خيانة كوريولان
وفي أثناء اشتغال رومة بمسائلها الداخلية التي شرحناها تعدَّى الأعداء حدودها مرارًا، ونهبوا مزروعاتها ومواشيها، واقتربوا من المدينة لامتناع الجيوش عن الحرب مرارًا بسبب توقف الحكومة عن تنفيذ القانون الزراعي.
ومن غريب ما ذكر في تاريخ هذه السنين ولم يسبق في تاريخ رومة في عهد الجمهورية، أن الأعداء هاجموا الرومانيين تحت قيادة أحد أشراف الرومان واسمه (كوريولان)، كان في الأصل من أكبر المدافعين عن وطنه، وأشدهم تعلقًا به إلا أنه كان مساعدًا للأشراف ضد طبقة العوام، وينسب له أنه عندما حصل جدب في إحدى السنين غلت الحبوب واشترت الحكومة مقدارًا وافرًا من الغلال من جزيرة صقلية لتوزيعها على الأهالي اقترح على السناتو عدم توزيع شيء على الشعب ما لم يتنازل عن حق انتخاب نواب له ويرضخ للأشراف كما كان الحال قبلًا، فهاج الشعب ضده وطلبه التريبان (نواب الأمة) للمحاكمة أمام الشعب، فحكم عليه بالنفي والإبعاد فخرج مضمِرًا الشر لوطنه والعياذ بالله، والتجأ إلى توليوس أحد رؤساء قبائل الفولسك الشهير بعداوته للرومانيين وعرض عليه استعداده للانتقام من وطنه وبنيه، فقابله هذا العدو بقلب منشرح وصدر رحيب وقبل أن تكون رياسة الجيش لكريولان ويكون هو نائبه في قيادتها ثم قصد رومة سنة ٤٩٠ في جيش عظيم، وأمر كوريولان بنهب المزارع التي أصحابها من طبقة العوام وعدم مس أراضي الأشراف بسوء، وسار بهذه الكيفية يبذر الخراب والدمار في طريقه إلى أن وصل هذا الخئون إلى بعد خمسة أميال فقط من المدينة، فأرسل إليه السناتو أكبر أعضائه سنًّا وأكثرهم اعتبارًا لإرجاعه عن غيه وحمله على كف الغارة عن وطنه فلم يقبل، وكذلك لم يصغ إلى نصائح وإرشادات قسوس مذهبه الذين أخذوا يبينون له قبح خيانته وعظم جنايته نحو وطنه وأهله، بل أعماه وأصمه حب الانتقام، وأخيرًا أتت إليه أمه (فيتوريا) باكية آسفة على عقوق ولدها ومساعدته الأعداء على بلاده بعد أن كان من أقوى المدافعين عن استقلالها؛ فرثى لبلواها ورَقَّ لشكواها وعاد مع من معه من الجيوش مقتنعًا بما أخذه من الغنائم، فحنق عليه توليوس لعدم تمكينه من دخول رومة والاستيلاء عليها ويقال إنه قتله، وقيل إنه لم يقتل بل بقي مطرودًا مخذولًا حتى مات غير مأسوف عليه.
وكذلك كانت هذه الفترة فرصة مناسبة لأعداء حلفاء رومة وهم قبائل اللاسيوم والهرنيك، فأغارت الفولسك على بلاد اللاسيوم ولم يمكن رومة إسعافها بالمساعدة لاشتغالها بأمورها الداخلية من جهة، ولاحتلال الفائيين مرتفع جانيكول بضواحي رومة عقب انهزام عائلة فابيوس على نهر كريميرا في سنة ٤٧٧، واستمر هذا الضيق إلى سنة ٤٧٠ حيث أمضي بين أهالي مدينة (فايه) والرومانيين هدنة لأربعين سنة.
ولم يتم لرومة السكون تمامًا لإغارة قبائل الأيكيين عليها سنة ٤٧١ وصدَّهم عنها بهمة وشجاعة القنصل كونكيثيوس الذي لُقِّبَ بأبي الجند من معاملته لهم واعتباره إياهم كأولاده، لكن لم ترتدع هذه القبائل المحبة للحرب، بل عاودت الكَرَّة عليها أربع مرات وتبعهم القنصل فوريوس في إحداها سنة ٤٦٨ حتى وصل إلى مضيق فحاصروه وضايقوا عليه الخناق، وكاد يهلك هو وجيشه لولا أن أمدهم كونكبتبوس بإسعافه وتخليصه من هذه الورطة.
وفي السنة نفسها فتح هذا القائد الذي حاز شهرة عظيمة مدينة نيوم إحدى الثغور المهمة وتبعد عن رومة بمسافة كيلومتر، وعند عودته منصورًا عُمل له احتفال عظيم لم يسبق له مثيل صعد به إلى قلعة الكابيتول؛ ولذلك أُعطي إليه لقب كابيتولينوس، ثم توالت إغارات الأعادي على أراضي رومة، وكانت الحرب سجالًا بين الطرفين، وأهم ما حصل فيها أن بعض المطرودين من رومة هاجموها فجأة في سنة ٤٩٥ تحت قيادة زعيم لهم أصله من السابيين اسمه هارورينوس واحتلوا الكابيتول عنوة ثم أكرهوا على إخلائه بعد أيام قلائل، وفي سنة ٤٥٨ تبع القنصل منوسيوس بعض قبائل الأيك، فحصروه في مضيق وخيف هلاكه ومن معه من الجنود، فعين السناتو القائد سنسناتوس حاكمًا مطلقًا لإنقاذ القنصل المحصور، ولما توجه إليه وفد من المجلس لتبليغه خبر تعيينه وجدوه يحرث الأرض بنفسه فقبل المأمورية وسار في جيش عظيم، وبعد أن أدى المأمورية وأنقذ القنصل وجيشه عاد في احتفال عظيم ثم استقال من منصبه الموقت فعادت الأحكام إلى نظامها العادي وعاد هو إلى محراثه كما كان، فتأمل لهذا التقشُّف وهذا الإخلاص وهذا التجرد عن الغايات وعن حب المناصب، وقل لي بأبيك كيف لا تبلغ أمة اتصف أفرادها بهذه الصفات الحميدة والخلال الوطنية شأوًا عظيمًا في العالم، وتسود على من عداها وتتغلب على من عاداها ويمتد سلطانها على مشارق الأرض ومغاربها؟!
وبالاختصار كانت أيام الجمهورية الأولى أيام حروب مستمرة وخطوب مدلهمة لم تعد على رومة بفتح شيء من البلاد، إلا أنها حافظت في خلالها على أراضيها الأصلية، ولو أنه أصاب الأمم المتحالفة معها بعض الضرر خصوصًا اللاتيين، إلا أن الرومانيين تدربوا في خلالها على فنون الحرب وضروب النزال، واستعدوا للفتوحات العظيمة التي أنالتهم ملك جميع الأرض التي كانت معلومة في هذه الأعصر الخالية مما سيأتي ذكره مفصلًا في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.