سر الدكتور «سامح»!
عندما هبط المساء على مدينة «برلين» وحسب المواعيد المتفق عليها خرج «أحمد» من الفندق وقد حمل مجموعة من الأسلحة الصغيرة، وحمل جهازًا صغيرًا للإرسال والاستقبال … كانت «ريما» و«خالد» كلٌّ منهما يحمل جهازًا مماثلًا يُخفيه بمهارة في كعب الحذاء على شكل حدوة معدنية مدهونة ولا يمكن كشفها.
سار «أحمد» وهو يضع يديه في جيوبه كأيِّ شابٍّ خرج للنزهة ثم الذهاب للسينما، وبعد أن قطع مسافة طويلة مشيًا … انحرف إلى محل تأجير السيارات، وقد قرر أن يغيِّر خطته، وبدلًا من استعمال إحدى السيارتين اللتين استأجروهما … فربما تكون العصابة قد عرفتهما، وقرر أن يستأجر سيارة أخرى … واختار سيارة «مرسيدس» سبور سوداء، وانطلق بها دائرًا في الميدان، ثم اختفى خلف إحدى سيارات النقل التي كانت تُفرغ شُحنتَها من الصناديق …
لم تمضِ سوى أربع دقائق، وشاهد «أحمد» سيارة الإسعاف المزورة تمرق … ثم تتجه إلى شارع «لندنبورج» فأدار محرك السيارة وانتظر لحظات وهو يسمع صوت السيارة وهو يدوي … في الشارع … ثم انطلق خلفها … وعند منتصف الشارع شاهد جمعًا من الناس، واتجهت سيارة الإسعاف إلى التجمع الواقف … وبقيَ «أحمد» في سيارته؛ فقد كان يعرف مقدَّمًا أن أحد الشياطين وقع مغشيًّا عليه، وأن رجال الإسعاف المزيفين يقومون بنقله إلى السيارة.
تم كلُّ شيء بسرعة … وانطلقت سيارة الإسعاف، وانطلق «أحمد» خلفها وشاهد بطرف عينَيه «خالد» وهو يقف على الرصيف، فأسرع إليه بالسيارة، ودقَّ الكلاكس مرة واحدة طويلة، فأسرع «خالد» يقفز بجواره، وانطلقت السيارة المرسيدس مسرعة، ولحقت بسيارة الإسعاف التي كانت تمشي بسرعة غير عادية مطلقة صفارتها العالية، والمارة والسيارات يوسِّعون لها الطريق.
غادرت السيارة شارع «لندنبورج» و«أحمد» يتبعها من بعيد، ثم انطلقت في طريق رئيسي واسع … و«أحمد» خلفها، وقد ساعده الضباب الكثيف على المطاردة المأمونة … فقد كانت سيارة الإسعاف البيضاء الكبيرة واضحة … بينما سيارته السوداء الصغيرة نسبيًّا لا تكاد تُرى …
ظلت المطاردة مستمرة أكثر من نصف ساعة … ثم غادرت سيارة الإسعاف المدينة، وبدأت تسير بسرعة معتدلة في الريف الألماني الجميل … وبعد ربع ساعة أخرى أشرفت على غابة من شجر الحور، ودخلت طريقًا واسعًا يشقُّ الغابة … وبعد مسيرة دقائق انحرفَت يسارًا، واختفَت بين الأشجار العالية.
وصلت المرسيدس السوداء إلى الطريق الجانبي … ووجد «أحمد» لافتةً مكتوبًا عليها «مستشفى باراديس» للأمراض العصبية … طريق خاص.
ركن «أحمد» السيارة بين الأشجار، ونزل هو و«خالد» يسيران بحذر في الطريق … الذي أغشاه الضباب … وبعد مسيرة دقائق، وصلَا إلى نهاية الطريق. كانت هناك ساحة واسعة توقَّفت فيها سيارة الإسعاف … وفي نهاية الساحة مبنًى ضخمٌ أصفر اللون يحيط به سورٌ من الحديد المرتفع، وقد أُضيئت أنوار ضئيلة تُبدي ملامح المبنى.
