موضوع المنطق ومشكلته
تتسم النظرية المنطقية المعاصرة بمفارقة ظاهرة، فلئن كان ثمة اتفاق إجماعي على الموضوع المباشر الذي يتناوله المنطق بالبحث، بحيث لم يُصب فيه أي عهد مضى ما قد أصابه هذا العهد من تقدم ثابت الخطى، إلا أن الأصول العميقة التي يرتد إليها هذا الموضوع يثور حولها من الجدل ما لا يبشر بالوصول إلى اتفاق إلا بمقدار ضئيل؛ وأما الموضوع المباشر فمجاله العلاقات الكائنة بين القضايا؛ كعلاقتَي الإثبات والنفي، والتداخل والتخارج، والجزئي والكلي … إلخ، فليس عند أحد الباحثين من شك في أن العلاقة الوجودية (التي ندل بها على أن الشيء الفلاني «هو» كذا وكيت) وأن نفي هذه العلاقة الوجودية (حين نقول عن شيء معين إنه ليس كذا وكيت)، وأن علاقة «إذا – إذن» وعلاقة «فقط» (أي «لا أحد سوى كذا») وعلاقة «و» وعلاقة «أو» وعلاقة «بعض – كل» كلها تنتمي إلى مادة المنطق على نحو يميز تلك المادة تمييزًا يجعل منها مجالًا مستقلًّا للبحث.
هذه أسئلة مما أسميته الأصول العميقة التي يرتد إليها موضوع البحث في المنطق، وعلى هذا الموضوع يثور الجدل، لكن عدم اليقين حول هذا الأمر لا يمنع المشتغلين في المجال المباشر للبحث المنطقي من القيام بعمل له قيمته، غير أن المضي في هذا المجال المباشر كلما أمعن في التقدم، ازدادت المشكلة الأولى إلحاحًا علينا، وهي: فيمَ هذا البحث من أساسه؟ أضِف إلى ذلك أننا لا نكون على حق إذا زعمنا أنه حتى في مجال البحث المحدود هناك اتفاق «تام»، بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ يقوم الخلاف حول بعض المسائل الهامة حتى في هذا المجال، ويُحتمل أن يكون عدم اليقين واختلاف الرأي في نطاق المجال المحدود انعكاسًا لاضطراب الرأي فيما يختص بالأصول العميقة لمادة البحث (وسيظهر فيما يلي من هذا الكتاب أن هذا الاحتمال هو الصواب).
- (١)
فوجهة النظر تقول إنها تكون عالمًا قوامه الإمكانات الخالصة، ومعنى «الخالصة» هنا أن تلك الإمكانات لا تعتمد في وجودها على الوجود بالفعل.
- (٢)
وأخرى تقول إنها الثوابت الأولية التي تُقيم «نظام» الطبيعة.
- (٣) وثالثة تقول إنها قوام البناء العقلي للكون؛ فإذا أخذنا المنطق بهذا المعنى الثاني الذي يجعله دراسة العلاقات مستقلة عن الفكر، فإنها رغم استقلالها هذا عن الفكر الإنساني، تجسد البناء العقلي للكون، كما يزعمون، وهو بناء تتمثل صورته إلى حد محدود في عقل الإنسان؛ وهنالك أيضًا وجهة النظر القائلة بأن المنطق مختص بعمليات الاستدلال التي هي وسيلتنا إلى بلوغ المعرفة، والمعرفة العلمية على وجه الخصوص.٢
وأخيرًا ظهر على المسرح رأي آخر في موضوع دراسة المنطق، وهو رأي يذهب إلى أن المنطق معنيٌّ بالبناء الصوري للغة باعتبارها نسقًا من رموز؛ وحتى ها هنا تجد في الرأي انقسامًا: فشعبة تقول إن المنطق هو نظرية تحويل العبارات اللغوية، وعندئذٍ يكون أساس التحويل هو التطابق الذاتي بين صور البناء اللفظي (بحيث يمكن لبناءين مختلفين أن يكونا ذوَي دلالة واحدة)، وشعبة أخرى تقول إن النسق الرمزي الذي هو موضوع دراسة المنطق هو بمثابة جبر كوني للوجود الفعلي.
على أن قائمة الاتجاهات المختلفة التي أسلفنا ذكرها، إنما سقناها على سبيل التوضيح، لا على سبيل الحصر، وهي كافية لتسويغ القيام بمحاولة واحدة أخرى نتناول بها المجال المباشر في دراسة المنطق تناولًا ينطوي على نظرية معينة خاصة بالأصول الأولية التي يرتد إليها المنطق؛ وإنه لمن الحمق أن يقول قائل — وموقف الأمور كما هو عليه الآن — إن المنطق «لا بد» له أن يختص بهذا الأمر أو ذاك؛ لأن أمثال هذه التوكيدات إن هي إلا التزامات بالواقع اللفظي، تفترض أن الكلمة من الكلمات لها من القوة السحرية ما يمكنها من تمييز واختيار موضوعها الذي يكون مجال انطباقها، أضف إلى ذلك قول القائل بأن المنطق «هو» في واقع الأمر كذا وكيت، لا يمكن قبوله — والنظرية المنطقية على ما هي عليه اليوم — إلا على أنه مجرد افتراض وإشارة إلى وجهة نظر معينة تُعرض لتهذيبها.
ليست مهمة هذا الفصل أن يحاول تبرير هذا الفرض، ولا أن يبين أنه فرض يحقق الشروط الثلاثة التي اشترطناها، لأن هذه هي مهمة الكتاب بأسره؛ لكني أريد أن أُبرز نقطتين على سبيل التمهيد لشرح «معنى» الفكرة التي أعرضها (لا تبريرها). وهذا الشرح هو المهمة الرئيسية لهذا الفصل؛ أما إحدى هاتين النقطتين فهي أنه مما يَحد من نفور النافر من وجهة النظر التي ذكرتها لتوي، أن يضع ذلك النافر في اعتباره هذه الحقيقة، وهي: أن جميع الأفكار عن طبيعة موضوع البحث المنطقي مما نراه اليوم سائدًا، وهي كفكرتي مجرد فروض؛ فإذا لم تَبدُ عليها هذه الصفة الافتراضية، فذلك لإلفنا إياها؛ ولو اجتنبنا التعصب لآراء بعينها، لوجب علينا أن نُفسح المجال لأي فرض مهما يكن غير مألوف لنا، لنحكم عليه بعدئذٍ بنتائجه؛ وأما النقطة الثانية فهي أن هنالك بحوثًا — متعددة في تنوعها شاملة في مداها — قائمة بيننا بالفعل ولكل من شاء أن يضعها موضع الفحص؛ فالبحث في علم من العلوم هو منه بمثابة دم الحياة، وما ينفك كل فن وكل صناعة وكل مهنة يخضع لما يقتضيه البحث، واختصارًا فإن الفرض الذي أتقدم به إنما يمثل ما هو قائم بالفعل (في شتى العلوم)، فلا عبرة بعد ذلك للريبة التي قد يُحاط بها عند تطبيقه على مجال المنطق.
وفي سبيل توضيح معنى وجهة النظر التي أصطنعها، سأمضي قدمًا، معتمدًا هذه المرة إلى حد كبير على الاعتراضات التي يُرجَّح أن يُثيرها المعترضون؛ وأعمق هذه الاعتراضات من حيث الأساس، هو أن المجال الذي أشرت إليه ليكون هو مجال البحث في المنطق — وأعني به مجال البحوث — قد استنفد بالفعل؛ إذ هنالك علم آخر منظم يتناوله بالدراسة، وهو علم مناهج البحث، وكلنا يعرف كيف يميز بين علم مناهج البحث من جهة والمنطق من جهة أخرى، فالأول هو تطبيق للثاني.
