الحرب البونيقية الثانية
علم القُرَّاء مما تقدم أن أملاك قرطاجة كانت ممتدة على سواحل البحر الأبيض المتوسط من إقليم طرابلس الغرب مما يلي حدود مصر من جهة الغرب إلى مصب نهر إيبر بإسبانيا؛ أي على مسافة تسعمائة فرسخ تقريبًا، لكن كانت سلطتها فعلية على السواحل فقط غير ممتدة إلى داخلية هذه الأقاليم المتسعة التي تسكنها عدة قبائل متبربرة، فكان يسهل على أعدائها إنزال جيوشهم إلى أي نقطة أرادوا إن كانوا آتين من الخارج، أو على احتلال السواحل إن كانوا من القبائل الداخلية؛ إذ إن قرطاجة كانت لا تهتم مطلقًا بإخضاع البلاد التي تفتحها إخضاعًا حقيقيًّا، بل تكتفي بإلزامهم بمشترى بضائعها والاتجار معها فقط، هذا من جهة حكومة قرطاجة ومستعمراتها.
أما الحكومة الرومانية فكانت على الضد من ذلك بالكلية في غاية الانتظام متقاربة الأجزاء تربطها السكك الحربية وتتخللها المستعمرات، وغالب سكانها تجنسوا بالجنسية الرومانية بحيث صاروا أعضاء عاملين في الحكومة كسكان رومة نفسها لا رعايا مستعبدين إلا اليسير منهم، هذا فضلًا عن عدم التباين الشديد في العوائد واللغات؛ إذ إن سكان إيطاليا أجمعها كانوا من أصل واحد تقريبًا، وتغلبت عليهم عوائد الرومانيين فصار الكل جسمًا واحدًا ومدينة رومة بمثابة القلب لتوسط مركزها.
وباحتلالها الجزائر القريبة منها صارت آمنة من مهاجمة الأعداء بحرًا؛ إذ كانت تلك الجزر كنقط أمامية تمنع كل عدوٍّ مفاجئ، وباحتلالها شواطئ البحر الأدرياتيكي الشرقية اتقت شر الأليريين وأخضعتهم وصارت قريبة من بلاد الإغريق.
كل هذه الأسباب والدواعي كانت تميز الحكومة الرومانية عن القرطاجية، وتضمن لها الفوز عليها بكل تأكيد.
تلك كانت حالة هاتين الدولتين المتناظرتين المتنازعتين للسيادة على البحر الأبيض المتوسط والبلاد الواقعة على شواطئه في سنة ٢١٩، ولذلك كانت قرطاجة تخشى محاربتها، وتتوقى الأسباب التي توجب الشحناء والنفرة والجفاء بين الحكومتين لعدم وثوقها من الفوز والانتصار.
ولما علمت رومة بهذا التعدي المخالف للعهود والمواثيق؛ أرسلت وفدًا إلى أنيبال تذكره بها وتحذره سوء العاقبة، وآخر إلى قرطاجة لاستصدار الأوامر إلى هذا القائد بالعدول عن محاصرة (ساجونت) فعاد الوفدان بلا فائدة.
فأرسلت بعض أعضاء السناتو ثانيًا إلى أنيبال، وكان من ضمنهم شهم يدعى (فابيوس) فلم يصغ إلى طلباتهم وأصر على عناده وتمادى في غروره فقال له فابيوس: إني أعرض السلم والحرب عليك فاختر أيهما يحلو لديك، فأجابه أنيبال: إن الاثنين عندي سواء فاختر أنت ما تريد، فقال فابيوس: الحرب الحرب، وعاد هو ومن معه إلى بلاده، وكان ذلك هو سبب الحرب البونيقية الثانية التي استمرت ثمان عشرة سنة، وكانت عاقبتها وخيمة جدًّا على قرطاجة، فقد فقدت فيها أهم جيوشها البرية والبحرية وجزيرة إسبانيا حيث فتحتها رومة وأدخلتها ضمن أملاكها، وصارت قرطاجة عرضة لهجمات الرومانيين لا سفن ولا جنود تمنع وصولهم إليها أو شن غاراتهم عليها.
وبمجرد إشهار الحرب بالكيفية السابقة ساق أنيبال جيوشه إلى جبال بيرينيه الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا؛ لأنه اتخذ في هذه الحرب للوصول إلى بلاد الرومان طريقًا لم يسلكه أحد قبله وهو طريق البر من جنوب فرنسا إلى إيطاليا؛ وذلك لتعسر الوصول إليها بحرًا بسبب احتلال الرومانيين أكبر جزائر البحر الأبيض المتوسط وأغلب جزائره الصغيرة.
