حكومة العشرة وحصول الشعب على المساواة في الأمور المدنية
قد سبق لنا شرح ما نالته طبقة العوام (التي سميناها وسنسميها دائمًا بالشعب أو الأمة) من الحقوق والامتيازات، لكن ما نالته كان بعضًا من كل أو بعبارة أخرى: إن ما تحصلت عليه كان عبارة عن الطرق القانونية التي بها تتحصل على المساواة مع طبقة الأشراف التي كانت محتكرة جميع الوظائف العالية ومحافظة على ما لها من السلطة والسودد، ولما كان الفوز دائمًا لجانب الحق على القوة إذا ثابر أصحاب هذا الحق على طلباتهم، وأصروا على المطالبة بها بالطرق القانونية العادلة؛ انتهى الأمر للشعب بالفوز والحصول على المساواة تدريجيًّا تبعًا للظروف، واختلاسًا للفرص المناسبة؛ فحصلت في سنة ٤٥٠ على المساواة في الأمور المدنية، وفي سنة ٣٩٧ على المساواة السياسية، وفي سنة ٣٢٩ و٣٠٦ على المساواة القضائية، وفي وظائف القضاء وفي سنة ٣٠٢ على المساواة الدينية.
وبيان عدم المساواة المدنية أن الأحكام كانت بيد القناصل ومجلس السناتو وبعض القضاة، لكن كانت اختصاصات كل منهم غير محددة بكيفية تمنع تجاوز الحدود، ومن جهة أخرى كانت الأحكام تصدر لا على قانون معلوم للعموم بحيث إن كل فرد يعلم ما له وما عليه، بل كانت تصدر بناء على قواعد قديمة وعوائد مألوفة لا يعلمها إلا القليل يتصرف فيها أصحاب الأهواء حسب غاياتهم ومنافعهم الشخصية.
وحيث كانت أزمة الحكومة في أيدي طبقة الأشراف كان الحيف والظلم دائمًا على فقراء الأهالي؛ ولذلك اجتمع نواب الأمة (تريبان) واتفقوا على أن يطلبوا من الحكومة تعيين لجنة مؤلَّفة من عشرة متشرعين يكلفون بتدوين العوائد القديمة وتقنينها وترتيبها بطريقة يسهل فهمها على العموم، فلا يمكن للقضاة التلاعب بالأحكام، ثم ينشر هذا القانون ويعلق في الفورم ليكون معلومًا للخاص والعام، واختار النواب أحدهم المسمى ترنتليوس أرسه لعرض هذا الطلب والسعي في الحصول عليه فقام بهذه الدعوة في سنة ٤٦١، لكن لم يصادف طلبه قبولًا لدى مجلس السناتو، بل رفضه رفضًا باتًّا وتحزب بشأن الأشراف ضد هذا المشروع تحت زعامة (سيزون) ابن سنسناتوس فصاروا يتجمهرون في الفورم ويشوشون على الأهالي في اجتماعاتهم ويمنعون مداولاتهم، فاتَّهم بعضهم سيزون بضرب أحد نواب الأمة في إحدى هذه المناوشات، واتَّهمه آخر بإصابة أخ له طاعن في السن بعربته لقتله، وأشاعوا هذه التهم في الفورم فهاج الأهالي وطلبوا محاكمته فهرب إلى جهات إتروريا سنة ٤٦٠ فرارًا من العقاب وهو القتل جزاء تعديه على أحد نواب الأمة حال تقلده منصب النيابة كما كانت تقضي بذلك القوانين.
ولما هاجر أخذ يفكر في الانتقام من أهل وطنه فاستعان بأحد رؤساء السابيين واسمه هرديينيوس، وأغار على رومة ومعه كثير من المطرودين والمبعدين لشرورهم ومفاسدهم فاحتلُّوا الكابيتول ثم استخلصه الرومانيون وقتلوا كل من به من الأعداء، ولم تشترك الأمة في هذه الحرب إلا بعد أن وعدها القنصل فالريوس بقبول مشروع النائب ترنتليوس السابق ذكره جزاء مساعدته على طرد الأعداء، لكن لسوء الحظ قتل فالريوس في هذه الواقعة، وعين مكانه سنسناتوس والد سيزون الذي فر هربًا من المحاكمة (وربما كان ضمن المقتولين في الكابيتول)، فلم يقم بنفاذ ما وعد به القنصل السابق وطلب من السناتو رفض المشروع فرفض.
