السيد جمال الدين الأفغاني (٦)
ما تعاليم السيد في كلمة؟ وما أغراضه في جملة؟
ومن أجل هذا يجب على العالم الإسلامي أن يتحد لدفع الهجوم عليه ليستطيع الذود عن كيانه، ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على عوامل تفوقه ومقدرته».
ويقول «جولد زيهر»: إن جمال الدين كان — كما يرى براون — فيلسوفًا، كاتبًا، خطيبًا، صحفيًا؛ وفوق ذلك كان سياسيًا، يرى فيه محبوه وطنيًا كبيرًا، وخصومه مهيجًا خطيرًا؛ وكان له أثر بالغ في النزعات الشورية التي حدثت في عشرات السنين الأخيرة في الحكومات الإسلامية، وكان يرمي إلى تحرير الممالك الإسلامية من السيطرة الأوروبية، وإنقاذها من الاستغلال الأجنبي، وإلى ترقية شؤونها الداخلية بالإدارات الحرة المنظمة؛ كما كان يرمي إلى جامعة تنتظم الحكومات الإسلامية، ومنها إيران الشيعية، لتتمكن بهذا الاتحاد من منع التدخل الأوروبي في شؤونها».
ويقول السيد جمال الدين عن نفسه: «لقد جمعت ما تفرق من الفكر، ولممت شعث التصور، ونظرت إلى الشرق وأهله، فاستوقفتني الأفغان وهي أول أرض مس جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجوار والروابط، فجزيرة العرب: من حجاز هو مهبط الوحي، ومن يمن وتبابعتها، ونجد، والعراق، وبغداد وهارونها ومأمونها، والشام ودهاة الأمويين فيها، والأندلس وحمرائها؛ وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام وما آل إليه أمرهم، فالشرق الشرق؛ فخصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه، وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله وتشتت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف (فعملت على توحيد كلمتهم وتنبيههم للخطر الغربي المحدق بهم).
ويقول الشيخ محمد عبده: «أما مقصده السياسي الذي قد وجه إليه كل أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته — وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله — فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعفها، وتنبيهها للقيام على شؤونها حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تقليص ظل بريطانيا في الأقطار الشرقية».
- (١)
بث الروح في الشرق حتى ينهض بثقافته وعلمه وتربيته وصفاء دينه، وتنقية عقيدته من الخرافات، وأخلاقه مما تراكم عليها، واستعادة عزته ومكانته.
- (٢)
مناهضته الاحتلال الأجنبي حتى تعود الأقطار الشرقية إلى استقلالها مرتبطة بروابط على نحو ما؛ لتتقي الأخطار المحدقة بها.
كان في حياته يحمل في يديه العَلَمين معًا، فلما مات تفرق العَلَمان وتداول المصلحون بعدُ على حمل واحد منهما — هذا أو ذاك — لا على حملهما معًا. فالشيخ محمد عبده — مثلًا — أكبر تلاميذه وأقدرهم — خلفه في حمل العلَم الشافي لا السياسي. لقد تبين بعد أن اشتغاله بالسياسة في العروة الوثقى ونحوها إنما كان مدفوعًا إليه بقلب جمال الدين لا بقلبه هو، ولذلك اقترح عليه بدل إنشاء الجريدة إنشاء مدرسة للزعماء كما تقدم. فلما استقل بنفسه كان عمله في بيروت عملًا تعليميًا صرفًا؛ ولما عاد إلى مصر كان برنامجه التعليم والتثقيف بأوسع ما يستطيع وأنمِّه؛ ولذلك اقترح على أولي الأمر بعد عودته أن يعيَّن ناظرًا لدار العلوم أو أستاذًا فيها، فخشوا من اتصاله بالتلاميذ لتاريخه الماضي، وعينوه