ووصل أنيبال إلى جبال الألب الفاصلة بين فرنسا وإيطاليا بعد أن حارب أغلب القبائل والأمم الواقعة على طريقه، ولم يلتفت إلى الجنود التي أرسلها الرومانيون إلى مرسيليا لقطع خط الرجعة عليه، ولم يحاربهم بل جد في اجتياز جبال الألب الوعرة المسالك الضيقة المفاوز لا تعوقه وعورتها ولا توقفه صعوبتها، بل كان يفتح الطرق ويوسعها لمرور جنوده غير مبالٍ بما يتكبده من المتاعب ويهلك في هذه الأعمال الشاقة من الرجال والدواب، ناظرًا إلى الإمام فقط شأن أولي العزم من الرجال وأولي الحول والقوة من القواد حتى اجتاز هذه الطريق التي لم يسلكها جيش قبله، ولم يصل إيطاليا إلا بنصف جيشه وهلك الباقي في الطريق، البعض من محاربة القبائل التي اعترضته والباقي في مضايق الألب.
فانتصر أنيبال على سيبيوس بالقرب من نهر (تسينو) وجرح القائد الروماني؛ فتقهقر بجيوشه إلى ما وراء نهر (بو)، وانضم بجيوشه إلى القنصل سمبرونيوس، وتحصن في موقع منيع على نهر (تريبيا)، فاحتال عليهم أنيبال حتى أخرجهم من هذا الموقع الحصين، وانتصر عليهم نصرًا مبينًا بعد قتال شديد قتل فيه — على ما جاء في كتب الثقات — ثلاثون ألفًا من الرومانيين، ولم ينجُ سمبرونيوس بمن بقي معه إلا بعد أن زهقت النفوس وتناثرت الرؤوس ودخل ببقايا جيشه إلى مدينة (بليزانس) حيث حاصره القرطاجيون (٢١٨ق.م).
وبعد هذا النصر العظيم قصد أنيبال أن يجتاز جبال (ابنينو) الحائلة بينه وبين رومة، لكنه لم يتمكن من إتمام مشروعه لدخول فصل الشتاء، وتراكم الثلوج في مضايق هذه الجبال.
وبسبب انتصاراته السريعة انضم إليه كثير من الغاليين القاطنين في شمال إيطاليا طمعًا في الغنيمة، وأتوا إلى معسكره أفواجًا حتى عوضوا أغلب من قتل من رجاله في هذه الحروب المتواصلة ضد الطبيعة تارة، وضد الرومانيين تارة أخرى.
وبمجرد ما ابتلج فجر الربيع وذابت الثلوج وسهل المرور نوعًا شرع أنيبال في الزحف على رومة، وسار من أقصر الطرق ولو أنها أصعبها اجتيازًا إذ كان يلزمه المسير ثلاثة أيام في وسط مستنقعات وأدغال، لكن لم تُقعد هذه الصعوبات همتَه، بل اجتازها كما اجتاز جبال الألب وتغلب عليها كما تغلب على جميع المواقع التي اعترضته من قبل.
كل ذلك والرومانيون لم يُبدوا أقل اهتمام يمنعه من التقدم، بل تربصوا له بجيوشهم بالقرب من بحيرة (تراسيمين) المسماة الآن بحيرة (بيروزه) تحت قيادة قائدهم الشهير (فلامينيوس).
ولقد استعمل معه أنيبال ما استعمله مع القواد السابقين من الحيل ومتى أخرجه من محل استحكامه، وانتصر عليه بقوة فرسانه المشهورين في موقعة هائلة لم تستمر سوى ثلاث ساعات، قتل في أثنائها القائد الروماني وخمسة عشر ألفًا من رجاله، وأخذ قدرهم أسراء، وفر الباقون يبكون إخوانهم ويندبون حظ بلادهم (٢١٧ قبل المسيح).
وبعد هذا الانتصار العظيم، لم يجسر أنيبال على الزحف على مدينة رومة التي كان لا يبعد عنها إلا بمقدار مائة كيلومتر لعلمه باستعداد أهلها للدفاع عنها، والتهالك في الذود عن حوضها حتى الممات، ولِمَا أصاب جيوشه من النصب والتعب في هذا السير السريع والمحاربات المستمرة.
فلهذه الدواعي والأسباب رأى من الحكمة والصواب أن يتربص مدة شتاء تلك السنة ريثما تستريح جيوشه مما أَلَمَّ بها من المتاعب وتتقوى خيوله مما لحقها من المشاق، ولكي يستميل إليه بعض القبائل التي ضمتها رومة إليها حديثًا ولم تقو علائقها وروابطها معها، خصوصًا سكان إيطاليا الجنوبية المسماة (إغريق الكبرى)، كما استمال سكان شمال إيطاليا الغاليين.
أما الرومانيون فلم ترعهم هذه المصائب المتوالية، ولم تؤثر على شجاعتهم ووطنيتهم هذه الكوارث المتعاقبة، بل جمعوا الجيوش والكتائب وقرر السناتو أن الوطن في خطر وعيَّن القائد (فابيوس) رئيس طائفة الأشراف حاكمًا عامًّا مطلقًا (دكتاتور) لمدة ستة شهور، وعيَّن (مينوسيوس) قائدًا للفرسان إرضاء للشعب حتى لا يظن بالسناتو سوءًا.
