الإثبات والنفي
إن النظرية التقليدية عن القضايا الموجبة والسالبة لتباين ما يحدث في سيرنا بعملية البحث؛ وهو تباينٌ يدعونا إلى تمحيص الأمر؛ ففي البحث العلمي ترانا نلتفت إلى الحالات الشاذة وكل ما يبدو عليه الشذوذ، التفاتًا لا نتهاون فيه؛ فتقنيات البحث تهتم بما تحذفه حذفًا يكون له أثره في النتيجة، اهتمامًا لا يقل عن اهتمامنا بما تلحظه بين الظواهر من أوجه الاتفاق؛ فمهما بلغت قسمات الظواهر التي نتناولها بالبحث من اتفاق التشابه، فذلك وحده لا يكفي للوصول إلى نتيجة مؤكدة؛ إذ لا بد لمواضع الشبه أن تؤمَّنَ عند كل خطوة بملاحظة أوجه الاختلاف؛ وإننا في إجرائنا للتجارب لنتعمد خلق تغيرات في الظروف، بغية إبراز الجوانب السالبة التي من شأنها أن تختبر صدق النتائج التي هي موضع قبول عام؛ فلو أن النظرية المنطقية اهتدت في تفسيرها للقضايا الموجبة والقضايا السالبة بما يحدث فعلًا في سيرنا بعملية البحث، لظهر في جلاء أن (١) هذه القضايا أدائية في فضها للموقف المشكل، (٢) وأنها متآلفة أو متجاوبة بعضها مع بعض في وظيفتها الأدائية.
غير أن النظرية التقليدية تجعل القضايا حقائق معدة نتلقاها كما هي، ومن ثَم فهي تنظر إليها على أنها قائمة بذاتها كاملة في ذاتها؛ فهي هنالك قائمةٌ كما هي قائمة، وما علينا إلا أن نلحظها لنصف ما عساها أن تبديه لنا من خصائص؛ وهذه الطريقة في معالجة القضايا إنما تقرب من أفهامنا إذا ما نظرنا إليها مقترنة بتفرعها عن المنطق الأرسطي وصلته بالحقيقة الكونية، إذ إنها طريقة ترتد في نهاية الأمر إلى هذا المنطق؛ فالأنواع في هذا المنطق هي الكيانات الكيفية، أو هي الأفراد الحقيقية التي ننتهي إليها بالتحليل؛ وبعض هذه الأنواع متنافٍ مع بعضها الآخر بحكم طبيعته أي بحكم جوهره الذي يكمن في صميمه؛ وعلى ذلك كانت القضية السالبة هي إخراجٌ إلى عالم الإدراك الفعلي لإحدى الصور الأساسية من صور الحقيقة الكونية؛ ولما كانت الأنواع ترتب كذلك ترتيبًا متدرجًا، كان إثباتنا لدخول نوع ما في نوع آخر أشمل منه، هو الآخر إبرازٌ لصورة من صور الحقيقة الكونية في حالة من حالات الإدراك الفعلي.
وجاء تطور العلم الحديث فأبطل تلك المدركات التي تجعل الأنواع ثابتة، تحددها ماهيات ثابتة، وهي المدركات التي قام على أساسها المنطق الأرسطي؛ فكان لهذا الإبطال أثره — إذن — على المدركات القديمة الخاصة بالكلي والجزئي، أو بما هو كل وما هو جزء، وعلى الإطار الذي يبين علاقتهما الواحد بالآخر؛ غير أن المنطق الحديث — مع ذلك — قد حاول أن يحتفظ بذلك الإطار على شريطة أن يكون مفهومًا بأنه إطار صوري صِرف، خلو من كل مضمون وجودي؛ فكانت النتيجة التي لا مفر منها هي هذه الطريقة الآلية التي يتصور بها المنطق التقليدي والمنطقُ الصوري الحديثُ كلاهما القضايا الموجبة والقضايا السالبة وما بينها من علاقات؛ فقد فقدت هذه القضايا أساسها الوجودي دون أن تكسب مقابل ذلك علاقة أدائية تربطها بطريقة السير في البحث.
إننا لا نزال نحتفظ بالتسمية القديمة، وأعني بها كيف القضايا، بالنسبة إلى القضايا الموجبة والقضايا السالبة؛ لكن هذه التسمية توشك ألا تزيد على مجرد بطاقة نضعها على مسماها وضعًا آليًّا؛ فإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية العلاقة الأدائية التي تصل الإثبات والنفي بالعملية التي نحدد بها مواقف لم تكن مقررة المعالم ولا متعينة الحدود، فعندئذٍ نرى في الإثبات والنفي وسيلتين نستعين بهما على تغيير الكيف الذي كان يتسم به الموقف وهو في حالة عدم تعينه؛ وهما إنما يؤديان إلى هذه الغاية بما يقومان به من تقرير ما ينبغي لنا أن نختاره وما ينبغي أن نحذفه؛ فالقضايا الموجبة تصور ما يكون من اتفاق بين الموضوعات المختلفة من حيث هي أدوات نستشهد بها؛ فهي حين تتفق، فإنما تتفق في تأييدها — أو في افتراضنا بأنها تؤيد — بعضها بعضًا تأييدًا تتجمع شواهده في الإشارة إلى اتجاه بعينه، على الرغم من أن تلك الموضوعات — كما هي قائمة في الوجود الخارجي — قد وقعت في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة؛ وأما القضايا السالبة فهي — من جهة أخرى — تصور الموضوعات التي لا بد من استبعادها لكونها لا تتصل بالمهمة التي تقوم بها مادة الموضوع من حيث هي شاهد يُهتدى به في حل مشكلة قائمة؛ فكون حقائق خارجة معينة أو أفكارًا معينة تُستبعد من البحث، معناه آخر الأمر أن الموقف الأصلي غير المتعين لا يمكن تحويله، أي لا يمكن تغيير كيفه بحيث يصبح موقفًا متعينًا، إلا عن طريق استبعادنا لبعض مقوماته استبعادًا فعليًّا تجريبيًّا عمليًّا؛ وأما إثباتنا لحقائق خارجية معينة أو لأفكار معينة فمعناه أننا نختارها في عملياتنا الإجرائية لكي يظاهر بعضها بعضًا في إيجاد موقف موحَّد؛ فإذا كانت هذه الأقوال تبدو غريبة على الأسماع لتباينها مع التفسير التقليدي لمعنى الإثبات والنفي، فما على المتعجب إلا أن يفكر فيما يحدث فعلًا في سير البحث العلمي، لكي يتبين أنها أقوال قائمة على أساس مكين، وأن لها معنًى قويمًا.