ولا شك أنني لا أستطيع أن أُبين أن هذا الاعتراض غير قائم على أساس صحيح قبل أن أفرغ فراغًا تامًّا من بيان وجهة نظري بيانًا مفصلًا لكنني أُلاحظ هنا أن القول «مقدمًا» بأن هنالك فاصلًا حادًّا بين المنطق من جهة وعلم المناهج في البحث العلمي والعملي من جهة أخرى، هو مصادرة على المشكلة الأساسية التي نطرحها على بساط النظر؛ فكون الكثرة الغالبة من المؤلفات القائمة عن علم المناهج قد كتبها أصحابها على زعم منهم بوجود فرق محدد بين المجالين، لا يقوم برهانًا على أن ذلك الفرق موجود فعلًا؛ أضف إلى ذلك أن الإخفاق النسبي الذي مُنِيَت به المؤلفات عن المنطق، التي وَحَّدت بين المنطق وعلم المناهج (ولي أن أذكر على سبيل المثال منطق مل) لا يُبرهن على أن التوحيد بينهما مقضيٌّ عليه بالإخفاق المحتوم؛ لأن ذلك الإخفاق «قد» لا يكون نابتًا من طبيعة الموضوع ذاتها؛ وعلى كل حال، فالزعم ابتداءً بثنائية تفصل ما بين المنطق وعلم المناهج لا بد أن يكون — عند النظر المنزه عن الهوى — مؤديًا إلى تأثير مغرض في طرائق البحث من جهة، وفي مادة المنطق من جهة أخرى.
إن وجاهة الرأي الذي يقيم التفرقة بين المنطق وعلم مناهج البحث — أي بين المنطق والمنهج العلمي — مرجعها حقيقة غير منكورة، فلكي ينتهي البحث إلى نتائج سليمة لا بد له من مسايرة ما يقتضيه المنطق؛ ومن هذه الحقيقة يَسهل استدلال الفكرة القائلة بأن مقتضيات المنطق مفروضة على مناهج البحث من خارج؛ ولما كانت البحوث والمناهج تتفاوت جودة ورداءة، كان المنطق هو معيار نقدها وتقويمها؛ وهنا يسأل السائل: كيف يمكن للبحث الذي يُراد تقويمه «تقديره» على أساس معيار ما، أن يكون هو نفسه مصدر ذلك المعيار؟ كيف يمكن للبحث أن يخلق الصور المنطقية (كما سبق لنا أن قررنا) ومع ذلك يكون خاضعًا لما تقتضيه تلك الصور؟ هذا سؤال لا محيص لنا عن إجابته، ولن تكون هذه الإجابة وافية إلا بكل ما يحتويه هذا الكتاب من دراسة، بيد أنه في مستطاعنا أن نوضح معنى وجهة النظر التي اصطنعناها، ببيان الاتجاه الذي سنتجه إليه في بحثنا عن الجواب.
والمشكلة في أبسط صورها هي: هل يمكن للبحث — خلال قيامه بما يتطلبه من إجراء — أن يُخرج المعايير والصور المنطقية التي تعود بدورها فتستلزم من خطوات البحث التالية أن تخضع لها؟ وهنا قد يُجيب مجيب بقوله إن ذلك «ممكن» لأن ذلك هو نفسه ما قد حدث؛ بل قد نتحدى المعترض مطالبين إياه أن يبين لنا مثلًا واحدًا من أمثلة ما قد طرأ على المناهج العلمية من إصلاح، دون أن يكون هذا الإصلاح المعين قد نتج خلال عملية البحث نفسها التي ما تنفك تصلح نفسها بنفسها أثناء سيرها، نعم نتحداه أن يبين لنا مثلًا واحدًا لإصلاح جاء إلى المنهج نتيجة لتطبيق معايير دخلت عليه من خارجه؛ لكن مثل هذا التحدي يتطلب سندًا يسوغه فربما يكون البحث قد بدأ على نحو ما منذ ظهر على وجه الأرض إنسان؛ وإن يكن علمنا بمناهج البحث فيما قبل التاريخ غامضًا ومعتمدًا على التخمين؛ ولكننا نعلم الشيء الكثير من مختلف المناهج التي استخدمها الباحثون خلال العصور التاريخية؛ فنعلم أن المناهج التي تضبط العلم في عصرنا، قد نشأت في زمن حديث نسبيًّا، سواء في ذلك مناهج العلم الطبيعي والعلم الرياضي.
هذا إلى أن الباحثين لم يقفوا بتلك المناهج المختلفة عند مجرد محاولة تطبيقها، بل قد دفعوا هذه المحاولة إلى ختامها، وأعني بذلك أنهم قد خبروا نجاحها؛ وعلى ذلك فقد هيَّأ لنا العلم في سيره المطرد وسائل نقد المناهج التي تناولتها المحاولة فيما مضى، وهو نقد نبع من طبيعة المناهج نفسها؛ فهذه مناهج قد بدأ الإنسان بتجربتها فأخفقت في ناحية هامة من نواحيها، فكان لا بد له — نتيجة هذا الإخفاق — أن يعمد إلى تعديلها بحيث تؤدي به إلى نتائج يمكن الركون إليها أكثر مما أمكن الركون إلى سابقتها؛ وهذه مناهج بدأ بها الإنسان فأنتجت له نتائج لم تستطع فيما بعد أن تقاوم ما قد جاء به البحث التالي مما يتعارض وإياها؛ فليس الأمر هنا مقصورًا على أن «نتائج» معينة قد وُجدت غير وافية أو باطلة، بل إنها قد وُجدت على نقصها هذا أو ذلك بسبب المناهج التي استُخدمت في إنتاجها، فكان لا بد لمناهج أخرى للبحث أن تنشأ بحيث يكون لها من صلابة الكيان ما يمكنها من إنتاج نتائج تواجه ما قد يجيء به كل بحث جديد، بل يمكنها كذلك من أن تصحح أخطاءها بنفسها؛ فهي إذن مناهج تزداد صلاحية خلال استخدامها وبفعل ذلك الاستخدام نفسه.
