مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فلا مِرْيَة في أن مطالعة التاريخ من أهم الأمور التي تثقف العقول وتهذب الأخلاق وتنمِّي العواطف الوطنية في الشعوب؛ إذ بواسطته يقف الإنسان على أسباب ارتقاء الأمم فيتبعها، ويعلم كُنهَ موجبات انحطاطها فيجتنبها؛ ولذلك حضَّ العقلاء على درسه درسًا فلسفيًّا لا الاكتفاء بحفظ بعض تواريخ الوقائع وأسماء الملوك وسردها عن ظهر قلب، بل بالبحث والتنقيب عن أسباب كل حادث والوقوف على حقيقتها وربط الحوادث ببعضها، ولكي يتمكن المطالع من الاستفادة من مطالعته يجب على كاتب التاريخ أن يراعي كل هذه الملحوظات عند كتابته حتى يأتي بالغرض المقصود وتكون مطالعته مفيدة للأهل والوطن.
هذا ولمَّا كان تاريخ الرومانيين مفعمًا بالحوادث الصادرة عن حب الوطن والإخلاص له والتفاني في خدمته والتهالك في الدفاع عنه والذود عن حوضه، وكانت مطالعته واجبة على كل من يريد معرفة طرق تقدم الأمم وارتقائها، وكيف تنال الحرية والاستقلال بالدفاع عن حقوقها قِبَل كل معتدٍ ظالم، والاتحاد على ما فيه خير وطنهم وفلاحه وجمع كلمتهم أمام الأجنبي المهاجم والدخيل المزاحم، ونبذ النفاق والشقاق من بينهم ليكونوا يدًا واحدة لإعلاء شأن الوطن وبنيه؛ أردت أن ألخص تاريخ هذه الأمة التي ملكت أغلب جهات المسكونة، وامتدَّت حدود أملاكها من المحيط الأتلانطيقي غربًا إلى جبال القوقاز شرقًا؛ أي من الدرجة ١٢ غرب باريس إلى الدرجة ٤٠ شرقًا، عبارة عن ٥٢ درجة، ومن بلاد بريطانيا (إنكلترا) شمالًا إلى أصوان جنوبًا؛ أي من الدرجة ٢٣ إلى الدرجة ٥٣ عرضًا، مبتدئًا هذا التاريخ من تأسيس مدينة رومة — عاصمة هذه المملكة — في سنة ٧٥٤ قبل الميلاد إلى يوم دخول مدينة القسطنطينية (الأستانة) في حوزة دولة آل عثمان في سبتمبر سنة ١٤٥٣ بعد الميلاد، وقد قسمته إلى خمسة أقسام: الأول من تأسيس رومة إلى سقوط الملوكية وتأسيس الجمهورية، والثاني يحتوي على تاريخ الجمهورية الرومانية إلى عهد استئثار أغسطس بالحكومة وتأسيس الحكومة الإمبراطورية، والثالث ينتهي إلى تقسيم الدولة الرومانية إلى دولتين شرقية وتختها بيزنطة التي سميت فيما بعد القسطنطينية وهي الأستانة، وغربية وتختها رومة، والرابع يحتوي على تاريخ المملكة الغربية إلى يوم انقراضها بتوالي هجمات المتبربرين عليها، والخامس على تاريخ الدولة الشرقية ليوم دخول السلطان الغازي محمد الثاني العثماني الملقب بالفاتح الأستانة، وجعلها عاصمة لدولة آل عثمان.