وكانت طريقة فابيوس في الحرب التسويف، وعدم التورط في الحرب ما لم يكن متحققًا من الظفر والنصر على الأعداء.
ولقد سعى أنيبال كثيرًا في إغرائه على قبول المحاربة في السهول الواسعة التي يسهل فيها على فرسان قرطاجة الهجوم على الرومانيين فلم يفلح، ولم يتبعه إلى السهول مطلقًا، بل اعتصم بالجبال متربصًا الفرص فينتهزها بدون تراخٍ أو توانٍ.
وبالغ فابيوس في الحذر والتوقي من مقابلة جيوش أنيبال حتى رماه أعداؤه بملاءمة العدو والاتفاق معه على خيانة الوطن وأهله، وساعد قائد الفرسان (مينوسيوس) على إذاعة هذه المفتريات ليعين حاكمًا عامًّا بعد انتهاء مدة فابيوس.
ولقد تحصل على بعض مطامعه إذ جعل قائدًا مشاركًا في الرئاسة لفابيوس بأن تكون القيادة العامة لكل منهما يومًا بالتعاقب، فحارب مينوسيوس القرطاجيين وهزم، وكاد أنيبال يجهز على الجيش الروماني لولا مساعدة فابيوس له وإرشاده بنصائحه.
ولما انتهت مدة الحاكم العام عادت الأحكام الدستورية وانتخب قنصلان لهذه السنة، فانتخب حزب الأشراف (بول اميل) لكونه على رأي فابيوس في زيادة التحذر وعدم المخاطرة بالجيوش، وانتخب الحزب الأهلي (ترنتيوس فارون) قنصلًا ثانيًا، فكان الأول يميل على التسويف ويرغب الثاني في التعجيل بالحرب.
وبسبب هذا الخُلْف بين الرؤساء تطرق الخلل إلى الجنود، وصار كل منهما ينقض ما قرره زميله في يومه حيث كانت القيادة بينهما مناوبة.
أما جيش الرومانيين فكان أكثر من جيش العدو عددًا بما يوازي الضعف، لكن لم يكن بينهم أكثر من ستة آلاف فارس.
ومع أن انتصار القرطاجيين كان في جميع مواقعهم السالفة مسببًا عن كثرة عدد الفرسان لم يلتفت قواد الرومان لهذا الأمر الخطير، ولم يستفيدوا مما أَلَمَّ بهم بسبب قلة فرسانهم ولم يزيدوا عددهم بالنسبة الموجودة في جيش أنيبال؛ إذ لو روعيت هذه النسبة لكان يلزم أن يكون في جيش الرومان عشرون ألف فارس لا ستة آلاف.
وقد قدر المؤرخون قتلى الرومانيين بين خمسين وسبعين ألفًا والأسرى بعشرة آلاف.
وقال الخبيرون بفنون الحرب والقتال إنه كان من السهل على أنيبال أن يزحف على مدينة رومة فيحتلها بدون كثير عناء؛ بسبب ما لحق سكانها من الاضطراب والخوف عقب وصول خبر هذا المصاب العظيم إليهم، لكن منعه عن ذلك اشتغال جنوده بجمع الأسلاب والغنائم وبيعها والاتجار بالأسرى والأرقاء وصرف غالب أوقاتهم في مغازلة الحسان ومعاقرة بنت الحان فرحًا بما نالهم من النصر المبين والفوز العظيم، ومن جهة أخرى كان جزءٌ ليس بقليل من جيوشه من غير القرطاجيين مؤلَّفًا من خليط جميع القبائل التي مالت إليه لا طلبًا للمجد والفخار، بل سعيًا وراء الكسب والغنى.
ولذلك خشي التقدم إلى الأمام لعدم تأكده من إطاعة الأجراء من جنوده لأوامره، ولتحققه من أن جميع سكان مدينة رومة يكونون يدًا واحدة في الدفاع عنها، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والأحرار والأرقاء، وأنهم لا يدعونه يطأ أرض المدينة ما دام في عروقهم قطرة من الدم.
فلهذه الأسباب فضل التربص في جنوبي إيطاليا والسعي في استمالة سكانها إليه ليكونوا له أعوانًا على الرومانيين، خصوصًا وقد نقص جيشه نقصًا بليغًا حتى صارت الأغلبية فيه للأجراء، وصار من المستحيل وصول مدد إليه من قرطاجة بسبب محاصرة سفن الرومان لجميع سواحل إيطاليا، ومنع أي اتصال بينه وبين بلاده.
فكان من المحتم عليه إدخال بعض القبائل الجنوبية تحت طاعته طوعًا أو كرهًا، وتجنيد الأشداء من رجالها ضمن جنوده، وعدم التعويل على وصول المدد إليه لسد النقص الذي حصل في جيوشه بسبب الأمراض والحروب.
