في الهواء الطلق (٤)١
كانت الرحلة هذه المرة إلى رجل كبير قد طوى مراحل الشباب، وصحب الأيام الخالية، تقوَّس ظهره وأعوجت قناته من طول ما حمل من أعباء العيش؛ خبر الحياة حلوها ومرها، وعرف حياة الفلاح في حقله. والموظف في مناصبه المختلفة، ومكنته ظروفه أن يخالط الأعيان ويدرس أحوالهم، والطبقة الأرستقراطية ويعرف تقاليدهم، وقوانينهم وتزمتهم، ورجال السياسة واتجاهاتهم وأساليب تفكيرهم وتهريجهم، وشاهد معامع خلافاتهم، وانغمس في تيارهم، ثم نفض يده من كل شؤونهم؛ وفي طول حياته يجاري الحركة الفكرية والأدبية والفلسفية في الشرق والغرب، ويتذوقها وينقدها، ويدلي بآرائه فيها.
زرته في ضاحية من ضواحي القاهرة ضحى، والجو بارد، والشمس جميلة تبعث بدفئها فتنعش النفس، وترد الحياة.
تبادلنا التحية، وتكلمنا في الجو والبرد، والسياسة والحرب؛ ثم قال: هل لك في مشية خفيفة في هذه الشمس اللطيفة؟ فقلت: أنعم بها وأكرم، وسحب عصاه.
وبعد قليل كنا في الهواء الطلق، والجو النقي، والسماء الصافية، والشمس الساطعة؛ وتنقلنا في الحديث إلى أن وصلنا إلى العجب من اختلاف الناس في آرائهم، وتعدد اتجاهاتهم في تفكيرهم، وكيف يُلعب بالحق ويخفى وجه الصواب؛ فحركت من الشيخ كامن شجنه، وعميق فكره، فقال: إن الخلاف في الرأي يرجع — في نظري — إلى أسباب كثيرة؛ وهو موضوع لطيف، قرأت فيه بعض كتب إفرنجية، وجربت فيه تجارب شخصية، ولا يزال يعلق شيء منها بذهني الذي أدركته الشيخوخة، ولعلها قوَّسته كلما قوست ظهري، وشيَّبته كما شيبت رأسي، فأصبح يرى الأمور كما يراها الناظر خلال منظاره، ومع ذلك فمن الذي يستطيع أن ينظر إلى العالم مجردًا من منظار؟ إن كل إنسان ينظر إليه من خلال منظاره الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأبيض؛ وللشباب منظاره، وللشيخ مناظره؛ وكل إنسان ينظر إلى العالم من خلاله، وتحول بينه وبين إدراك الحقيقة شهواته أحيانًا، وكلٌّ يسمِّي ما يراه الحق.
وقد استفدت من مطالعاتي في المنطق أن أحدد موضوعي وأحصر كلامي في نقطة حتى أستوفيها طاقتي، سواء في ذلك إذا أردت أن أفهم أو أردت أن أتحدث، ورأيت ذلك أجدى وأنفع؛ وأكره ما أكره تشتت الذهن في الفهم، وتشقق الحديث في القول — ففي موضوع كهذا نرى أن أسباب الخلاف بين الناس كثيرة بعضها يرجع إلى اللغة، وبعضها يرجع إلى درجة الثقافة، وبعضها يرجع إلى اختلاف الأغراض والشهوات، وبعضها يرجع إلى اختلاف الأمزجة، ونحو ذلك. فأحب إذا تحدثت أن أتحدث في نقطة حتى أستوفيها، ثم أعطف على غيرها، ولا أحب أن أتكلم كلمة من هنا وكلمة من هناك؛ فاختر ما تحب أن نبدأ به.
قلت: فلنبدأ من آخرها، فذلك أشهى إليَّ.
قال: وهو أيضًا أحب إليَّ.
وكنت ألاحظ أنه يرقب السماء والشمس، وأخيرًا أدركت أنه يخشى أن تحول بينه وبين الشمس سحابة تذهب بدفئها وتعرّضه للبرد والزكام، فإذا رأى سحابة قدَّر البعد بينها وبين الشمس، وحسب حساب الزمن الذي تقطعها فيه، فقلت في نفسي: يالله من الكِبَر؛ وما أقسى الوقوف على ساحل الحياة!
ثم اطمأن إذ ودع آخر سحابة تسير من الغرب إلى الشرق، واستمر في حديثه فقال: هب أن عقل الناس كلهم وتفكيرهم المنطقي واحد، فإنهم في أمزجتهم مختلفون، والفكر الإنساني لا يتكوَّن ولا يظهر في الخارج — بالحديث أو الكتابة — إلا ممزوجًا بالمزاج، ويكاد كل إنسان يكون له مزاجه الخاص به. ويتبع ذلك أن يكون لكل إنسان تفكيره الذي يظهر في قوله أو فعله أو كتابته، ولكن — لأجل التقريب فقط — قسم الأستاذ «وليم جيمس» المزاج الإنساني إلى قسمين هامين، ويكاد كل إنسان يكون من أحد هذين القسمين: «غليظ العقل» و«رقيق العقل»، كما نقول: غليظ القلب، ورقيق القلب؛ ولكل منهما مظاهر، فغليظ العقل — عادة — واقعي يؤمن بما يعتمد على التجربة والاختبار والحواس فقط، مادي، متشائم، ملحد، متعصب شَرِه، شكاك.