ولربما تُفيدنا مقارنة نُجريها بين ما قد أصابته المناهج العلمية من تحسين خلال إجراءات البحث، والتحسين الذي قد طرأ على فنون الصناعة خلال تقدمها؛ فهل هنالك قط ما يسوغ لنا أن نفترض بأن التقدم في فن التعدين قد جاء نتيجة لتطبيق معيار خارجي (لا يمت إلى طبيعة ذات الفن نفسه)؟ إن ما يتخذونه اليوم من «معايير» في فن التعدين قد تفرعت عن العمليات التي كانت تؤدي فيما مضى لاستخراج المعادن من مناجمها؛ كانت هنالك حاجات لا بد من سدها، ونتائج لا بد من بلوغها، فلما أن تحققت تلك النتائج، انفسحت أمام النظر حاجات جديدة وإمكانات جديدة، فكان لا بد لعمليات البحث القديمة أن يُعاد تشكيلها لتقابل هذه الحاجات والإمكانات. واختصارًا فقد أثبتت التجربة نجاح طائفة من مسالك البحث؛ إذ نجحت في بلوغ الغاية المنشودة، كما أخفقت أخرى، فأُهملت الوسائل المخفقة، واحتُفظ بالناجحة ثم زِيد من آفاقها؛ نعم إنه حق لا شبهة فيه أن التحسينات الحديثة في الوسائل الفنية قد نتجت من تقدم الرياضة والعلم الطبيعي؛ لكن هذا التقدم نفسه في المعرفة العلمية ليس كالنواميس التي تُفرَض من الخارج، وما على الفنون الصناعية إلا أن تَخضع لها خضوعًا لا محيص لها عنه؛ بل إن التقدم العلمي قد أمد الباحثين بوسائل جديدة لم تكن لتستخدم نفسها بنفسها، بل كانت وسائل ليستخدمها سواها، فنتج عن استخدامها ذاك. خيبتها أو نجاحها في تحقيق الغايات واستحداث النتائج، فأصبحت تلك الخيبة نفسها وذلك النجاح نفسه معيارًا أخيرًا تُقاس به قيمة المبادئ العلمية في المضيِّ في اتخاذ إجراءات فنية بعينها؛ ولسنا نقول ما نقوله هنا بغية أن يكون «برهانًا» على أن المبادئ المنطقية المتضمنة في المنهج العلمي قد نشأت إبَّان سير البحث في تقدمه، بل نقول ما نقوله لنبين به أن افتراضنا بأن تلك المبادئ المنطقية قد نشأت على هذا النحو، له أحقية واضحة في أن نضعه موضع النظر، دون أن نقضي في الأمر برأي حاسم.
وأعود الآن إلى وجهة نظري فأُبيِّنُ معناها؛ فأحسب أن لا مناص من التسليم بأن البحث والشك موصول أحدهما بالآخر، ويقتضينا هذا التسليم قبول نتيجة خاصة بالغاية من البحث: وأعني «الغاية» بمعنييها، بالمعنى الذي يجعلها غاية ما يمتد إليه نظر الباحث، والغاية باعتبارها حد النهاية أو الختام؛ وتلك النتيجة التي لا بد من قبولها هي أنه إذا كان البحث يبدأ بالشك، فهو ينتهي بإقامة الظروف التي من شأنها أن تُزيل ما يستدعي ذلك الشك؛ وهذه الحالة الأخيرة يمكن تسميتها بكلمتَيْ «الاعتقاد» و«المعرفة»، غير أني — لأسباب سأُبديها فيما بعد — أفضل تسميتها ﺑ «جواز التقرير المقبول».
فقد يُظَن أن لفظ «الاعتقاد» مناسب للدلالة على ما يتمخض عنه البحث من نتائج؛ فبينما الشك حالة قلقة، أي حالة من التوتر تلتمس لها مخرجًا ومتنفسًا في عمليات البحث، ترى البحث ينتهي ببلوغه حالة مستقرة على رأي، وهذه الحالة المستقرة إن هي إلا علامة مميزة للاعتقاد بمعناه الصحيح؛ وبهذا يكون لفظ الاعتقاد لفظًا مناسبًا لتسمية النهاية التي ينتهي إليها البحث. غير أن لفظ الاعتقاد لفظ ذو معنيين؛ فهو من الناحية الموضوعية يُستعمل ليُشير إلى «الشيء» الذي هو موضوع الاعتقاد، وبهذا المعنى تكون النهاية التي ينتهي إليها البحث حالة خارجية موضوعية مستقرة؛ يبلغ بها الاستقرار حدًّا يجعلنا على استعداد للتصرف بمقتضاها، سواء كان ذلك التصرف سلوكًا ظاهرًا أم في دنيا الخيال؛ فكلمة «الاعتقاد» هنا تُسمَّى ظروفًا مستتبة لمادة بحث موضوعية، مضافًا إليها استعداد الإنسان للعمل على نحو معين إذا ما وجد تلك المادة ماثلة أمامه، ثم هو يشكل عمله ذاك ليتناسب مع ما هو ماثل أمامه، أما في الاستعمال الشائع، فكلمة «الاعتقاد» تعني كذلك أمرًا ذاتيًّا، أمرًا يعتنقه ويؤمن به واحد من بني الإنسان، ومثل هذا الموقف هو الذي يتحول بتأثير علم النفس فيصبح الاعتقاد عندئذٍ مجرد حالة عقلية أو نفسية. ولا يَبعد أن تتسلل بعض الأفكار المترابطة مع هذا المعنى الثاني للكلمة، إلى معناها حين نقول إن خاتمة البحث اعتقاد مستقر؛ وعندئذٍ ترى المعنى الموضوعي لقولنا إن مادة موضوع البحث هي تلك التي يؤدي البحث بها إلى حالة مستقرة، أقول إن هذا المعنى عندئذٍ يكتنفه غموض بل يضيع ضياعًا تامًّا؛ ومِن ثَم كان ازدواج المعنى في هذه الكلمة (كلمة «اعتقاد») مما يجعل استخدامها — للغرض الذي نحن الآن بصدده — غير مرغوب فيه.
وكذلك كلمة «المعرفة» صالحة للإشارة إلى هدف البحث ونهايته، ولكنها هي الأخرى تعاني من غموض المعنى؛ فإذا ما قيل إن بلوغ المعرفة، أو بلوغ الحقيقة، هو نهاية البحث، كان القول — بناءً على وجهة النظر التي نصطنعها في هذا الكتاب — قولًا ينطوي على بديهية أولية؛ فالخطوة التي تختم البحث ختامًا مُرضيًا هي — بحكم التعريف — ما نُطلق عليه اسم المعرفة، وهي معرفة لأنها بالفعل هي النهاية التي ينتهي بها البحث على صورة ملائمة؛ لكن يجوز أن يُفهم هذا القول نفسه — كما قد فُهم فعلًا — على أن يتضمن معنى جديدًا، وليس هو بالقول الذي يُحصِّل حاصلًا وكفى؛ فإذا عددناه تحصيل حاصل، كان تعريف المعرفة — بناءً عليه — هو أنها الناتج الذي يتمخض عنه البحث حين يتصف بالكفاية والإحكام. لكن إذا فُسِّر القول على أنه متضمِّن لشيء ذي معنًى جديد فعندئذٍ ينعكس الوضع، فيُظن أن للمعرفة معنًى خاصًّا بها غير ارتباطها بالبحث وإشارتها إليه، وعندئذٍ كذلك تصبح نظرية البحث خاضعة بالضرورة لهذا المعنى، باعتبارها خاصة بغاية خارجية محددة؛ والتعارض بين هاتين الوجهتين من النظر هو اختلاف في الأساس؛ فالفكرة القائلة بأن أية معرفة جزئية معينة يمكن إقامتها بغض النظر عن كونها نهاية ما ينتهي إليه البحث، وبأن المعرفة بصفة عامة يمكن تعريفها بغض النظر عن هذه الصلة (التي تصلها بالبحث وما ينتهي إليه) هي فكرة — بالإضافة إلى ما قلناه عنها — قد صدر عنها خلط في النظرية المنطقية؛ ذلك لأن المدارس المختلفة من الواقعية، ومن المثالية ومن الثنائية، قد اختلف بعضها عن بعض في تصوره لماذا عسى المعرفة «في حقيقتها» أن تكون؛ ومِن ثَم كانت النظرية المنطقية فرعًا تابعًا لما قد سبق تصوره من مذاهب الميتافيزيقا ومذاهب المعرفة، حتى لقد أصبح تفسير الصور المنطقية يختلف باختلاف الفروض الميتافيزيقية التي تنطوي عليها تلك الصور.
