إغارة بعض قبائل الغاليين على رومة
ثم طلب النائب فلامينوس من السناتو تقسيم أراضي الحكومة الواقعة في إقليم سينون على حدود بلاد غاليا الإيطالية بين فقراء الرومانيين؛ ليكونوا حاجزًا حصينًا بين الغاليين وأملاك رومة، فاضطرب الغاليون لذلك وخشوا من تعدي الرومانيين الحدود وطموح أنظارهم إلى الاستيلاء على السهول المتسعة النازلين وتألبوا مع جميع القبائل المجاورة لهم على محاربة الرومان، واستنجدوا بإخوانهم النازلين بغاليا الفرنساوية وساروا قاصدين مدينة رومة نفسها بقصد احتلالها كما حصل في السابق، وكانت قوتهم مؤلفة من نحو خمسين ألف راجل وعشرين ألف راكب.
ولما بلغ رومة خبر زحف هذه القوة الهائلة عليها أخذت تستعد لملاقاتها بكل قواها، فجمعت نحو مليون جندي خرج منهم مائة وخمسون ألفًا لمحاربة الأعداء قبل وصولهم إليها وبقي الباقون للدفاع عنها ومساعدة الجيش الأول عند مسيس الحاجة، ثم استشاروا المنجمين فيما يجب عليهم عمله لاستعطاف المعبودات وحملهم على مساعدتهم على الأعداء، فأجابوهم بضرورة ذبح اثنين من الغاليين قربانًا لهم، فصدعوا بهذا الأمر الوحشي المبني على اعتقاد وهمي، وخرجوا لملاقاة الغاليين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا متحدين على الدفاع عن وطنهم إلى آخر نقطة من دمهم، وانتظروا الأعداء على بعد ثلاثة أيام من المدينة في نقطة حصينة، ولما التقى الجيشان اقتتلوا قتالًا شديدًا استمر عدة ساعات، وكانت نتيجته انتصار الرومانيين وموت نحو أربعين ألفا من الغاليين، وكان ذلك في سنة ٢٢٥ق.م لكن لم يكتفِ الرومان بهذا الفوز الذي خلص مدينتهم من هذه الإغارة الجديدة، بل قرروا فتح بلادهم إلى جبال الألب لتكون حاجزًا حصينًا وحدًّا طبيعيًّا بينهم وبين بلاد غاليا الأصلية، فأرسلت الجيوش إليها تحت قيادة كورنليون سيبيون ومرسلُّوس ففتحوا معظمها واحتلوا مدائنها مثل ميلانو، وبارز القائد مرسلوس ملك قبيلة الإنسوبريين المسمى فندومار وقتله، فاستسلمت هذه القبيلة للرومان، ثم أرسل السناتو عدة مئات من العائلات الرومانية لتأسيس عدة مستعمرات بين ظهرانيهم وتثبيت سلطة الرومانيين عليهم.
وفي سنة ٢٢١ استولوا على إقليم (إستيريا) الواقع في شمال بلاد الليريا للتمكن من إيصال أملاكهم التي على شاطئ بحر الأدرياتيك، وللإغارة على بلاد اليونان في المستقبل.
وزيادة على جميع ما ذكر من الفتوحات المهمة طمحت أيضًا رومة إلى بلاد مصر والشام، وجددت تحالفها مع ملوك البطالسة في مصر وحصلت بين الحكومتين مخابرات بشأن إرسال جيوش رومانية إلى الشرق لمساعدة الحكومة البطليموسية على محاربة ملوك أنطاكية بالشام، لكن لم يتم بينهما أمر بهذا الخصوص وتأجل التداخل في شؤون مصر والاستيلاء عليها إلى فرصة أكثر مناسبة.
فيتضح للقارئ أن رومة لم تُضِعِ الوقت بعد إبرام الصلح مع قرطاجة، بل صرفت كل قواها لافتتاح ما بقي من إيطاليا الشمالية لسد أبواب الغارات أمام الغاليين، واستولت على جزائر سردينيا وكورسيكا وبعض الجزر الصغيرة المجاورة لها لمنع هجوم القرطاجيين على أراضيها من جهة البحر، وجعلت البحر الأدرياتيكي بحيرة رومانية باستيلائها على إقليمي إليريا وإستريا.
وبذلك صارت آمنة من مفاجأة القرطاجيين لها ومستعدة لملاقاتهم لو أتوها من جهة غير منتظرة، وكانت في استعداد عظيم لمحاربة هذه الجمهورية القائمة أمامها والانتصار عليها؛ حتى تكون هي الدولة الوحيدة في العالم، وملكة البر والبحار، ومالكة زمام الأمصار بدون شريك منازع أو معارض أو مضارع.