إلا أن الأهالي داوموا على إصرارهم وثبتوا في طلبهم وأعادوا انتخاب نوابهم المساعدين على هذا المشروع خمس سنين متوالية، ولمَّا لم تَرَ الحكومة بدًّا من إجابة طلبهم منعًا للمشاغب والفتن الداخلية التي تُجَرِّئُ الأعداء على محاربتها عمدت إلى الحيلة والخديعة، فقررت أن يكون عدد نواب الأمة (التريبان) عشرة حتى يمكنها التفريق بينهم فيكون عدم اتحادهم مضعفًا لقوتهم ومقللًا من نفوذهم، لكن فطن الأهالي لهذه الحيلة فزادوا اتحادًا وتضافرًا على المطالبة بحقوقهم.
وفي سنة ٤٨٤ق.م طلب النائب (إسليوس) أن توزع أراضي الحكومة الكائنة على مرتفع (أفنتان) على فقراء الأهالي، فقررت الأمة هذا الطلب في جمعيتها العمومية وألزم إسليوس القناصل على عرضه على السناتو وتحصل على تصريح خصوصي بحضور الجلسة التي بحث فيها في هذا الطلب (وكان ذلك غير جائز لنواب الأمة) وبقوة بيانه وبلاغة خطابه أقر السناتو عليه خوفًا من حصول ثورة داخلية، وكان لحضور إسليوس مجلس السناتو نتيجة عظمى حيث اعتبر هذا التصريح الاستثنائي سابقة تتبع في المستقبل، وصار لنواب الأمة من ذلك التاريخ الحق في حضور جلسات السناتو للدفاع عن مشروعاتهم، بل وفي طلب انعقاده أيضًا في جلسات فوق العادة للمداولة في المشروعات المهمة التي يكون في تأخيرها ضرر.
وبعد ذلك عادت الأمة للمطالبة بمشروع ترنتليوس القاضي بتدوين الشرائع وتقنينها، فماطل السناتو مدة، ثمَّ لمَّا رأى أن ضرر التسويف أكثر من نفعه وأن لا بد من الرضوخ لطلبات الأمة يومًا طوعًا أو كرهًا؛ قرر قبول هذا المشروع مبدئيًّا، وتعيين لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء للسفر إلى مدينة أتينة مقر حكومة الهلِّين الذين اشتهروا في التواريخ العربية باسم الإغريق، وإلى المدن التي أسسها الإغريق في جنوب إيطاليا للبحث في شرائعها وقوانينها وأخذ ما يوافق بلاد الرومانيين منها ووضع قانون كافٍ شافٍ بعد عودتهم من هذه الرحلة، وكان قصد السناتو بتعيين هذه اللجنة المماطلة وضياع الوقت في سفرها فتكون أفكار الأهالي قد سكنت وهدأت حركتهم فيتخلص السناتو من تنفيذ هذا المشروع، لكن لم تُصِب سياستهم ولم تنجح حيلتهم فإن الأعضاء الثلاثة عادوا في أقرب وقت.
فالتزم السناتو بتعيين هيئة حكومية من عشرة متشرعين خول إليهم السلطة المطلقة، وأوقف سير النظام الأصلي وأبطلت وظائف القناصل ونواب الأمة موقتًا ريثما تتم الهيئة الجديدة مأموريتها؛ وهي سن قانون جامع يُنبِي عن العوائد القديمة مع إضافة ما يلائم البلاد من عوائد وقوانين الإغريق التي جمعها المندوبون الثلاثة، وابتدأت الحكومة الجديدة عملها في مايو سنة ٤٥٠ق.م وكانت الرئاسة لكل منهم مدة أربع وعشرين ساعة فقط، فاشتغلت هذه اللجنة مدة سنة سارت الأمور في أثنائها بغاية الهدوء والسكينة، وفي ختامها أتمَّت سنَّ ما كلفت به من القوانين وأمرت بنقشها على عشرة ألواح وتعليقها في الفورم ليطلع عليها العموم ويبدي كل إنسان ما يعن له من الملحوظات ويعرضها على اللجنة، وهي بعد جمع هذه الملحوظات وتنقيح القوانين بمقتضى ما يوجد منها موافقًا للصواب تعرضها منقحة على الأمة في اجتماعها العمومي فتقررها أو ترفضها.