ويظهر للمطالع من هذه التفصيلات أن مركزه كان من أحرج المراكز، وموقفه من أصعب المواقف بتوغله في إيطاليا بدون أن يحفظ لنفسه خط اتصال بينه وبين قرطاجة برًّا أو بحرًا، ولذلك كان الرومانيون معتقدين بقرب الانتصار عليه وإهلاكه مع من بقي معه من الجنود لو اتبعوا الصبر والحكمة، ولم يلقوا بأيديهم إلى التهلكة كما فعل القواد السابقون في المواقع السالفة.
فانتخبوا فابيوس القائد الذي اشتهر في أول هذه الحرب بالتؤدة وعدم التهور قنصلًا لسنة ٢١٧ قبل المسيح وأعادوا انتخابه في السنة التالية، وفي خلال هاتين السنتين أتى من ضروب الحكمة وفنون القتال ما جعل أنيبال في خطر عظيم وأوقعه في حيص بيص؛ إذ أحاطت به الفيالق الرومانية من جميع الجهات إحاطة السوار بالمعصم، واحتلت أغلب البلاد التي فتحها وضايقت عليه الحصار في مدينة (كابوا) وقطعت مواصلاته مع الخارج كلية، وكادت تجهز عليه قطعيًّا لولا ما استعمله من السياسة في إهاجة مدينة (سيراكوزة) على الرومانيين بدسائسه، واستعانته بفيليب ملك مقدونية ووالد إسكندر الأكبر مما سنذكره بعد قليل.
ولقد أتى الرومانيون في هذه الظروف الحرجة ما يجب على كل أمة اتخاذه نموذجًا تنسج على منواله، وقدوة حسنة تقتدي بها في محبة الوطن العزيز وبذل الروح لا المال لإنقاذه من الخطر أو استخلاصه من مخالب الأجانب، فكل أمة سهل عليها إفداء وطنها بأرواحها حفظت استقلالها وعاشت سعيدة سعادة حقيقة، وكل أمة استسهلت تحمل سيطرة الأجنبي على إدارتها واستخفت ثقيل وطأته على هامتها؛ فقدت استقلالها لا محالة وسارت إلى طريق الموت الأدبي والمادي، حيث لا ينفعها ما ضَنَّتْ به من المال ولا ما احتفظت عليه من الأرواح.
ولما كانت الأمة الرومانية قد أشربت هذه الإحساسات الوطنية والعواطف الملية سهل عليها صرف الأموال، وبذل المهج والأرواح في سبيل حماية بلادها وطرد الأجنبي من المواقع التي احتلها، فقبلت مضاعفة الضرائب بأنواعها وقدمت كل ما لدى نسائها من الحلي والمصاغ تبرعًا لينفق في تعبئة الجيوش وتسليحها، وأصدر السناتو قرارًا بأنه لا يجوز لأي سيدة من السيدات إحراز مصاغ من الذهب يزيد وزنه على نصف أوقية، وقدم الأغنياء كل ما عندهم من الأرقاء ليدمجوا ضمن الجند، وتبرعوا بثمنهم ومنحوا الحرية لمن يعود من الحرب منهم سالمًا، ومنهم من تبرع بمؤونة عدد معين من الجند مدة سنة إلى غير ذلك من أنواع المساعدات والتبرعات التي أملتها وطنيتهم على قلوبهم، حتى أمكن الحكومة جمع نحو مائتين وخمسين ألف جندي، وتشييد ما يلزم من السفن لمنع أي اتصال بين أنيبال وقرطاجة ونقل الجيوش الرومانية إلى إسبانيا لمساعدة القائد (سيبيون) على محاربة القرطاجيين هناك، ولولا وطنية الأهالي وتفضيلهم الموت على مذلة تسلط الأجنبي لما أمكن الحكومة إتيان أي عمل من ذلك.
هذا؛ ولم تفد أنيبال مساعيه في إثارة حاكم سيراكوزة بجزيرة صقلية المدعو هيبرون، فإنه لم يُلَبِّ دعوته إلى محاربة الرومانيين، بل حافظ على ولائهم في أيام شدتهم محافظته عليه في أيام سعادتهم، وكذلك لم ينجح القرطاجيون في مهاجمتهم جزيرة سردينيا ليحولوا أنظار الرومانيين عن أنيبال نوعًا، ويضطرونهم لإرسال بعض جيوشهم للمحافظة عليها، وأخيرًا لم تُفِدْهُ حيلته الثالثة وهي الاستنجاد بفيليب المقدوني، فإن الرومانيين هاجموه حين استعداده لمهاجمتهم ببلاد اليريا فهزموه واضطروه إلى العودة لبلاده مخذولًا، وبذلك لم يبقَ لأنيبال خلاص من الموقف الحرج الذي وجد فيه بسبب طيشه، وثقته الزائدة في قوة جيوشه، وتفننه في ضروب الحرب إلا الاتكال على من بقي معه من الجيوش بدون انتظار وصول مدد إليه من قرطاجة بسبب محاصرة الرومانيين لجميع الثغور كما قدمنا.
