إغارة الغاليين (الجلالقة) على رومة
الغاليون أمة كانت تسكن في الأصل الأرض المكونة لجمهورية فرنسا الآن ثم ارتحل فريق منهم إلى إيطاليا ونزل في شمالها، ومنها انتشروا شيئًا فشيئًا حتى وصلوا إلى قرب رومة والمدائن المجاورة لها، وفي سنة٣٩٠ق.م طلبوا من (كلوزيوم) إحدى مدائن الأتروسك أن تعطيهم بعض أراضيها، ولما امتنعت حاصروها فاستعان أهلها برومة فأرسلت ثلاثة سفراء للتوسط بين الفريقين، ولما قابلوا (برنوس) قائد الغاليين قال له أحدهم: بأي حق تهاجم هذه المدينة ولم يسبق بينها وبينكم عداوة؟ فأجابه بما معناه أن لا حق أمام القوة، فغضب السفراء ودخلوا المدينة المحصورة واشتركوا مع سكانها في الدفاع عنها.
وفي إحدى الوقائع قتل أحدهم المدعو امبوستوس قائدًا غاليًّا بيده وجرده من سلاحه، فطلب الغاليون محاكمته، ولما امتنع الرومانيون عن إرضائهم تركوا مدينة كلوزيوم وقصدوا رومة للانتقام لرئيسهم، فقابلهم الجيش الروماني على بعد ميل خارج أسوار المدينة، وبعد قتال عنيف انهزم الرومانيون في ١٦ يولية سنة ٣٩٠ بكيفية لم تسبق لهم من قبل وعادوا إلى مدينتهم بدون انتظام، ومن شدة ما داخلهم من الوهم والخوف من شجاعة الغاليين ومنظرهم الوحشي لم يقفلوا الأبواب، ولم يفتكروا في إقامة الحرس على الأسوار، بل التجأ فريق منهم إلى قلعة الكابيتول وتشتت الباقون شزر مزر في القرى والبلاد المجاورة، وتحصن الحكام وأعضاء السناتو في هذه القلعة بعد أن نقلوا إليها ما بالمعابد من الأشياء الثمينة، ولو تبعهم الغاليون بدون إبطاء لدخلوا القلعة بكل سهولة، لكن أشغلهم فرحهم بهذا الانتصار الغير منتظر عن تتميم فوزهم، فصرفوا هذا الوقت الثمين في تجريد القتلى عن ملابسهم وقطع رؤوسهم، ولم يدخلوا المدينة إلا في اليوم التالي، فلم يجدوا بها إلا بعض أعضاء السناتو الذين فضَّلوا انتظار العدو والتعرض للموت على الهروب والالتجاء إلى المدن المجاورة، فبهت الغاليون من سكونهم والخطر محدق بهم حتى ظنوهم من غير بني الإنسان ولمس أحدهم لحية رجل هرم من بينهم، فضربه الشيخ بعصاه فقتله العدو ثم سرى القتل في المدينة حتى لم يبق أحد ممن بقي بها، ثم اشتغلوا بنهب المنازل وحرقها بعد تجريدها، وأخيرًا أرادوا الاستيلاء على قلعة الكابيتول عنوة، وكان الرومانيون قد أتموا تحصينها فردوا عنها بعد أن قتل منهم كثيرون على الأسوار، ولذلك اتفق رؤساؤهم على محاصرتها ومنع المدد والمؤنة من الوصول إليها.
واستمر الحصار مدة سبعة أشهر هلك من الغاليين في أثنائها خلق كثير بسبب هجوم الشتاء وعدم وجود حاصلات لترك الأرض بدون زراعة ولتفشي الأمراض فيهم، ولذلك تفرَّق المحاصرون في القرى والمزارع المجاورة للبحث على ما يقتاتون به، فهاجم اللاتين والأتروسك كل من مر بأرضهم من الأعداء دفاعًا عن أموالهم، وصاروا يقتلون كل من عثروا عليه منهم، وكذلك القائد الشهير فوريوس كامليوس الذي كان هجر رومة هربًا من المحاكمة كما سبق شرحه وأقام بمدينة أرديا جمع جيشًا من هذه المدينة وقاتل فرقة من الغاليين وهزمها دفاعًا عن وطنه الذي ظل محافظًا على محبته والإخلاص له ولو اضطرته الظروف لمهاجرته، فلما رأى الرومانيون المقيمون بمدينة (فايه) هذا الإخلاص منه عينوه حاكمًا مطلقًا وقائدًا عامًّا لمطاردة الغاليين، ثم أرسلوا كومينوس إلى القلعة للحصول على قرار من مجلس السناتو يقضي بأن ترد إليه حقوقه الوطنية التي كان فقدها بسبب مهاجرته وباعتماد تعيينه، فذهب هذا الرسول إلى رومة وأفرغ جعبة الحيل حتى وصل ليلًا إلى القلعة بدون أن يراه المحاصرون وتحصل على القرار المذكور وعاد من الطريق التي أتى منها.
