مقدِّمة
هذا الكتاب تنمية لأفكار في طبيعة النظرية المنطقية، قدمتها لأول مرة
منذ أربعين عامًا أو نحوها في كتاب «دراسات في النظرية المنطقية»
Studies in Logical Theory وهي أفكار
تناولتها بشيء من التوسيع في كتاب «مقالات في منطق التجارب»
Essays in Experimental Logic، ثم لخصتها
في إيجاز — مع اهتمام خاص بموضوع التربية — في كتاب «كيف نفكر»
How We Think. وإنه على الرغم من أن
الأفكار الأساسية ظلت بغير تغيير، فقد طرأ عليها بطبيعة الحال تعديل ملحوظ
خلال الأعوام التي انقضت منذ أول عرضها إلى اليوم؛ فلئن كان موقفي إزاء
المسائل المختلف عليها لم يتغير، إلا أن ما قد رأيته من توحيد بين الفكر
النظري من جهة والبحث الموضوعي من جهة أخرى ربما يعرض الأمر — فيما أظن —
على نحو يجعله أقل تعرضًا لسوء الفهم مما كانت عليه أفكاري في صورتها
الأولى؛ فهذا الكتاب إنما يتميز بصفة خاصة بتطبيقه لأفكاري السابقة
تطبيقًا يفسر صور التفكير والعلاقات الصورية التي هي قوام مادة المنطق كما
نألفها في صورتها التقليدية؛ وإنه لتفسير يتضمن في الوقت نفسه تنمية مفصلة
— فيها نقد وفيها بناء — لوجهة النظر العامة وما تنطوي عليه من
أفكار.
وأرى أن أنبه — في هذا الصدد — تنبيهًا خاصًّا إلى مبدأ الاتصال بين
أطراف البحث، وهو مبدأ لم يَلحظ خطره من قبل — فيما أعلم — إلا بيرس
Peirce وتطبيق هذا المبدأ يهيِّئ وسيلة
لعرض الصور المنطقية عرضًا تجريبيًّا، وهي ضرورة أغفلتها أو أنكرتها
المدرسة التجريبية التقليدية، مع أنها في الوقت نفسه تُبرهن على أن تفسير
تلك الصور المنطقية تفسيرًا قبليًّا أمر لا تدعو إليه ضرورة، وأحسب أنني
قد وفيت الحديث عن العلاقة بين هذا المبدأ وبين التعميم بصورتيه — وهما
الصورتان اللتان لم أفتأ أميز بينهما خلال هذا الكتاب — كما وفيت الحديث
عن العلاقة بينه وبين معامل الاحتمال في شتى التعميمات التي تُشير إلى
الموجودات الفعلية. أقول إني وفيت الحديث في هذا وفي ذلك في الفصول التي
خصصتها لهذه الموضوعات؛ وإن فكرتنا الرئيسية التي ننظر بها إلى البحث على
أنه تحديد لموقف ينقصه التحديد، لَتُمكِّننا من أمرين: فهي تمكننا أولًا
من إيجاد حل موضوعي للمسألة الشائكة التي تبحث في العلاقة بين الحكم
والقضايا، كما تمكننا ثانيًا من تناول موضوع شديد الصلة بموضوع الحكم
والقضايا، وأعني به العلاقة بين إدراكاتنا في مجال المشاهدة من ناحية وفي
مجال التصور العقلي من ناحية أخرى؛ إذ تمكننا من عرض صور القضايا عرضًا
متسق الأجزاء.
إن كلمة «البراجماتية» لم تَرد فيما أظن في هذا الكتاب؛ إذ ربما تكون
هذه الكلمة مدارًا لسوء الفهم؛ فأقل ما يُقال هو أنه قد تَجمَّع حول هذه
الكلمة من سوء الفهم ومن المجالات العقيمة نسبيًّا ما جعلني أُوثر أن
أجتنب استعمالها؛ غير أن هذا الكتاب براجماتي من أوله إلى آخره إذا نظرنا
إلى «البراجماتية» نظرة تؤوِّلها تأويلًا سليمًا، وأعني به أن تُستخدم
النتائج على أنها اختبارات لا بد منها للدلالة على صدق القضايا، على شرط
أن نتناول هذه النتائج من حيث هي عمليات يمكن إجراؤها، ومن حيث هي وسائل
تؤدي إلى حل المشكلة الخاصة التي قد استدعت تلك الإجراءات.
أما والمنطق على ما هو عليه اليوم فلست أشك في أن خلوَّ هذا الكتاب من
أي محاولة نحو الصياغة الرمزية سيثير في عقول قرَّاء كثيرين اعتراضًا
خطيرًا؛ غير أن خلوَّه من هذه الصياغة الرمزية لم يَصدر عن كراهية مني
لمثل هذه الصياغة؛ بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ إنني على اعتقاد بأن قبول
المبادئ العامة التي بسطتها سيمكن من قيام بناء رمزي له من الكمال، وفيه
من الاتساق ما ليس يتوافر في البناءات الرمزية القائمة بيننا اليوم. إن
إغفالي للرمز مرجعه أولًا إلى نقطة ذكرتها في موضع ما من الكتاب وهي
الحاجة إلى تهذيب نظرية عامة في اللغة لا تفصل بين الصورة والمادة؛
وثانيًا إلى أن قيام مجموعة وافية من الرموز يتوقف على ما يسبق ذلك من
إقامة أفكار سليمة عن المدرَكات العقلية والعلاقات التي نرمز إليها بتلك
الرموز؛ فبغير تحقيق هذا الشرط لن تؤدي عملية الرمز الصورية إلا إلى
الاستمرار في الأخطاء القائمة (كما يحدث الآن غالبًا)، بل إنها لَتؤدي إلى
تقوية تلك الأخطاء لما نخلعه عليها مما قد يُكسبها في الظاهر صورة العلم
الصحيح.