ولقد تمكن أنيبال من الخروج من مدينة (كابوا) قبل إتمام الحصار عليها، وأخذ يناوش الرومانيين كي يتبعوه في الأماكن السهلة فينقض عليهم بفرسانه المشهورة، لكن أعياه صبر الرومانيين الذين التزموا خطة التسويف في الحرب على مذهب رئيسهم فابيوس.
وفي سنة ٢٠٩ أعيد انتخاب فابيوس لقيادة الجيش فاستخلص مدينة ترنته من القرطاجيين، وكانت هذه الحادثة خاتمة أعماله الحربية إذ لم ينتخب بعد ذلك إلى أن توفي سنة ٢٠٥ قبل المسيح.
ولقد امتاز (كرنوليوس سيبيون) وأخوه في محاربة القرطاجيين في إسبانيا والانتصار على ازدروبال أخي أنيبال في عدة وقائع شهيرة، وكان النصر حليفهم دائمًا إلى سنة ٢١٢ حيث قتلا في إحدى هذه الحروب العديدة، وكان لأحدهما كورنيليوس ولد يدعى (بوبليوس) اشتهر فيما بعد باسم سيبيون الإفريقي كان خير ولد لخير والد فإنه حفظ اسم أبيه وعمه، بل فاق عليهم في الشهرة وبعد الصيت إذ كان انتهاء هذه الحرب بحسن تدبيره وبعد نظره كما سترى.
وفي سنة ٢٠٨ انتخب كل من القائد مرسللوس وكرسبييوس قنصلين لهذه السنة، فارتئيا مهاجمة أنيبال لوضع حد لهذه الحرب التي طالت مدتها وزادت مضراتها ولم يتبعوا خطة سلفهم فابيوس، فعادوا بالخيبة والفشل وقتل مرسللوس مع كثير من ضباط الجيش وجنوده، فلم يعد انتخاب زميله لسنة ٢٠٧، بل وقع الانتخاب على القائدين نيرون وليفيوس.
وفي تلك السنة انتصر (ازدروبال) على سيبيون الإفريقي في بلاد إسبانيا، واجتاز جبال البرينيه وبلاد غاليا الجنوبية إلى أن وصل شمال إيطاليا لمد يد المساعدة والمعاونة لأخيه أنيبال ويحصرا مدينة رومة بين جيشهما، لكن أتاح الله لهذه الأمة الرومانية التي استمرت تحارب عن استقلالها، وتناضل عن حياتها عشرات من السنين القائد نيرون الذي كان يحارب أنيبال في الجنوب بينما كان زميله واقفًا في وجه ازدروبال يمنعه عن اللحاق بأخيه، فقد دبر هذا القائد حيلة أجهز بها على ازدروبال، وذلك أنه سار بكل سرعة مع سبعة آلاف من نخبة رجاله بعد أن اتخذ ما يلزم من الاحتياطات لعدم استشعار أنيبال بغيابه، وجدَّ في السير ستة أيام حتى لحق بزميله ليفيوس وأعلن العدو باجتماع الرئيسين، فظن ازدروبال أن أخاه قد خذل ومات؛ إذ كان يصعب عليه أن يعتقد بمغادرة نيرون لجنوب إيطاليا مع وجود أخيه بها ففر ازدروبال بجيوشه إلى الشمال لتوهمه أن جميع جيوش الرومانيين اتحدت لمحاربته وتحققه من عدم إمكانه مقاومتها، فتبعه القنصلان بما معهما من الجيوش وهزماه شر هزيمة بالقرب من نهر ميتوروس وفرقوا جنوده أيدي سبا، ووجدا جثته ضمن القتلى وأرسلا رأسه لأنيبال ليعلموه مما حل بأخيه، ولقد محا الرومانيون في هذه الموقعة ما لحق بهم من الفشل والتصق بهم من العار في واقعة تراسيمين وكان.
وبعد ذلك لم يبقَ لأنيبال أقل أمل في وصول أدنى مساعدة إليه من جهة قرطاجة ويئس من النجاح في مشروعه؛ إذ تضعضع حاله وهلكت جيوشه، وتفرق من حوله محالفوه ومحازبوه من أهالي البلاد لما رأوا ما حل به من الانكسار، وأيقنوا أن الفوز سيكون للرومانيين لا محالة لكنه لم يظهر يأسه، بل تظاهر بالثبات والصبر شأن كل عاقل حكيم.