ووجهة نظرنا في هذا الكتاب تذهب إلى أنه ما دامت كل حالة خاصة من حالات المعرفة قوامها النتيجة التي أنتجها بحث معين، إذن فلن يكون تصورنا للمعرفة بصفة عامة إلا تعميمًا للخصائص التي وُجد أنها تصف النتائج التي نتجت عن عمليات البحث المختلفة؛ أي إن المعرفة باعتبارها كلمة مجردة، إن هي إلا اسم يُطلَق على عمليات البحث الفردية حين تتصف كلها بالكفاية. ولو أننا غضضنا النظر عن هذه الصلة — بين المعرفة وعمليات البحث التي أنتجتها — أصبح معنى الكلمة فارغًا بحيث يستطيع من شاء أن يملأه بما شاء من مضمون أو فحوى يصبه فيه جزافًا؛ أما إذا حددنا المعنى العام للمعرفة على أساس الناتج الذي يتمخض عنه البحث (في شتى ميادينه) كان لهذا المعنى العام في هذه الحالة أثر هام بالنسبة إلى معنى البحث نفسه؛ لأنه يدلنا على أن البحث عملية «متصلة» مهما يكن نوع المجال الذي يدور فيه؛ إذ إن وصولنا إلى «قرار» بالنسبة إلى موقف جزئي معين عن طريق بحث جزئي معين، ليس ضمانًا في ذاته، على أن تلك النتيجة المستقرة ستظل دائمًا على قرارها، فبلوغ الإنسان اعتقادات مستقرة هو أمر مطرد السير، وليس هنالك اعتقاد واحد قد بلغ من استقراره حدًّا ينجيه من التعرض لبحث جديد؛ وهذه الأبحاث المتصلة — إذا ما تجمعت نتائجها وتراكمت — هي التي تحدد المعرفة بمعناها العام، وفي البحث العلمي يكون المعيار فيما نَعُده مستقرًّا — أي فيما نَعُده معرفة — هو أن يكون معنى ذلك الاستقرار استعداده لأن يكون مصدرًا لخطورة جديدة في البحث، لا أن يكون معناه أنه قد استقر بحيث لا يتعرض للمراجعة في بحث جديد.
إلى هنا وقد يبدو كما لو كانت المعايير التي تنبثق من عمليات البحث المتصل تقتصر على الجانب الوصفي، وأنها بهذا المعنى معتمدة على التجربة؛ ولسنا نُنكر أنها تجريبية بمعنى واحد من معاني هذه الكلمة المتعددة المعاني؛ لأن تلك المعايير قد نشأت من خبرات الإنسان التي لقيها أثناء البحث الفعلي، لكنها ليست تجريبية بالمعنى الذي تكون به كلمة «تجريبي» دالة على امتناع الأساس العقلي؛ لأننا أثناء فحصنا ﻟ «العلاقات» القائمة بين الوسائل (أي المناهج) المستخدمة والنتائج التي ننتهي إليها عن طريق تلك الوسائل، سنكشف عن العلل التي تفسر لنا لماذا ينجح بعض تلك المناهج ويُخفق بعضها الآخر؛ وإن ما قد أسلفنا ذكره ليتضمن (على أنه نتيجة تَلزم عن النظرية العامة) أن المعقولية أمر مرهون بالعلاقة بين «الوسائل وغاياتها» وليست هي أمرًا يتصل بمبادئ أولى محددة باعتبار تلك المبادئ مقدمات أولية، أو باعتبارها مضامين لما يسميه المدرسيون المحدثون «مبحث الإسناد».
المعقولية أو الخاصة العقلية — بناءً على وجهة النظر التي اتخذتها في هذا الكتاب، وبناءً كذلك على الاستعمال الدارج المألوف — هي أمر يتصل بالعلاقة بين الوسائل والنتائج المترتبة عليها؛ فإذا ما رسمت لنفسك غايات قريبة كان من غير المعقول أن ترسم من الغايات ما ليس يرتبط فقط بالوسائل الممكنة، وبغض النظر عن العقبات التي تعترض طريق بلوغها؛ والمعقول هو أن تبحث عن، وأن تختار الوسائل التي من شأنها — على أكثر ترجيح ممكن — أن تُنتج النتائج المراد بلوغها؛ وإنك لَتَبلغ من اللامعقولية حدًّا بعيدًا إذا ما استخدمت في وسائلك مواد وعمليات يتبين — لو اختبرتها — أنها تُنتج نتائج مختلفة عن الغاية المرجوَّة، وأن يكون اختلافها ذاك من شأنه أن يجب بلوغك تلك الغاية؛ فالخاصة العقلية — باعتبارها تصورًا مجردًا — هي على وجه الدقة تلك الفكرة العامة التي نستخلصها من علاقة الوسائل بنتائجها استخلاصًا يجردها (عن المواقف الفردية الجزئية)؛ ومِن ثَم كانت عبارتنا التي نصف بها المناهج التي تنتهي بنا إلى اعتقادات ثابتة ثبوتًا يَطَّرد مع اطِّراد البحث، أي تنتهي بنا إلى تقريرات يجوز قبولها، هي أيضًا — من وجهة نظرنا هذه — عبارة تُساير «أحكام العقل» إذا كانت العلاقة بينها باعتبارها وسائل، وبين جواز تقريرها باعتباره نتيجة، قد ثبت قيامها.
فلسنا — إذن — نُنكر المبادئ المنطقية الأولى لا وجودًا ولا ضرورة؛ إنما السؤال هو: كيف نشأت وعلى أي نحو نستخدمها؛ وإني لأقتفي — فيما أقوله عن هذا الموضوع — من حيث الأساس رأي «بيرس» في المبادئ «الهادية» أو «الآخذة بالزمام»؛ وهو رأي يرى أن كل نتيجة نستدلها من مقدماتها إنما تنطوي على عادة (إما في حالة التعبير عنها أو في حالة استحداثها)، ونعني بالعادة هنا معناها «العضوي»؛ إذ الحياة مستحيلة بغير طرائق من السلوك تبلغ من التعميم حدًّا يكفي لتسويغ تسميتها بكلمة «عادات»؛ والعادة التي نجري في استدلالاتنا على مقتضاها — بادئ ذي بدء — هي عادة بيولوجية خالصة، فهي التي تُمسك بزمامنا عندئذٍ دون أن نكون على وعي بها، فأقصى ما نكون على وعي به (في تلك المرحلة) هو أفعالنا في موقف بعينه، والنتائج المعينة التي حققناها في ذلك الموقف؛ ثم لا نقتصر بعدئذٍ على مجرد وعينا بالذي قد فعلناه آنًا بعد آن، بل نُضيف إليه وعيًا ﺑ «الكيفية» التي فعلناه بها؛ وهذه اليقظة منا لطريقة أدائنا لأفعالنا سرعان ما تصبح شرطًا لازمًا لسيطرتنا على ما نحن بصدد فعله؛ فالصانع — مثلًا — يعلم أنه لو عمل ﺑ «طريقة» معينة، نتجت عن عمله ذاك نتيجته من تلقاء نفسها، ما دامت قد توافرت له العناصر المطلوبة لأداء عمله؛ وهكذا نعلم أننا إذا ما أجرينا استدلالاتنا على نحو معين فسننتهي — ما دامت كل الظروف المحيطة قائمة على صورة معلومة — إلى نتائج يمكن الركون إلى صوابها؛ وما «فكرتنا» عن منهج للبحث إلا تعبير نُفصح به عن العادة التي رأيناها داخلة في طائفة من العمليات الاستدلالية.