وإنه لمحال علينا أن نعرف المقارنة إلا تعريفًا إجرائيًّا؛ فهي اسم نطلقه على كافة الإجراءات العملية التي بها تتحدد المتشابهات والمختلفات في مجرى الشواهد؛ وهي اسم نطلقه على أي إجراء عملي وكل إجراء عملي به يتقرر أن المعطيات المزعومة أو المؤقتة هي في الحقيقة معطيات تمس المشكلة التي أثارها موقف معين لم يكن محدد المعالم؛ وبه كذلك يتقرر لبعض الوقائع الخارجية أنها تكوِّن «وقائع الحالة» والتي بين أيدينا، ولبعض الوقائع الأخرى أنها ليست كذلك؛ فمحال علينا أن ننشئ تعريفًا للمقارنة مستقلًّا عن الإجراءات التي نجريها، ثم بعدئذٍ نستخلص من ذلك التعريف ما يلزم من الإجراءات لكي نعين لأوجه الشبه ولأوجه الاختلاف ما يكون لها من قوة الشاهد؛ فكلمة المقارنة كلمة تغطي شتى خيوط الإجراءات العملية التي نفرز بها بعض الكائنات لنجعله حقائق أولية تخص موضوع بحثنا، وبعض الكائنات الأخرى لنستبعده لكونه لا شأن له بالحالة التي نحن بصددها، بل لكونه عائقًا في سبيل العمل المطلوب من أجل تغيير الكيف الذي يتسم به الموقف الوجودي القائم.
لقد قابلنا في المناقشة السالفة بين نظرية في الإثبات والنفي قائمة على أساس ما يجري فعلًا في البحث العلمي في وقتنا الحاضر، وبين المذهب الأرسطي وما أعقبه بعدئذٍ من صياغة صورية لمذهبه، وهي صياغة أفرغت ذلك المذهب من مضمونه كله؛ وسننتقل الآن إلى النظر في العلاقة التي تربط وجهة نظرنا بالنظرية العامة في الحكم؛ فالمواقف إذ تكون لا متعينة، إنما تتسم بالفوضى والغموض والتضارب؛ وإذن فهي عندئذٍ تكون بحاجة إلى توضيح؛ ذلك أن الموقف حين لا يكون مستقرًّا، يحتاج إلى توضيح لأننا لو تركناه كما هو، لم يعطنا هداية ولا مفتاحًا للطريقة التي يمكننا بها أن نزيل عنه الإشكال؛ فلا ندري إزاءه أي سبيل نتبع، فترانا عندئذٍ نتحسس ونتخبط؛ ولا يكون أمامنا طريق للنجاة من هذه الحالة المضطربة إلا بأن نتلفت إلى مواقف أخرى، باحثين فيها عن هداية نهتدي بها، وما نستعيره من تلك المواقف الأخرى يكسبنا وقفة جديدة نستعين بها، في توجيه إجراءاتنا في عمليات المشاهدة، وهي الإجراءات التي نؤديها في مجال الذوق الفطري بوساطة أعضاء الحس والحركة؛ ومن شأن هذه الإجراءات أن تبرز بعض جوانب الموقف الذي نحن بصدده؛ وما الوقفة الجديدة التي نكسبها — إذا ما عبرنا عنها صراحة — إلا فكرة أو معنًى عقلي.
إن العمليات نفسها التي تختار ظروفًا بعينها لتجعل منها مفاتيح يحتمل أن تؤدي إلى حل المشكلة التي نحن بصدد حلها، تستبعد في الوقت نفسه ظروفًا وخصائص أخرى يشتمل عليها الموقف القائم في مجموعته؛ فالاختيار يتضمن الحذف، والحذف هو النفي في مرحلته الأولية؛ على أن الموقف غير المتعين من طبيعته عادةً أن يثير ضروبًا متضادة من الاستجابة؛ وها هنا تتعارض وقفاتنا وعاداتنا التي اعتدنا أن نعالج بها المواقف؛ ومثل هذا التعارض هو مما تقتضيه المواقف حين تكون مهوشة العناصر مسدودة المنافذ؛ غير أن هذا التعارض أحيانًا قد يكون هو الغالب بحيث تصبح المشكلة الرئيسية هي رد العناصر المتعارضة إلى وحدة ذات دلالة، أكثر مما تصبح مشكلة توضيح الغامض؛ ففي هذه الحالة ترى بعض المقومات وقد برزت بروزًا واضحًا، ولكنها تشير إلى اتجاهات متعارضة؛ فلكي نحل المشكلة عندئذٍ، لا بد لنا من اللجوء إلى مواقف أخرى مما قد وقع لنا في خبراتنا؛ فقد توحي هذه المواقف بإضافات نضيفها أو حذف نحذفه، إضافةً وحذفًا من شأنهما أن يُوحِّدا المواد التي استثارت فينا أول الأمر استجابات متعارضة.