قاضيًا أهليًا ليكونوا بمأمن من جانبه، بل رأيناه يلعن في كتاباته السياسة وحروفها ومشتقاتها كراهية لها، بل رأيناه يصرح بأن الواجب الأول على المصلح تثقيف الشعب وتهذيبه، ثم الاستقلال يكون الخاتمة؛ بل رأيناه يضع خطة إصلاحه بأن يتعاون مع الإنجليز ويصادقهم، ويتفاهم معهم لينال منهم — بأقصى ما يستطيع — إعانته فيما ينشد من إصلاح داخلي تثقيفي. وهذا سبب ما كان بينه وبين «مصطفى كامل» والحزب الوطني من خصومة؛ بل ربما كان هذا سببًا أيضًا فيما نلاحظه من بعض الفتور في العلاقة بينه وبين أستاذه السيد جمال الدين، فقد كتب من مصر للسيد — وهو في الآستانة — خطابًا غُفْلا من الإمضاء وتلميحًا لبعض الأشخاص من غير ذكر أسمائهم؛ فهاج السيد وكتب إلى الشيخ محمد عبده جوابًا من نار على هذا التصرف، يؤنبه فيه على الجبن والخوف، ويقول: «تكتب ولا تمضي وتعقد الألغاز؟ … أمامك الموت ولا ينجيك الخوف … فكن فيلسوفًا يرى العالم ألعوبة ولا تكن صبيًا هلوعًا»؛ ولعل هذا آخر ما كان بينهما من تواصل.
وما كان بالشيخ محمد عبده من جبن، ولكن الجسم الملتهب يشعر بالجسم المعتدل باردًا، وقد كتب السيد جوابه هذا وقد ملكته الحدة، وكم ملكته.
على كل حال اختط الشيخ محمد عبده لنفسه خطة اقتنع بها كل الاقتناع، وهي رفع أحد العَلَمين دون الثاني، فأخلص لمبدئه وبذل في ذلك جهده وصحته وعقله وماله، واتجه إلى كل نواحي الثقافة يغذيها وينميها ويصلحها بقدر ما يستطيع إنسان أن يعمل، مع ما يوضع في سبيله من عقبات من الخديوي ومن الجامدين من رجال الدين، ومن دسائس الدساسين؛ فكانت حياته موزعة بين الإشراف على التعليم في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، وإصلاح الأزهر ودرسه التفسير فيه، وتأليف جزء «عم» لناشئة المدارس، وجده في إصلاح الأوقاف والمساجد، وتحريره المقالات في مجلة المنار لتثقيف العقل وهدايته إلى فهم الدين، ورد على مهاجمي الإسلام، كما فعل في رده على هانوتو، ردًا حارًا قويًا بأحر وأقوى من رد السيد جمال الدين على رينان، وسفره إلى تونس والجزائر يحاضر في إصلاح العقيدة الدينية وإصلاح الطرق التعليمية وهكذا. كل ذلك في حدود خطته التي رسمها والتي رآها أوفق لنفسه، وكل ميَّسر لما خلق له.
أما الذين رفعوا العَلَم الآخر — علم مناهضة الحكم الأجنبي — فهم عبد الله نديم، ثم مصطفى كامل وفريد، ثم سعد زغلول، فساروا على مثل دعوة السيد جمال الدين، مستخدمين ما استجد من أساليب، وما استعمله الغرب من وسائل.
هذا في مصر ومثله في سائر أقطار الشرق، من زعماء حملوا لواء الإصلاح الثقافي، وزعماء حملوا اللواء السياسي مما يطول ذكره؛ وقد نعرض — فيما نكتب بعدُ — لبعضه. ولو انتبه «السيد» اليوم من رقدته لحمد من الشرق سيرته، وإن كان أكبر الظن أنه يحتد عليه لبطئه؛ فقد كان — رحمه الله — حارًا حاد المزاج لا يرضيه من الإصلاح السير على الأقدام ولا ركوب القطارات، بل لا يرضيه بعض الرضا إلا ركوب الطائرات وحرب الدبابات. يقول الشيخ محمد عبده في وصفه: «إن طموح إلى مقصده السياسي، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه؛ وكثيرًا ما كان التعجل علة الحرمان … وهو شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج؛ وكثيرًا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة».