فسلامة المبادئ مدارها اتساق النتائج المتولدة عن العادات التي ما جاءت تلك المبادئ إلا لتُفصح عنها؛ فإذا كانت العادة الموضوعة تحت البحث من شأنها أن تؤدي — عادة — إلى نتائج ما تنفك قائمة، تتناولها البحوث المقبلة فتنميها، كانت بالتالي عادة سليمة حتى إذا حدث لها آنًا بعد آن أن أنتجت نتيجة تبين بطلانها؛ ففي أمثال هذه الحالات يكون النقص — على الأرجح — في المادة التي نتناولها لا في العادة والمبدأ العام. وواضح أن هذه التفرقة مقابلة للتفرقة المألوفة التي نُقيمها بين الصورة والمادة، لكننا لا نريد بها فصلًا تامًّا بين الجانبين على نحو ما تفعل غالبًا نظريات المنطق.
إنني فيما أسلفت من عرض، قد سُقت عبارات لن يتبين مداها كاملًا إلا بعد أن أتناول موضوعات المنطق في الفصول التالية تناولًا أكثر تفصيلًا؛ فلم أقصد بهذا العرض — كما ذكرت في مستهل هذا الفصل — إلى تسويغ وجهة نظري، بل قصدت إلى توضيح معناها بصفة عامة؛ وسأذكر فيما بقي من صفحات هذه المقدمة نتائج معينة بالنسبة إلى نظرية المنطق، تستتبعها وجهة نظري.
(١) المنطق علم دائم التقدم
(٢) الإجراء العملي هو الذي يحدد موضوع دراسة المنطق١٦
وليست هذه الدعوى سوى ما قد أسلفناه بعد صياغته في عبارة جديدة؛ فمناهج البحث هي إجراءات تُؤدَّى أو تنتظر الأداء، والصور المنطقية هي الشروط التي لا بد للبحث — من حيث هو بحث — أن يَستوفيها. وهذه الإجراءات تنقسم قسمين عامَّيْن كما سيأتي ذكره فيما بعد؛ فهنالك الإجراءات التي تُجرَى على مادة ذات وجود فعلي وتُجرَى بوساطتها في آنٍ واحد، كما هي الحال في الملاحظة التجريبية؛ وهنالك إجراءات تُجرَى على رموز وبوساطة تلك الرموز نفسها؛ ولكن حتى في هذه الحالة الثانية، ينبغي أن نفهم «الإجراء» بمعناه الحرفي ما وسعنا ذلك؛ فمن أمثلة النوع الأول أن تبحث عن قطعة نقد مفقودة أو أن تقيس رقعة من الأرض؛ ومن أمثلة النوع الثاني أن تُعِدَّ قائمة حساب مصرفي؛ فالنوع الأول يُؤدَّى على حالات من الوجود الفعلي، على حين يُؤدَّى النوع الثاني على رموز؛ غير أن الرموز في هذه الحالة الثانية تمثل ظروفًا «يمكن» أن تنتهي آخر الأمر إلى وجود فعلي، حتى إذا ما بلغنا النتيجة ووضعناهما في رموز، كانت بمثابة تهيئة لأداة تُؤدَّى بها إجراءات أخرى على الموجودات الفعلية ذاتها؛ أضف إلى ذلك أن الإجراءات التي تدخل في إعداد قائمة حساب لمصرف أو غيره من الأعمال تتضمن ضروبًا من النشاط الجثماني؛ وعلى ذلك فما يسمونه بالجانب «العقلي» في إجراءات هذين النوعين كليهما، لا بد من تعريفه بلغة ما هو قائم في الوجود الفعلي من حالات ونتائج، والعكس غير صحيح.
وتشتمل الإجراءات على جانبين: مادة تتناولها، وأدوات تتوسل بها في ذلك التناول، ويدخل في هذه الأخيرة العُدَد وطرائق العمل الفنية؛ وكلما ازداد الإنسان قدرة على إعداد مادته وأدواته الوسلية مقدمًا، بحيث يضع في اعتباره كيفية اشتراكهما معًا في الإجراء الفعلي على نحو يمكنهما من أن يكونا وسائل مؤدية إلى النتائج، ازداد سيطرةً على أداء ما هو بصدد إجرائه؛ فالصلب النقي الذي نتخذ منه مادة إجراءاتنا التي نصوغ بها زنبرك الساعة، كان هو نفسه نتيجة سلسلة من إجراءات تمهيدية أُجريت بغية أن تنتهي بالمادة إلى الحالة التي تَصلح معها أن تكون مادة لإجرائنا الأخير؛ وإذن فالمادة نفسها — من وجهة نظر الإجراء — هي وسيلة بين سائر الوسائل، شأنها في ذلك شأن العُدَد وطرائق الصناعة الفنية التي استُخدمت في تحويل تلك المادة إلى الحالة التي أردناها لها؛ ومن جهة أخرى، ترانا نعدل من عُدَدِنا العتيقة وطرائقنا القديمة في الصناعة، بحيث تصبح أكثر صلاحية لتناول المواد الجديدة؛ فظهور معادن أخف — مثلًا — قد اقتضى طرائق في الصناعة مختلفة عن الطرائق التي كانت تُتبع في تناول المعادن الأثقل أيام استعمالها فيما مضى؛ أو إن شئت أن تعبر عن هذه الحقيقة نفسها من الناحية الأخرى، فقل إن إجراءات التحليل بالكهرباء حين هُذِّبَت مَكنت من استخدام مواد جديدة في أن تكون وسائل لغايات جديدة.
(٣) الصور المنطقية شروط افتراضية بطبيعتها
إنه لكي يكون البحث بحثًا بالمعنى الكامل، لا بد له أن يحقق شروطًا معينة يمكن صياغتها في عبارة صورية؛ وإن وجهة النظر التي تفرق تفرقة أساسية بين المنطق من جهة ومناهج البحث من جهة أخرى، لتجعل تلك الشروط المذكورة ذات وجود عقلي سابق على البحث ومستقل عنه؛ وهي في الوقت نفسه تعدها حقائق أولية قائمة بذاتها، وليست هي في جوهرها بالمصادرات التي يصدر بها البحث على سبيل الفروض؛ ومثل هذا التصور لها هو الأساس العميق للفكرة القائلة بأن تلك الشروط الأولية «قبلية» بحكم طبيعتها نفسها، وبأنه ليس فيها أي أثر لخبرة مكتسبة، وأنها تكشف عن نفسها لملكة عند الإنسان يسمونها ﺑ «العقل الخالص»؛ أما من وجهة النظر التي يأخذ بها هذا الكتاب، فهي عبارة عن مصادرات (أي فروض يتقدم بها البحث) بحكم طبيعتها، وهي إذا كانت تصدر البحث فما ذلك إلا لصالح السير في البحث نفسه، لأنها ما هي إلا صياغات نعبر بها عن الشروط التي كشفنا عن قيامها أثناء عملية البحث ذاتها، شروط يتحتم على البحوث المقبلة أن تُسايرها إذا أُريدَ لها أن تُنتِج نتائج مما يمكن اعتباره تقريرات جائزًا قبولها.
