع شركة إنجليزية على احتكارها «التنباك» فانتهز الفرصة وأبان الضرر على الأمة من هذا الاحتكار، وأهاب برجال الدين أن يذودوا عن وطنهم، فاستمعوا إليه، وهاجوا على الشاه، وهيَّجوا عليه، حتى اضطر إلى فسخ العقد، ودفع نصف مليون ليرة تعويضًا للشركة، فكانت هذه أول خطوات الانتقام.
ثم لما عادت إليه عافيته سافر إلى لوندرة، وحاضر نبلاء الإنجليز وكبراءهم في مصائب الشاه على فارس، وساهم في إخراج مجلة شهرية اسمها «ضياء الخانقين» تصدر بالعربية والإنجليزية، كان يكتب فيها مقالات بإمضاء «السيد الحسيني» يفضح فيها حكومة الشاه، وسوء الإدة، وانتشار الرشوة، وتعذيب الأهالي، ويحرض فيها العلماء على عمل صغير، وهو أن يصدروا فتوى بعدم التعاون مع الشاه، فإذا هو طريد، ويختار من الألفاظ والجمل في مدح العلماء وقوتهم أضخمها وأقواها، وفي ذم الحكومة والشاه أهجاها وأقساها.
وهذه زلة كبيرة من السيد جمال الدين دعاة إليها حدته وحبه للانتقام؛ إذ كيف أجاز لنفسه التشهير بحكومة شرقية إسلامية في بلاد أجنبية تتخذ من أقواله حجة للتدخل الذي طالما حاربه في «العروة الوثقى»، وكيف استباح أن يفضح هذه العيوب، ويغسل هذه الأثواب القذرة على مشهد من كل الناس.
لقد كان مدحت باشا في موقف كهذا أنبل من السيد وأكرم، إذ نفاه «عبد الحميد»، وأخذه رجاله من دست الوزارة إلى السفينة، لا مال ولا ثياب ولا أهل. ومع هذا فما وضع رجله في أوروبا حتى أخذ يسعى في دفع الشر عن أمته، ويتكلم الكلام الكثير في فضل الأتراك على أوروبا، ولا ينطق بكلمة في ذم عبد الحميد الذي عامله معاملة الشاه لجمال الدين. الحق أنها غلطة من غلطات «السيد» دعا إليها حدة مزاجه.
لقد رجاه سفير فارس أن يكف عن الطعن في الشاه وعرض عليه المال الكثير، فقال: لا، حتى يلقى الشاه منيته.
تجمع عند السلطان عبد الحميد من الأسباب ما حمله على أن يدعو «السيد» إلى الآستانة، فهو يخشى أن ينضم إلى حزب تركيا الفتاة، فيكون قوة كبرى إلى قوتهم، خصوصًا وقد كان السيد اجتمع في باريس ببعض رجال هذه الجمعية، وأطلعوه على خطتهم في إصلاح الدولة العثمانية فراقه مذهبهم، وشجعهم على عملهم، وسمي جمعيتهم «الجمعية الصالحة» وبلغ السلطان ذلك عنه. ثم إن الشاه وسَّط السلطان في كف أذى جمال الدين عنه، لهذا وذاك رجاه السلطان عبد الحميد أن يزور الآستانة فأبى، ثم سلط عليه حيله ومكايده، ووعده ومنّاه، وأطعمه وأمله حتى قبل، وما إن وضع رجله في الآستانة حتى كان في قفص من ذهب أحكم بابه، لقد وعده السلطان أن له حرية الخروج من الآستانة إذا شاء، ولكن كان كل ذلك خدعة.
أمر السلطان عبد الحميد باستقباله استقبالًا حسنًا، وأجرى عليه ٧٥ ليرة شهريًا، وأنزله بيتًا ظريفًا في نيشان طاش، بالقرب من يلدز، وجعل تحت أمره عربة وخدمًا وحشمًا، بعضهم للخدمة والتجسس، وأحاطه بكل أنواع الرعاية المادية.
لقد خيل إليه أنه بمعونة السلطان يستطيع أن يوسع دائرة إصلاحه؛ فيضع خطته لجامعة إسلامية، يؤلف بها بين فارس والأفغان وتركيا وولاياتها بنوع من الاتحاد أو الحِلْف، ثم يرسم منهج إصلاح الإدارة في الدولة العثمانية وإصلاح التعليم، وفاته أن جو الآستانة في عهد عبد الحميد لا يصلح أن تنمو فيه بذرة صالحة، وكان له في مدحت وأشباهه العظة البالغة. ولقد زار الآستانة الشيخ محمد عبده بعد وفاة السيد وفي عهد عبد الحميد، فقال فيها: «إنه لم ير بيئة في العالم — ولم يكن يعقل وجود بيئة — كالآستانة في سوء تأثيرها في العقل والفكر والقلب، وإن ذهنه فيها كان ممسوحًا كأنه لم يكن فيه شيء من العلوم والآراء، ولهذا كان أحرار الترك معذورين في شرودهم منها، وتوطين أنفسهم على كل ما يمكن أن يلقاه الإنسان من ضروب البلاء والمحن».
