في الأدب العربي: عُرْوَةُ بن الوَرْد
لفت نظري وأنا أقرأ في «الأغاني» اليوم ما حكاه من أن معاوية قال: «لو كان لعروة ولد لأحببت أن أتزوج إليهم» وأن عبد الملك بن مروان قال: «ما يسرُّني أن أحدًا من العرب ممن لم يلدني قد ولدني إلا عروة بن الورد.
كيف يكون هذا ومعاوية هو ما هو في نفسه، وفي ملكه، وفي عظمته، وفي قومه، ثم يتمنى أن لو نال شرف الإصهار إلى عروة؟ وعبد الملك بن مروان، وهو ما هو في كل ذلك، يتمنى أن يستعيض عن نسبته إلى معاوية وأبي سفيان وبني أميَّة — هذه النسبة التي جلبت له الملك الضخم — بنسبته إلى عروة بن الورد؟
ومن هو عروة؟ صعلوك من صعاليك العرب. وكُتب اللغة تُعرِّف الصعلوك بأنه الفقير الذي لا يملك شيئًا، ولا اعتماد له إلا على الغارة والتلصص.
كيف يستقيم ذلك في الأذهان؟ أحد أمرين: إما أن تكون هذه الأقوال المنسوبة إلى معاوية وعبد الملك غير صحيحة، وإما أن يكون فهمنا للصعاليك غير صحيح!
وجدتُ السؤال صعبًا، والاعتراض وجيهًا، فلم أُحِرْ جوابًا.
واليوم عدت إلى مكتب وذكرت السؤال فرجعت إلى ديوان عروة أتلمس الحل. وجدت أن عروة — كما يصفونه — كان عبسيًا، من قبيلة عنترة، «وكان فارسًا من فرسانها، وصعلوكًا من صعاليكها المقدَّمين الأجواد، وكان يلقب بعروة الصعاليك، لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم، ولم يكن لهم معاش ولا مَغزَى».
ووجدت أن كلمة الصعلوك تطلق على معنيين متقابلين أتم التقابل، أحدهما في منتهى الخسة والضعة والذلة، والآخر في منتهى العزة والسمو والنبل؛ كلا المعنيين أساسه الفقر، ولذلك سُمِّيَ كلا الرجلين صعلوكًا، ولكن شتان ما بينهما؛ فأما أولهما ففقير كسول خامل، دنيء النفس، ساقط الهمة، يتلمس رزقه من السؤال، ويدور على الموسرين يتحنَّنهم، ويستدر قوته الحقير من أيديهم، هذا صعلوك حقير. وأما الآخر فشهم شجاع، يتلألأ وجهه عند الشدائد، ويطلب رزقه من سن رمحه، فإن نال ما طلب طَعِم منه وأطعم، وأكل وآكل، وتزوَّد وزوَّد، حتى يأتي على آخره فإذا هو فقير، فهذا صعلوك نبيل.
ولم آت بشيء من عندي في هذا التفريق بين الصعلوكين، فقد عبَّر عروة عنه تعبيرًا خيرًا مما عبرت، وجلاه خيرًا مما جلوت، فقال:
وفي هذا المعنى وتقسيم الصعلوك إلى هذين القسمين أيضًا قال حاتم الطائي:
•••
كان عروة صعلوكًا بالمعنى الثاني، يلمع في وجهه ضياء الأمل والنشاط، ويترفع عن المعيشة الدنيئة، ويهابه أعداؤه، ويُغير عليهم فيستغني منهم، ويفرِّق ماله على من حوله، ويعيش فقيرًا نبيلًا.
وحول هذه المعاني كلها كان شعره كله، فهو يسمى للمجد وحسن الذكر فإما مات في سبيله وإما ناله:
كان عروة اشتراكيًا عمليًا، لا اشتراكيًا نظريًا فحسب، يذكرنا بتولستوي على بُعد ما بينهما في البداوة والحضارة، والأمية والثقافة، والزمن بين القرن السادس والتاسع عشر؛ ولكن الروح النبيلة فيهما واحدة فقد حمل «عروة» عبء الفقراء في قبيلته، وآلى ألا يستريح حياته أو يجدوا كفايتهم، وألف منهم فرقة تعمل معه وتسعى سعيه، وما نالوا فهو للجميع، ونفسه لا تهدأ من الشعور بهذا العبء:
وليس عياله هم أولاده كما نفهم نحن اليوم، ولكن من يعولهم من أهله وفقراء قومه، كما تدل عليه سيرته.