ولنأتي هنا باختصار على ذكر ما حصل بإسبانيا من الوقائع بين الرومانيين والقرطاجيين بعد موت كورنوليوس سيبيون وأخيه وظهور ولده بوبليوس الذي تلقب بالإفريقي فنقول:
إن بوبليوس انتصر مرتين على ازدروبال أخي أنيبال، ثم غافله ازدروبال المذكور واجتاز جبال البيرينه وبلاد غاليا (فرنسا)، ووصل إلى شمال إيطاليا لمساعدة أخيه؛ فهزم وقتل وأرسلت رأسه إلى أخيه كما مر، وفي أثناء ذلك فتح بوبليوس سيبيون مدينة قرطاجة الجديدة المعروفة الآن باسم قرطاجنة التي كان أسسها أنيبال بساحل إسبانيا، ووجد سيبيون ما كان لدى القرطاجيين من الرهائن التي أخذوها من أهالي إسبانيا ليأمنوا غدرهم وانضمامهم للرومانيين، فأحسن سيبيون معاملتهم وردهم إلى أهلهم مزودين بالهدايا الثمينة والتحف النفيسة، وعامل الأهالي بالرفق واللين فمالوا إليه بقلوبهم وساعدوه بأموالهم ورجالهم حتى افتتح جميع ما كان لقرطاجة من بلاد إسبانيا، ولم يبقَ لهم إلا مدينة قادس.
ثم حوَّل أنظاره إلى إفريقية الشمالية، وبالأخص إلى بلاد نوميديا (هي بلاد الجزائر ومراكش الآن) التي كانت مجزَّأة بين دولتين متحدتين مع قرطاجة.
وكان ملك أحدهما يسمى مسَّنيسا والآخر سيفاكس وسعى في سلخهم عن قرطاجة وضمهم إليه ليكونا له عونًا على القرطاجيين، وسافر فعلًا إلى (سرتا) عاصمة مسنيسا المسماة الآن مدينة قسنطينة بجزائر الغرب، وأبرم تحالفًا مع هذا الملك وتحالف كذلك مع سيفاكس، لكن لم يلبث سيفاكس أن انفصل بمساعي القائد القرطاجي ازدروبال بن جسكون الذي زوجه ابنته وساعده على محاربة مسنيسا وطرده من مملكة آبائه وأجداده.
لكن لم تُقعد سيبيون كل هذه العوائق عن تنفيذ ما صمم عليه وعرضه على أمته، وهو أن يقصد نفس بلاد قرطاجة بجيش عظيم فيضطر أنيبال لمبارحة بلاد إيطاليا للدفاع عن وطنه الأصلي، وهو مشروع غاية في الأهمية والإصابة، إلا أنه صادف معارضات شديدة في رومة وبالأخص من القائد الكبير فابيوس الذي كان يميل دائمًا إلى التسويف وعدم الإسراع، وكان رأيه تضييق المذاهب والمسالك على أنيبال ومحاصرته في الجهة النازل بها حتى يضطر للتسليم.
وفي السنة التالية جمع له القرطاجيون جيشًا يزيد عن خمسين ألف مقاتل تحت قيادة ازدروبال وبمساعدة سيفاكس، فتظاهر سيبيون بالميل إلى الصلح حقنًا للدماء البريئة وأرسل بعض ضباطه إلى معسكر الأعداء بحجة المخابرة في الصلح وشروطه، وكانت مأموريتهم الحقيقية زيارة معسكر الأعداء واستكشاف أحوالهم.
ولما علم سيبيون بهذه الطريقة أن المعسكر مركب من أكواخ صغيرة من القش والبوص عمد إلى حرقه بالنار ليلًا، فحُرِق ودُمِّرَت ميرة الأعداء وما معهم من المؤن، وهلك كثير من جنودهم وتفرق الباقون إلى جميع الجهات، وبذلك انتصر عليهم نصرًا مبينًا بدون أن يعرض حياة نفر من رجاله إلى الموت وانتصر عليهم مرة ثانية في موقعة منتظمة.
ثم أرسل مسنيسا مع أحد القواد الرومانيين لاقتفاء أثر سيفاكس والقبض عليه حيًّا أو ميتًا، فطاردوه في الجبال والسهول وانضم إليهم كثير من أهالي نوميديا الذين أصلهم رعايا مسنيسا وتفرقت الجنود عن سيفاكس لما علموا بمجيء ملكهم الأصلي وسيدهم الشرعي، وأخيرًا قبض عليه وعلى زوجته ابنة ازدروبال ودخل مسنيسا مدينة سرتا (الآن قسنطينة)، وجيء بسيفاكس إلى سيبيون فسجنه إلى انتهاء الحرب، وتزوج مسنيسا زوجته التي كان يهواها من قبل، لكن لم يقبل سيبيون زواجه بها وطلب منه أن يتركها أو يأخذ منه ملكه، فآثر الملك على حب هذه الفتاة ودس لها السم فماتت شهيدة الجشع والطمع.
وفي هذه الأثناء استقدمت حكومة قرطاجة أنيبال وجيوشه من إيطاليا، كما استقدمت ماجون الذي كان أرسل بجيش قرطاجي إلى جبال (ليجوريا) بشمال إيطاليا ليحول قوى الرومانيين إليه، ويخلص بذلك أنيبال من الضيق المحدق به، فعادا طائعين وطهرت الأراضي الرومانية من دنس الاحتلال الأجنبي بحسن تدبير سيبيون ونقله ميدان الحرب بإفريقية.