إن العملية التي نحذف بها مواد غير متصلة بالمشكلة، بل تعوق طريق حلها، لتصاحبُ جنبًا إلى جنب عمليةً نزيد بها قوة الدلالة بالنسبة إلى مواد أخرى؛ وعلى ذلك فالنفي هو الجانب الذي نحصر به مجال النظر عندما نقوم بعملية الاختيار التي لا بد منها في كل حالة نقرر فيها عن مادة معينة إنها مما يعنينا فيما نحن بصدده من بحث؛ وما نختاره يكون بمثابة ما هو إيجابي مؤقتًا؛ وهذا الجانب الإيجابي منه يكون بادئ الأمر هو نفسه أخذنا واستخدامنا للمادة لكي نختبر صلاحيتها؛ لكن ضبط هذا الأخذ وهذا الاستخدام يتطلب أن تكون المادة قد صِيغت على صورة معينة؛ ولهذا كانت القضايا (التي هي هذه الصياغة الصورية للمادة) تختلف عن القرار الختامي الذي ننتهي آخر الأمر إلى إثباته، والذي هو الحكم؛ ويفسر اعتمادُنا على هداية المواقف الأخرى في عملية الحذف والاختيار اهتمام النظرية التقليدية بالعوامل «المشتركة» وبالاتفاق (بين الظواهر)؛ على أن المقارنة هي في الوقت نفسه مباينةٌ نعبر عنها بحذفنا واستبعادنا لتلك العناصر والصفات التي نراها في الموقف الذي نحن إزاءه، والتي دلت المواقف الأخرى على أنها غير ذات شأن به.
إنه ليُقال أحيانًا إن الإثبات والنفي لا يمكن جعلهما متضايفين أحدهما مع الآخر، لأننا لو جعلنا كل إثبات يقتضي نفيًا وكل نفي يقتضي إثباتًا لنشأ تسلسل لا ينتهي؛ وإن مثل هذا التسلسل اللانهائي لينشأ حقًّا لو كان كل منهما يجيء عقب الآخر، لكن حقيقة الأمر هي أنهما يتآزران في الحدوث تآزرًا بمعناه الدقيق؛ فليس يقتصر الأمر على أن تكون كل عملية نحدد بها شيئًا عبارةً عن نفي لغيره من الأشياء، بل كذلك كل نفي هو عبارةٌ عن تحديد (أي إننا حين ننفي شيئًا نقرر في الوقت نفسه وجود شيء آخر)، فالعلاقة بين الإثبات والنفي ليست هي علاقة التعاقب، إلا إذا قلنا إن ثمة تعاقبًا بين تناول الحيوان لطعامه ونبذه لمواد أخرى على أنها لا تصلح طعامًا؛ لكنه لا تعاقبَ بين الأفعال التي تقوم في نفس الوقت الواحد بقبول أشياء لاستعمالها وباستبعاد ما عداها.
ومهما يكن من أمر، فمجرد النفي يذكرنا بما لا تستريح إليه النفس من منازعات الأطفال حين يأخذ المتنازعان في ترديد قولهما: «إنه كذلك، إنه ليس كذلك»؛ والنقطة الهامة في هذا الصدد هي أن وجهة النظر التي نناقشها الآن إنما تلزم عن فرض أوَّلي يزعم به أصحابه بأن كل القضايا التي تنبئ عن الواقع، كاملةٌ ونهائية لأنها تعلن عن حالات في الوجود الخارجي كانت قائمة قبل صياغة القضايا التي تنبئ عنها؛ ولهذا فالرأي الذي ينكر أن يكون للقضايا السالبة صفة منطقية، يؤيد عن طريق غير مباشر موقفنا الذي نأخذ فيه بأنها وسلية وأدائية؛ إذ الكائنات القائمة في الوجود الفعلي، والمعاني القائمة في الذهن، لا يُشار إليهما — سواء في حالة الإثبات أو في حالة النفي — لمجرد الذكر بأنها كائنات قائمة، بل يُشار إليهما من ناحية العمل الذي يؤديانه في تبديل كيفية الموقف الذي كان أول الأمر موقفًا غير متعين؛ لأن تبديل الكيفية هذا لا يمكن استحداثه بالفعل (في حالة النفي) إلا بحذف المواد التي تقف حائلًا يعوق سيرنا، وحذف المقترحات التي لا تؤدي بنا إلى نتيجة؛ فإذا نحن استبعدنا القضايا السالبة من مجال المنطق، كان لزامًا علينا أن نستبعد عملية المقارنة كذلك.
واختصارًا فليس النفي هو مجرد الحذف أو مجرد غض النظر عن اعتبارات معينة، في مجال الواقع أو في مجال الفكر؛ بل حقيقة الأمر هي أن بعض حقائق الواقع وبعض المعاني في الذهن لا بد من استبعادها استبعادًا مقصودًا لأنها حوائل تعوق نهوضنا بفض موقف غير متعين؛ نعم إن الفكرة القائلة بأن النفي مرتبط بالتغير، أي إنه مرتبط بصيرورة الشيء إلى ما ليس هو، أو إلى شيء يختلف عما كان، هي فكرة قديمة قدم أفلاطون على الأقل؛ لكن التغير أو التحول أو صيرورة الشيء إلى ما ليس هو، له عند أفلاطون منزلة مباشرة من منازل الحقيقة الكونية؛ إذ هو علامة على أن الشيء المتغير ناقص في طبيعته الوجودية، أي يعوزه ما يجعله «كيانًا» كامل الكينونة؛ ولهذا كانت القضية السالبة التي تعبر عن التغير، هي في مجال المعرفة ما يقابل في الحقيقة الكونية كون أحد أنواع الوجود الخارجي دني المنزلة بالقياس إلى سواه؛ وأما في العلم الحديث فما يكون في التغير من ارتباطات وتقابلات هو الهدف الرئيسي لتحديد الظاهرة المراد تحديدها؛ ولم يعد يجوز أن ننظر إلى علاقة القضية السالبة بالتغير والتحول على أنها دالة على نقص في كيان الكائن؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ القضية السالبة من حيث هي كذلك، هي الصياغة التي نصوغ بها تغيرًا ما يُراد إحداثه في الظروف القائمة فعلًا بعمليات إجرائية هي التي تعبر عنها القضية السالبة؛ فالقضية السالبة دالة على أن إجراء تجريبيًّا معينًا لا بد من القيام به، لكي تتغير الظروف به تغيرًا من شأنه أن يجعل لنتائج ذلك الإجراء دلالة شاهدية كانت تعوز الظروف على صورتها التي كانت بها بادئ ذي بدء.