وعلى العكس من ذلك أخوه «رقيق العقل» مثالي، متفائل، متدين، حر الفكر، قانع، مطمئن إلى عقائده.
وقد يتلون الناس ألوانًا مختلفة، ولكن إذا حللت ألوانهم رأيتها ترجع في النهاية إلى هذين اللونين.
ولهذا ترى أن الناس — فيما يختارون من المذاهب الدينية والفلسفية، بل والسياسية، وما ينظرون إليه فيما يعرض عليهم من المسائل اليومية، ونظراتهم إلى الله وإلى الحياة، وعواطفهم وميولهم وأخلاقهم — متأثرون بما فطروا عليه من أحد هذين المزاجين أكثر من تأثرهم بفكرهم المنطقي المجرد.
من أجل هذا كان الوجود كله معروضًا أمام الناس كلهم على السواء، ولكن كلٌّ يقرؤه بعينه الخاصة، ويشعر به بشعوره الخاص، وكل ينجذب إلى أشياء لا ينجذب إليها الآخر، ولا سبب لهذا إلا عقله الغليظ أو الرقيق، ومزاجه الطبيعي المفطور عليه.
هذا الشاعر الذي لا يرى في الحقل إلا جماله، لا يرى فيه المالي إلا غلته؛ وهذه جماعة تنظر كلها إلى امرأة واحدة، ينظر أحدهم إلى جمالها الظاهر من جسمها فيهيم بها، وينظر الآخر إلى سوء حديثها وقبح معانيها فينفر منها، ويقوّمها الثالث حسب ثروتها وما ينتظر أن تناله من ميراث أبويها فيحبها أو يكرهها، حسب علمه بمالها، ولا يقوّمها الرابع إلا بمقدار صلاحيتها لأن تكون ربة بيت، ومربية نسل، والمرأة المرأة، وإنما اختلف النظر، وإنما اختلف النظر باختلاف المزاج؛ وقديمًا قالوا: «كلٌّ يغني على ليلاه».
أرأيت الأكل أصنافًا وألوانًا، يستورد كل يوم لحديقة الحيوان من حشائش وبقول ولحوم، ثم يأكل كل صنف من الطيور والحيوان ما يتفق وطبيعته؟!
أو رأيت الأسواق العامة للمأكل والملبس والمشرب؟ يأتي إليها الناس فيتخيرون ما يشترون، كل حسب مزاجه، ويعجب كل كيف اختار غيره غير ما اختاره؛ كذلك الشأن في الآراء السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية، إنما يقع عليها الشخص منجذبًا بمزاجه لا بمنطقه، ثم من غفلته يظن أنه حر الإرادة حر الاختيار.
وهنا تعب الشيخ، فاقترح العودة، ثم قال: هذا سياسي من الصنف الغليظ العقل، قد اتخذ السياسة مغنمًا، يختار المذهب الذي يرى أنه يدر الربح عليه أكثر، ويتخذ السياسة مصعدًا يصعد عليه في ماله وجاهه ونفوذه، وليست السياسة عنده إلا كسب المال أو انتهاز كسبه؛ وهذا سياسي آخر من الصنف الرقيق العقل، مثالي، يرى السياسة مغرمًا، وهي ليست إلا وسيلة إلى إصلاح قومه قدر جهده، فهو يضحي لذلك من ماله وزمنه خدمة لمبدئه. وليس الفرق بين الاثنين إلا الفرق بين المزاجين.
ونجد هذين النوعين في الأمم المختلفة راقيها ومنحطها قد يختلفون في العَرَض، ولكنهم يتحدون في الجوهر.
وكذلك الشأن في الدين.
وكنا قد وصلنا في عودتنا إلى حديقة جميلة في أطراف الضاحية، فوجدنا مقعدًا خشبيًا فقعدنا، فإذا نظرنا عن قرب فالحشائش الخضراء الجميلة، والنخيل التي تبهر بقوامها اللطيف وغصونها المتهدلة، فإذا مددنا الطرف فالصحراء وما لا نهاية — وبدأ الشيخ يشكو التعب وكِبَر السن فحركته ليتم حديثه، فسأل: إلى أين وصلنا؟ فقلت: الدين.
