تأسيس مدينة رومة
لا بد وأن يكون أصل مدينة رومة كأصل باقي مدن العالم؛ أي بعض أكواخ حقيرة لصيادي الأسماك على ضفاف نهر (التبر)، ثم أخذت تكبر شيئًا فشيئًا كلَّما ارتقى سكانها في عالم التمدن إلى أن وصلت تلك الدرجة العلياء، وصارت تلك المدينة الشمَّاء التي تفاخر الشعراء في مدحها، وتبارى الكُتَّاب في وصف مبانيها العمومية وحركتها العلمية والتجارية، لكن لمَّا كان دأب كل أمة غَمُضَ أصل تاريخها أن تضع لنفسها تاريخًا وهميًّا كما تزيِّنه لها مخيلتها، فينتسب بعضها إلى جبابرة اشتهروا بالقوة والبأس، والبعض الأخر إلى بعض الملائكة أو النجوم أو إلى آلهتهم الخيالية ترفعًا عن عامة الأمم، ولزيادة التأثير على عقول أفرادها، كذلك وضع مؤرخو مدينة رومة الأولون الخرافة الآتية ناسبين إليها تأسيس عاصمة دولتهم، ونحن ننقلها على علاتها مع عدم اعتقادنا بصحتها أصلًا كما يرى المطالع.
قالوا إنَّه لمَّا خربت مدينة (طروادة) وصارت أثرًا بعد عين؛ هاجر منها (إينيه) مستصحبًا معه ولده (اسكاني) وأصنام المدينة ونزل بساحل بلاد اللاتينيين، فأكرم ملكها المدعو (لاسيوس) وفادته، وزوَّجه ابنته (لافيينيا)، وأقطعه أرضًا فسيحة بنى فيها مدينة ودعاها لافينيوم نسبة لزوجته، فصار حليفه ومن أهم أعوانه في حروبه مع مجاوريه، واستمر على ذلك مدة إلى أن اختفى في إحدى الوقائع الحربية؛ فظن الأهالي أنه صعد إلى السماء وعبدوه باسم (جوبيتر انديجيت).
ثم ترك ابنه (اسكاني) مدينة (لافينيوم) لرداءة موقعها وأسس مدينة (ألبه) على جبل (البانو) أحد الجبال القائمة عليها مدينة رومة، وبعد وفاته تعاقب عليها سبعة ملوك من نسله أعقب سابعهم ولدين (نوميتور) و(أموليوس)، وكان المُلك بحكم الوراثة لأرشدهم وهو الأول، فلم يرُق ذلك في عين أخيه (أموليوس)، بل استأثر بأغلب أملاك والده ولم يترك لأخيه الأكبر إلا شيئًا قليلًا، وقتل ابنه ووضع بنته (سلفيا) في أحد أديرة راهبات (فستا) حتى لا يعقب أخوه من يرثه في الملك، وتنحصر السلطنة في أعقابه دون أخيه الأكبر، وبينما كانت سلفيا تدلي دلوها في إحدى الآبار المقدسة؛ إذ تجلَّى لها الإله (المريخ) ونفخ فيها من روحه؛ فحملت ووضعت غلامين فقُتلت بناء على قوانين راهبات (فستا)، وأُلقي ولداها في نهر (التبر) فحملتهما أمواجه إلى أن رسيا تحت ظل شجرة، فأتت ذئبة على صوتهما وأرضعتهما على مرأى من أحد رعاة الملك عمهما واسمه (فستولوس)، فحملهما الراعي إلى زوجته (أكَّالورنسيا) فدعتهما (رومولوس) و(ريموس)، واعتنت بتربيتهما مع أولادها حتى بلغا أشدهما بين الرعاة، وتشاجرا ذات يوم مع رعاة أحد أغنياء القوم المسمى (نوميتور) فقادهما أمام سيده فأعجب بشجاعتهما وشدة تشابههما؛ ولذلك أخذ يبحث عن أصلهما وصحة نسبهما حتى وصل إلى الحقيقة وأعلمهما بها، فتألبا مع باقي الرعاة على عمهما (أموليوس) وقتلوه، وولوا مكانه على مدينة ألبه سيدهم (نوميتور)؛ فأقطعهما قطعة عظيمة من الأرض على شاطئ نهر التبر فعزما على بناء مدينة عظيمة تكون لهما ولذريتهما، لكنهما اختلفا في أيهما يقوم ببنائها.