وحيث انتهينا من ذكر ما أتته رومة من الأعمال العظيمة والفتوحات الجسيمة في هذه المدة الوجيزة استعدادًا لمنازلة جارتها وعدوتها ومناظرتها قرطاجة، فلنبين الآن ما أتته هي الأخرى لهذه الغاية نفسها وما حدث فيها من الحوادث المهمة، ثم نشرح الحرب البونيقية الثانية وأسبابها ونتائجها شرحًا يوقف القارئ على ماجريات هذه المناظرة الدولية التاريخية القديمة فنقول:
قد ذكرنا عند التكلم على حكومة قرطاجة ونظامها أن جيوشها لم تكن وطنية أهلية، بل مؤلفة من مستأجَرين مختلفي الأجناس متبايني الملل والنحل لا تجمعهم جامعة وطن أو جنس، وظاهر أن تركيب جيوشها وتأليفها بهذه الصفة مما يجعلها أقل بكثير من حيث الغيرة والحمية من الجيوش الرومانية المؤلَّفة من الرومانيين دون غيرهم.
وقد ظهر هذا الفرق العظيم في الحرب البونيقية الأولى وزادت مضارُّه بعد انتهاء حرب قرطاجة وقبولها طلبات رومة، وذلك أن الحكومة عجزت عن دفع مرتبات الجنود في أوقاتها بسبب ما أصابها في هذه الحرب المشؤومة، ولما كانت هذه الجيوش لا يهمها إلا قبض الراتب (شأن كل أجنبي دخيل استخدم في غير وطنه) ولا ترثي لما أصاب قرطاجة من المصائب هاجت وماجت وأكثرت من الشغب، ثم أظهرت التمرد والعصيان وساعدها بعض الأهالي لتضجرهم من كثرة الضرائب ووقر المكوس واشتد الهياج في جميع الجهات التابعة لقرطاجة خصوصًا في جزيرتي سردينيا وكورسيكا، الأمر الذي ساعد الرومانيين على الاستيلاء عليهما بدون كثير عناء.
وكان رؤساء الثورة كل من اسينديوس الإيطالي الأصل وماتوس الإفريقي، ولما عمت الجيوش تقريبًا تحيرت الحكومة فيما يلزم اتخاذه من التدابير، وانقسم السناتو حزبين أحدهما تحت رئاسة هانون وكان يود مسالمة العصاة بأي طريقة، والآخر يطلب إخضاعهم بالقوة، وبعد جدال عنيف تغلب هذا الحزب الأخير باجتهاد أعضاء عائلة (برقة) فعينت الحكومة أملكار أحد زعماء هذه العائلة قائدًا لمن بقي مصافيًا لها من الجنود، وأباحت له اتخاذ الطرق الممكنة لقمع الثورة، فابتدأ هذا القائد المدرب والسياسي المجرب في استمالة قبائل (النوميد) إليه حتى لا يمدوا العصاة بالمؤونة، ثم حاربهم بشدة حتى ألزمهم رفع الحصار عن مدينة (أتيك) والابتعاد عن ضواحي قرطاجة، وكان يعامل من يقع بين يديه من الأسرى بالحسنى وزيادة ويغدق عليهم العطايا، ففرَّ كثير من جنود العصاة للانضمام إليه، ولما خشي رئيسا الثورة من نتيجة فرار الجنود أمرا بقتل أسرى القرطاجيين فقتلوا وكانوا سبعمائة، فعامل أملكار أسراه بهذه المعاملة الوحشية ثم حصر أحد الجيشين الرافعين راية العصيان في مضيق حرج المسلك وشدد الحصار عليها مدة طويلة حتى نفدت مؤونتهم وأكلوا مَن عندهم من الأسرى والعبيد، ولما ضاق بهم الحال مالوا إلى الصلح وطلب قائدهم اسينديوس مقابلة (أملكار)، ولما أذن له قصده ومعه اثنان من كبار ضباط العصاة وعرضوا عليه التسليم فقبل مشترطًا إرجاع العصاة إلى أوطانهم بعد تجريدهم من السلاح، واستثناء عشرة فقط من هذه الشروط، فلما قبل الوفد بذلك قال أملكار أنتم الثلاثة من ضمن العشرة وقبض عليهم وقتلهم صلبًا.