وفي الصباح رأى الغاليون أثر أقدام فاقتفوها حتى وصلوا إلى أسوار القلعة وهاجموها فرُدُّوا عنها بعد أن خسروا خسائر جمة، لكن لم يتيسر للرومانيين البقاء في هذه الحالة لنفاد المؤنة وعدم إسراع كامليوس بالمجيء لنجدتهم، فاتفق النائب الحربي مع قائد المحاصرين على أن يرفعوا الحصار عن القلعة ويخلوا المدينة ويعودوا لبلادهم بشرط أن يدفع لهم الرومانيون مقدارًا من الذهب يبلغ وزنه بالموازين الحالية ٣٢٦ كيلوغرامًا وثلثًا تقريبًا، ويقدموا لهم ما يلزمهم من المؤنة وعربات ودواب النقل، فغش الغاليون في وزن الغرامة ولما لاحظ الرومانيون ذلك عليهم أجابهم القائد (برنوس) قائلًا «ويل للمهزومين» وألقى سيفه ونجاده في الميزان وألزم الرومانيين بدفع ثقلها ذهبًا فدفعوه مكرهين.
لكن لما بلغ كامليوس خبر هذه المعاهدة لم يصادق عليها، بل نبذها ظهريًّا وأوعز إلى المدائن المحالفة لرومة بعدم إمداد الغاليين بشيء وقفل الأبواب أمامهم ومهاجمة ما يلاقونهم من فرقهم وقتل كل من يتخلف منهم في الطريق، وجمع هو عددًا عظيمًا من بقايا الجنود الرومانية وتبعهم في عودتهم، وبذلك قُتِلَ كثير منهم ولم ينجُ إلا القليل وقد بالغ بعض مؤرخيهم في الحادثة وعدوها من الانتصارات المهمة.
وبعد انسحاب الغاليين عاد إلى رومة من هاجر من أهلها، ولما وجدوها خاوية على عروشها وقد التهمت النار أغلب منازلها؛ ارتأى بعضهم تركها ونقل من بقي من سكانها إلى مدينة (فايه) واتخاذها عاصمة لهم، لكن لم يوافقهم الباقون ولا أعضاء السناتو بل قرروا البقاء في رومة وإعادة مبانيها إلى سابق حالها، ثم تقرر منح الحقوق الرومانية إلى أهالي فايه وكابنيه وفاليريا المفتتحة حديثًا لزيادة عدد الرومانيين، وتعويض من نقص منهم أثناء هذه الحرب التي كادت تكون القاضية عليهم وعلى مدينتهم الباقية للآن رغمًا عن تتابع الفاتحين واختلاف المغيرين.
ومن ثَمَّ اهتم الجميع في إعادة بناء المعابد والأماكن العمومية فضربت لذلك الضرائب الفادحة واضطر الفقراء للاستدانة بالفوائد الباهظة فاشتد الإعسار، وزُجَّ كثير من المعسرين في السجون لعدم إمكانهم القيام بدفع ما عليهم من الديون كما حصل بعد الحروب التي أعقبت تأسيس الجمهورية.
فأراد أحد الأشراف واسمه منليوس أن ينتهز هذه الفرصة المناسبة لاستمالة الأهالي إليه للحصول على إحدى الوظائف العالية إن لم تكن أنظاره تطمح إلى الاستئثار بالسلطة، وتضحية استقلال وطنه على هيكل أغراضه فدفع ديون أربعمائة نفس من المسجونين، وتظاهر بالدفاع عنهم وحضهم على مقاومة الأغنياء وعدم دفع ديونهم إليهم، فتوجهت إليه الظنون وخيف أن يكون قصده غير صالح؛ فاتهمه بعض نواب الأمة كما اتهم كراسوس وسبوريوس من قبله، إلا أنه لما حضر للمحاكمة عدَّد الوقائع التي انتصر فيها على الأعداء وما حازه من علامات الشرف وأظهر آثار ما أصابه من الجروح في الدفاع عن وطنه فبرئت ساحته، ثم اتهم ثانيًا وفاز أعداؤه عليه فحكم عليه بالإعدام، فالتجأ مع أنصاره إلى قلعة الكابيتول لمقاومة الحكومة، وعندما كان واقفًا بقرب صخرة (تربيا) التي يُلقَى من شاهقها كل خائن لوطنه دفعه أحد من كان حوله من أعلاها فسقط هشيمًا، وبذلك انقضت هذه الفتنة وهدم بيته كما كانت العادة.