وبعد الجدال اتفقا على أن يصعد كل منهما على ربوة ومعه جماعة بصفة شهود، ومن يرى منهما طيورًا أكثر من الثاني يكون أحق ببناء المدينة، فرأى ريموس ستة عقبان ورأى رومولوس اثني عشر؛ ولذلك تقرر أن يخط رومولوس أساس المدينة، فعلق ثورًا وعجلة في محراث وشق به الأرض حول مرتفع (بالاتينو) علامة على سور المدينة الجديدة، وكان ذلك على ما جاء في كتب الرواة فى ٢١ أبريل سنة ٧٥٤ق.م، ثم أخذ في بناء السور، ولمَّا ارتفع قليلًا وثب ريموس من عليه استهزاء فقتله رومولوس بيده قائلًا: فليمت هكذا كل من يجترئ على الاعتداء عليها، وقيل غير ذلك، لكن هذه الرواية هي المتفق عليها تقريبًا، ومن ذلك الحين صار رومولوس ملكًا منفردًا على مدينته الجديدة التي سماها (رومة) نسبة له وتخليدًا لاسمه، وأباح الإقامة فيها لكل من لجأ إليها من الأمم الأخرى من المدنيين الفارين من وجه العدالة، فتوارد المهاجرون إليها من كل فج حتى كثر عدد الرجال عن النساء زيادة عظيمة، وامتنع المجاورون إليهم من مصاهرتهم لكون أغلبهم من الأخلاط الذين لا خلاق لهم، فاضطر رومولوس إلى تدبير طريقة لتكثير عدد النساء، واتفق مع رجاله على دعوة القبائل المجاورة لهم إلى احتفال عظيم يقيمونه إكرامًا لأحد آلهتهم وسبي بناتهم عنوة أثناء الاحتفال، فنجحت هذه الطريقة وتزوج جميع رجاله، ولمَّا عاد أقارب المسبيات لاستخلاص نسائهم وبناتهم ووقع القتال بين الطرفين؛ توسطت النسوة بين أزواجهن الرومانيين وأقاربهن، ومنعن القتال وأصلحن ذات بينهم، وبذلك زالت الكراهة والبغضاء من بينهم، وساد الاتفاق وأخذت رومة تخطو في سبيل التقدم بسرعة غريبة حتى سعى مجاوروها إلى محالفتها، وتعاهد (تيتوس) ملك السابيين مع رومولوس على محاربة أعدائهم.
ويروى أن إحدى الرومانيات واسمها (نزبيا) لمَّا رأت السابيين مقبلين أثناء الحرب وبأيديهم اليمنى أساور من ذهب؛ عرضت عليهم أن تفتح لهم أحد الأبواب إذا أعطوها ما بأيديهم اليمنى فقبلوا، وبعد أن فتحت لهم الباب ألقوا عليها الدرق الحديد الذي كان بأيديهم؛ فماتت فريسة خيانتها لوطنها، ويغلب على الظن أن هذه الحادثة موضوعة إظهارًا لبشاعة خيانة الوطن، وأن العدو والغالب يلفظ خائن وطنه لفظ النواة بعد أن يستعمله آلة لنفاذ أغراضه؛ إذ لا يركن عاقل لمن خان وطنه الذي تحض جميع الشرائع على محبته والتفاني في الدفاع عنه.
هذا وبعد ذلك بخمس سنوات قتل تيتوس ملك السابيين فاختاروا رومولوس ملكًا عليهم، وانتصروا باتحادهم على معاديهم من الأمم المجاورة، وعلا شأن رومولوس بين الأهالي حتى توجس أعيانهم خيفة منه، وخشوا أن يستبد فيهم فقتلوه، وأشاعوا أنه صعد إلى السماء على عربة إلههم المريخ في وسط الرعد والبرق، فصدق العموم هذه الرواية لسذاجتهم وعدوا رومولوس من ضمن آلهتهم العديدة، وعبدوه باسم (كويرينوس) وكان موته في سنة ٧١٥ق.م.