ثم كان أشبه الناس في سياسته بعلي لا بمعاوية، كانت سياسة معاوية عنوانها: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل». أما «علي» فلا يريد الخوض في الباطل ليصل إلى الحق، بلا لا يريد إلا الحق من طريق الحق، وإفا فلا كان. وهكذا كان جمال الدين. قال الشيخ محمد عبده: «ماذا كان يضر السيد لو مهد لإصلاحه — وهو في الآستانة — بالسعي عند السلطان في إعطاء أبي الهدى الصيادي خمسمائة جنيه ونيشان لابنه أو لأخيه، فإذا رأى أبو الهدى أن «السيد» يخدمه فإما أن يواتيه، وإما ألا يناويه» ولكن أنى للسيد أن يطلب هذا الباطل وهو يعتقد أن أبا الهدى سافل دنيء إذا طلب له مشيئًا فالشنق.
ولما كان السيد يحكي لخاصته إقناعه للسلطان بأن حادثة الخديو عباس دسيسة، وأن السلطان اقتنع بذلك، وأخبره أن هذا من دسائس أبى الهدى، قال له عبدالله نديم: ليتك عندما صرح السلطان بذلك ذكرت له دسائسه وضرره. فغضب عند ذلك جمال الدين، وقال: «أعوذ بالله أن أكون من المنافقين، أو أن أفعل ما أنكر على الغير، أو أن أكون همازًا مشاء بنميم».
وهكذا يريد الحق غاية، ويريد الحق وسيلة، والدنيا علمتنا أن سياسة معاوية هي التي نجحت، وأن سياسة الدنيا تقوم على المصالحة وأخذ شيء بترك شيء. فمن أراد الحق كاملًا وإلا لا، فلينشد ذلك في المثل الأعلى للخلق لا في السياسة، أو فلينتظر حتى تخضع السياسية للخلق.
•••
بقيت مسألة هامة في تاريخ السيد، وهو اتهامه بالإلحاد — وقد أشرنا إليها في مقال سابق. ولرمي السيد بالإلحاد تاريخ طويل، فقد رمي به في الآستانة عند زيارته لها أول مرة، فقد خطب في دار الفنون خطبة ذكر فيها أن المعيشة الإنسانية أشبه شيء ببدن الحي، وأن كل صناعة بمنزلة العضو، فالملك كالمخ، والحدادة كالعضد، والزراعة كالكبد … الخ، ولا حياة للجسم إلا بالروح، وروح المعيشة الإنسانية النبوة والحكمة.
فاتهموه بالإلحاد لهذا، وشنعوا عليه بأنه يقول إن النبوة صناعة، وشغبوا عليه حتى نُصح بالخروج من الآستانة.
فلما جاء إلى مصر اتهمه بعض العلماء كالشيخ عليش وبعض العامة بالإلحاد، والإلحاد في نظر هؤلاء ومثالهم شيء هيِّن، يكفي ألا يسير سيرتهم، ولا يلبس لباسهم، وأن يدخن السيجار، ويجلس في المقهى، ويلتف حوله بعض اليهود والنصارى، ليحكموا عليه بالإلحاد. وكما أن عقيدة كل إنسان لها لون خاص، فكذلك تصوره للإلحاد يتكيف بذهنه.
ثم لما ترجم سليم بك عنحوري للسيد جمال الدين في كتابه «سحر هاروت» رمي السيد أيضًا بالإلحاد فقال: «إنه برز في علم الأديان حتى أفضى به إلى الإلحاد والقول بقدم العالم، زاعمًا أن الجراثيم الحية المنتشرة في الفضاء ترقى وتتحوَّر إلى ما نراه من أجرام، وأن القول بوجود محرك أول حكيم وَهْمٌ نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود على حسب ترقيه في المعقولات … الخ».