وللقضية الموجبة أيضًا علاقة وثيقة بالتغير؛ فخذ مثلًا القضية «هذا أحمر» تجدها في ظاهرها إثباتًا خالصًا، إذ هي لا تحمل معها أي إيحاء بنفي أو بحذف؛ غير أن مجرد وجود بقعة حمراء لا يكفي مسوغًا لإثبات «أنها حمراء» ولكي يقوم هذا الإثبات على أساس سليم، لا بد من استبعاد سائر الاحتمالات الممكنة؛ إذ ليس ثمة ضرورة منطقية تحتم أن تكون هذه البقعة حمراء، فقد كان يجوز لها أن تكون لونًا آخر منذ لحظة، وربما أصبحت لونًا آخر بعد لحظة؛ وإذن فالقضية «تركيبية» بالمعنى الكانطي لهذه الكلمة، أي إنها لا تنبني على مجرد تحليل هذه تحليلًا عقليًّا؛ بل تعتمد صحة قرارنا بأن «هذا أحمر» على: (١) استعراض شتى احتمالات اللون الممكنة استعراضًا يستوعبها كلها في قضايا منفصلة، (٢) وبحذفنا للممكنات كافة بحيث لا نستبقي إلا واحدًا هو الذي نثبته، فإن هذا الحذف يترتب على (٣) سلسلة من قضايا شرطية متصلة، صورتها كالآتي: «إذا كان اللون أزرق، نتج كذا وكذا» … إلخ، لنقارنها بالقضية القائلة: «إذا كان اللون أحمر، إذن لنتج كذا وكذا من النتائج المغايرة والمختلفة عن نتائج الألوان الأخرى»؛ ولست أعني بطبيعة الحال أن مثل هذه العملية الدقيقة في تحديدنا للأشياء هو ما يحدث في حياتنا الجارية غالبًا؛ لكن الذي أعنيه هو أننا إذا أردنا صحة منطقية كاملة، كان المطلوب هو قضية شبيهة بما يأتي: «إن الظواهر المشاهدة لا تكون كما هي عليه إلا إذا كان هذا اللون أحمر» وقولنا «إلا» في هذه القضية يتوقف على سلسلة من حذوف نعبر عنها بقضايا سالبة؛ فكلما تطلبنا تحديدًا علميًّا لخاصة لون ما حلًّا لمسألة علمية، سار البحث في اتجاه كالذي أسلفناه من استعراض الحالات الممكنة كافة استعراضًا يستوعبها جميعًا في قضايا منفصلة، وبعدئذٍ نأخذ في حذف منظم نستبعد به كل الاحتمالات الممكنة ما عدا واحدًا هو الذي نجد له أساسًا إيجابيًّا يسوغه.
وأحسب أن علاقة هذا التحديد بإحداث التغير إحداثًا مقصودًا أمرٌ غاية في الوضوح؛ إذ لا بد من أداء سلسلة من الإجراءات التجريبية نجريها بمادة الوجود الخارجي وعليها، أعني المادة التي نشير إليها باسم الإشارة هذا؛ ومن شأن التغيرات التي تجيء نتيجة لقيامنا بتلك الإجراءات التجريبية، أن تهيئ لنا الأسس التي نعتمد عليها في إنكارنا لأن يكون الكائن المشار إليه أزرق أو أصفر أو أرجوانيًّا أو أخضر … إلخ، وفي إثباتنا أنه أحمر؛ فإذا رأى القارئ نفسه أميل إلى الشك فيما نقوله، خصوصًا إذا أقام شكه هذا على أساس أن القضية التي نحن الآن بصددها (قضية «هذا أحمر») إذا لم تكن «واضحة بذاتها» فليست هي على الأقل مما يستدعي كل هذه الخطوات الاستدلالية التي زعمناها، أقول إنه إذا أحس القارئ شكًّا في هذا، فليذكر أن اللون من الناحية العلمية لا يتقرر إلا على أساس إجراءات توحد بين الألوان وبين نسب معينة من الذبذبة، وتجعل الأحمر نسبة عددية واحدة من هذه النسب تقتصر عليه دون سواه؛ وبعبارة أخرى، فإن القضية «هذا أحمر» معناها منطقيًّا هو أن تغيرًا خاصًّا معينًا قد حدث، أو يُنتظر له أن يحدث إذا ما أُجريت إجراءات عملية معينة؛ وفي الحالة الثانية يكون المعنى المنطقي للقضية هو: «هنا سيصبح أحمر، أو سيصبغ شيئًا آخر باللون الأحمر» ذلك على فرض قيام شروط بعينها؛ أما إذا فهمنا معنى القضية على أنه «قد كان هذا أحمر لفترة طويلة من الزمن» كان الأمر يتطلب سلسلة استدلالية أطول مما تطلب بمعناها السابق، لكي يتسنى لنا قبول نتيجة تشتمل فيما تشتمل عليه صفة مضافة، هي صفة الامتداد الزمني؛ وإذا فهمناها على أنها تعني: «إن هذا أحمر بحكم طبيعته أو بحكم الضرورة» لم تعد بنا حاجة إلى الإشارة إلى التغير، لكن هذه هي الحالة الوحيدة التي لا تكون فيها القضية المذكورة عن التغير.
وأعود بعد ذكر هذه الملاحظات العامة إلى الصور الخاصة التي تصور العلاقات التي تصل القضايا الموجبة بالقضايا السالبة، وهي العلاقات التي أسميناها بالتضاد وبالدخول تحت التضاد وبالتناقض، فيلزم عما قلناه (١) أن هذه العلاقات لا بد أن تُفهم من ناحية المهمة الأدائية التي تقوم بها في عملية البحث، (٢) وأن تُفهم كذلك على أنها متضايفة مكمل بعضها بعضًا، بمعنى أن التحديد الذي تدل عليه إحداها يستتبع التحديد الذي تدل عليه الأخرى، وألا تفهم على أنها مجموعات مستقلة من القضايا تصادف لها أن يرتبط بعضها ببعض بالعلاقات المذكورة (والأغلب أن يُفهم مربع التقابل المعروف بهذا المعنى الأخير؛ ما دام قصورنا عن ربط القضايا المتضادة … إلخ بعملية البحث من شأنه أن يقيم لنا إطارًا آليًّا صِرفًا من قضايا، كل منها مستقل من الناحية المنطقية عن سواه).
