نظامات الرومانيين الأولى
وحيث وصلنا إلى تأسيس الجمهورية وشرحنا الحوادث التي أدت إلى سقوط الملوكية بالتفصيل مع ذكر خرافات القوم وأوهامهم، رأيت قبل الشروع في بيان تاريخ الجمهورية أن آتي على شرح وجيز لترتيباتهم الداخلية ونظاماتهم العمومية مع ذكر بعض عوائدهم المنزلية والعائلية؛ ليكون القارئ على بينة من جميع أمورهم، وليقف وقوفًا تامًّا على كافة أحوالهم، وإليك — أيها القارئ — بيان ذلك:
إن أول نظام وضعه رومولوس لأهالي رومة هو أن قسمهم ثلاث فرق أو قبائل: الأولى مؤلفة من رفاقه الأصليين الذين ساعدوه على تأسيس المدينة، والثانية من رجال تيتوس ملك السابيين الذي عاهد رومولوس بعد القتال الذي وقع بينهما عقب اختطاف بنات السابيين وسبق ذكره في موضعه، والثالثة قيل إنها مؤلفة من رجال أحد أمراء الأتروسك واسمه (لوكومون) أتى إلى رومة لمساعدة رومولوس على بناء المدينة، لكن عدم تمتع رجال هذا القسم ببعض امتيازات القسمين الأولين، وعدم وجود نواب عنهم في مجلس السناتو الذي سيأتي الكلام عليه؛ حمل بعض المؤرخين على الظن بأنه كان مكوَّنًا من سكان رومة الأصليين الذين أتى رومولوس في أول الأمر وأقام بين ظهرانيهم عنوة، وهذا الرأي هو الأقرب للصواب، وبقي هذا القسم في هذه الدرجة المنحطة إلى عهد تركان فمنحه المساواة مع القسمين الآخرين في جميع الحقوق والواجبات، وكان لكل قسم أو قبيلة رئيس يلقب (تريبون)، وكل قسم ينقسم إلى عشرة أقسام مؤلف كل منها من مائة نفس، ويسمى القسم المائيني ورئيسه يلقب (سانتوريون)؛ أي رئيس المائة، وكل قسم مائيني ينقسم إلى عشرة أقسام مؤلف كل منها من عشرة أنفس ويسمى القسم العشري ويلقب رئيسه (ديكوريون)؛ أي رئيس العشرة.
ومن جهة أخري كان يوجد بكل قسم من الأقسام الثلاثة الأصلية أقسام ثانية تسمى (جنتس)؛ أي عشائر أو أجناس كانت كل واحدة منها مؤلفة من أعضاء العائلة التي تربطهم روابط النسب والمصاهرة وممن ارتبط معها بروابط أخرى اجتماعية مثل رابطة التوارث لو مات رئيس العائلة عن غير وارث ولم يترك وصية، ويمكنَّا أن نسمي أعضاء هذا الفريق الثاني بالأتباع، فأعضاء العائلة المرتبطون معها برابطة النسب كانوا هم المتمتعين بجميع الحقوق المدنية والسياسية، ومنهم تكون طبقة الأشراف أو الأسياد دون أعضاء الفريق الثاني (الأتباع) الذين كانوا يفضلون الالتصاق بإحدى هذه العائلات بالتبعية ليأمنوا شر حوادث الزمان، وليكونوا في راحة بال ورغد من العيش متنازلين عن حقوقهم المدنية في نظير هذه الحماية، فكان السيد أو المتبوع يعطي لكل تابع من أتباعه قطعة من الأرض ليتعيش منها ويساعده فيما يكون له أو عليه من القضايا، وبعبارة وجيزة يعامله كما لو كان ولده، أما التابع فكان يجب عليه أن يتسمَّى باسم العائلة التابع لها ويساعد متبوعه على دفع الفدية لو أخذ أسيرًا في الحرب، وفي دفع ما يحكم به عليه من الغرامات وفي أمهار بناته، وبالاختصار في جميع شؤونه ومصارفه العمومية والخصوصية، ولا يجوز له أن يساعد أو يعاون أحدًا ضد متبوعه السياسي، ولا يجوز للتابع أو المتبوع أن يشهدا ضد بعضهما أمام المحاكم أو يرفعا قضايا على بعضهما إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات المفصلة في كتب القوم وأسفارهم، ولمَّا امتدت فتوحات الرومانيين في عهد الجمهورية كما سيجيء امتد ظل هذه التابعية إلى أمم بأجمعها ومدن بجميع سكانها، وساعدت هذه الطريقة على استعار نيران الحروب الداخلية؛ إذ كان كل سيد يدَّعي الرئاسة لنفسه ويستعين بمتبوعيه الذين لا يجدون مفرًّا من مساعدته.