وقد قابله الشيخ محمد عبده، وعاتبه على نشره مثل هذا القول من غير تحر وتدقيق، فكتب سليم بك في الجرائد يصحح فيه قوله، ويقول: إني قابلت الشيخ محمد عبده، فأوضح لي بدلائل ناهضة وبراهين داحضة، أن ما تتناقله الألسن من هذا القبيل ما كان إلا من آثار الحسد، وأن السيد كان أثناء مناظراته الجدلية يشرح النِّحَل والبدع وأقوال المعطلين شرحًا وافيًا، ثم يقيم الحجج على بطلانها؛ فلعل سامعًا سمع منه هذا القول في مثل هذا الموقف فنسبه إليه، وقال إنه لم يسمع من السيد هذا الكلام وإنما تلقاه عن بعض المصريين والسوريين. ونقل كلامًا للسيد اطلع عليه في وجوب الدين، وضرورة الاعتقاد بالألوهية، ومزايا الإسلام، وختم مقاله بقوله: «إننا سارعنا لإذاعة هذا، شأن المؤرخ العادل، وقيامًا بحق الأدب، وضنا بفضل هذا الرجل الخطير من أن تناله ألسنة من لا يعرفونه خطأ وافتراء والله يتولى الصادقين».
ثم رأينا ما اتهمه به «رينان» بعدما جالسه في باريس فكتب كلمته التي نشرناها من قبل، وهذا أدق موقف؛ فرينان فيلسوف واسع الذهن دقيق التعبير، لا يلقي الكلام على عواهنه، خصوصًا وقد ورد في رد السيد جمال الدين عليه ما يفيد أنه سلم للمسيو رينان بأن الإسلام كان عقبة في سبيل العلم.
ولكن في رأيي أن السيد عبر تعبيرًا غير دقيق في تفرقته بين طبيعة الدين الإسلامي وسيرة المسلمين، خصوصًا وأنه أخذ على رينان تقصيره في أنه لم يبحث إذا كان هذا الشر نشأ عن الديانة الإسلامية نفسها، أم عن الصورة التي تصور بها الإسلام، أم عن أخلاق بعض الشعوب التي اعتنقت الإسلام؛ وقراءتنا لرده تشعرنا بأنه وقع في هذا اللبس، وأنه كان يدور حول فكرة أن للدين دائرة، وللعلم دائرة، ويجب أن يسبح كل في دائرته من غير طغيان، وأن الدين يجب ألا يعارض العلم فيما ثبتت صحته علميًا — وهذه الآراء الواضحة في ذهننا الآن، والواضحة في تعبيرنا، لم ترد واضحة في رده، فكان ردًا مهوشًا، كما كانت محاضرة رينان نفسها كذلك.
وليس من شك في أن السيد كان حر التفكير قويًا على الجدل، متشعب طرائق الحجج، فمن الممكن جدًا أن يكون في مجالسه مع رينان تبحبح في بعض الأقوال التي من هذا القبيل، والتي تحدث لكثير من كبار المفكرين في بعض اللحظات، فحكم رينان عليه هذا الحكم الشامل خطأ.
ثم كان «السيد»، كما يحكي عنه الشيخ محمد عبده وبعض خاصته، متصوفًا يدين بعقيدة المتصوفة، وهي مبهمة غامضة تنتهي بوحدة الوجود، والتعبير عنها قد يلتبس — إلا على الخاصة — بالإلحاد، ومن أجل هذا رمى يحيى الدين ابن العربي وأمثاله بالكفر لعدم الدقة في الوزن.
إن حياة «السيد» مملوءة بالدعوة الحارة إلى الدين، وإلى التوحيد. في كتاباته في «الرد على الدهريين» وفي العروة الوثقى، وفي مجالسه الخاصة.
يذكر بعض خاصته أنه سمع رجلًا كبيرًا تكلم كلمة في حق النبي فأمر «السيد» من معه من الأفغانيين بضربه فضربوه حتى خرج يزحف.