قابله السلطان في يلدز، فرأى منه شخصية غريبة جريئة في القول والحركة جرأة لم يشهدها من أحد قبل. يطلب منه السلطان أن يترك مهاجمة الشاه فيقول «السيد»: إني لأجلك قد عفوت عنه، فيرتاع السلطان لمثل هذا القول — والسيد في حضرته يلعب بحبات السبحة، فإذا لفت نظره رئيس المابين إلى ذلك بعد خروجه قال له: «إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء»؟! فيفزع رئيس المابين ويهرب من سماعه هذه الكلمة خشية أن يكون قد سمعها أحد.
لقد تحدث إلى السلطان كذلك في الحكم الشورى للدولة العثمانية، فخدعه السلطان بتظاهره بحسن الاستعداد له، وفرح السيد بهذا التظاهر، واتفق معه على العمل لتكوين الجامعة الإسلامية، وعرض عليه السلطان منصب شيخ الإسلام فأبى إلا إذا عُدِّل النظام من أساسه أولًا. وكرر مقابلته للسلطان والحديث إليه، وكوَّن أخيرًا فكرة عن السلطان عبد الحميد بأنه ذكي واسع الاطلاع على السياسة الأوربية وألاعيبها، واسع الحيلة في العمل على ضرب بعض الدول ببعض، ولكنه جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته.
كانت المدة الأولى من إقامته في الآستانة محفوفة بعطف السلطان عليه ولو ظاهرًا — يزوره السيد ويشير عليه بالإصلاح، قال له مرة: «خُذْ بِحزم جدك السلطان «محمود» وأقص الخائنين من خاصتك الذين يكتمون عنك حقائق ما يجري في الولايات، وخفف الحجاب عنك، واظهر للملأ ظهورًا يقطع من الخائنين الظهور، وأعتقد أن نعم الحارس الأجل فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
ولكن ذهب كل ذلك مع الريح، ووجد له في الآستانة خصم لدود، هو أبو الهدى الصيادي الذي أتقن من الحيل والدهاء والدسائس والمؤمرات والغلبة على عقل السلطان ما لا ينفع معه إخلاص جمال الدين وصراحته ونصحه، ففسدت حياة السيد، وفسد ما بينه وبين السلطان، وضاع كل أمل له في التعاون معه على الإصلاح، وأصبح يقول في مجالس خاصته: «إن هذا السلطان سل في رئة الدولة». واقتصرت قيمة السيد مدة إقامته في الآستانة — وهي أربع سنين وأشهر — على ما كان يلقيه على زواره وسماره من أحاديث وآراء، إلى دسيسة بين حين وآخر تحاك حوله، ويصرف الزمن في نقضها.
في هذه الفترة كانت تظهر من أحاديثه آثار الأسف والحزن، إذ يستعرض ماضيه فيرى ما كان منه من جهاد طويل في تحريك الشعوب الإسلامية ثم لم ينبض لها عرق، وفي رجال عقد عليهم الأمل ثم غدروا، وفي شادٍ خان، وفي جريدة عطلت، وفي سلطان لا أمل فيه، وفي بيئة خانقة. ماذا في يده بعد حياة طويلة قضاها في الكفاح وفي النفي، وفي الحبس، وفي الطرد، وفي التفكير والتحرير، وفي إيقاظ العقول النائمة والنفوس الخائرة؟ لا شيء إلا أنه أسدٌ في حديقة الحيوانات، ينشد حرية نفسه فلا يجدها، بعد أن كان ينشد حرية الأمم الإسلامية كلها ويأمل أن يجدها.
يزوره شكيب أرسلان، ويدور الحديث حول ما روي من أن العرب عبروا المحيط الأطلانطيقي قديمًا، وكشفوا أمريكا، فيقول السيد: «إن المسلمين أصبحوا كما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالًا، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلا أن تفعلوا فعلهم»، «إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم»؛ «هذا محمود سامي البارودي عاهدني ثم نكث معي وهو أفضل من عرفت من المسلمين».
ولكن أحيانًا تنقشع عنه سحابة اليأس، ويعود إلى أمله في الشرق والمسلمين، ويعود إلى ذكر الداء والدواء، والأمل في العلاج، ككل النفوس البشرية، تتردد بين الحزن والسرور، واليأس والأمل، وكالطبيعة تتردد بين الصحو والغيم، والإرعاد والإبراق ثم الإشراق.