-
(١)
فالتضاد أو التقابل المنطقي يكون بين القضايا الموجبة والقضايا السالبة حين تكون هذه وتلك قضايا كلية؛ وعلاقة التضاد معناها أن إحدى القضيتين فقط تكون صادقة، مع جواز أن تكذب القضيتان معًا؛ فالعلاقة بين هاتين القضيتين: «كل الفقريات المائية ذوات دم بارد» و«لا واحدة من الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» هي مثل يوضح علاقة التضاد؛ فالتضاد بين القضايا يقيم الحدود التي لا بد للتغيرات المعينة أن تحدث في إطارها؛ وأما القضيتان المتضادتان ذاتهما فهما غير متعينتين، أي إنهما لو أخذتا على أنهما حالتان ختاميتان وكاملتان، لا على أنهما تعبران عن مرحلة معينة ضرورية من مراحل البحث الموجه أثناء سيره، لكانتا معيبتين منطقيًّا؛ وهذا العيب المنطقي ظاهر من جواز أن تكون القضيتان المتضادتان كاذبتين معًا؛ فالقضيتان المتضادتان إن هما إلا مرحلة نبدأ عندها إقامة مجموعة القضايا المنفصلة التي تستوعب كافة الاحتمالات الممكنة التي يتطلبها تحديدنا لحالات الإثبات والنفي جميعًا، كما قد رأينا؛ فالقضيتان المتضادتان ليستا في ذاتهما تكوِّنان ما نريده من حالات الاحتمال الممكنة، لأنهما (كما هو واضح من المثل الذي ضربناه لتونا) لا تدلان على شتى البدائل الممكنة؛ فلا تدلان مثلًا على الحالة التي يكون فيها «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد وبعضها الآخر ليس كذلك»؛ بل هما تقيمان لنا النهايتين الختاميتين اللتين تتفاوت بين طرفيهما درجات البدائل الوسطى، فهما تفيدان في تسوير مجال البحث، فتوجهان بهذا التسوير ما عسانا أن نجريه من إجراءات تالية في مجالَي المشاهدة الخارجية والأفكار الداخلية؛ فلئن كانت القضيتان التقليديتان الموجبة الكلية والسالبة الكلية تمثلان الطرفين اللذَين لا بد أن تقع البدائل الممكنة في حددوهما، فهما لا تؤديان أكثر من ذلك بدليل أنهما قد تكونان كاذبتين معًا؛ فمن حيث هما متضادتان فهما لا تمثلان النتائج التي ننتهي إليها، بل تمثلان النتائج التي تخرج لنا من استعراضنا المبدئي لمجموعة المجال الذي هو مثار الإشكال؛ ونحن إنما نقوم بهذا الاستعراض لنحدد محيط المجال الذي لا بد أن تقع في حدوده شتى التحديات المستقبلة؛ فعملية التحسس التي نرود بها حدود مجال البحث، تصل إلى غايتها القصوى عندما يصبح في مستطاعنا أن نصف الحدود الخارجية التي يتحتم علينا أن نبحث عن حل لمشكلتنا داخل محيطها.
بهذا — إذن — ننتهي إلى الموقف المنطقي الآتي؛ (١) فمن جهة، لا بد لمجال القضايا الممكنة أن يسور وإلا هام البحث ضاربًا في شتى الأرجاء، ويتم لنا هذا التسوير بوساطة القضايا الكلية المتضادة؛ (٢) ومن جهة أخرى، إذا ما غضضنا النظر عما للقضايا التي تتعلق إحداها بالأخرى بعلاقة التضاد، من صفة أدائية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، سبق إلى ظننا بأن تلك القضايا التي من شأنها أن تسور المجال إنما تستوعب كل البدائل الممكنة؛ ومن ثَم ينشأ لنا ذلك الضرب الجامد من ضروب التدليل، وهو الذي يتخذ صورة إما – أو؛ وإنه لضرب يشيع في تفكيرنا عن المسائل الاجتماعية والخلقية؛ فنقول: إما «الفرد» أو «المجتمع» باعتباره كيانًا ثابتًا قائمًا بذاته؛ إما الحرية من كل قيد أو القسر من الخارج؛ إما الطبقة البرجوازية أو طبقة الأجَراء؛ إما تغيرٌ أو ما ليس يطرأ عليه تغير؛ إما المتصل أو المنفصل الأجزاء؛ وهكذا؛ ولا سبيل إلى التخلص من الدوران في منازعات لا تنتهي، والتي هي بحكم طبيعها ذاتها بغير نهاية تقف عندها، مما يتولد عن هذا الضرب من التفكير، أقول إنه لا سبيل إلى التخلص من هذا إلا إذا تبينت لنا في القضايا المتضادة طبيعتها الأدائيةُ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ حتى إذا ما أدركنا طبيعتها الأدائية الوسلية، ألفيناها أمرًا لا غناء لنا عنه، لكنها ليست ضرورية لنا إلا لأنها تقيم لنا الحدود التي ينبغي لنا أن نلتمس داخل نطاقها مجموعة من بدائل منفصلة أخرى، كل منها متعين الكيان؛ وعندئذٍ تكون القضايا المتضادة بمثابة إرشادات أدائية توجهنا إلى تحديدات أخرى أكثر قدرة على تمييز جوانب ما قد نكون بصدده.