ولما انقضت السنة الأولى ووجب تغيير أعضاء اللجنة العشرية حسب العادات الرومانية التي تقضي بتغيير الحكام كل سنة خوفًا من طموحهم إلى الاستبداد سعى أحدهم المدعو أبيوس كلوديوس في أن يعاد انتخابه خلافًا للعوائد المتبعة، وأن ينتخب الباقون من خاملي الذكر ضعاف العزائم الذين لا يقوون على معارضته، وساعده على ذلك شبان الأشراف انتقامًا من الأمة على تحصلها على جملة حقوق وسعيها في الحصول على المساواة بهم، وقد جرَّأ أبيوس على ذلك نفس أعضاء مجلس السناتو الذين أظهروا له سرورهم من خطته ولم يراعوا واجب الدفاع عن حرية الشعب ناظرين إلى سوء العاقبة التي تعود عليهم من استبداد فرد بالسلطة إذ لا يقتصر ظلمه واستبداده على طبقة من الأمة، بل يتعدى إلى باقي الطبقات عاليها وسافلها، لكن هو الغرض يعمَى عن نظر الحقيقة ويصم عن سماعها فتلحق المصيبة العموم، ولا يلتفت إلى عواقبها إلا بعد فوات الوقت، فيندم المتسببون فيها حيث لا ينفع الندم.
وبهذه المساعدات تحصل أبيوس على مرغوبه وأعيد انتخابه وانتخب رفاقه على حسب ما يحب ويهوى حتى صار هو صاحب السلطة المطلقة فعلًا إن لم يكن قانونًا، وصارت أرواح الأهالي وأموالهم في قبضة يده يتصرف فيها بما يمليه عليه الغرض ويلقنه إليه الطمع، ولا رادع يردعه لتوقيف جميع دواليب الحكومة ونظاماتها موقتًا كما ذكر قبل.
واستمرت الحال كذلك إلى انتهاء السنة الثانية من تعيينه، ولما انتهت لم يظهر رغبته في الاستقالة ليُنتخَب غيره كما جرت به العادة، بل ظل قابضًا على أَزِمَّةِ الأحكام بصفة غير قانونية والأشراف مساعدون له وأعضاء مجلس السناتو غاضُّون الطرف عنه.
وفي هذه السنة أتمَّت لجنة التشريع لوحتين صار نقشهما وتعليقهما في الفورم كالعشرة ألواح السابقة، وسنأتي على ملخصها بعد.
ثم أتاح الله لرومة فرصة مناسبة كادت تتخلص بها من استبداد أبيوس وزملائه لولا ضعف عزيمة بعض أعضاء السناتو وعدم ثباتهم، وذلك أن بعض قبائل السابيين والأيك تعدت حدود رومة، فاجتمع السناتو بصفة غير اعتيادية لتقرير ما يلزم لصد الأعداء، وفي الجلسة قام أحد الأشراف الغيورين على حرية وطنه واسمه فلريوس وطعن في هيئة الحكومة التي يرأسها أبيوس وأبان مخالفتها للقوانين وضرورة إبطالها وإعادة الأحكام إلى ما كانت عليه خصوصًا، وقد أتمت عملها التشريعي وعلقت الاثني عشر لوحًا وختم خطابه قائلًا إن أولاد الذين طردوا الملوك لا يخضعون لأوامر غيرهم، فعضده بعض الأعضاء وقاومه آخرون، وبعد مناقشة طويلة تقرر بقاء الهيئة موقتًا على ما هي عليه، وأن تسلم لها الجيوش لمحاربة الأعداء فخرجت الجيوش للقتال وعادت بالخيبة لعدم كفاءة قوادها وعدم ثقة الجند بهم.