- أولًا: الملك وهو الرئيس الأعلى، وكان يجمع في شخصه أكبر وظيفة دينية؛ إذ كان يعتبر بمثابة رئيس ديني كإمبراطور الروسيا وملكة الإنكليز الآن، وأكبر وظيفة في الجيش حيث كان قائده العام، وأعلى وظيفة قضائية.
- ثانيًا: السناتو للنظر في الأمور العادية والفصل فيها.
- ثالثًا: الجمعية العمومية المؤلَّفة من جميع الأشراف (كوميسيوم) للنظر في المسائل المهمة التي لها تأثير شديد على نظام الحكومة.
وكان الملك يجلس كل تسعة أيام للحكم فيما يُرفَع إليه من القضايا، لكن لم يكن حكمه نهائيًّا بل كان قابلًا للاستئناف أمام الجمعية العمومية، ولمَّا كانت لا تسمح له أشغاله بنظر القضايا بنفسه كان يعين قاضيين يصدران الأحكام باسمه، وفي حالة الحرب تكون سلطة الملك مطلقة إطلاقًا كليًّا خارج أسوار المدينة فقط، وهو الذي كان يعين أعضاء السناتو ويدعوهم للاجتماع في الأوقات المعينة كما يدعو الجمعية العمومية لعقد اجتماعاتها، وكان له حرس خصوصي مؤلَّف من ثلاثمائة فارس (شواليه) يُنتخَبون من أكثر الأهالي ثروة وأعزهم جاهًا، وكانوا هم القوة الراكبة؛ أي السواري أثناء الحرب، وكان ينتدب في غيابه أحد أعضاء السناتو للقيام بمهام وظيفته، وأخيرًا كانت الأمور المالية وجباية الأموال منوطة بموظفين مخصوصين من اختصاصاتهم الحكم في مسائل التعدي على الأنفس أو الأموال، فيرى القارئ من هذا الترتيب أن هذه الأمة بلغت مع حداثتها شأوًا عظيمًا من حسن الانتظام وتمام الترتيب، وكانت حكومتها جمهورية تقريبًا حيث لم يكن للملك فيها سلطة استبدادية، بل كان الملك كملوك أوروبا المقيدين الآن بنظامات عمومية كملك إيطاليا وملكة الإنكليز وغيرهما، ولولا تجاوز تركان الشامخ حدوده، وعدم احترامه للدستور، ونبذه أرآء السناتو ظهريًّا؛ لما سقطت الحكومة الملكية واستبدلت بالحكومة الجمهورية البحتة.
ثم تأتي طبقة العوام المؤلفة من الأمم التي أخضعها الرومانيون وألزموهم بالإقامة حول المدينة والأخلاط الذين أتوا إليها للاحتماء بها، وهذه الطبقة كانت مجردة من جميع الحقوق المدنية والسياسية؛ كالانتخاب والتبني والوصية بعد الموت وغير ذلك من الحقوق التي كانت مخولة للرومانيين، وكان لا يجوز لهؤلاء العوام الدخول في العائلات الشريفة أو الارتباط معها بالمصاهرة إلا أنهم كانوا من جهة أخرى أحرارًا في تصرفاتهم لا يخضعون لأحكام السناتو أو الجمعية العمومية، بل كانوا تابعين للملك رأسًا وينتخبون قضاة من بينهم للفصل في قضاياهم الخصوصية، وكانت أهم أشغالهم الزراعة والتجارة لعدم اشتغالهم بالأمور السياسية وتفرغهم لأعمالهم الخصوصية، واستمرت هذه الطبقة من الأهالي في هذه الحالة من العزلة والانحطاط السياسي حتى خولت لها جميع الحقوق الرومانية في عهد الملك (سرفيوس)، وصاروا كباقي الرومانيين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
وقد فعل ذلك لما آنس الكراهية والبغضاء من الأشراف، فأراد إضعاف سطوتهم وتقليل نفوذهم، فجمع أهالي هذه الطبقات السفلى النازلة خارج المدينة وأنزلهم على مرتفع (أفانتان) داخل أسوارها ومنحهم الحقوق والامتيازات، ثم أبطل تقسيم الأهالي إلى طبقات تبعًا للحسب والشرف، وقسمهم تقسيمًا جديدًا جعل أساسه الثروة والغنى، وللوصول إلى ذلك أحصى تعداد الأهالي من أشراف وغيرهم وثروة كل فرد منهم بأن يأتي كلٌّ منهم إلى الموظف المنوط بذلك، ويقسم إنه يقول الحق، ثم يملي اسمه واسم عائلته وسنه ومقدار ثروته مع ما تساويه عقاراته، وكان جزاء من يرتكب غشًّا أو تدليسًا حرمانه من حريته أو مصادرته في الأموال أو قتله حسب الأحوال، وقرر عمل مثل هذا الإحصاء كل خمس سنوات.