٧وفي النظرية المنطقية كثيرًا ما يشتد في القضايا المتضادة جمودها الذي ينجم عنه ما تتصف به تلك القضايا في الظاهر من كونها نهايات في ذاتها، باستخدامنا رموزًا لا يكون لها معنًى أو مضمون خاص بها؛ ومن قبيل هذه الرموز أن نقول «أ» و«ليس أ» فيستحيل أن يكون لهذه الأضداد الخالصة قوة إرشادية، ذلك لأنه لو كانت «الفضيلة» — مثلًا — هي التي نرمز إليها بالرمز «أ» فعندئذٍ يكون الرمز «ليس أ» مشتملًا لا على الرذيلة وحدها، بل مشتملًا كذلك على المثلثات وسباقات الخيل، والسمفونيات وحالات الاعتدال الشمسي؛ ولقد عرفت بصفة عامة منذ عصر أرسطو هذه الناحية العابثة من كون «السالب يحتوي على ما لا نهاية له من أشياء» لكن ما لم يعرف على هذه الصورة العامة هو: (١) أن قصورنا عن إدراك ما للقضية التي تضاد قضية أخرى من مهمة أدائية تقوم بها في هداية السير خلال المراحل التي تتوسط بين الضدين، إنما يميل بتلك القضية نحو أن تكون لانهائية المضمون، (٢) وأن صياغة الضدين (كقولنا «أ» و«ليس أ») صياغة صورية بحتة تضعهما في إطار إما – أو، من شأنه أن يحذف الإشارة إلى مجال البحث، ومن ثَم فلو وصفنا العبارة الإيجابية بأية صفة معينة، ترتب على ذلك أن تصبح العبارة السالبة غير متعينة على الإطلاق؛ ومع ذلك كله فوضعنا للضدين في صورة شرطية، إذا نظرنا إليه على أنه وسيلة لإقامة الحدود التي تقع داخل نطاقها ما هنالك من بدائل محتملة، كل منها قائم على حدة في صورة محددة، أقول إن وضعنا للضدين على هذا النحو إجراء منطقي تمهيدي لا مندوحة عنه.
-
(٢)
القضايا الداخلة تحت التضاد، والتي تكون فيها المقابلة بين قضية صورتها «بعض كذا هو …» و«بعض كذا ليس …» قد تصدقان معًا، على أن إحداهما لا بد أن تكون صادقة، وذلك حين تكونان متعينتي الموضوع؛ فالقضيتان القائلة إحداهما «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» والقائلة أخراهما «بعضها ليس كذلك» داخلتان تحت التضاد، والمعلوم الآن أن كلتيهما صادقة؛ وعندما نقول عبارة «والمعلوم الآن» فإنما نشير بها إلى الجملة التي أوردناها في العبارة السالفة إذ قلنا «وذلك حين تكونان متعينتي الموضوع»؛ وبعبارة أخرى فإن العلاقة المنطقية الصورية المتضمنة في هذه الحالة، هي صورة من المضمونات الوجودية وقد حددتها المشاهدة؛ غير أنها — شأنها شأن سائر الصور — يمكن تجريدها، علمًا بأن الصورة المجردة لا تكون ذات معنًى منطقي إلا بمقدار ما يكون انطباقها على المضمونات المادية ممكنًا؛ فإذا كان موضع نظرنا هو الصورة الخالصة، جاز أن تكون القضيتان المذكورتان كاذبتين معًا؛ إذ لو أننا غضضنا النظر عن المادة الوجودية كما قد حددتها المشاهدة، كان من الجائز أن تكون القضية الصادقة هي القائلة «لا واحدة من الفقريات المائية من ذوات الدم»؛ ولم نقل عن القضيتين إنهما داخلتان تحت التضاد إلا لأننا قد وثقنا بالفعل بحقيقة اقتران سمتين، هما أن للفقريات المائية عمودًا فقريًّا وأن لها دمًا.
إنه وإن تكن القضيتان الداخلتان تحت التضاد أكثر تعيُّنًا من القضيتين المتضادتين، إلا أنهما ما تزالان غير متعينتين إذا قُورنتا بالحكم النهائي؛ وذلك لأن القضايا الكاملة في تعينها، بالنسبة إلى الموضوع الذي نحن الآن بصدده لا بد أن تكون: «كل الفقريات المائية التي تتسم – بكذا وكذا من السمات (كأن يكون من صفاتها مثلًا أنها تلد الصغار أحياءً وتتنفس بالرئات) هي من ذوات الدم الحار» و«كل الفقريات المائية التي تتسم بكذا وكذا من السمات المختلفة عن السمات المذكورة هي من ذوات الدم البارد»؛ فإذا كانت هاتان القضيتان نهائيتين وكاملتين، كانت القضيتان الداخلتان تحت التضاد — من حيث هما صورتان منطقيتان — أقل إحكامًا حتى من المتضادتين على قلة إحكام هاتين؛ ومع ذلك فهما في واقع الأمر تسجلان نتائج المشاهدة تسجيلًا من شأنه أن يمدنا بحقائق الواقع التي تضع الحدود لمشكلة بعينها؛ فالقضيتان الداخلتان تحت التضاد المذكورتان، كانتا تمثلان حالة على الحيوان في زمن معين كان الكشف فيه عن نوعين من الفقريات المائية، متميزين باختلافات في نوع الدم، قد أثار مشكلة معينة الحدود، وأعني بها مشكلة استكشاف الظروف التي يكون فيها بعض الفقريات المائية من نوع معين، وبعضها الآخر من نوع آخر؛ وإنما أثار الكشف عن نوعَي الفقريات المائية تلك المشكلة، بسبب مصادرة مادية، وهي المصادرة التي نفرض بها أن الدم يلعب دورًا له من الأهمية في حياة الحيوان ما يجعل أي اختلاف في نوعه مرتبطًا — على سبيل الترجيح الشديد — بخصائص هامة أخرى؛ وهكذا نرى القضايا التي سورها «بعض» — موجبة كانت أو سالبة — تمثل النتائج التي نحصل عليها من البحث وهو في مرحلة تجريبية ناقصة نسبيًّا، ونقصد بكلمة «تجريبية» هنا تلك العبارات الصادقة التي نقرر بها نتائج مشاهدة شاهدناها فعلًا، دون أن ننفذ ببصيرتنا إلى الظروف التي ترتكز عليها تلك السمات التي شاهدناها واعتمادنا في نتائجنا الصادقة الخاصة بأمور الوجود الخارجي على مشاهدة الواقع، دليل على أن أمثال هذه القضايا، مع كونها ليست نهائية، تمثل مرحلة معينة من مراحل سيرنا في البحث، وتؤدي مهمة لا غناء عنها في تسيير البحث إلى نتيجته.