قال: نعم، إن الدين كذلك تابع للمزاج، فمهما حارب العلم الدين، ومهما دعا الملاحدة إلى الإلحاد، ومهما قاوموا العقيدة، فالناس في كل عصر قسمان: قسم لا يريد أن يؤمن إلا بالحواس وقواعد المنطق الجافة؛ وقسم يدعوه قلبه إلى الإيمان. ولهؤلاء حجج ولهؤلاء حجج، ولا نظن أن العقل هو الذي يعمل وحده في تأليف الحجج، بل إن المزاج هو الذي يوحي إلى العقل بها وتكوينها وتشكيلها. والتصوف والزهد ليس إلا مزاجًا؛ ومهما حاولت أن تجعل من الملحد صوفيًا فلن تستطيع، لأن تغيير المزاج في حكم المستحيل. فذو المزاج الذي سميناه «رقيقًا» ينظر إلى العالم فيرى فيه أشياء لا تفهم ولا تشرح، فيهيم بها، ولايستطيع أن ينكرها، فيوليها احترامه وتقديسه، على حين أن الغليظ المزاج يتخذ من غموضها وعدم فهمها وسيلة لجحدها. ويحترم كل الاحترام حواسه ومنطقه، فينكر ما وراءها، ويصيح: إن الله، والخلود، والحياة الأخرى، والوحي، وما إلى ذلك لا أحسها ولا أهتدي إليها بالمنطق الصرف، فأنا أنكرها احترامًا لحواسي ومنطقي. ويجادله الأول: ما حواسك وما منطقك؟ إنك كلما وثقت بها زدت عمى، وهي ليست إلا وسائل لإدراك التافه من الأمور، وخدمة الشهوات، ومن الحمق والمنطق الرخيص أن تغمض العين عما لم تدركه حواسك وقواعد منطقك، وتحل مشاكله بإنكارك السهل، فيكون مَثَلك مثل من عجز عن حل مسألة حسابية أو تمارين هندسية، فأنكر وجودها بدل أن يحاول حلها بأساليب جديدة غير التي جربها — وهكذا، وهكذا، يطول النزاع والجدل، والمسألة في الواقع مسألة مزاج.
وسعل الشيخ سعلة شديدة، احمرَّ منها وجهه ودمعت عينه، فرثيت لحاله؛ ولكن عز عليَّ انقطاع حديثه، فتكلمت كلامًا خفيفًا في غير الموضوع، حتى عادت إليه نفسه، واستراح نفسه، ثم حركته من جديد، فقلت: ولكن إذا كانت مسألة الدين مسألة مزاج، فكيف تفسر من كفر بعد إيمان، أو آمن بعد كفر؟ أتغير مزاجه، وقد فهمت من قولك استحالة تغييره؟
فسكت قليلًا ثم قال: إن أخذت بالظواهر فاعتراضك صحيح، ولكن إن دققت النظر فغير صحيح. إني أعتقد — مثلًا — أن الذين لبوا دعوة النبي في أول الأمر كانوا من ذوي المزاج الرقيق الذي ينزع إلى الدين، وكانوا يتدينون في جاهليتهم، فلما جاء الإسلام سهل عليهم التحول من دين غير صحيح إلى دين صحيح، والنزعة الدينية واحدة؛ وهناك بعد قوم أسلموا رغبة في مغنم، أو خوفًا من سيف،أو نحو ذلك؛ وأنا لا أنظر في قولي إلى الأشكال، وإنما أنظر إلى القلوب، ويعجبني الحديث: «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام»، والحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم». إن الذين يؤمنون إيمانًا تجاريًا خارجون من حسابي، وكذلك الذين يكفرون كفرًا تجاريًا.
وقد قرأت عن بعض العلماء المحدثين أنهم شغلوا بالعلم وتعمقوا فيه واستسلموا له، وغمرهم تياره فكفروا بالدين، ولكن مع هذا كله ظل أمر الدين ساكنًا في أعماق قلوبهم؛ ووصف بعضهم أحدهم — ولا أذكر اسمه الآن — فقال: «إنه كفر عقله وآمن قلبه»، وذلك لأن مزاجه من النوع الرقيق الذي يؤمن رغم أنفه.
والآن أظنك توافقني على أن كل إنسان يُخرج من عقله وقلبه وعواطفه ومزاجه خيوطًا خاصة به، يؤلف منها مقدماته ونتائجه، ثم يعتقد أنها الحق، وأنها وحدها الحق، وأنها منطق صرف، وأنها عقل بحت؛ وكذلك يفعل الآخر حسب عقله ومزاجه، فيكون الخلاف؛ وكلما كانت هذه الخيوط أكثر اختلافًا في النوع، كان المتجادلان أشد خلافًا في الرأي.
وإن ما ترى — الآن — حتى من الاختلاف في النزعات السياسية من نازية وشيوعية وديمقراطية يمكن إرجاعه إلى ما ذكرت من اختلاف في المزاج، وأعني اختلاف القادة والمؤسسين لهذه المذاهب، لا العامة والأتباع.
لقد هممت أن أمطره وابل من الأسئلة: ما قيمة التربية الأخلاقية والدينية والسياسية — إذن — على مذهبك؟ كيف يؤسس الإصلاح إذا صحت نظريتك؟ كيف تقرب التفاهم بين المفكرين إذا اختلفت خيوط نسيجهم؟ ونحو ذلك من الأسئلة، ولكنه بدأ يمل ثانية، فأشفقت عليه وسايرته إلى منزله، وتحدثنا ولكن في الصحة والمرض، والأدوية ومنافعها، لا في العقل والمزاج.
وودعته بعد أن رجوت له الصحة وتواعدنا أن يتمم لي رأيه في باقي أسباب الخلاف.