ولمَّا تم الإحصاء وعلمت درجة كل إنسان من الغنى أو الفقر، قسم الأهالي إلى ست طبقات غير متساوية، وخُصَّت الطبقات العليا منها بأوفر قسم من الضرائب بحيث كانت نسبة الضرائب إلى الثروة تزداد من طبقة إلى أعلى منها (وهذه الطريقة هي التي تسمى الآن في علم الاقتصاد السياسي بالضريبة التدريجية، بمعنى أن من يكون إيراده ألف قرش مثلًا يدفع واحدًا في المائة ومن بلغ إيراده عشرة آلاف قرش يدفع اثنين في المائة وهَلُمَّ جرًّا بكيفية منتظمة)، وبهذا الترتيب الذي يدل على توقد ذهن واضعه اختلط الأشراف الأصليون بمن دخل حديثًا في الجنسية الرومانية، وتفرقت كلمة الأشراف وضعفت شوكتهم خصوصًا وقد حمَّل سرفيوس الطبقات العليا أكثر مصاريف الحروب وخصهم بأخطر مواقع القتال.
ولمَّا كان هذا التقسيم الجديد مبنيًّا على الثروة، وكانت الثروة من طبيعتها قابلة للنمو والاضمحلال تبعًا لاجتهاد وخمول مالكها؛ كان من الممكن لكل إنسان الانتقال من طبقة إلى أرقى بجده واجتهاده كما هو حاصل في هذا العصر ببلاد الإنكليز حيث يُعطَى لقب لورد لكل من امتاز في فن أو علم أو خدم وطنه خدمًا جليلة أو أثرى في التجارة أو غيرها، فتتجدد طبقة الأشراف في إنكلترا بدخول عناصر جديدة فيها تعيد إليها ما تفقده من القوة الحيوية بتلاشي وانحلال بعض العائلات القديمة.
ومما يذكر لهذا الملك العادل من الأعمال التي تخلد له حسن الذكر وطيب الأحدوثة مدى الدهر، أنْ أبطل العادة القديمة التي كانت تجعل المدين المعسر رقيق دائنه حتى يوفيه ما عليه، وجعل حق الدائن على مال المدين ليس إلا كما هو الحال الآن في جميع شرائع الأمم المتمدنة، لكن لسوء حظ الرومانيين أبطل تركان الشامخ هذا القانون وأعاد الطريقة القديمة مع ما فيها من مخالفة العقل والعدل والذوق السليم، ولم يتحصل الرومانيون على إبطالها ثانيًا إلا بعد جهاد ونضال استمر نحو مايتي سنة، وبالاختصار كانت أيامه أيام سعد ورفاهية وعدل وإنصاف بما وضعه من القوانين العادلة وسنَّه من الشرائع التي تشهد له بعلو الإدراك وكرم الأخلاق، ثم لما أتى بعده تركان الشامخ هدم ما أسَّس وأفسد ما أصلح وسلب طبقة العوام جميع ما منحها سرفيوس من الحقوق والمزايا التي جعلتهم كجميع الرومانيين أعضاء جسم واحد لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وأبطل كيفية تقسيم الأهالي إلى طبقات بنسبة ثروتهم، وأعاد النظام القديم القاضي بتقسيمهم إلى أشراف وعوام، فكان كالساعي إلى حتفه بظلفه إذ بغضه العموم وانتهى الأمر بإبطال الحكومة الملوكية وتأسيس الجمهورية، لكن لم يتحصل العوام ثانيًا على جميع ما سُلبوه من الحقوق إلا في عدة من السنين، وبعد حروب داخلية جرت فيها الدماء كالسيول؛ فأخَّر تقدم رومة نحو جيلين بعمله الاستبدادي وإعادة النظامات القديمة مع عدم ملاءمتها للوقت.