وبعد ذلك بقليل ارتكب أبيوس امرأ استبداديًّا يدل على تجرده من الشرف والذمة وكان السبب في نفور الأمة منه، وهو أنه أحب فتاة تدعى (فرجينيا) ابنة أحد الأعيان، فأوعز إلى أحد أتباعه أن يدَّعيها رقيقة له فيحكم له هو بذلك ويسلمها إليه ثم يردها إليه ليقضي منها أربه، فصدع التابع بأمره ورفع دعواه إليه فحكم بملكيته لها مع قيام الأدلة واتفاق الشهود على أنها حرة النسب.
فلما رأى والدها أن لا بد من تسليمها إليه فضَّل أن يقتلها ويعدمها الحياة على ما يلحقها ويلحق عائلتها من العار لو سلمها إلى هذا الباغي، فعمد إلى دكان قصاب وأخذ منها سكينًا طعن بها ابنته وفلذة كبده طعنة كانت القاضية، ثم حمل جثتها ودمها البريء يسيل في الطريق حتى وصل إلى الفورم، وهناك اجتمع عليه الأهالي فأظهر لهم حقيقة الحال وشرح لهم تدبير هذه المكيدة بمعرفة أبيوس، فاستفزت الغيرة الحضور وهاج الشعب ضد هذا الباغي ومعضديه وانضم إليهم الجيش وطلب الجميع بلسان واحد إسقاط هذه الهيئة وإعادة الأحكام إلى سابق مجراها، فتوقف أبيوس قليلًا لمساعدة بعض أعضاء السناتو الذين كانوا يخشون إعادة سلطة نواب الأمة (التريبان)، ثم انصاع خوفًا من حصول ثورة أهلية تكون عاقبتها أكثر وخامة عليهم، واستقال هو وباقي أعضاء الحكومة الموقتة في سنة ٤٤٨، وعاد الموظفون الأصليون إلى مناصبهم، ولنذكر الآن بطريق الإيجاز ملخص ما دوَّنوه من القوانين في الاثنتي عشرة لوحة، وعلى من يريد الوقوف عليها تفصيلًا أن يراجع القانون الروماني.
أهم ما جاء بهذه الألواح تقسيم الأملاك إلى عمومية وخصوصية وعدم جواز امتلاك العمومية بالمدة الطويلة مطلقًا، وتملك الأراضي الخصوصية بوضع اليد عليها مدة سنتين فقط بشرط أن يكون واضع اليد رومانيًّا لا أجنبيًّا، أما الأجانب فلا يمكنهم امتلاك أراضي الرومانيين بالمدة مهما طالت، ولذلك كان الأجانب يسعون دائمًا في التجنس بالجنسية الرومانية حتى لا ينازَعوا في أملاكهم بعد سنتين، والقصد من ذلك أمران: أولهما حمل الأجانب على طلب الدخول ضمن العشيرة الرومانية، وثانيهما — وهو الأهم — عدم إهمال الملاك أراضيهم خوفًا من امتلاك الغير لها، فلا تُهمَل الأرض بل يُعتنى بزراعتها واستغلالها فتزداد العمارية وتنمو الثروة، أما المنقولات والعبيد فتملك بوضع اليد مدة سنة واحدة، وأبقت القوانين الجديدة كافة حقوق رب العائلة على زوجته وأولاده وعبيده على ما كانت عليه من الإطلاق وعدم التقييد، ولم تبطل ما كان متبعًا من جعل المدين رقًّا لدائنيه يبيعونه ويقتسمون ثمنه أو يقتلونه ويقتسمون جثته مع ما في هذه العادة من التوحش، وأجازت قتل اللص لو فوجئ ليلًا حال تلبسه بالسرقة ونهارًا لو حصلت منه مقاومة عند ضبطه، أما في مسائل الجروح والضربات وإتلاف الأعضاء فقررت بمجازاة المثل؛ أي العين بالعين والسن بالسن وهكذا ما لم يُرضِ الجاني المجني عليه بالمال، إلى غير ذلك من الجزاءات.