ولو وصفناها بلغة دالة على علاقة الوسيلة بغايتها، قلنا إنها تعميم للصفة التي لا بد أن تتحقق في الوسيلة التي لا مناص من استخدامها إذا أردنا أن نبلغ بها قرارًا يجوز لنا قبوله؛ وإنك لترى في الفنون الصناعية نفسها أنها بما يدخل فيها من إجراءات لا بد أن تستوفي شروطًا معينة؛ فقد نقصد إلى إقامة جسر ليصل ضفتي نهر في ظروف معينة، بحيث يجيء ذلك الجسر — باعتباره النتيجة التي تنتمي إليها إجراءات صنعه — وفي قدرته أن يحمل ثقلًا معينًا؛ فها هنا تجد حالة الضفتين وما إليها تقتضي شروطًا معينة في هذه الحالة المعينة؛ لكن إلى جانب هذه الظروف المحلية هنالك ظروف عامة من حيث المسافة والأثقال وضواغط الاستعمال وتغيرات درجة الحرارة … إلخ؛ فعندئذٍ تكون هذه كلها بمثابة الظروف الصورية، وهي بصفتها هذه تكون هي الشروط وهي المقتضيات، وهي المصادرات المفروضة التي ينبغي مراعاتها.
إن المصادرة هي أيضًا اشتراط؛ فدخولك في بحث شبيه بدخولك في تعاقد؛ لأن البحث يقتضي القائم به مراعاة شروط معينة، وكذلك الاشتراط هو عبارة تنص على شروط متفق عليها في القيام بأمر من الأمور، وهذه الاشتراطات التي ينطوي عليها القيام ببحث ما، تكون في بداية الأمر متضمنة في التصدي للبحث، أما إذا أُعلنت صراحة (أي صِيغت في عبارات دالة عليها) فعندئذٍ تصبح صورًا منطقية متفاوتة في درجة التعميم؛ فكأنما هي تضع في صورة محددة ما كان كامنًا في الشروط المفروضة. ولئن كان كل شرط مفروض ضربًا من الرجاء، فما كل رجاء يكون شرطًا مفروضًا (أي مصادرة)؛ إذ المصادرة تتضمن التصدي لحمل التبعات، أعني التبعات التي وردت في نصوص الشروط؛ وبعبارة أخرى فالمصادرات في البحث هي بمثابة قبول الباحث أن يعمل بطريقة معينة؛ وعلى هذا الاعتبار، لا يكون اختيار المصادرات أمرًا جزافًا، لأنها تُطالب بمطالب يُراد استيفاؤها، بالمعنى الذي يجعل المطالبة قائمة على أساس مشروع، أي يجعلها ذات إلزام للباحث بوضعها موضع الاعتبار.
إن أفراد الناس إذ يشغلون أنفسهم بأوجه النشاط الاجتماعي، لا يكونون بادئ ذي بدء على وعي بالتبعات التي يتضمنها ذلك النشاط؛ ومِن ثَم جاءت القوانين — بالمعنى القضائي للكلمة — لتضع في نصوص صريحة ما قد كان قبل ذلك مندسًا في ثنايا العادات: وأعني به الواجبات والحقوق، التي كانت «من الناحية العملية» متضمنة في قبول الناس لعاداتهم الاجتماعية، ومهمة القوانين إبرازها في صورة نظرية. وشيء كهذا يُقال في شرط هو من أوسع الشروط تعميمًا، وهو شرط لا مناصَ للبحث من استيفائه، وفيما يلي صورته: «إذا اتصف شيء ما بخاصة معينة، وإذا كان كل شيء يتصف بتلك الخاصة من شأنه كذلك أن يتصف بخاصة أخرى معينة، كان ذلك الشيء المذكور متصفًا بهذه الخاصة الأخرى»؛ هذا «قانون» منطقي، وما هو إلا اشتراط؛ فإذا أردت القيام ببحث على نحو يستوفي ما يقتضيه البحث، كان لزامًا عليك أن تسير في طريق تراعي فيها هذه القاعدة، شأنك في ذلك شأن من يعتقد تعاقدًا في دنيا العمل، عليه أن يلتزم الوفاء بشروط معينة.
وعلى ذلك فالمصادرة (أي الفرض الذي يصدر به البحث) لا هي أمر جزاف، ولا هي حقيقة «قبلية» نشأت خارج نطاق البحث؛ فهي ليست جزافًا لأنها تنبثق من علاقة الوسيلة بغايتها المنشودة؛ وهي ليست قبلية نشأت خارج نطاق البحث لأنها لا تُفرض على البحث من خارجه فرضًا، بل هي مجرد اعتراف صريح بما نحن ملزَمون به ما دمنا قد تصدَّينا للبحث؛ فهي إن كانت «قبلية» فقبليتها تلك خاضعة لمحاولات التجارب ومرهونة بالظروف المؤقتة؛ وهو نفس المعنى الذي يكون به قانون التعاقد قاعدة تنظم مقدمًا قيام ضروب معينة من صلات الناس في دنيا الأعمال؛ فبينا هي مستخلَصة مما هو متضمَّن في البحوث التي تبين نجاحها فيما مضى، تراها تفرض شرطًا لا بد من استيفائه في البحوث المقبلة، إلى أن نتبين من نتائج تلك البحوث ما يُسوِّغ لنا أن نقوم بتعديلها.
فإذا كنا نُطلق على الصور المنطقية اسم مصادرات، فما ذلك — من الجانب السلبي — إلا تنبيه للأذهان إلى حقيقة هي أن تلك الصور المنطقية لم تُعَيَّن لنا، كلا ولا فُرضت علينا من خارج؛ تمامًا كما هي الحال في مصادرات الهندسة — مثلًا — من حيث إنها ليست حقائق أولية واضحة بذاتها فُرضت من الخارج فرضًا لتكون هي المقدمات، بل هي صياغات للشروط التي لا مندوحة من استيفائها أثناء الإجراءات التي نتناول بها موضوع بحث معين؛ فهكذا قل في الصور المنطقية التي تصدق على «كل» بحث؛ فإذا كان الاتفاق المتضمن في التعاقد قائمًا بين مجموعتين من النتائج التي تترتب على مناشط طرفين أو أكثر بالنسبة إلى أمر معلوم، فكذلك الأمر في البحث، يكون الاتفاق قائمًا بين مجموعات النتائج التي تترتب على حلقات من البحث متتابعات؛ غير أن البحث — من حيث هو بحث مجرد — لا يتعين أن يقوم به شخص معين دون سواه؛ فإذا ما أقبل شخص معين على بحث، فقد التزم — ما دام بحثه جادًّا وليس هو بخدعة تصدر منه عن غير إخلاص — أن يُساند النتائج التي أدت إليها البحوث الشبيهة ببحثه، مهما يكن الأشخاص الذين قاموا بها؛ ونعني بكلمة «شبيهة» في هذا السياق تلك البحوث التي تخضع لنفس الشروط والمصادرات.