وحكى المخزومي مجلسًا شهده، إذ زار رجل جمال الدين في بيته في الآستانة وجرى الحديث فقال هذا الرجل: «إني قرأت كتب الفلاسفة فثبت لي أن الله غير موجود ولا يعتقد به إلا حيوان». فضاق صدر السيد ولم يجبه، ودعا الحاضرين إلى حديقة البيت وكان فيها أنواع من الطيور والدجاج، فتصايحت الديكة وغردت الطيور، فقال السيد: «كيف لا يفضل أضعف حيوان أعجم يذكر الله إنسانًا ناطقًا ينكر وجود الله»؟! كيف يجرؤ على إنكار واجب الوجود من يأكله الدود؟! إذا لم يتعظا لإنسان بما فوقه من أجرام فليتعظ بما تحته من رفات الأجسام! فخرج الرجل الملحد خجلًا من غير أن يودع.
لا يمكن أن تصدر هذه الكتابات وهذه الأقوال وهذه الغيرة من ملحد، إلا أن يكون قد بلغ الغاية في التصنُّع والنفاق. ولم يكن عيب جمال الدين نفاقه، إنما كان عيبه إفراطه في صراحته، وعدم استطاعته كتمان ما يعتقد، ويقول: «لا يكون الكمال النسبي في البشر إلا متى كثر إعلانهم وقل كتمانهم». وأكثر متاعبه في الحياة كان سببه جهره بما يصح أن يكتم وإعلانه ما يجب أن يُسر، فأخلاق مثل هذه تؤكد أنه لو كان السيد ملحدًا يرى الحق والخير في الإلحاد لدعا إليه في صراحة وجرأة وشجاعة من غير ما مواربة ولا إيماء.
لقد كان يؤمن بالأصول، ويترك لعقله الحرية التامة في الفروع، ويصل في ذلك إلى نتائج غريبة عن أذهان الجامدين المتزمتين فيُرْمى بالإلحاد؛ فكان ينفر من التقليد ويدعو إلى الاجتهاد، ويُذْكر في مجلسه قول للقاضي عياض ويتمسك به راووه فيقول «السيد»: سبحان الله! إن القاضي عياضًا قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله وتداوله فهمه، وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصوب من قول القاضي عياض وغيره من الأئمة! إذا كان القاضي عياض وأمثاله سمحوا لأنفسهم أن يخالفوا أقوال من تقدمهم فاستنبطوا وقالوا ما يتفق وزمانهم فلم لا نستنبط ونقول ما يوافق زماننا؟!
«ما معنى باب الاجتهاد مسدود، وبأي نص سُدّ، أو أي إمام قال لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين، ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه!
«إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا، ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواه القرآن ليس إلا قطرة من بحر، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده».
ويرى أن التفرقة بين أهل السنة والشيعة أحدثتها مطامع الملوك لجهل الأمة، وجميعهم يؤمنون بالقرآن ورسالة محمد، ففيم الخلاف ولم القتال؟
ويقول إن الأديان الثلاثة كلها أساسها واحد وإنما يوسع شقة الخلاف بينها اتجار رؤساء الأديان بها.
ويفيض في اشتراكية الإسلام ويقارن بينها وبين اشتراكية الغرب، فيرى أن اشتراكية الغرب بعث عليها جور الحكام واعوامل الحسد في العمال من أرباب الثراء، أما الاشتراكية التي كانت في الإسلام فملتحمة مع الدين ملتصقة مع الخُلق، باعث عليها حب الخير كما في أعمال عمر وأبي ذر.
ويعرض في مجلسه للحديث عن الرجل والمرأة والسفور والحجاب فيطيل القول في ذلك. وخلاصة رأيه أن المرأة في تكوينها العقلي تساوي الرجل، فليس للرجل رأس وللمرأة نصف رأس، والتفاوت الذي بينهما لم يأت إلا من التربية وإطلاق السراح للرجل وتقييد المرأة للبيت ولتربية الجيل، ومهمتها في هذا أهم وأسمى مما يقوم به الرجل من كثير من الصناعات؛ ويخطئ من يطلب مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء، فلكل وظيفته، وعلى تعاونهما — كل في عمله — يقوم المجتمع، ولا مانع أن تعمل المرأة في الخارج إذا فقدت عائلها واضطرتها ظروفها إلى ذلك، ولكن بنية صالحة وذيل طاهر. ثم قال: «وعندي أن لا مانع من السفور، إذا لم يتخذ مطية للفجور».
