الحياة الروحية (٤)
سعة النفس
تختلف النفوس سعة وضيقًا كما تختلف الحُجر والمنازل والأماكن؛ فمن الناس من تضيق نفسه حتى تكون كسَمّ الخياط، ومنهم من تتسع نفسه حتى تشمل العالم وما فيه.
تولد النفس ضيِّقة شديدة الضيق، ثم كل تجربة من الحواس الخمس توسع دائرتها، وكلما زادت تجاربها زاد اتساعها.
وفائدة التربية توسيع النفس؛ فكل موضوع نتعلمه يزيد في اتساع نفسنا كما يزيد في اهتمامنا. فإذا قرأنا التاريخ — مثلًا — قديمه ووسطه وحديثه زاد شعورنا بالأجيال المختلفة على تعاقبها، واتصلت نفوسنا بالعالم على توالي العصور، وارتبطت بعظماء الرجال على نحو ما، فكان ذلك كله عنصرًا هامًا لسعة النفس؛ وكذلك درس النبات، يزيد اتصالنا بعالم النبات ويخلق فينا عينًا جديدة نقرأ بها في النبات وأنواعه وتطوره وحياته ما لم نكن نقرأ، فتتسع نفوسنا من هذه الناحية اتساعًا يجعل علم النبات جزءًا منا؛ وكذلك الشأن في كل علم من جيولوجيا وفلك وطبيعة وكيمياء. كل علم بشيء يبعث موجات لا سلكية من الأشياء المعلومة ويجعل من نفسنا جهازًا مستقبلًا لها، وعلى قدر علمنا بالعالم حولنا تكون سعة نفسنا، وتكون مقدرة استقبالنا للموجات، ويكون تجاوب نفسنا مع العالم.
وكما تتسع نفس الإنسان بعلمه بالشيء تتسع قدرته ونفوذه؛ فالمهندس يرى في الأبنية ما لم نر، ويقرأ فيها من أحجارها وأخشابها وأوضاعها ما لم نقرأ، ويستطيع أن يتخيل من الصور والأبنية والأشكال ما لم نتخيل، ويخرج إلى الوجود من المشروعات والتصميمات ما لم نستطع؛ وشتان بين موسيقى يدرك أدق شيء فيما يسمع، ويُصغى إلى نفسه فيستخرج من الألحان ما نُعْجَب به، وبين من ليس له أذن موسيقية فلا يميز بين صوت وصوت، فضلًا عن خلق ألحان جديدة!
هناك وسائل كثيرة لتوسيع النفس، أكثرها شيوعًا مزاولة الأعمال المادية مهما اختلفت هذه المادة، فالنجار في نجارته، والحداد في حدادته، والتاجر في سلعه، والزارع في زرعه، كلٌّ يوسع نفسه ونفوذه في ناحيته. فممارسته العمل تنمي خياله في موضوعه، فيحلم بأشياء في ذهنه استخرجها إلى حيِّز الوجود بعمله، وكل التحسينات في الصناعات ناشئة عن هذه السعة في النفس التي تتبعها قوة الخيال وإصلاح الإنتاج.
وكل ما يباشره الإنسان ويتصل به يكون جزءًا من نفسه؛ فبيتك الذي تسكنه، وأثاث منزلك ومالك وثروتك، كل هذا يتحد مع نفسك ويكون جزءًا منها، من تعدَّى عليه فقد تعدى على نفسك، ومن عاب بيتك أو أثاثك أو صناعتك فقد عاب نفسك، ومن مدحها فقد مدح نفسك، وهكذا.