وما يزال البحث في موضوع الضوء في وقتنا الحاضر عند هذه المرحلة؛ فهناك من الأسس ما يسوغ لنا أن نقول بأن «الضوء في بعض نواحيه ظاهرة إشعاعية، وفي بعض نواحيه الأخرى ليس كذلك، إذ هو في هذه النواحي الأخيرة جسيمات»؛ فإذا سلمنا بكفاية المشاهدات التي ترتكز عليها هاتان القضيتان، لم يكن في مستطاع أحد أن ينكر بأنهما تدلان على تقدم علمي؛ غير أنه — من جهة أخرى — لن ينازع إلا القليلون بأن البحث العلمي لا يمكن أن يقتنع بهاتين القضيتين فيعدهما نهائيتين؛ إذ هما تقيمان مشكلة معينة يتناولها البحث بعدئذٍ، وتلك المشكلة هي: في أي الظروف يكون الضوء موجيًّا وفي أيها يكون متقطعًا في جسيمات؟
-
(٣)
وينقلنا الحديث عن الدخول تحت التضاد إلى فكرة تداخل القضايا؛ فإذا ما تعين لنا بأن كل الفقريات المائية المتميزة بمجموعة معينة من السمات المقترنة هي من ذوات الدم الحار، كانت القضية التي يسمونها بالداخلة في القضية المذكورة، التي تقرر بأن بعض هذه الحيوانات الفقرية هي من ذوات الدم الحار، لا تقول شيئًا؛ فالإشارة إلى القضية الكلية قد يفيد أحيانًا إذ يذكِّر من قد يكون مصابًا بالنسيان مؤقتًا، لكن تلك الإشارة إلى القضية الكلية خلو من أية قوة منطقية؛ فافرض أن البحث في إحدى مراحله لم ينتهِ إلا إلى أنه في حالة إصابة سفينة ما بحادثة حطمتها، قد أنقذ بعض المسافرين وغرق الآخرون؛ ثم افرض أن بحثًا آخر قد عين لنا على سبيل الحصر أسماء من أنقذوا بأجمعهم، كما عين لنا الغرقى جميعًا؛ ففي هذه الحالة الأخيرة يكون من السخف أن نرجع إلى الصورة التي تحصر القول في نطاق ضيق بقولها «بعض»، في الوقت الذي يكون فيه بين أيدينا قائمة بجميع أفراد كل من الفريقين؛ فعندئذٍ لا بد لاسم أي شخص معين أن يظهر في إحدى القائمتين؛ بحيث إذا أردنا العلم بحالة شخص معين، لم يكن أمامنا أكثر من احتمال واحد.
فالمهمة الحقيقية التي تؤديها القضية التي صورتها في بعض، إنما تسير في اتجاه مضاد لمهمتها كما وردت في القائمة التقليدية؛ فبدل أن يكون السير متجهًا من «كل» إلى «بعض»، يرتد فيصبح متجهًا من بعض إلى كل؛ ففي مرحلة باكرة من مراحل البحث يكون قولنا إن «بعض» المسافرين قد أنقذوا دالًّا على أنه ربما يكون «كل» من كان على ظهر السفينة قد أنقذوا؛ أما في المرحلة التي يكمل عندها البحث، فالانتقال يكون من الحالة اللامتعينة التي نعبر عنها بقولنا «بعض» من «كل» من كانوا على ظهر السفينة، إلى قولنا كل أفراد مجموعة متعينة الأعضاء؛ ففي القضية التجريبية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة (بالمعنى الذي أسلفناه لكلمة «تجريبية») لا يكون ثمة فرق في الصورة المنطقية بين القضية القائلة «كل الحالات التي شوهدت حتى الآن هي كذا وكذا» وبين القضية القائلة «بعض الحالات من بين سائر حالات الوجود الخارجي، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، هي كذا وكذا» إذ المعنى المنطقي لكل من هاتين الصورتين اللغويتين هو: «ربما تكون جميع الحالات هي كذا وكذا»؛ حتى إذا ما تعينت لنا الظروف كافة التي في ظلها تكون الظواهر هي كذا وكذا (ويتم لنا ذلك عن طريق مجموعة من القضايا الموجبة والسالبة) فعندئذٍ تصبح صياغة قضية كلية في صورة قانون أمرًا مستطاعًا، إذ نقول عندئذٍ: متى كانت الظروف هي كذا وكذا، نتج عنها كذا وكذا من النتائج.٨ -
(٤)
هدف رئيسي واحد هو الذي نستهدفه بالتحليل الذي أسلفناه، وذلك هو أن نشير — من جهة — إلى أننا إذا ما نظرنا إلى القضايا الموجبة والقضايا السالبة على أنها نهائية وكاملة (ولا بد أن ننظر إليهما هذه النظرة ما دمنا نتجاهل الصلة الإجرائية التي تربطهما بتقدم السير في عملية البحث) فإن هاتَين الصورتَين من القضايا تصبحان آليتين جزافيتين؛ وأن نشير — من الجهة الأخرى — إلى أننا إذا أخذنا القضايا الموجبة والقضايا السالبة من حيث هي أدوات لها قوة الأداء، وجدنا أن علاقات التضاد والدخول تحت التضاد والتداخل إنما هي علاقات تميز المراحل التي يتقدم البحث خلالها متجهًا نحو حكم ختامي جائز القبول؛ وإن هذه الاعتبارات لتبلغ غايتها — إن صح لنا هذا التعبير — في حالة القضايا المتناقضة؛ وهي القضايا التي إذا ما صح فيها نقيض كان النقيض الآخر كاذبًا؛ وإذا كذب فيها نقيض كان النقيض الآخر صادقًا؛ وعلاقة التناقض هذه هي التي نرمز لها في مربع التقابل التقليدي بالوترين في المربع، فوتر منهما يمتد من الموجبة الكلية إلى السالبة الجزئية (وسور الجزئية هو كلمة «بعض» التي يكون معناها واحدًا أو أكثر)؛ والوتر الآخر يمتد من السالبة الكلية إلى الموجبة الجزئية؛ ومن الناحية الصورية ليس من شك على الإطلاق في أن القضية «كل الناس بيض» ينقضها أن نشاهد شخصًا واحدًا غير أبيض؛ وكذلك القضية «لا إنسان أحمر» قد انتفت في اللحظة التي شوهد فيها أول هندي من هنود أمريكا الشمالية.