وأهم ما جاء فيها في صالح الشعب مما كان يسعى وراءه هي المساواة في التقاضي والمحاكمة بين جميع الأفراد سواء في ذلك الرفيع والوضيع والشريف وغيره، فأبطل التمييز في التقاضي وصار القانون واحدًا يخضع الجميع أمامه، وأهم من ذلك أنها جعلت جميع الأحكام قابلة للاستئناف أمام الأمة في جمعيتها العمومية، وأنها هي دون غيرها التي تحكم بالإعدام، وأن ما يقرره الشعب يكون قانونًا عموميًّا على جميع الأهالي، وأن شاهد الزور والقاضي الذي يحيد عن الحق ويتبع سبيل الغرض أو يقبل الهدية يُلقَى من مكان شاهق.
وبذلك تحصلت الأمة على المساواة في الأمور المدنية التي لا يوجد عدل أو إنصاف إلا بها، إلا أنها لم تتحصل هذه الدفعة على المساواة في تقلُّد المناصب، بل ظلت الوظائف منحصرة في طبقة الأشراف، فمنهم القناصل (رؤساء الجمهورية) وأعضاء السناتو والكهنة والقضاة، وكذلك بقي الزواج ممنوعًا بين الأشراف وغيرهم غيرة منهم على عدم الاختلاط مع أفراد الشعب وبقاء المناصب محتكرة في طبقتهم، لكن من يتأمل فيما نالته الأمة من الحقوق تدريجيًّا بثباتها واتحادها يحكم لأول وهلة أن لا بد من حصولها على جميع حقوقها الطبيعية التي كان منحها لها الملك سرفيوس وسلبها إياها تركان، فإن الحقوق لا بد من الحصول عليها يومًا ما مهما اشتدت المعارضات، والنصر ينتهي دائمًا للحق ضد القوة، ولو فازت القوة بالغلبة فإلى حين إذ الحق يعلو ولا يُعلى عليه.
وبعد استقالة الحكومة الاستثنائية كما سبق شرحه توجَّه عضوان من السناتو محبوبان لدى الأمة وهما فلريوس وهوراسيوس إلى محل اجتماع الأمة ووعداها بإعادة انتخاب نواب الأمة العشرة مع حق استئناف جميع الأحكام أمام الأمة، وبالحصول على العفو المطلق عن جميع من اشترك في الهياج الأخير فانشرحت الأمة لهذه الوعود، لكنها احتلت قلعة الكابيتول ريثما ينفذ السناتو ما وعد به، فاستدعى السناتو الأهالي للاجتماع لانتخاب نوابهم، فاجتمعوا وتم الانتخاب على الطريقة القديمة ثم انتخب فلريوس وهوراسيوس السابق ذكرهما قنصلين وبذلك عادت الأحكام إلى سابق مجراها، ثم استصدر هذان القنصلان عدة قوانين ضامنة حرية الأهالي وعدم مساسها بسوء، أهمها أن كل من يسعى في تعيين حكام مطلقين تكون أحكامهم غير قابلة للاستئناف يجازى بالموت، وكذلك من يتعدى بالإيذاء على أحد نواب الأمة، وأن الحاكم الذي لا يجمع الأمة في آخر السنة لانتخاب نوابها يجازى بالجلد ثم يقتل، وأن جميع قرارات السناتو ينسخ منها صور يصدق عليها نواب الأمة وتحفظ بهيكل (سيريس) منعًا لحصول الغش والتزوير فيها.
ولما توطدت الحرية وصار لا يخشى عليها قال فرجينوس والد فرجينيا الذي قتلها تخليصًا لها من الوقوع في أيدي من لا يصون عرضها ويحافظ على شرفها، واتهم أبيوس رئيس الحكومة الاستثنائية الملغاة أمام الأمة بتحريض المدعي بملكيتها والتحيز له في الحكم قضاء لغرضه، فسجن أبيوس انتظارًا للحكم على ما اقترفه، ولتحقُّقِه بما سيحكم به عليه قتل نفسه في السجن فرارًا من العدالة، وكذلك أحد رفاقه العشرة، أما الباقون الذين ساعدوا أبيوس على استبداده فخرجوا من المدينة خوفًا من المحاكمة وصودروا في أملاكهم.