وعندما وصل خبر إلقاء القبض على أعضاء الوفد الثلاثة إلى مسامع العصاة المحصورين في المضيق بدون أن يعلموا بتفصيلات الاتفاق ظنوا أن أملكار غدر بمندوبيهم، فاستعدوا فورًا للقتال وهاجموا القرطاجيين مهاجمة يائس لا أمل له في النجاة وظلوا يحاربون حتى قتلوا عن آخرهم، ويقال إن عددهم كان يبلغ أربعين ألفًا.
وبعد إبادة هذا الجيش العظيم جمع أملكار كل قواه ضد الجيش الثاني الذي كان تحت قيادة ماتوس رئيس الثورة الثاني وانتصر عليهم، وقتل منهم عددًا عظيمًا، وأخذ زعيمهم أسيرًا وأرسله إلى قرطاجة حيث قتل بعد أن شهروه في الشوارع وأهانته العامة وجعلته أضحوكة، وبذلك انتهت هذه الحرب الداخلية بعد أن استمرت زيادة عن سنتين كانت فيها قرطاجة في أحرج المراكز وأشد المضايق حتى رثى لها الأعداء، وساعدها هيبرون صاحب سيراكوزة بالمال والرجال، وعرضت عليها رومة المساعدة والمعاونة وأباحت إرسال الغلال إليها.
لكن لا يظن القارئ أن هذه المساعدة كانت حبًّا في بقاء سؤدد قرطاجة وعظمتها، بل خوفًا من أن يسود فيها العنصر الحربي لو انتصر العصاة وتزيد قوة ومنعة فيصعب عليها تنفيذ ما كانت تضمره لها من المقاصد العدائية، وانتهت هذه الحرب الداخلية سنة ٢٣٨ق.م.
وبعد انتصار أملكار على العصاة بهذه الكيفية زاد نفوذ عائلة برقة زيادة عظمى حتى صارت صاحبة الكلمة النافذة والقول الغير مردود في مجلس السناتو وجميع فروع الحكومة، فخشي السناتو سوء عاقبة هذا التداخل الذي ربما يؤدي إلى إسقاط الحكومة الجمهورية واغتصاب هذا القائد للسلطة.
وقرر بإرسال أملكار وجيوشه لفتح بلاد إسبانيا لتكون عوضًا عن جزائر صقلية وسردينيا وغيرها التي احتلها الرومانيون ولإبعاد أملكار عن قرطاجة، فسافر إلى إسبانيا وأخضع في طريقه سواحل بلاد الجزائر ومراكش، ومكث بإسبانيا مدة تسع سنوات قضاها في محاربة الأمم المختلفة النازلة بها وإلزامها بالاعتراف بسيادة قرطاجة عليها، وقتل في إحدى الوقائع الحربية سنة ٢٢٩ وينسب إليه تأسيس مدينة برشلونة التي تسمى باللاتينية (برسينه) تخليدًا لاسم عائلة برقة.
وبواسطة مساعي عائلته في السناتو تعين بدله (ازدروبال) زوج ابنته لتبقى هذه الوظيفة الخطيرة في عائلتهم، فسافر إلى إسبانيا واستمر في محاربة سكانها وإخضاعهم إلى أن وصل في سيره إلى نهر (إبر) في سنة ٢٢٧ فتوجس الرومانيون خيفة من تقدمه السريع، وأبرموا معه معاهدة تلزمه بعدم تعدي هذا النهر، فأخذ في تنظيم ما فتحه من البلاد، وأسس مدينة قرطاجنة في موقع تجاري مهم جدًّا لقربها من ساحل إفريقية الشمالي، ومن المعادن التي كان يستخرج الفينيقيون الفضة منها.
وأصلح ميناها وأقام لها الأرصفة والمخازن التجارية، وبنى لنفسه سراية عظيمة أفخر من سرايات ملوك هذا الوقت، وصار يعتبر نفسه كأنه ملك مستقل بإقليم إسبانيا، واستمر على هذا الحال إلى أن قتله في سنة ٢٢١ق.م رفيق غالي الأصل أخذ بثار سيده الذي كان قتله ارذروبال غدرًا وخيانة.
فانتخب الجيش لقيادته أنيبال بن أملكار بدون انتظار أوامر السناتو من قرطاجة، ولما بلغ الحكومة خبر انتخابه بهذه الصفة الغير قانونية؛ لم يسعه إلا التصديق عليه خوفًا من عصيان الجيش واستقلال أنيبال بإسبانيا التي أصبحت إدارتها بهذه الكيفية وراثية في عائلة برقه.