وهكذا الشأن في المعنويات، فمن ضروب توسيع النفس وسعادتها اتصالها بنفس مثلها، فقد تشعر النفس بضيق وظلام حتى تجد نفسًا تألفها، فتشعر بالسعة بسد الضيق، والنور بعد الظلمة، وتشعر بلذة التجاوب بين النفسين، والتناغم بين الروحين، وهذا هو سر السعادة في الصداقة، والسعادة في الحب؛ فالنفس تشعر بسعتها، وأن نفسًا أخرى انضمت إلى نفسها وتكوّنت منهما وحدة، تسعد كلٌّ بسعادة الأخرى، وتكمل كل نفس الأخرى، وتستمد كل نفس قوة من النفس الأخرى، وربما استطاعا بامتزاجهما أن ينتجا شيئًا لا تستطيع أن تنتجه كلتاهما ولا هما معًا غير ممتزجين، كالعنصرين يمتزجان فيكوِّنان عنصرًا جديدًا ليس أحدهما وليس هما معًا متفرقين منفصلين. وعمل الأنبياء والمصلحين أن يوحدوا الغرض بين النفوس، ويعملوا بتعاليمهم على توحيدها، فإذا الجمعية الأولى المتلفة حول النبي أو المصلح متحدة كأنها نفس واحدة، واسعة لأن كل نفس تشربت سائر النفوس، وإذا ما يصدر عنها مجتمعة يستدعي العجب. ومما ينشده كبار المصلحين المتفائلين في العالم تحقيق نظم اجتماعية وسياسية إنسانية تدرك هذه الحقيقة، فتوسع النفوس بالتوحيد بين أغراضها، والتأليف بين قواها، والقضاء على عناصر التفريق من وطنية وعصبية ودينية وقومية وجنسية ولغوية، حتى تتسع النفوس إلى أقصى حد ممكن، وتتجه كلها لخير الإنسانية على السواء، وإذ ذاك يقفز المجتمع الإنساني والمدنية قفزة لم يرها التاريخ؛ لأن التاريخ في جميع عصوره كان معوَّقًا بالعصبيات القبلية والقومية، والحدود الجغرافية، والنزعات الوطنية والجنسية، والخلافات الدينية، وكلها مظاهر لضيق النفس.
ومن مزايا الدين توسيع النفس، وهو ما عبر عنه الإسلام بانشراح الصدر؛ ولعلك صادفت في حياتك أناسًا ضاق صدرهم، وتغلب عليهم الشعور بأن القدر يعاكسهم، والحظ يعبس في وجوههم، وأنه كلما سلكوا طريقًا سد أمامهم. إن الدين كفيل بإزالة هذا الشعور، وشرح الصدر وتوسيع النفس؛ فالمؤمن يشعر شعورًا عميقًا بأن قوة تؤيده وتكتسح الصعاب أمامه، وهو يشعر بانهدام السدود والحدود في طريقه، وهو يشعر بانعدام الزمان والمكان بضمه عالم الغيب إلى عالم الشهادة، واتصال الحياة الأخرى بالحياة الأولى، فهو واسع الرجاء، لا يعوق نظره عائق، ينجذب إلى عالم علوي فيه السعادة وفيه الرضا وفيه الطمأنينة. الدين الحق يغير النفسية فينقلها من عالم ضيق محدود إلى عالم فسيح غير محدود، كالذي حدث في عُبَّاد الأصنام في الجاهلية لما انتقلوا إلى الإسلام؛ فشتان بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وخالد بن الوليد الجاهليين، وبينهم أنفسهم وهم إسلاميون! ما أضيق نفسهم في حياتهم الأولى وما أوسعها في الثانية! وكما أفادهم الدين سعة نفس أفادهم قوة نفس؛ فمحال أن كان الجاهليون من العرب يفتحون ما فتحوا وينتصرون ما انتصروا إذا بقوا على دينهم الأول، ولو تجمعوا حول قائد حربي كبير؛ فإن انتصارهم يرجع إلى سببين كبيرين: التوفيق في اختيار قوادهم، وأهم من ذلك العقيدة بأنهم مؤيدون بقوة من عند ربهم. الدين هو الذي فتح أمامهم الأفق، وملأهم روحًا للعمل؛ بل هو الذي غيَّر موقفهم نحو الحياة، فجعل من الجبان شجاعًا، ومن البخيل سمحًا، ومن الشاك مؤمنًا، ومن الجزوع مطمئنًا — قد كانت النفوس قبله مكبلة ببعض أوهام من غضب الصم ورضاه، ومن عادات وتقاليد تشل العقل وتقيد الروح، فلما آمنت بإله واحد فوق كل شيء يرضيه الخير ويغضبه الشر، سمت سموًا كبيرًا. وفساد الدين يأتي من التعاليم التي تضيق النفس، وتحجبها عن عالمها العلوي الفسيح — فالنفس إذا اعتقدت في الخرافات ضاق حيزها، وإذا امتلأت رعبًا وفزعًا من النار وعذابها ارتبك حالها.