وفي أثناء ذلك حارب هوراسيوس قبائل السابيين وانتصر عليهم نصرًا مبينًا أوقع الرعب في قلوبهم حتى لم يقدموا على محاربة الرومانيين مرة أخرى مدة مائة وخمسين سنة، ولما عاد منصورًا لم يقبل السناتو أن يُعمَل له موكب حسب المعتاد انتقامًا منه لمساعدة الأهالي في طلباتهم ضد الأشراف، فقررت الأمة ذلك في جمعيتها العمومية خلافًا للعادة واحتفل به احتفالًا شائقًا، واعتبر هذا القرار قاعدة تتبع في المستقبل، وكان هذا الأمر قبل ذلك من حقوق السناتو ليس إلا.
وفي هذه السنة تعدت الأمة على أهم اختصاصات هذا المجلس وهو الإقرار على الحرب الذي كان له دون خلافه حتى في عهد الملوك، وبهذه الطريقة زادت حقوق الأمة كثيرًا عن ذي قبل، وكانت كلَّما تحصلت على حق أو امتياز تنساق بحب التقدم والارتقاء إلى طلب غيره، وتثبت في المطالبة بالطرق السلمية تارة، وبالهياج والثورة أخرى حتى صارت هي صاحبة القول الفصل والسلطة الحقيقية في الحكومة كما يجب أن يكون الأمر في كل حكومة جمهورية.
ولما ازدادت سلطة الشعب وبالتالي سلطة نوابه (تريبان) ورأى الأشراف أن لا بد من امتدادها سنة عن سنة أرادوا أن يستفيدوا بهذه السلطة ويحولوها لمنفعة طبقتهم بحصولهم عليها كلها أو بعضها بالانتخاب، وذلك باستمالة المنتخبين وبذلهم المال والعطايا لهم، فشعر النواب بهذه المساعي التي لا يكون وراءها إلا ضياع كل ما تحصلوا عليه من الحقوق ونالوه من المزايا بعد العناء والتعب، واستصدروا قرارًا من الأمة في سنة ٤٤٧ق.م يحجر على الأشراف أن يُنتخَبوا في هذه الوظائف، وأن تبقى محتكرة لباقي طبقات الأهالي دونهم.
وفي هذه السنة وجَّه الشعب اهتمامه لمسألتين عظيمتين كانتا من أكبر المميزات بينه وبين الأشراف، أولاهما احتكار الأشراف لجميع وظائف الحكومة، والثانية عدم جواز التزاوج بين الطبقتين، فتحصلوا في الأولى على بعض الشيء وهو تعيين أمناء الخزينة العمومية وقضاة تحقيق الجنايات بواسطة الانتخاب العمومي بدون تمييز بين الطبقات؛ أي من الأشراف أو غيرهم على حد سواء، وكان تعيينهم قبلًا بمعرفة القناصل وهم ينتخبونهم طبعًا من الأشراف لعدم ثقتهم في غير أهل طبقتهم، وأما المسألة الثانية وهي عدم التزاوج بين الطبقتين فتحصلوا في سنة ٤٤٥ على لغوها بالمرة بهمة النائب كانوليوس، وذلك أنه بعد أن تجمهر الأهالي وأظهروا استعدادهم للثورة خضع السناتو لطلبهم لاعتقاده أن الأخلاق والعوائد تمنع تنفيذه وتبقي الانقسام الأصلي على حاله، وأن طبقة الأشراف تستمر على عدم الاختلاط بمن هو أدنى منها في اعتقادها، وبعد ذلك طلب الشعب أن يُعيَّن من بين أفراده أحد القنصلين واثنان من مراقبي المالية (وكان لهم اختصاص نظار المالية الآن) فحاول السناتو واستعمل الدهاء وقرر أن يُعيَّن مراقبو المالية من الأشراف وغيرهم بدون تخصيص فمنح الشعب حقًّا يسهل عليه حرمانه منه، وفي الواقع لم يعين في هذا المنصب أحد من الأهالي عدة سنوات متوالية.
