إدارة وتنظيم الأقاليم الإيطالية
قد اتبعت رومة مع الأمم التي فتحت بلادها وضمتها إليها سياسة مبنية على الحكمة وبُعد النظر والتبصر في العواقب فلم تعاملهم معاملة ملوك وحكومات تلك الأزمان الغابرة لمن تؤخذ بلادهم؛ أي معاملة الاسترقاق والتملك الحقيقي على الأموال والأنفس، ولم تعاملهم بضد ذلك مرة واحدة؛ أي لم تمنحهم جميع ما للرومانيين الأصليين من الحقوق، بل اتبعت طريق الرشاد والسداد وعاملت كل أمة بما يناسبها ويضمن بقاءها ضمن الجمهورية الرومانية مراعية في ذلك بُعدها عن مدينة رومة وقربها منها ودرجة ولائها لها، فأعطت القبائل المجاورة لها جميع حقوق الرومانيين ليكونوا حاجزًا بينها وبين أعدائها البعيدين، وشكلت منهم اثنتي عشرة قبيلة رومانية جديدة، وبذلك بلغ عددها ثلاثًا وثلاثين قبيلة، لكنها وزعت أصوات الانتخاب بينها بكيفية تجعل الأغلبية دائمًا لسكان رومة الأصليين لحفظ نفوذهم وسيادتهم على باقي الأمم المنضمة إليهم حديثًا بطريقة غير محسوسة.
ومنحت لبعض مدن اللاتين امتيازات خصوصية كانتخاب حكامها وقضاتها وتوزيع الضرائب بين أهلها، وسهلت لهم التجنس بالجنسية الرومانية فجعلتها حقًّا لكل حاكم أو قاضٍ قضى مدة تقلده الوظيفة بكل أمانة وصداقة، ومكافأةً لكل من يأتي عملًا جليلًا نافعًا لأبناء وطنه، وغير ذلك من الطرق المسهلة للحصول على ما للرومانيين من الحقوق؛ إذ كانت تمنح باقي المدن والأمم المفتتحة حديثًا تارة حق الاتِّجار مع الرومانيين والتعامل على حسب نصوص القانون الروماني، وأحيانًا حق التزاوج معهم وآونة جميع الحقوق إلا حق الانتخاب حسب الظروف، وبالاختصار فإنها لم تتبع مع رعاياها طريقة واحدة، بل طرقًا متنوعة تتغير تبعًا للأحوال والمقاومة التي حصلت منها وقت الفتح، وبعض الأمم لم تمنح شيئًا من ذلك، بل بقيت بالنسبة للرومانيين الأصليين كنسبة غير الأشراف لهم قبل حصول هؤلاء عن جميع الحقوق كما سبق بيانه في موضعه.
واتخذت رومة طريقة أخرى لتأييد سلطتها على هذه القبائل وعدم تمكينهم من التحالف والاتحاد ضدها، وهي أقامة مستعمرات من الرومانيين بين ظهرانيهم تكون كحاميات عسكرية ضد كل طارئ خارجي أو داخلي، ونشر عوائد الرومانيين ولغتهم بينهم من جهة أخرى، وأخيرًا بث الدم الروماني في عروقهم بالتزاوج والاختلاط الحقيقي، فيزيد الارتباط بينهم حتى بعد زمن يسير تصير هذه الأمة أو المدينة المغلوبة رومانية حقيقية في الدم والأخلاق واللغة والأفكار والمشارب، وينمحي ما كان بينها من الاختلاف والتباين في جميع ذلك، وتصير سكان الجزيرة الإيطالية أمة واحدة رومانية عزيزة الجانب قوية الشوكة يمكنها الإغارة على ما وراء حدودها من الإيالات والممالك، وصد كل من يتعدى حدودها من الغزاة والفاتحين ولتسهيل المواصلات بين هذه المستعمرات أو النقط العسكرية وبين أطراف البلاد من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب وتشهيل إرسال الجنود إلى أي نقطة يفاجئها العدو أنشأت رومة طرقًا عسكرية متسعة ومرصوصة بالأحجار المنحوتة الصلبة، وأقامت الجسور والكباري الحجرية على الجداول والأنهار التي تقطعها هذه الطرق، فكانت فيما بعد من أهم معداتها الحربية كالسكك الحديدية في عصرنا هذا، ولم تزل آثارها باقية للآن في جميع البلاد التي فتحها الرومانيون شاهدة لهم بحسن الإدارة ودقة التدبير.