فها هو في رفقه من صحبه يحللون أدواء الشرق ويستوصفونه العلاج، فيقول إن الدواء هو ما يسير عليه الغربيون من العزة والجري على قول الشاعر العربي: «عش عزيزًا أو مت وأنت كريم»، فإذا كان هذا بعيد المنال، فلا بد من تربية جيل جديد تربية دينية صحيحة، يتولى أمرها أناس يأخذون على أنفسهم عهدًا ألا يقرعوا بابا لسلطان، ولا يضعضعهم الحدثان، ولا يثني عزمهم الوعيد، ولا يغرهم الوعد بالمنصب، ولا تلهيهم التجارة ولا المكسب، بل يرون في المتاعب وتحمل المكاره لنجاة الوطن من الاستعباد غاية المغنم وفي عكسه المغرم.
قيل له: وهل هذا في الإمكان؟
قال: «إن الأزمة تلد الهمة، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالك — وعلى ما أرى قد أوشك فجر الشرق أن ينبثق، فقد ادلهمت فيه ظلمات الخطوب وليس بعد هذا الضيق إلا الفرج، سنة الله في خلقه».
ثم استطرد في هذا المجلس إلى بيان الخطر مما تستعمله بعض الأمم الأجنبية في الشرق من إضعاف اللغة القومية وقتل التعليم القومي، والتنفير من آداب الأمم الشرقية لتُحل محلها لغتها وآدابها، مع أنه لا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لهم إذا لم يقم منهم من يحي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم». وكانت محاضراته في مجالسة تدور حول موضوعات هامة تخلقها المناسبة، كلها ترمي إلى الإصلاح في العقيدة وفي الاجتماع وفي اللغة. وبين حين وآخر تثار حفيظة السلطان عليه بما يدبره أبو الهدى الصيادي وصحبه، فيزور الآستانة — مثلًا — الخديوي عباس ويريد مقابلة جمال الدين، ولا يكون هذا إلا بإذن، فيرفض السلطان ويأمر جمال الدين ألا يقابله، فيقول لرسول الخديوي: «إني كضيف للسلطان أسيرٌ لمضيفي في منزله، ولكني أذهب كل يوم إلى «الكاغدخانة» للتنزه فإن شاء أن يحضر الخديوي إلى هناك فليفعل. فذهب الخديوي وقابله على انفراد، فأطرى الخديوي السيد وأبدى له إعجابه به وحياة تحية لطيفة، وهذا كل ما كان. فأطار الجواسيس إشاعات في الجو، وملأوا التقارير بأن جمال الدين قد تعاقد مع الخديوي عباس على تأسيس دولة «عباسية»، ووضعوا بيتين نسبوها إلى جمال الدين هما:
وقامت الدنيا وقعدت، واستدعى السلطان جمال الدين وسأله، فقال إن الأمر بسيط، فقد كتبت التقارير أنا كنا وحدنا وليس معنا ثالث، فمن سمع هذا القول؟ وهل إذا كان هذا الخبر صحيحًا أقوله أنا أو يقوله عباس؟ ثم أقسم أن شيئًا من ذلك لم يحدث، وأنه في حياته لم ينظر شعرًا، وانتهى الأمر، ولو — في الظاهر — بعد جلبة طويلة وضجة مفتعلة.
وحدث أن الشاه ناصر الدين — الذي كان بينه وبين السيد الخصومة التي عرفنا — قد قتل، وكان القاتل أحد تلاميذ جمال الدين، وممن كانوا يزورونه في الآستانة، ورُوي أنه عندما طعن طعنته قال: «خذها من يد جمال الدين»، وروي عن جمال الدين أنه لما بلغه ذلك قال كلمات تدل على الإعجاب بالقاتل، فذلك كله أرعب السلطان عبد الحميد وخاف منه على حياته، فضيق عليه في مقابلاته ومنع زيارته إلا بإذن، فغضب جمال الدين وعزم على الرحيل من الآستانة ووعد بإعطائه التصريح بذلك من المفوضية الإنجليزية، ولكن السلطان كان يخاف منه في الخارج أكثر مما يخافه في الداخل، وهو تحت سمعه وبصره أهون، فاسترضاه ورجاه في البقاء واستعان بإثارة إبائه العار من الالتجاء إلى دولة أجنبية فعدل. ثم حلت المشكلة نفسها بمرضه بالسرطان في فمه ثم وفاته، وشاعت الإشاعات المختلفة حول موته من إهمال مقصود في معالجته والاتفاق مع طبيب السلطان للتخلص منه.
وأيًا ما كان فقد مات وشُيعت جنازته كأقل الناس — لم يسر فيها إلا أفراد معدودون غلبتهم الجرأة والوفاة، ودفن كما يدفن عامة الناس، ومنعت الجرائد في الولاية العثمانية من تأبينه.