وقد يجد القراء — الذين هم ليسوا على علم خاصٍّ بالبحوث المنطقية
المعاصرة — بعض أجزاء هذا الكتاب أمعن في الاصطلاح العلمي مما يحتملونه،
وبخاصة في الجزء الثالث. ونصيحتي لهؤلاء القراء هي أن يفسروا ما يقرءُونه
بأن يعيدوا إلى أذهانهم ما يعملونه هم أنفسهم والطريقة التي يصطنعونها في
أداء ما يعملونه إذا ما واجهتهم مشكلة أو صعوبة يحاولون تذليلها على نحو
عقلي؛ فلو اتبعوا هذا المنهج فأظن أن المبادئ العامة ستصبح عندئذٍ قريبة
إلى أذهانهم قربًا يُزيل إشكالهم إزاء التفصيلات الاصطلاحية بزوال ما
يسوغه؛ وربما أفادت هذه النصيحة بعينها أولئك الذين أَلِفوا الكتابات
المنطقية الجارية إلفًا يَحول بينهم وبين فهمهم لموقف جديد يختلف في مواضع
كثيرة مع معظم الآراء السائدة.
أما عن المؤلفات المنطقية ومؤلفيها، فأملي أن يدل كتابي هذا بنفسه
دلالة كافية على الاتجاهات الرئيسية التي أنا مدين بها لها ولهم؛ ومع ذلك
فلا بد لي أن أقرر صراحة أنني — إذا استثنيت بيرس، وهو استثناء لا يُخطئه
النظر — قد تعلمت أكثر ما تعلمت من أولئك الكتاب الذين اضطررت آخر الأمر
أن أختلف وإياهم في وجهة النظر؛ ولما كانت المصادفة قد شاءت ألا يَرِد
خلال كتابي هذا ذكر لمؤلفات أ. ف. برادلي A. F.
Bradley فأود ها هنا أن أسجل كم أنا مدين له: وكذلك لجورج
ﻫ. ميد George H. Mead من الفضل، ما هو
أعظم بكثير مما يدل عليه سياق الكتاب.
وعلى الرغم من أنني مثل آخر من أمثلة الجحود المعهود في المؤلفين عندما
يذكرون أسماء من هم مدينون لهم — وإن مثلي في ذلك لصارخ — لكن يسرني أن
أذكر بعض هذه الأسماء: فلطلابي الذين تتابعوا مدى فترة من الزمن نيفت على
جيل كنت خلاله أُحاضر في موضوعات هذا الكتاب، أقول إن لطلابي هؤلاء من
الفضل عليَّ ما لست أستطيع ذكره إلا على هذا النحو المجمل. ولقد طالع
الدكتور سدني هوك Sidney Hook مختلف الصور
التي صُغت فيها كل فصول هذا الكتاب، فأفادتني مقترحاته ونقده لما قد ورد
في هذه الفصول فائدة جُلَّى؛ وكذلك طالع دكتور جوزف راتنر
Joseph Ratner فصولًا كثيرة، فأنا مدين له
أيضًا بمقترحاته وتصحيحاته؛ وأما في طائفة من الفصول التي تتسم أكثر من
سواها بالاصطلاح الفني، فقد ألقيت بزمامي إلقاءً تامًّا للدكتور إرنست
نيجل Ernest Nagel بما له من دراية وكفاية
تفوقان درايتي وكفايتي؛ فإذا بقيت أخطاء في الفصول المذكورة كان يمكن
اجتنابها، فالخطأ خطئي أنا ولا ذنب له فيه.
وختامًا أود أن أقرر بأن هذه الرسالة الآتية إن هي إلا تمهيد، فهي عرض
لوجهة من النظر ولمنهج في تناول المشكلات. وعلى الرغم من أن عرضي لهما قد
لبث يزداد نضجًا مدى فترة تزيد على أربعين عامًا، غير أنني على وعيٍ تام
بأن عرضي هذا لا يتسم — ولم يكن في الإمكان أن يتسم — بالصقل وإحكام
التمام اللذَيْن هما في مقدور الإنسان من الوجهة النظرية؛ ولكني كذلك
مقتنع بأن وجهة النظر المعروضة قد بلغت من السداد الكامل حدًّا يُمَكِّن
أولئك الذين يرحبون باعتناقها من تهذيب نظرية في المنطق — في الأعوام
التالية — تجيء على أتم اتفاق مع أكثر المناهج المؤدية إلى المعرفة
تأييدًا من رجال البحث. وإني لأقدم أطيب الأماني والآمال لأولئك الذين قد
شغلوا أنفسهم بالعمل البالغ الخطر، وأعني به التوفيق بين النظرية المنطقية
من جهة والعمل العلمي من جهة أخرى، مهما يكن هنالك من بُعد الشُّقة في
الأمور التفصيلية بين نتائجهم والنتائج التي أعرضها في هذا الكتاب.
ج. د
هبردز.
نوفاسكوشيا
٢٤ من أغسطس سنة ١٩٣٨م