وأما مسألة تخصيص إحدى وظيفتي الرئاسة العظمى (قنصلية) بالأهالي والأخرى بالأشراف فراوغ فيها السناتو وصمم على رفضها وبقاء الوظيفتين في طبقة الأشراف، لكن لما رأى المماطلة لا تفيده شيئًا، وأنه لا بد له من الرضوخ لطلبات الشعب بأجمعها إن أصر على المعارضة؛ قرر في سنة ٤٤٤ بتعديل القانون الأساسي بكيفية ترضي الشعب ولا تسلب الأشراف جميع امتيازاتهم، بل تمنح الشعب بعض مزايا ظاهرية تُسكِّن هياجه وتطفئ لهيب اشتياقه إلى تقلد الوظائف العالية ومشاركة الأشراف في المناصب، وبيان ذلك أن يعين ثلاثةٌ موظفون عالون أو أكثر حسب الأحوال يكون انتقاؤهم من جميع الأهالي بدون نظر إلى حسب أو ثروة يقومون مقام القنصلين اللذين تلغى وظيفتهما ويعطى لهم لقب (نائب قنصلي) لجمعهم بين بعض اختصاصات نواب الأمة وبعض اختصاصات القناصل.
- أولًا: يجب أن لا تنحصر قيادة الجيش في أحدهم، بل يكون كل منهم قائدًا لفرقة معينة؛ حتى لا تكون لأحدهم سلطة جسيمة يمكنه استعمالها لتنفيذ أغراض حزبه أو مطامعه الخصوصية.
- ثانيًا: القضاء المدني؛ أي الحكم في المسائل المدنية.
- ثالثًا: رئاسة مجلس السناتو والجمعيات العمومية.
- رابعًا: وظيفة المحافظة على مدينة رومة من كل طارئ خارجي ومراقبة تنفيذ قوانين ونظامات الحكومة.
ثم أنشئت وظيفتان عاليتان تكون اختصاصات من يُعيَّن فيهما تعداد الأهالي وحصر ثروتهم لتقسيمهم إلى طبقات بحسب غناهم وفقرهم كما سبق شرحه في موضعه، وتحرير قوائم أعضاء السناتو والشوالية والمحافظة على الأمن داخل المدينة.
ومع تقليل اختصاصات وظيفة النواب القنصليين بهذه الدرجة فلم يعين فيها أحد أفراد الشعب إلى سنة ٤٠٠ق.م، بل بقيت منحصرة في يد الأشراف كما كانت وظيفة القنصل الأصلية، وذلك لعدم تحتيم القانون الجديد تقسيمها بين الأهالي والأشراف، وجعلها مشتركة بينهم.
وزيادة على ما ذُكِرَ فإن وظيفة القنصل الأصلية لم تُلْغَ بالمرة، بل أوقف التعيين فيها موقتًا، وفي أول كل سنة كان يسأل السناتو الشعب عن رغبته في النظام الذي يرى أن يُحكَم به هذه السنة، أنظام القنصلية القديم أو نظام النواب القنصليين الحديث، وبهذه الطريقة تمكن السناتو — بما له من النفوذ والأعوان — من إعادة النظام القديم أربعًا وعشرين مرة في مدة الثماني وسبعين سنة التي مكثها هذا النظام مع ما فيه من الاختلال، وعدم الثبات وتغيير نظام الحكومة من سنة لأخرى، ذلك الاختلال الذي جرأ أعداء رومة على التعدي على حدودها، وحمل أصحاب المطامع الذين يترقبون الفرص للاستحواذ على السلطة، والاستبداد بها على اتخاذ هذا الاعتلال وسيلة لتنفيذ ما تخفيه صدورهم من الأغراض المضرة باستقلال رومة والنوايا القاتلة لحريتها.