ومن أكبر ما أفسد الدين — في نظري — تزمُّت رجال الدين ومبالغتهم في وصف الله — تعالى — وصفًا مخيفًا مرعبًا، بدل أن يصفوه — كما وصف نفسه — رحمانًا رحيمًا يعفو عن كثير. وقادهم هذا النظر إلى التخويف من كل نعيم الحياة، حتى قالوا إن الضحكة يؤاخذ عليها، والأكلة الطيبة. وضع الحساب، ونادوا أن لا غناء ولا فرح، ولا سرور بالحياة — ما هذا كله؟ وكل ذلك يفسد النفس ويخلق منها مزاجًا شيئًا لا يصلح للحياة! إن الدين الحق يتفتح للحياة الدنيا كما يتفتح للحياة الأخرى، ويكون أساسه حب الله الذي يحب الناس، وأن في الدنيا جنة وفي الأخرى جنة. إن التزمات في الدين مغالاة في الحكمة حتى تعود سخفًا، وحتى تحطم الحياة. الدين الحق يُدخل السرور على القلب والنشاط على النفس؛ أما الحزن والخوف فيضيق الصدر، ويشل النفس ويبعث السأم. أصبحت الصورة التي يرسمها رجال الدين للمتديِّن — مع الأسف — صورة رجل منكس الرأس تواضعًا، مملوء القلب رعبًا، زاهد في النجاح في الحياة الدنيا طمعًا في الحياة الأخرى، مغمور بالكرب خوفًا من الموت وما بعد الموت، راغب عن متع الحياة، شديد المحاسبة لنفسه في كل ما يأتي وما يذر، عابس في وجه الحياة خوف أن تضله، منهمك في العبادة غير عابئ بحقوق الناس، يفر من الصوت الجميل، ومن الملبس الجميل، والنظافة الجميلة، والفكاهة الحلوة، إلى نحو ذلك.
وهذه الصورة التي رسمها بعض رجال الدين وزادوا فيها على اختلاف العصور تنتهي إلى رجل ضيق الأفق حرج الصدر لا يصلح للحياة، يُستغَل ولا يَستغِل ويُحكَم ولا يَحكُم، ويذِل ولا يعتز، وفي ظني أنه يشقى في الدنيا ولا يسعد في الآخرة؛ فلو أراد الله منا العمل للآخرة وحدها، لاستغنى عن وجود الدنيا واختصرها — إنما الصورة الصحيحة للرجل الصالح رجل أحب الله أكثر مما خافه، وأحب الناس من حبه لله، وتفتحت نفسه للدنيا كما تفتحت للآخرة، ربط دينه بإسعاد الناس والتخفيف من متاعبهم، يضحك ويواسي، ويصلي ويتقن عمله، ويحسن علاقته بالله وبالناس، ويبسم للحياة ولا بأس بالموت إذا الموت نزل، ويرى الخير في أن يكون في الصدر في الدنيا وفي أعلى عليين في الآخرة، ويرفع رأسه في الدنيا لأن ذلك مقرون برفع الرأس في الآخرة، يوسع نفسه حتى تحتضن الإنسانية بأجمعها والكون وما فيه، يعتقد أن الدين في القلب لا في المظهر، والدين المعاملة لا العبادة وحدها، وأن خير الناس عند الله أنفعهم للناس — وقد كان هذا هو الدين الأول قبل أن يفسده المخرِّفون، وكانت هذه هي صورة المتديِّن قبل أن يشوها المتأخرون. لو كان الدين أتى أوله بمثل ما أتى به آخره ما تحرر أهله، ولا انتصروا ولا