وهكذا يتفق قولنا عن النظرية المنطقية إنها بطبيعتها شروط افتراضية، مع ما قد أسلفناه من أن المنطق يتقدم مع الزمن وأنه إجرائي؛ فالمصادرات تتغير كلما ازدادت مناهج البحث إرهافًا، والصور المنطقية التي نعبر بها عن البحث العلمي الحديث مختلفة من وجوه كثيرة عن الصور المنطقية التي صِيغت على نحو يتمشى مع إجراءات العلم اليوناني؛ فترى القائم بالتجارب العلمية في معمله حين ينشر نتائج تجاربه، يبين المواد التي استخدمها، والأجهزة والإجراءات التي استعملها؛ وليست هذه البيانات الوصفية إلا مصادرات وشروطًا وتوصيات في حدود مرسومة لأي باحث يريد أن يختبر صدق النتيجة التي انتهى إليها صاحب تلك التجارب؛ فعمم هذا البيان بحيث يشمل إجراءات البحث كائنًا ما كان ذلك البحث، أي عممه بحيث ترسم الصورة التي يجري عليها كل بحث، تكن لك الصور المنطقية بالمعنى الذي يجعلها اشتراطات مفروضة.
(٤) المنطق نظرية طبيعية
لكلمة «طبيعي» معانٍ عدة؛ ولقد استخدمناها في هذا السياق لتعني — من جهة — أنه لا ثغرة هناك تفصم الاتصال الكائن بين إجراءات البحث والإجراءات البيولوجية والفيزيائية؛ و«الاتصال» — من جهة أخرى — معناه أن الإجراءات القائمة على أساس من العقل إنما «تنبثق» من أوجه النشاط العضوي، دون أن تكون هي نفسها المصدر الذي انبثقت منه؛ ففي مناشط الكائنات الحية مواءمة بين الوسائل والغايات، حتى وإن لم تكن تلك المناشط موجهة نحو غاياتها توجيهًا مقصودًا؛ أما بنو الإنسان في عملياتهم المعاشية المألوفة أو «الطبيعية» فيجعلون تلك المواءمة قصدًا مدبرًا، ويكون هذا القصد بادئ الأمر مقصورًا على المواقف المحلية الطارئة كلما طرأت، ثم يعمم مضمون تلك المواءمات على مر الزمن (ونحن هنا نُعيد مبدأ أسلفنا ذكره) تعميمًا يتجرد من قيود الظروف الخاصة (التي أحاطت بحالات المواءمة الجزئية)؛ مثل هذا المنطق نصفه بأنه طبيعي بمعنى أنه معروض للمشاهدة لمن يريد أن يشاهد أوجه النشاط التي منها يتألف البحث — فكلمة المشاهدة هنا مستعملة بمعناها المألوف — مُبعِدين من حسابنا كل فكرة مستمَدَّة من تلك الملكة الملغزة التي يسمونها «حدسًا» أو غير ذلك مما يتسم بالخفاء اتسامًا لا يعرضه في العلن لكل من أراد من الناس أن يفحص أو يحقق (كما هي الحال — مثلًا — فيما هو نفساني صِرف).
(٥) المنطق علم اجتماعي
(٦) المنطق كيان مستقل بذاته
إن النظرة التي أنظر بها إلى الموضوع في كتابي هذا، لَتتضمن أن ليس وراء البحث نفسه من عامل آخر، في تحديده للشروط الصورية التي يلتزمها البحث؛ فالمنطق باعتباره بحثًا في البحث — إذا راقك هذا التعبير — هو عملية تدور على نفسها، ولا تعتمد قط على أي شيء خارج نطاق البحث ذاته؛ ولعل قوة هذه الدعوى تكون أسرع إلى الإفهام إذا ما نبهنا إلى ما تحذفه هذه النظرة من مجال المنطق؛ فهي تحذف الإدراك الحدسي القبلي الذي يُقال إنه يحدد ويختار للمنطق مبادئه الأولى، تحذف هذا الإدراك الحدسي حتى إذا قيل عنه إنه إدراك العقل الخالص؛ وكذلك تحذف إقامة المنطق على دعاوى وفروض سابقة مما يدخل في مجال الميتافيزيقا ونظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)؛ فالدعاوى والفروض السابقة إنما يحددها — إذا كان لا بد منها — ما يكشف عنه البحث نفسه من نتائج؛ وإذن فلا ينبغي أن تُدس دسًّا تحت البحث لكي تقوم فيه مقام «الأساس»، وتُحذف أيضًا — من الناحية الإبستمولوجية — كما ذكرنا في موضع سابق بمناسبة أخرى — تلك الدعوى التي تزعم للمعرفة تعريفًا معدًّا أوليًّا، من شأنه أن يحدد للبحث طابعه؛ فالمعرفة هي التي ينبغي لها أن تُعرف على أساس البحث — لا العكس — سواء في المعرفة بمعناها الجزئي أو بمعناها الكلي.
وكون المنطق كيانًا مستقلًّا بذاته يُبعد كذلك الفكرة القائلة بأن «أسس» المنطق نفسية؛ فليس يتحتم علينا أن نحصل معارف عن الإحساسات ومعطيات الحس والأفكار والفكر، أو الملكات العقلية بصفة عامة، لتكون لنا هذه المعارف بمثابة المادة التي تضع للمنطق شروطه الملزمة له. بل الأمر على خلاف ذلك، فكما أن المعنى الخاص لكل من هذه الموضوعات السالف ذكرها يتحدد عن طريق بحوث خاصة بكل واحد منها، فكذلك علاقتها بمنطق البحث — بصفة عامة — تتحدد بكشفنا عن العلاقة التي تصل الموضوعات التي نطلق عليها هذه الأسماء المذكورة، بالمنهج الناجح مهما يكن الموضوع الذي يُطبق عليه؛ ونستطيع أن نوضح هذه النقطة بالإشارة إلى «التفكير»؛ فقد كان في مقدورنا خلال الصفحات السابقة أن نستخدم مصطلح «التفكير النظري»، حيث استخدمنا كلمة «بحث»؛ لكني لو كنت استعملت ذلك المصطلح، لكان يقينًا أن يظن بعض القراء أن المقصود بعبارة «الفكر النظري» شيء معروف لهم بالفعل معرفة تكفي لجعل كلمة «بحث» مساوية لتعريف للفكر موجود بين أيديهم فعلًا؛ لكن موقفي من الأمر يتضمن رأيًا معارضًا لهذا الرأي فلسنا نعرف ماذا عسى أن يكون معنى عبارة «الفكر النظري» إلا على أساس ما ينكشف لنا خلال بحثنا في طبيعة البحث؛ أو قل إننا على الأقل لا نعرف ماذا تعني تلك العبارة مما يخدم أغراض المنطق؛ وإني شخصيًّا لفي شك إن كان هنالك شيء ذو وجود فعليٍّ يمكن أن نسميه «فكرًا»؛ باعتبار هذا الشيء كائنًا نفسيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ وحتى لو كان هنالك شيء كهذا، فلن يكون هو الذي يحدد معنى «الفكر» بالنسبة إلى المنطق.