وقف «أحمد» و«خالد» يتأملان المبنى لحظات … وقال «أحمد» هامسًا: مستشفى للأمراض العصبية … إنه أفضل مكان يمكن أن يختفيَ فيه الإنسان فمن الممكن إخفاءُ أيِّ شخص في مستشفى للأمراض العصبية!
خالد: تعني أن الشياطين الثلاثة هنا!
أحمد: طبعًا … وهم في الأغلب يتعرضون لاستجواب عنيف تحت تأثير الحقن المخدرة، وغسيل المخ!
خالد: ماذا ترى؟
أحمد: إنهم لن يقتلوهم … ومن الأفضل مؤقتًا تَرْكهم حتى لا ينقلوهم مكانًا آخر أو يضطروا إلى قتلهم!
خالد: وخطتنا القادمة؟
أحمد: الدكتور «سامح»!
خالد: معك حق … إنه السر الكائن خلف كل هذه الأحداث!
أحمد: سنعود إلى الفندق … ستسأل أنت عليه … وسأرقب أنا الطريق … لا بد أن أكشف سرَّه الليلة مهما حدث … إنني أريد أن أعرف هل هو حقًّا الدكتور «سامح» … وهل هناك عصابة تستغله للإيقاع بنا؟! أم أنه ليس الدكتور «سامح» ولكن شخصًا يُشبهه استُخدم لحَبْك هذه المؤامرة! … ثم كيف يدخل الفندق أمامنا، ولا أجده في غرفته؟!
وعادَا إلى السيارة، وانطلقَا عائدَين مسرعَين إلى الفندق وجلسَا في غرفة «أحمد» يتحدثان حديثًا يدل على أنهما حائران، ولا يعرفان ماذا يفعلان …
وقد اتفق «أحمد» مع «خالد» على تفاصيل الحديث في أثناء الطريق، وشرح له قصة الذبابة الإلكترونية التي تقوم بإرسال حديثهما إلى العصابة.
نزل «خالد» إلى الشارع، ووقف «أحمد» يرقبه من خلف الستائر حتى دخل الفندق، وغاب لحظات … ثم عاد يعبر الشارع، ويدخل الفندق الذي ينزلون به، وقال ﻟ «أحمد»: إن الدكتور «سامح» لم يَعُد بعدُ.
تناولَا الساندويتشات … وتبادلَا المراقبة خلف الستائر حتى أشرفت الساعة على الواحدة بعد منتصف الليل، وتكاثف الضباب أكثر فأكثر. وتوقفت سيارة أمام فندق «كورونا». ونزل منها الدكتور «سامح» يحمل حقيبة ضخمة، واختفى مسرعًا داخل الفندق.
لم ينتظر «أحمد» إلا دقائق قليلة واتفق مع «خالد» أن يأتيَ معه لإشغال موظف الاستقبال حتى يتمكن «أحمد» من الدخول خلسة.
نفَّذَا الخطة ببراعة … ودخل «خالد» مرة أخرى إلى الفندق، وأخذ يتحدث مع موظف الاستقبال طالبًا غرفةً لقضاء الليل بها، ولكن الموظف اعتذر، وانهمكَا في الحديث وانتهز «أحمد» الفرصة ودخل متسلِّلًا، واجتاز السلم مسرعًا.
صعد إلى غرفة «سامح» رقم «٤٤»، واستمع قليلًا على الباب وأحس بأن الرجل يقترب منه، فأسرع يبتعد ويختفي خلف أحد الأعمدة.
فتح الرجل الباب بحذر شديد … وكم كانت دهشة «أحمد» عندما شاهده … لم يكن فيه من الدكتور «سامح» إلا قوامه … أما وجهه فقد أخفَته النظارة الطبية، واللحية. ولكن حركاته وطريقة سيره كانت هي نفس طريقة وأسلوب الدكتور «سامح» … وأدرك «أحمد» كلَّ شيء!
فهذا الرجل ليس الدكتور «سامح»، ولكنه شخص آخر يُشبهه وقد أضاف إلى هذا الشبه تنكُّرًا متقنًا جعله أشبه ما يكون بالرجل الذي مات، ومن المؤكد أنه ينزل في الفندق باسم الدكتور «سامح»، وباسم آخر … فهو ينزل في غرفتين، ويغير الغرفة حسب الظروف.