وقد أتى أنيبال من الفظائع عند مبارحته إيطاليا ما تقشعر منه الأبدان وترتعد له الفرائص، وقتل كل من لم يقبل مرافقته إلى إفريقية من الأهالي الذين كانوا انخرطوا في سلك جيوشه طلبًا للغنيمة، فخرج من إيطاليا آسفًا على عدم نجاح مشروعه وخيبة مسعاه أمام وطنية الرومانيين وتهالكهم في الدفاع عن بلادهم عشرات من السنين.
ولما عاد أنيبال إلى إفريقية أراد أن يصالح سيبيون على مال معين، فلم يقبل لتصميمه على الحرب والانتصار حتى يمحو عن رومة وجيوشها ما لحقها من العار في بعض الوقائع السابقة، وينتقم لها من قرطاجة وجيوشها التي طمحت بأنظارها لامتلاك البحر الأبيض المتوسط.
وفي شهر أكتوبر سنة ٢٠٢ق.م جمع القرطاجيون ما أمكنهم جمعه من بقايا جيوشهم، واستعد سيبيون للقتال مستعينًا بفرسان نوميديا الآتين مع مسنيسا لنجدته، والذين كانوا في أوائل هذه الحرب عونًا لأنيبال ضد الرومانيين في وقائع تريبيا وكانه وغيرهما.
فقبل سناتو قرطاجة هذه الشروط جميعها، وسلمه خمسمائة سفينة حربية أمر سيبيون بحرقها أمام قرطاجة حتى يثبت لهم أن رومة غير محتاجة لسفنهم وأنها غنية بنفسها.
وكان رأي بعض قواد الرومان إلغاء حكومة قرطاجة بالمرة ومحوها من عالم الوجود، حتى تكون رومة المالكة الوحيدة لحوض البحر المتوسط الغربي، لكن لم يوافق سيبيون على هذا الرأي، بل فضل بقاء قرطاجة ضعيفة وبجانبها حكومة قوية محالفة لها وتحت سيطرة الحكومة الرومانية وهي حكومة (نوميديا)، وعزز هذا الرأي بأن الرومانيين لو أمنوا كل مزاحمة من جهة قرطاجة لركنوا إلى الخمول؛ إذ لا يكون لديهم باعث يحثهم على مداومة الحذر والاستعداد لصد كل طارئ، وتكون النتيجة إماتة الإحساسات الحربية والعواطف الوطنية في الأمة الرومانية، ونعم الرأي رأيه، فإن اهتمام الأمة بأمر حياتها وحمايتها من الطوارئ الخارجية يجدد فيها دائمًا روح الوطنية، ويشدد ربط الاتحاد بين أفرادها بخلاف ما لو كانت آمنة من الأعداء داخلًا وخارجًا، فإنها تميل إلى الترف وحب الزخرف، وتشغلها الملاذ الدنيوية عن الاهتمام بالأمور العمومية النافعة للبلاد، وتضعف فيها العواطف الشريفة شيئًا فشيئًا حتى تتلاشى بالمرة وتكون فريسة سهلة لكل طامع في امتلاكها ساعٍ وراء إبادتها.
ولهذه الملاحظات صدَّق مجلس سناتو رومة على هذه الشروط، واحتفل بسيبيون عند عودته احتفالًا لم يسبق لغيره من القواد العظام، فدخل رومة في موكب حافل سار فيه وراء عربته الملك سيفاكس السابق الذكر، وهو أول ملك سار بصفة أسير في موكب انتصاري برومة (وقال بعض المؤرخين إنه مات في السجن قبل هذا الاحتفال)، وقامت له الأهالي من جميع الطبقات بمظاهرات الولاء والإخلاص، وتغالت الأمة في إظهار شكرها له على تخليصها من الاحتلال الأجنبي وضعضعة أركان قرطاجة حتى عينته حاكمًا مطلقًا (دكتاتور) طول حياته خلافًا لما تقضي به النظامات والقوانين.
هذا؛ ويظهر للمطلع على التاريخ القديم والحديث أن بين حروب رومة لقرطاجة وحروب فرنسا لإنكلترا في أوائل القرن التاسع عشر تشابه عظيم؛ وهو أن كلًّا منهما كانت تسعى للاختصاص بسيادة البحار دون الأخرى ففازت رومة على منافستها، ولم تفز فرنسا على إنكلترا لدواعٍ يطول شرحها.