غروا، وكانوا طعمة لجيرانهم، أذلة في أنفسهم. إن الصورة الأولى التعيسة تملأ النفس شعورًا بالضعة، وكما يعبر علماء النفس الآن تزيده شعورًا «بمركب النقص»؛ بينما الصورة الثانية تبعث على التسامي. ومركب النقص يفقد الثقة بالنفس وبالرب، والتسامي يبعثها. إن للنفوس قوانين طبيعية لا تتخلف: احرم النفس طمأنينتها واملأها رعبًا وجدردها من متع الحياة تفقد احترامها وقوتها، وأمدها بالمال الذي يلزمها وأصلح الظروف التي تحيط بها تتفتح وتحس القوة والعظمة. واعتماد النفس على إله مخيف ليس كاعتمادها على إله محب رحيم، وشتان بين شعور ابن نحو أب يحب ويرحم، ونحو أب يخيف ويرعب.
إن الدين الصحيح يغذي الشعور بالتسامي والتفوق، ويعالج الشعور بالنقص، والدين إذا فسد كان على العكس. الدين الصحيح ينقل النفس من «السوداء» والرعب إلى الطمأنينة والسعادة. إنه يوسع النفس حتى ترى بينها وبين الناس كلها، وبينها وبين المخلوقات كلها نسبًا كنسب الأسرة الواحدة، ربها الله.
ويحدث في النفوس العظيمة أن تتصل بعالم غير منظور فيتسع أفقها اتساعًا مضاعفًا — وهي ظاهرة من الصعب إنكارها، وإن عز على العلم شرحها. وما نسميهم بنوابغ العالم وعظمائه هم من هذا القبيل؛ خلقت نفوسهم ولها الاستعداد والقدرة على هذا الإتصال، حتى لنرى هذا النوع — من كبار الأدباء والفنانين — يتعرضون لكتابة كتاب أو تصوير فكرة فيرتج عليهم ويصابون بالعقم، فما هو إلا أن يشعروا أن بابًا كان مغلقًا ثم انفتح فجأة، فاتصلت نفوسهم بعالم غير عالمهم، ورأوا ما لم يكونوا يرون. وتدفقت عليهم الإلهامات والمعاني والأفكار، حتى كأن الرواية أو الكتاب أو القصيدة أو الصورة الفنية أو القطعة الموسيقية تكتب نفسها؛ وهؤلاء يعالجون التعرض لهذا الوحي بأشكال شتى، ومعالجات نفسية، يستطيعون معها أن يستقبلوه، إما بنوع من العزلة والاستغراق، وإما بالتفكير في فكرة نبيلة، أو بقراءة كاتب ملهم مثلهم وتركيز النفس فيما كَتَب أو نحو ذلك. وليس أحد منا إلا من قرأ أو جالس عظيمًا فعجب كيف اتسعت نفسه هذه السعة، وكيف تتدفق منه الأفكار والآراء كأنها وحي مُنزل، وتفيض منه القوة حتى يُعْدِي بها من قرأه أو سمعه. وعظماء رجال الدين من هذا القبيل تتسع نفوسهم لاتصالها بعالم روحي لا يقاس به عالم المادة. ويكاد يكون عند كل إنسان نوع من الاستعداد لهذا الوحي، ولكن الفرق بين النفوس كالفرق بين حبة ظلت حبة، وحبة وجدت جوَّها وغذاءها فأخرجت جذورًا وجذعًا وأغصانًا وأزهارًا وأثمارًا. والتربية الصحيحة وتعاليم الدين الصحيحة هي التي تربي النفوس وتغذيها وتجعلها أقدر على أن تكمل نفسها وتوسع أفقها.