ويقول: «إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فإن كان ظاهره المخالفة وجب تأويله. وقد عم الجهل وتفشى الجمود في كثير من المتردين برداء العلماء حتى اتهم القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة — والقرآن بريء مما يقولون — والقرآن يجب أن يجل عن مخالفة العلم الحقيقي خصوصًا في الكليات».
وهو واسع الصدر ينقد «شبلى شميل» في آرائه الملحدة التي جاوز فيها مذهب دارون، ومع ذلك يقدره لصبره على البحث وجرأته في الجهر بما يعتقد ولو خالف الناس. وهكذا وهكذا مما يراه المتزمتون خروجًا عن المألوف، فما أقرب ما يقذفون بكلمة الإلحاد.
سنة مألوفة في الكون، لا يأتي مصلح سابق لزمنه إلا رمي بالزندقة أو الكفر أو الجنون، ثم أوذي ممن يسعى في الخير لهم، وممن يضحي بسعادته لسعادتهم، ولا يقدَّر حق قدره إلا بسعد أن يهدأ الحسد بموته، وتتجلّى صحة دعوته بعد زمنه.
•••
لقد قصدت الآستانة سنة ١٩٢٨ بعد وفاته بإحدى وثلاثين سنة، فرأيت واجبًا أن أزور قبر هذا الرجل العظيم، وأستعيد عنده ذكرى عظمته وسلسلة أعماله، فسألت عنه الكثير فلم يعرفه، ورأيت رجلًا أفغانيًا يعمل خازنًا لمكتبة الشهيد علي، فوصف مكانه لي، فذهبت مع صديقي «العبادي» عصر يوم الأحد ٨ يوليه إلى «ماجقة» أو «متشكة»، فوجدت في ربوة على مدخل البوسفور مقبرة قد انتثرت فيها المدافن، ودلنا شيخ المقبرة على مدفن السيد، فعلمنا أن قبره كان قد تشعث ولم يعن به أحد، وكادت تضيع معالمه ولم يفكر فيه أحد من أهل الشرق الذين أفنى فيهم حياته، إنما ذكره مستشرق أمريكي حضر إلى الآستانة سنة ١٩٢٦ ونقب عن قبره حتى وجده، فبنى عليه تركيبة جميلة من الرخام، وأحاطها بسور من حديد، وكتب على أحد وجوه التركيبة اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته، وفي وجه آخر كتابة تركية ترجمت لنا كما يأتي: «أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم الخيِّر الأمريكاني المستر شارلس كرين سنة ١٩٢٦».
وقفنا على قبره وقلنا: هنا رقد محيي النفوس ومحرر العقول، ومحرك القلوب، وباعث الشعوب، ومزلزل العروش، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته، وتخشى من لسانه وسطوته، والدول ذات الجنود والبنود تخاف من حركته، والممالك الواسعة الحرية تضيق نفسًا بحريته.
هنا خمد من كان يشعل النار حيث كان، في الأفغان، في مصر، في فارس، في باريس، في لندرة، في الآستانة.
هنا باذر بذور الثورة العرابية، ومؤجج النفوس للثورة الفارسية، ومحرك العالم الإسلامي كله لمناهضة الحكومات الأجنبية، والمطالبة بالإصلاحات الاجتماعية. هنا من حارب إسماعيل وتوفيقًا في مصر، وناصر الدين في فارس، وانجلترا في باريس، وحارب الجهل والأمية والذلة في الشرق، والجاسوسية والنفاق في الآستانة. ولم ينتصر عليه شيء إلا الموت.
لقد أجللناه وأعظمناه، والتهبت نفوسنا لذكراه، فكيف كان محضره ومرآه، رحمه الله.