وقد جمع «عروة» فقراء قومه حوله، وبنى لهم حظيرة يقيمون فيها، وهو يغزو بأشدائهم أعداءه وأعداءهم، فما جمع وجمعوا فرقة عليهم، وساوى بين نفسه وبينهم، وسماهم اسمًا إن كان قبيحًا اليوم فلم يكن قبيحًا في عهده، سماهم «أصحاب الكنيف»، «الكنيف» الحظيرة تقام من الشجر فتقي من فيها الريح والتراب والبرد.
وكان له في الهجمات والغزوات رأي لطيف، وهو تقصي حال من ينوي غزوهم، فإن كانوا كرمًا، سمحًا، تركهم ولم يُغِر عليهم، وإن كانوا أشحاء بخلاء أدنياء، تعمد غزوهم، وسلبهم ما في أيديهم، وأعطاه لأصحاب الحظيرة.
يحدثنا الرواة عن حادثة طريفة حدثت له، فقد كان «عروة» حياته في جهد متواصل من الغزو والقتال، وهذه هي أهم وسيلة من وسائل العيش في ذلك العهد، وكان إذا أصاب إبلًا أطعم أصحاب الحظيرة منها، وقسمها عليهم قسمة عادلة، وأخذ لنفسه نصيبًا مثل نصيب أحدهم؛ فأغار يومًا ونال إبلًا كثيرة، وسبى امرأة، فقسم الإبل بينهم، وأراد أن يستخلص المرأة لنفسه، فأتوا عليه حتى يطبق الاشتراكية تطبيقًا دقيقًا، وطلبوا إليه أن يقوم المرأة بالإبل ويجعلها سهمًا، فمن شاء أخذها ومن شاء تركها، أما أن يستصفيها لنفسه فلا. فغضب «عروة» أشد الغضب، وفكر أن يهد الحظيرة على من فيها، وينزع منهم ما أسدى إليهم، ويقتل من أبى عليه منهم، ولكن رجعت إليه نفسه الخيِّرة فقال: «إن فعلت أفسدت ما صنعت»؛ ثم نزل على حكمهم وترك المرأة لهم، وشكا في شعره الناس ونفسيتهم، يقول فيه إنهم كسائر الناس، ضعاف إذا جاعوا، لئام إذا شبعوا؛ وإني وإياهم كالأم والرءوم على ولدها الصغير ترضعه وتحمله، وتغذيه وتلببه، وترهن له ماء عينيها، حتى إذا تم شبابه، وأدرك خيره تزوج، فقلبت الزوجة الأم على ابنها، وسلبته قلبه بما تطيب له وتزين فحارت الأم في أمرها، إما أن تخسر ابنها إذا تنكرت له، أو تصبر على الألم من أن تكون زوجته آثر عنده منها، فدفعتها الشفقة أن تختار الثانية، وهذا ما كان منه مع أصحاب الحظيرة، فذلك قوله:
•••
•••
أكبر ميزة لعروة أنه كان رجلًا، وكان يشعر بالناس أكثر مما يشعر بنفسه، واخترع لذلك المعنى التعبير الفني الجميل «أقسم جسمي في جسوم كثيرة»، أي أقسم ما يلزم لجسمي من طعام في أجسام الناس، ثم هو لا يعبأ بهزاله إذا سمن قومه، ولا يعبأ بالأعباء يحملها لتخفيفها عن عشيرته، وقد لخص هذه النظرات في وصف نفسه بقوله:
لعل هذه المعاني النبيلة وأكثر منها هي التي جعلت معاوية يتمنى أن يصاهره، وعبد الملك يتمنى عروة أن يكون أباه؛ وهذا سمو في تفكير معاوية وعبد الملك عظيم، وتقدير لمعاني النبل كبير.