الملك نومابونبيليوس
لم يتفق الرومانيون والسابنيون على انتخاب خلف لرومولوس، واستمر هذا الشقاق مدة سنة كان الأمر في خلالها لأعضاء مجلس الأعيان (سناتو) بالتتابع، وأخيرًا اتفقت الأُمَّتَان على أن يكون حق الانتخاب للرومانيين بشرط أن لا ينتخبوا إلا سابينيًّا؛ فانتخب (نومابونبيليوس) وكان رجلًا محبًّا للسلم لم تحصل في أيامه حروب مطلقًا، بل صرف مدة حكمه الذي استمر ثلاثًا وأربعين سنة في تشجيع الزراعة، وتحديد الأطيان حتى لا يتنازع المتجاورون، ومنع تمثيل معبوداتهم بأصنام، وحرَّم قتل ابن آدم قربانًا لهم كما كان جاريًا قبلًا، ورتب الاحتفالات الدينية وعين وظائف الكهنة والمنجمين، وأصلح نظام راهبات (فستا) اللاتي كن ينتخبن من بنات أشرف العائلات لحفظ النار المقدسة، ومداومة إشعالها حتى لا تطفأ أبدًا، والمحافظة على (البلاديوم) الذي أتى به (إينيه) من طروادة.
ولحبه في السلم ومقته للحرب أقام معبدًا (ليانوس) إله السلم تُفتَح أبوابه وقت الحرب وتُقفل وقت السلم، فلم تفتح في أيامه مطلقًا، وكان يعتقد الرومانيون أن له صديقة من الجن تدعى (إيجيري) تساعده بالأفكار الصائبة، وتوحي إليه بالأعمال المفيدة.
وينسب إليه إصلاح السنة الشمسية التي كانت قبله من عشرة شهور فقط، فضبطها وجعلها اثني عشر شهرًا تابعة لدورة الأرض حول الشمس لانتظام مواعيد الزراعة، ولا يعلم من تاريخه غير ذلك وتوفي سنة ٦٧٢ق.م.
وذهب بعض المؤرخين الحديثين — مثل بوفور الفرنساوي ونيبور الألماني — إلى أن هذا الملك لم يوجد إلا في مخيلة مؤرخي الرومان، وأنه لم يحكم رومة ملك بهذا الاسم، بل إن اسمه يمثل فقط دور التشريع والتقنين في أول عصر الرومانيين، واستندوا في قولهم هذا على أن اسم نوما مشتق من الكلمة اليونانية نوموس، ومعناها الشرع أو القانون.
وبعد وفاة نومابومبليوس انتخب الأهالي تلوس هوستليوس ملكًا عليهم، وكان بعكس سلفه محبًّا للحرب وشن الغارة على مجاوريه لسلب الماشية والأمتعة واغتصاب الأراضي، إلا أنه كان ميالًا لمساعدة الفقراء من الأهالي، فكان يقسم عليهم أراضي القبائل التي تدور عليها رحى الحرب، وأخيرًا حصلت بينه وبين سكان ألبه عدة وقائع صغيرة أصلها اختطاف بعض المواشي والتعدي على الحدود أوجبت إشهار الحرب، لكن لمَّا كانت علاقات المودة بين مدينتَي رومة وألبه قديمة جدًّا وكانت مدينة رومة في الأصل مستعمرة لمدينة ألبه — كما سبق — لم يرغب تلوس هوستليوس إيقاد نيران الحرب بين أهالي المدينتين، بل ارتأى أن ينوب عن كل فريق ثلاثة أبطال يتبارزون معًا، ومن يفوز مندوبوها بالفوز والنصر تكون هي الغالبة، فانتخب الرومانيون ثلاثة إخوة من عائلة (هوراس) والألبيون ثلاثة من عائلة (كورياس)، وفي أثناء المبارزة قُتِل اثنان من مندوبي رومة، وبقي الثالث حافظًا لجميع قوته أمام مندوبي ألبه الثلاثة الذين كانوا أُثخِنوا بالجراح، فأخذ مندوب رومة في العدو مظهرًا الفرار أمام أعدائه الثلاثة فتبعوه، ولمَّا تباعدوا عن بعضهم عاد إليهم فقتلهم الثلاثة بالتتابع، وبذلك تم الظفر للرومانيين على الألبيين.
ومما رواه بعض قدماء المؤرخين نقلًا عن السلف أن أخت الهوراس مندوب رومة المسماة (كامليه) كانت مخطوبة لأحد مندوبي ألبه الذين قُتِلوا، فأخذت تبكي وتنتحب على موته فغضب عليها أخوها ووبخها على البكاء وقتلها بيده، ولم تمنعه المحبة الأخوية عن إتيان هذا الأمر العظيم تغاليًا في حب الوطن والدفاع عنه، فحكم عليه بالإعدام على هذه الجريمة، لكن تجمهر الأهالي وطلبوا العفو عنه نظير خدمته لوطنه وأهله وفوزه على أعدائه فعُفِي عنه، ويظهر لي أن هذه الرواية من الأقاصيص الموضوعة إظهارًا لقوة حب الوطن ووجوب تغلبه على ما عداه من الإحساسات الشريفة، وتضحية كل غالٍ ولو كان من أقرب الناس إلى الإنسان في سبيل خدمته الشريفة.
ولقد اتخذ راسين الشاعر الفرنساوي المفلق هذه الحادثة موضوعًا لإحدى رواياته المحزنة تُرجمت إلى جميع اللغات، لكن لا أظن أنها نقلت إلى اللغة العربية للآن.
وبعد ذلك تحالفت مدينتا رومة وألبه بشرط أن تكون السيادة لرومة على الأخرى، لكن لم يستمر هذا التحالف إلا قليلًا؛ إذ كانت ألبه تضمر العداء لرومة وتنتظر الفرصة المناسبة للحصول على الاستقلال التام، وظهر ما تُكنُّه ألبه من العدوان في أثناء محاربة جرت بين الرومانيين وبعض القبائل المجاورة، فلم يساعد أميرها حلفاءه، بل تربص ينتظر نتيجة القتال حتى إن دارت الدائرة على الرومانيين انقضَّ عليهم وساعد أعداءهم، إلا أن فأله لم يصب فانتصر الرومانيون، وانتقم توليوس هوستليوس من أمير ألبه بالقتل نظير تذبذبه وعدم إخلاصه وخرَّب مدينته، فصارت أثرًا بعد عين ونقل سكانها إلى أحد أحياء رومة واستمالهم إليه بأن قَبِلَ أشرافهم في مجلس الشيوخ وأغنياءهم في زمرة الشوالية، وسيأتي شرح امتيازات هذه الفئة في موضعه.
ولم تكن هذه الواقعة آخر محاربات هذا الملك، بل حارب كثيرًا من القبائل، وانتصر عليها نصرًا مبينًا في وقائع متعددة؛ حتى صار لرومة المقام الأسمى بين المدن المجاورة وخشيها القريب والبعيد.
وينسب للملك المذكور عدم الاعتناء بأمور دينه وعدم اتباع أوامره واجتناب نواهيه وإهمال عبادة الأصنام المعتبرة لدى قومه، ولذلك يدعي الرواة أنه استحق غضب معبوداته فأنزلت عليه الصواعق المحرقة أهلكته ودمرت قصره تدميرًا، ولم يوقف لجثته على أثر، وكان اختفاؤه أو موته في سنة٦٤٠ قبل الميلاد.