فإما ألا يكون لكلمة «فكر» شأن إطلاقًا بالمنطق، أو أن تكون هذه الكلمة مرادفة لكلمة «بحث»، وعندئذٍ يحدد معناها ما نعلمه عن حقيقة البحث؛ ويبدو أن ثاني هذين البديلين هو الرأي المعقول، ولست أعني بما قلته أن علم النفس القائم على أساس سليم لا يمكن أن يكون ذا نفع مقطوع به للنظرية المنطقية؛ فلئن كان التاريخ قد دل على أن علم النفس الفاسد قد أحدث تلفًا كبيرًا، إلا أن علاقته العامة بالمنطق كائنة في الضوء الذي يلقيه — باعتباره فرعًا من البحث — على ما ينطوي عليه البحث من مبادئ؛ وبهذا تكون علاقة «النسب» بينه وبين المنطق شبيهة بعلاقة النسب بين علم الطبيعة أو علم الحياة بالبحث؛ وإن يكن ما يكشف عنه علم النفس من حقائق أقرب إلى النظرية المنطقية من الحقائق التي تكشف عنها العلوم الأخرى، وذلك لأسباب سنبينها في الفصول التالية. ومهما يكن من أمر فلا مفر من الإشارة آنًا بعد آنٍ إلى موضوع علم النفس؛ فحتى المدارس المنطقية — كما سنبين فيما بعد — التي تزدهى بكونها لا تَمُتُّ إطلاقًا إلى النواحي النفسية، هي في حقيقة أمرها مرتكزة على أفكار نفسية بلغت من الشيوع ومن التغلغل في ثنايا التقليد في الحياة العقلية، حدًّا جعلها موضع القبول بغير نقد كما لو كانت حقائق واضحة بذاتها.
- (١)
النظرية المنطقية هي وضع البحث المضبوط في صياغة متسقة.
- (٢)
الصور المنطقية تنبت من ضوابط البحث وبسببها، لما تُنتجه من نتائج هي بمثابة القرارات الجائزة القبول؛ ولو كانت وجهة النظر السائدة اليوم قد وَجدت في نظرية المنطق السائدة ما يمثلها ولو تمثيلًا متواضعًا، لَما كان بنا حاجة إلى هذه الفصول؛ أما واتجاه المنطق في حالته الراهنة كما هو، فهذه الفصول ضرورية فيما أرى؛ وسيكون موضوع الفصلين الثاني والثالث هو الأساس الطبيعي للنظرية المعروضة، أما أولهما فخاصٌّ بالجانب البيولوجي، وأما الآخر فخاص بالجانب الثقافي، وسنحاول في الفصلين الرابع والخامس أن نبين الحاجة إلى مراجعة النظرية المنطقية وضرورة تلك المراجعة في الاتجاه الذي ذكرناه.
وعندما يجرد الإنسان عبارة معينة من مادتها ليستبقي صورتها خالصة خالية، فإن هذه الصورة عادة تعتمد على كلمة من الكلمات التي يُقال عنها إنها كلمات منطقية، مثل «أو» «إذا» «ليس» … إلخ، ولذلك تسمى أمثال هذه الكلمات بالثوابت المنطقية، وهي التي تكون صميم البحث المنطقي؛ ومؤلف هذا الكتاب يتساءل: أيمكن أن تكون هنالك صور خالصة ذوات وجود مستقل، أم أن الصورة لا بد أن تكون صورة لمادة معينة؟
والرأي الثاني في موضوع المنطق هو أنه بحث في العلاقات التي لا بد أن تكون قائمة سواء وجد الإنسان ليدركها أو لم يوجد؛ فالعلاقة: إذا كانت أ = ب، ب = ﺟ ∴ أ = ﺟ علاقة لا يتوقف صدقها على إدراك الإنسان لها، بل هي هنالك وُجد إنسان أو لم يوجد، وفي هذه الحالة ينقسم الرأي: هل تكون العلاقات التي من هذا القبيل قائمة في عالم عقلي، بحيث إذا لم يكن هنالك عالم طبيعي ظلت تلك العلاقات قائمة في عالمها العقلي؟ أم تكون — بالإضافة إلى قيامها خارج العقل الإنساني — متحققة في العالم الطبيعي، بحيث إذا لم يكن هذا العالم قائمًا لما كان لتلك العلاقات وجود؛ أخيرًا هنالك من يتصور أن الكون كائن ذو عقل، وما الإنسان العاقل إلا صورة مصغرة منه، وفي هذه الحالة يكون المنطق هو دراسة العلاقات الضرورية التي هي قوام العقل الكوني.
والرأي الثالث يجعل موضوع المنطق متصورًا على العقل الإنساني وحده من حيث طرائقه التي يستدل بها حكمًا من حكم، أو نتيجة من مقدمة.
على أن هنالك رأيًا رابعًا سيذكره المؤلف في الفقرة التالية، وهو الذي يأخذ به كاتب هذه الأسطر.
كل ما يطالب به العالم الصوري — كما في الهندسة مثلًا — في فرض مصادراته، هو ألَّا يكون ثمة تناقض بين تلك المصادرات، وألا يجعل مصادرة منها ممكنة الاستنتاج من مصادرة أخرى، وإلا لما كان هنالك ما يدعو إلى إثباتها في صدر البحث، بل تجيء مع غيرها من النتائج التي هي النظريات المستدلة من المصادرات.
وقد حدث بالفعل في القرن الماضي أن بدا لبعض علماء الرياضة أن يغيروا من بعض المصادرات التي تنبني عليها هندسة إقليدس. فنتجت — بطبيعة الحال — نظريات أخرى غير نظريات إقليدس، كانت هي المفتاح الذي أدى في النهاية إلى نظرية النسبية وما ترتب عليها من نتائج، فنظريات إقليدس صادقة بالنسبة للفروض الأولى التي صدرت بها، وكذلك نظريات الهندسة اللاإقليدية صادقة بالنسبة لفروضها.
ويلاحَظ أن علم الطبيعة القائم على أساس وصف الأنواع بهذه الطريقة، إنما يكون علمًا كيفيًّا، تفوته دقة المقادير الكمية وما تحدثه الفوارق في هذه المقادير الكمية من تفاوت وتباين بين الكائنات الطبيعية، وأما اليوم، فعلم الطبيعة لا يصف أشياء الطبيعة على هذا النحو الكيفي، بل يستبدل به صيغًا رياضية تقيس منها جانبها الكمي.
ومؤلف هذا الكتاب يشرح هذه النقطة فيبين أنه وإن يكن في وسع عالم الطبيعة أن يفرض الفروض ثم يستدل منها بالاستنباط الصرف، أي يستدل منها استدلالًا رياضيًّا، ما يترتب عليها من نتائج، إلا أن النتيجة من هذه النتائج لا يحدد قيمتها بالنسبة لعلم الطبيعة أنها مستنبطة استنباطًا سليمًا من الفروض، بل إن مهمتها هي أن تحفز الباحث إلى الخروج بها إلى عالم المشاهدة التجريبية، حتى إذا ما وجد في دنيا التطبيق العملي أنها نتيجة صحيحة عملًا كما كانت صحيحة استنباطًا، اتخذت مكانتها من العلم الطبيعي، وصارت إحدى وسائلنا في تحقيق اعتقاداتنا التالية من هذه الظاهرة أو تلك من ظواهر الطبيعة.
وكذلك يحللون اللغة من زاوية أخرى غير طريقة بناء ألفاظها من حيث هي دالة على الصدق أو الكذب؛ إذ يحللونها من حيث هي رموز لا بد لها من مرموزات إليها خارج حدود تلك الرموز اللغوية ذاتها، وفي مثل هذه الحالة — أعني الحالة التي لا تكون التشكيلة الرمزية وحدها كافية للدلالة على الحكم عليها — تكون الجملة إخبارية أو تركيبية، ويكون تحقيق صدقها مرهونًا بخبرة بالأشياء التي جاءت تلك الرموز لترمز إليها، والقضايا الطبيعية هي من هذا القبيل التجريبي، ويُسمَّى هذا الجانب من تحليل اللغة بالسيمية Semantics.