سار الرجل بسرعة في الاتجاه الذي يقف فيه «أحمد» وحبس «أحمد» أنفاسه … هل يراه الرجل، وهل يعرفه؟
ولكن «أحمد» تنفس الصعداء؛ فقد كان الآخر مشغولًا بنفسه وأسرع إلى الغرفة المجاورة لغرفته، فتح بابَها ودخل مسرعًا.
انتظر لحظات ثم انطلق إلى حيث دخل الرجل، دقَّ الباب بهدوء وانتظر وسمع خلف الباب مَن يقول: مَن هناك؟
رد «أحمد» بصوت مختلف: بوليس!
ساد الصمت لحظات، ثم عاد «أحمد» للدق، ولكن الرجل لم يفتح الباب فأخرج «أحمد» أدواته الرفيعة، وسرعان ما فتح الباب ودخل، وكم كانت دهشته … لم يكن الرجل في الغرفة، وأسرع «أحمد» إلى الشرفة … كانت مفتوحة فدخل، واكتشف على الفور أنها شرفة مشتركة للغرفتين لا يفصلهما إلا سياج صغير.
قفز «أحمد» السياج … ثم اقتحم الغرفة رقم «٤٤»، وتلقَّاه الرجل بلكمة قوية، استطاع «أحمد» أن يتفاداها فتصيبه في كتفه، وانقض «أحمد» عليه كالصاعقة، وأمسك بذراعه، وأداره دورة كاملة فقد فيها الرجلُ توازنَه ثم ألقاه على مقعد وقال له: دكتور «سامح»!
كان الرجل متسارع الأنفاس، يبدو عليه الفزع الشديد، لكن نظرة الفزع أخذَت تتبدَّد عندما أدرك أن الشاب الذي أمامه ليس من رجال البوليس.
قال «أحمد»: دكتور «سامح» … هل تعرفني؟
قال الرجل: ماذا تريد مني؟
أحمد: بل إنني أسألك … ماذا تريد أنت منا؟
الرجل: إنني لا أعرفكم!
أحمد: بل إنك تعرفنا جيدًا … ومن الأفضل لك أن تقول لي ما هي حكايتك؟! … فهناك ثلاثة زملاء لي معرضون للموت ولن يقف شيء في طريق إنقاذهم!
الرجل: إنني لا أعرف عن أي شيء تتحدث!
أحمد: لعله مما ينعش ذاكرتك أن أستدعي رجال البوليس؛ فقد كانوا يسألون عنك أمس!
ومد «أحمد» يده إلى جهاز التليفون، وبدا الذعر على وجه الرجل الذي قال: صدقني أيها الشاب إنني لا أعرفك، ولا أعرف عن أي شيء تتحدث!
أحمد: إذن فأنت لست الدكتور «سامح»؟!
تردد الرجل لحظات ثم قال: نعم … لست الدكتور «سامح»!
أحمد: من أنت إذن؟
الرجل: إنني رجل بسيط طُلب مني أن أقوم بدور الدكتور «سامح» … مقابل مبلغ من المال!
أحمد: ولكنك لست الدكتور «سامح» فقط … إنك الدكتور «سامح» + شخص آخر!
الرجل: الشخص الآخر هو أنا الحقيقي … الرجل الذي تراه أمامك!
سأله «أحمد» فجأة، باللغة العربية: إذن أين الدكتور «سامح»؟
ورد الرجل بالعربية أيضًا: لا أعرف!
ساد الصمت لحظات ثم قال «أحمد»: إنك تتحدث بالعربية!
الرجل: نعم … لقد كنت مجندًا في الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، وأثناء معارك الصحراء وهزيمة القائد الألماني «رومل» وجدتُ نفسي وحيدًا فأسرعت بالفرار ولجأت إلى بعض أعراب الصحراء وعشتُ بينهم سنوات طويلة وتعلمت منهم العربية … ثم عدت إلى بلادي منذ سنوات قليلة، ولم أجد عملًا بعد أن اكتهلت … وذات يوم جاءني شخص وطلب مني أن أقوم بدور دكتور اسمه «سامح سليم» مقابل عشرة آلاف مارك … ولم يكن في إمكاني أن أرفض.