فمن ذلك ما حصل في سنة ٤٣٧ من أحد الأغنياء إذ توهم أن الرومانيين يفضلون الراحة تحت سلطة حاكم مطلق يعدل بينهم على حالتهم الحاضرة لما فيها من القلق والاضطراب والأخذ والرد بين الأحزاب، فاشترى كثيرًا من الغلال وأخذ يوزعها مجانًا على الأهالي ليستميلهم إليه بسبب إمحال المحصولات وارتفاع أثمانها في تلك السنة، فأوجس السناتو منه خيفة وعين سنسناتوس (دكتاتور)؛ أي حاكمًا مطلقًا ليوقف هذه الحركة ويقاوم تيارها ويجازي محازبي هذا الساعي في العبث بحرية وطنه بالعقوبات الصارمة التي تستدعيها الحال بدون مراعاة المرافعات والإجراءات العادية.
فطلبه سنسناتوس ليدافع عن نفسه فأظهر الامتناع والاحتماء بمن أحسن إليهم، وقاوم الحُجَّاب الذين أرسلوا للقبض عليه؛ ولذلك اضطر الدكتاتور إلى إرسال قائد الفرسان لإحضاره قهرًا، فذهب إليه ولما قاومه وامتنع عن الامتثال لأمره قتله بيده في وسط محازبيه وأنصاره، ثم هدم منزله وبيع ما جمعه من الغلال بأبخس الأثمان، وبذلك انتهت هذه الفتنة واستقال سنسناتوس من منصبه الموقت وعادت الأحكام إلى سابق مجراها بكل هدوء وسكينة.
هذا، وكانت الحروب في أثناء تلك الحوادث وبعدها مستمرة تقريبًا بين الرومانيين ومجاوريهم، وكان النصر غالبًا من جانب جيوش رومة ولم يحدث في خلالها من الأمور التي تستوجب الذكر إلا أمران: أولهما توقف القناصل في سنة ٤٢٨ بعد انهزامهم في إحدى الوقائع عن تعيين (دكتاتور) لصد الأعداء كما كانت العادة، فاستعان السناتو بنواب الأمة على إلزامهم بذلك فلبوا دعوته وكانوا له عونًا على الأشراف، وهي أول مرة قاوم فيها السناتو الأشراف وأخضعهم بمساعدة الشعب، وبذلك ازداد نفوذ الأهالي وتحصلوا في السنين التالية على عدة امتيازات.
وثانيهما محاصرة الرومانيين لمدينة (فايه) أهم مدائن الأتروسك، وهي التي أتعبت الرومانيين نحو قرن، ودخولها عنوة في سنة ٣٩٥ق.م تحت قيادة فوريوس كامليوس الذي انتصر في عدة وقائع شهيرة، وقد أعقب فتح هذه المدينة خضوع عدة مدائن أخرى مهمة، وبعد ذلك عاد كامليوس إلى رومة ودخلها في موكب حافل متناهٍ في الأبهة والعظمة، وزاد اعتباره في أعين العموم حتى صار ذا نفوذ عظيم أوجب الريب في نواياه وخيف من تطاوله إلى اغتصاب الحكومة، ولكون الرومانيين كانوا غيورين على حريتهم متمسكين باستقلالهم كانوا يخشون من ظهور أي إنسان وحصوله على محبة الأهالي من أن يعبث بنظام الحكومة ويستأثر بها، ولذلك كانوا يبادرون باتهامه لإلجائه إلى الخروج من المدينة، ولو أدى الأمر إلى انقلابه على وطنه وأهله ومساعدته الأعداء عليهم لعلمهم واعتقادهم أن عدوًّا أجنبيًّا مهاجمًا خير من عدو داخلي ينتخر عظام نظام الحكومة ويقوض أركانها شيئًا فشيئًا، ومما زاد حنق الأهالي عليه معارضته جميع ما يقدمه نوابهم من المشروعات، ومساعدة الأشراف على مشروعاتهم؛ فاتهموه في سنة ٣٩٠ق.م بارتكاب الرشوة، ودعوه للمحاكمة فلم ينتظرها وفضَّل النفي الاختياري على الوقوف أمام هيئة القضاء وتبرئة نفسه مما نسب إليه.
قد فقدت رومة بخروجه قائدًا مجربًا وجنديًّا محنكًا كان يقودها كثيرًا ضد أعدائها، خصوصًا وكانت أمة الجلوا المعروفة في كتب العرب باسم الجلالقة تتحفز للوثوب عليها كما سيذكر مفصلًا في الفصل الآتي.