حرب مقدونية
ولقد كان الشعب الروماني غير موافق على الحرب في أول الأمر لما قاساه من المشاقِّ في محاربة أنيبال، ثم اقتنع بضرورة إشهار الحرب على فيليب حتى لا يكون بجوار إيطاليا ملك قوي يُخشَى من تعديه يومًا ما على حدودهم كما فعل مساعدة للقرطاجيين.
وعين القنصل سولبسيوس لمحاربته، فسار إلى بلاد مقدونية سنة ٢٠١ ودخلها من جهة الغرب وفتح منها عدة مدن، ولما جاء الشتاء عاد إلى مدينة أبولونيا على بحر الأدرياتيك لقضاء فصل الشتاء.
ولقد حقق هذا القائد اعتقاد أهل بلاده فيه، وانتصر على فيليب في سنة ١٩٨ق.م انتصارًا عظيمًا، وتبعه في تقهقره إلى إقليم (تساليا)، وقضى شتاء هذه السنة في قلب بلاد اليونان ليستميل إليه القبائل المعادية لفيليب، فانضم إليه كثير منهم حتى إذا أتى ربيع سنة ١٩٧ كان قد أدخل في عداد جيوشه كثيرًا من اليونان أنفسهم.
وحارب فيليب في شهر يونيو بجيش تعداده ستة وعشرون ألف مقاتل بينهم ثمانية آلاف من اليونان المنضمين إليه، وانتصر عليه نصرة عظيمة لم يقم له بعدها قائمة، بل اضطر لطلب الصلح وقبول شروط فلامينوس بدون تغيير أو تحوير.
وأهم هذه الشروط أن يكتفي بمُلك مقدونية ويسحب عساكره من باقي بلاد اليونان بأوروبا وآسيا، ويعيد إلى تساليا استقلالها ويسلم جميع السفن الحربية وغيرها إلى الحكومة الرومانية، ولا يبقى بطرفه غير خمسة مراكب نقل لا غير، ويحل جميع جيوشه إلا خمسمائة جندي لحفظ الأمن داخل بلاده، وأن لا يحارب أحد مجاوريه بدون إذن وتصريح الحكومة الرومانية وتعهد بأن يدفع خمسمائة تالنت غرامة حربية، وخمسين ألف دينار جزية سنوية لمدة عشر سنين، وقدم على تنفيذ هذه الشروط عدة رهائن منها ولده دمتريوس.
وبذلك أضعفت رومة ملك مقدونية كما فعلت مع قرطاجة فأمنت مجاوريها شرقًا كما أمنت شرور قرطاجة جنوبًا وغربًا، ولم تجهز على مقدونية وتجعلها ولاية رومانية للأسباب التي ذكرناها في آخر الحرب البونيقية الثانية، بل اتبعت سياسة الحكمة والسداد والإصابة والرشاد.
وبعد أن تم خضوع فيليب وأمنت رومة جانبه استمالت جميع اليونانيين إليها حتى لا ينضموا فيما بعد إليه أو إلى غيره ممن يدعونهم لمحاربة رومة، فمنحتهم جميعًا الحرية في داخلية بلادهم وجعلت كل بلد مستقلة عن الأخرى تمام الاستقلال أو متحدة مع بعض مجاوريها اتحادًا بسيطًا، فشكرها اليونانيون شكرًا جزيلًا على هذه المنة لاعتقادهم أنها تروم لهم كل خير، وأقاموا الولائم والاحتفالات شكرًا لصنيعها، وأعتقوا من كان لديهم في حالة الرق من أسرى الرومانيين الذين باعهم القرطاجيون بيع الأنعام، ولم يفطنوا إلى ما كانت تبطنه لهم الحكومة الرومانية من الشر والخديعة السياسية، فإنها كانت تقصد بعملها المذكور التفريق بينهم وفصم عرى اتحادهم؛ فلا تخشى بأسهم حالًا واستقبالًا وتتركهم في حالة الاستقلال الظاهر أشتاتًا لا رابط يجمعهم ولا وحدة بينهم، يفتقر كل منهم لحمايتها ضد جيرانه من أبناء جنسه، فيكون الجميع تحت حمايتها الفعلية لا غنى لهم عنها مطلقًا، حتى إذا آنست منهم ضعف العواطف الوطنية والحمية الملية سلبتهم استقلالهم وجعلتهم ولايات رومانية تابعة إليها رأسًا؛ فلا يقووا إذ ذاك على مقاومتها بالقول أو بالفعل لما يكون نخر عظامهم من سوس التفريق والانحلال.
ولقد أصابت رومة في هذا العمل من وجهتها الأنانية، ولو أنها ألحقت باليونانيين أضرارًا بليغة مادية وأدبية فمنافع قوم مصيبة آخرين، وقانون التزاحم في الحياة النباتية والحيوانية يقضي بافتراس القوي الضعيف بالقوة والسيف أو السياسة والدهاء تبعًا لدرجة المفترس الهمجية أو المدنية.
ولما انتهت الحرب مع فيليب بالكيفية السابقة؛ رجع أغلب الجنود الرومانية وعاد القائد فلامينوس إلى رومة فدخلها في موكب النصر حسب المعتاد لدى القوم، لكن أبقى في بلاد اليونان فرقة رومانية لمراقبة حركات فيليب المقدوني من جهة، وخوفًا من تعدي أنتيوكوس ملك سوريا حدوده واختياره البحر لمحاربة الرومانيين اتباعًا لوساوس أنيبال الذي ما انفك ساعيًا في تأليف المحالفات ضد رومة انتقامًا منها على انتصارها عليه، فهو الذي كان سعى في تحريض فيليب المقدوني على محاربتها.
ولمَّا لم يفلح وثبت للحكومة الرومانية تداخله وتحريضه طلبت من قرطاجة نفيه خارج البلاد خصوصًا وأنها رأت منه اهتمامًا زائدًا في إصلاح داخلية بلاده، وخشيت لو استمر على خطته الإصلاحية من أن تقوى قرطاجة يومًا ما من استرجاع ما فقدته من القوة والشرف في الحرب الأخيرة، فهرب أنيبال خفية وأتى إلى أنطاكية يحرض ملكها على محاربة رومة العدوة اللدودة لبلاده.