أما ديانة الرومانيين فكانت الوثنية يشوبها شيء من الصابئية، ولمَّا كثر اختلاطهم باليونانيين (الإغريق) اقتبسوا كثيرًا من عوائدهم الدينية واتخذوا معبوداتهم آلهة لهم، فأقاموا الهياكل والمعابد للمريخ والمشترى والزهراء وغيرها من النجوم الثوابت والسيَّارة، وكانوا يؤلِّهون القوى الطبيعية كالبحر وأمواجه وجبال النار والهواء، وكذلك العواطف النفسانية كالحكمة والشرف وحب الوطن والحلم والغضب وهلم جرًّا، ويقيمون التماثيل والأنصاب رمزًا لها فيعبدها العوام بصفة آلهة حقيقية والعياذ بالله.
ولم يكن لهم قسوس لإقامة الصلاة وتقديم القرابين لمعبوداتهم، بل كان كل رئيس عائلة يقوم بهذه الوظائف بين أفراد عائلته، وكان رئيس الحكومة هو الكاهن الأكبر، ثم وجدت بعض طوائف دينية خصصت لأعمال معلومة؛ مثل المنجمين وكهنة المعبود المريخ وغيرهم مما لا يسمح لنا حجم الكتاب بتفصيله تفصيلًا كافيًا.
وكان للرومانيين اعتقاد أكيد وتمسك شديد بالطوالع الفلكية والتفاؤل بأقل الأمور والتشاؤم من أصغرها، فكانوا لا يقومون بأي عمل خصوصي أو عمومي إلا بعد أن يستطلعوا اتجاه الريح وطير الطيور وتغريدها، أو حالة ما يقدمونه من القرابين عند ذبحها من سكون أو اضطراب أو بعد موتها من تشنجات وحركات وحالة الأمعاء ولونها ووضعها، وكان الرجل لا يخرج من بيته إذا عثرت قدمه أو صادفه طير عن يساره إلى غير ذلك من الأمور التي تُضحك الصبيان، ولا تزال مع ذلك متأصلة في نفوس جميع الشعوب حتى التي انتشر التعليم بين أفرادها، ولن تزال كذلك لميل النفس لتصديقها وانتقال الاعتقاد فيها بالوراثة حتى تتلاشى شيئًا فشيئًا بتعميم التعليم، وزوال آثارها المنطبعة في المخيلة تدريجًا.
وأما عوائدهم المنزلية فكان أساسها التقشف وعدم الترف والبذخ وترك الكماليات والاكتفاء بالحاجيات الضرورية، وكانت معاملة رب المنزل لخادميه كمعاملته لأولاده إذ كان يساعدهم في جميع الأعمال، فكان يحرث بيده مهما كانت ثروته العقارية، وكانت ربة البيت تصرف وقتها في تدبير شؤون منزلها ومساعدة جواريها على القيام بكافة ما يستلزمه، وتصرف أوقات الفراغ معهن في الغزل والحياكة، لكن كانت حالة المرأة في أيامهم أحط بكثير من حالتها الآن في جميع الجهات، فكان لا يجوز لها التصرف في أملاكها مطلقًا ولو بلغت من العمر عتيًّا، بل كانت طول حياتها في حالة الحجر تحت وصاية أبيها ثم زوجها ثم أكبر أبنائها فأخيها فابن أخيها … إلخ على حسب ترتيب معلوم، وكان لرب العائلة الحق المطلق في مجازاة أولاده وامرأته بجميع العقوبات البدنية حتى القتل بدون أن يُسأل عن سببه؛ إذ كان الكل لديه كالأنعام أو أقل قدرًا، ولا يصير الولد حرًّا مهما بلغ من العمر أو ترقَّى في مناصب الحكومة ما دام والده موجودًا، فكان للوالد أن يقتل ولده ولو كان عضوًا في مجلس الشيوخ أو قائدًا عامًّا للجيوش كما حصل في فتنة (كتلينا) حيث قتل والد ابنه وكان عضوًا في المجلس المذكور بدون محاكمة، بل بمجرد ما له عليه من الحقوق، ومن غريب عوائدهم أن المدين المعسر يكون رقيقًا لدائنه كما ذكرنا، ولو كان الدائنون عديدين جاز لهم بيعه واقتسام ثمنه أو قتله وتقسيم جثته.
ثم تركت هذه العوائد البربرية شيئًا فشيئًا، وارتقت الأخلاق العمومية تبعًا لارتقاء التمدن والعمارية مما هو مسطور ومذكور في المطولات خصوصًا في كتب القانون الروماني، فليرجع إليها من يريد التوسع في هذا الموضوع.