وكذلك توجد مشابهة بين اجتياز أنيبال لجبال الألب في أوائل الحرب البونيقية الثانية وبين عبور نابليون بونابرت لها عند محاربته النمسا في آخر القرن الثامن عشر، فإنه اتبع طريق سان برناد الذي اتبعه أنيبال فكان له منه قدوة حسنة سار عليها ونسج على منوالها، وكذلك فقد أراد نابليون مجاراة سيبيون الإفريقي في طريقة محاربته لقرطاجة، ونقله الحرب إلى بلادها بدل أن تكون بلاد إيطاليا مرسحًا للقتال، فأنشأ معسكرًا عظيمًا في ثغر (بولونيا) على بحر المانش الفاصل بين فرنسا وإنكلترا، وجمع فيه جيشًا جرارًا وعدة مئات من السفن الحربية وسفن النقل لنقل الجنود إلى بلاد الإنكليز ومحاربتها في نفس بلادها، فيضطرها لسحب عساكرها من البرتقال وإسبانيا وباقي جهات قارة أوروبا، والاشتغال بالدفاع عن بلادها، وعدم مساعدة باقي دول أوروبا ضده، لكن لم تساعده الظروف على تتميم هذا المشروع، وحفظت إنكلترا من إغارته التي لو تمت حسب تدبيره لأجهزت عليها ولم تقم لها بعد ذلك قائمة، كما حصل لقرطاجة بعد الحرب البونيقية الثانية.
وقد كانت نتائج هذه الحرب عظيمة جدًّا، فإن رومة سادت على أوروبا الغربية بأسرها، وعلى جميع شواطئ البحر المتوسط الغربي، ولم يبقَ لها به مزاحم، فطمحت إلى التوسع في امتلاك البلاد الشرقية حتى يكون لها ملك البحر الأبيض المتوسط من أوله لآخره، وساعدها على مقصدها ما صارت إليه حالة العالم الشرقي من الانحلال عقب سقوط المملكة الواسعة الأطراف التي أسسها إسكندر الأكبر باني إسكندريتنا المتوفى سنة ٣٢٣ق.م، وتقسيم قواده مملكته إلى عدة ممالك صغيرة، واستمرار الحروب بين هذه الإمارات كما حصل في أواخر خلافة العباسيين في نفس هذا العالم الشرقي مما كان سببًا لتلاشيه، كما كان السبب بعينه سببًا لتلاشي ملك الإسكندر وامتلاك الرومانيين لهذه الإمارات جميعها الواحدة بعد الأخرى، كما سيأتي في الجزء التالي.
وكذلك كانت بلاد اليونان الأصلية منفصمة العرى لا تضافر ولا ارتباط بين مدنها؛ إذ كانت كل مدينة تصبو إلى التسلط على جارتها والتهام ما تصل إليه يدها من أراضيها، وبالاختصار فلم يكن في الشرق دولة يمكنها مقاومة أطماع الدولة الرومانية وصد غاراتها عن الشرق، نعم لو اتحدوا معًا ونبذوا الانقسام ظهريًّا لأمكنهم حفظ استقلالهم أمام أي دولة مهما كانت قوتها، فالعروة الوثقى لا انفصام لها، لكنهم لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة الباهرة، بل استمروا على تفرقهم، فسطت الدولة الرومانية عليهم وحرمتهم استقلالهم وسلبتهم حريتهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة جزاء ما كانوا يفعلون.
ولم تكتفِ هذه الدول الشرقية بالتفرق والانقسام، بل تهافتت على التملق لرومة والتودد إليها والاستنجاد بها على بعضها البعض مما كان سببًا لتداخلها في شؤون بلادهم الداخلية، فقد أبرمت حكومة البطالسة بمصر مع رومة معاهدة محبة وولاء منذ سنة ٢٧٩ق.م.
ولما كان من القوانين الطبيعية المقررة بالشواهد العديدة أن كل اتحاد بين أمتين إحداهما أضعف من الأخرى تكون نتيجته حتمًا تداخل القوية منهما في شؤون حليفتها مع الزمن بدعوى النصيحة والإرشاد، والتسلط عليها في آخر الأمر تسلطًا أدبيًّا، ثم يستحيل هذا التسلط الأدبي إلى تسلط فعلي وامتلاك حقيقي.
ولم تنجُ مصر في عهد البطالسة من نتائج هذا الناموس الطبيعي، بل تداخلت الحكومة الرومانية في شؤونها شيئًا فشيئًا، حتى تحصلت بمساعيها لدى وزراء مصر عند تولية بطليموس الخامس الذي كان سنه لا يتجاوز الخمس سنوات على أن تكون الوصاية عليه مدة طفوليته إلى أن يبلغ رشده لسناتو رومة، فكانت شؤون مصر في عهده في يد الحكومة الرومانية بصفة وصية، ونحن نعلم كيف تكون معاملة الوصي للموصى عليه في مثل هذه الظروف، وأمام أعيننا الشواهد العديدة على ذلك في عهد احتلال إنكلترا لمصر وإدارتها شؤونها بصفة وصية إلا أن الفرق بين هاتين الحالتين أن رومة عينت وصية على ملك قاصر وبطلب وزرائه، وإنكلترا عينت نفسها وصية على مصر التعيسة وخديويها توفيق باشا بالغ رشيد، واستمرت وصايتها بعد موته وشهادة العموم بأن خليفته عباس باشا الثاني لا يقل ذكاء وحبًّا لخير بلاده عن أحسن ملوك أوروبا وإمبراطرتها.