غير أن النقطة المنطقية الجوهرية هنا هي أن القضية الكلية (موجبة أو سالبة) لا تنتفي بالقضية التي سورها «بعض» من غير تحديد، بل تنتفي بقضية موضوعها فرد محدد؛ فكلمة «بعض» من الناحية المنطقية إما أن تكون فائضة من المطلوب أو أن تكون أقل من المطلوب؛ فهي فائضة إذا كان قد أتيح لنا أن نقع على الفرد المحدد (وهو في الواقع أمر غير يسير)؛ وهي أقل من المطلوب إذا فهمت كلمة «بعض» بمعناها المنطقي الدقيق، وهو أن تكون هذه الكلمة دالة على إمكان، الإمكان الذي يتخذ صورة «قد يكون» أو «ربما»؛ فكون قضية معينة موجبة جزئية أو سالبة جزئية قد تكون كاذبة، كافٍ بذاته أن يبرهن على أنها لا يمكن أن تنقض قضية كلية مختلفة معها في الكيف، بأي معنًى منطقي دقيق للتناقض؛ فالقضية «بعض الناس ليس أبيض» تدل على جواز أن يكون هناك شيء غير أبيض لكنه ليس كائنًا بشريًّا، أو جواز أن يكون هنالك كائن بشري لكنه ليس أبيض؛ وإنه لمن المألوف أن يحذرنا المحذرون من التعميمات الغامضة، وهو بغير شك تحذير ذو صلة وثيقة بهذه النقطة؛ فكلمة «بعض» إذا كانت غير متعينة بالقياس إلى أفراد، تصبح من قبيل التعميم الغامض؛ أما إذا كانت متعينة الأفراد، لزم عن ذلك أن تتخذ إحدى صورتين: فإما أن تكون «الأفراد المعينة الفلانية تنتمي إلى نوع معين» وهذه صورة تنفي القضية الكلية القائلة «كل الأفراد تنتمي إلى نوع آخر»، وإما أن تكون على صورة أكثر تحديدًا، إذ تكون «كل الأفراد المتسمة بسمات معينة تنتمي إلى نوع معين»؛ وعلى أي الحالتين فليست كلمة «بعض» بمعناها غير المحدد هي التي تنقض قضية كلية موجبة أو قضية كلية سالبة.
إن القضية التي تحدثنا عن عدد من الأفراد (وهي التي سورها بعض) بأن تلك الأفراد هي كذا وكذا، هي — كما أسلفنا — قضية تثير إشكالًا؛ فهي كافية لنفي قضية كلية مختلفة معها في الكيف، لكن النفي يظل بهذا غير كامل وغير محدد، فهي وحدها لا تؤيد صدق قضية كلية؛ ولا تجيز لنا قبول القضية الكلية المناقضة لها إلا إذا استوفت شرطين منطقيين، هما:
(١) ذكر على سبيل التحديد لمجموعة من القضايا المنفصلة التي تشتمل على البدائل المحتملة اشتمالًا يستوعب كافة الممكنات بقدر المستطاع.
(٢) ذكر على سبيل التحديد للسمات المختلفة المميزة التي تتخذه شواهد على نوع ما دون غيره؛ فقد نكشف في مرحلة معينة من مراحل البحث العلمي استثناءً لحكم عام كنا قد قبلناه من قبل؛ فإذا تأيد لنا بالبحث الدقيق صدق المثال الفرد الذي ألفيناه يشذ عن ذلك الحكم العام، لم يعد شك في نفي الحكم العام على صورته السابقة؛ لكنه يستحيل على باحث علمي أن يطوف بباله لحظة واحدة أن هذا النفي للحكم السابق مساوٍ لتأييد قضية كلية صادقة؛ بل إن سؤالًا ينشأ على الفور عما عسى أن تكون الظروف الدقيقة التي تقتضي حدوث الحالة الاستثنائية السالبة؛ حتى إذا ما تعينت لنا هذه الظروف، كان لنا بذلك تعميم آخر، هو: «كل الحالات المتسمة بسمات معينة هي كذا وكذا»؛ واختصارًا فإن استكشافنا لأفراد أو لفرد واحد ينفي حكمًا عامًّا ليس هو إلا الوسيلة الممهدة الشارطة لطريق السير في بحوث جديدة؛ فليست القضية المعبرة عن ذلك الاستثناء نهائية ولا كاملة، إذ المهمة التي تؤديها هي أن تكون لنا بمثابة المناسبة المواتية أو الحافز الذي يحفزنا إلى بحوث أخرى نبتغي بها أن نحدد كيف ولماذا حدث الاستثناء الذي حدث؛ فإذا ما انتهينا من هذه البحوث إلى نهاية مرضية، توافرت لنا عندئذٍ — وعندئذٍ فقط — قضية ختامية تتخذ صورة قضية كلية جديدة.
فليس هنالك حالة واحدة من حالات البحث الموجه يكون فيها النفي مجرد النفي لحكم عام بمثابة الختام الذي نقف عنده؛ ولو جعلناه ختامًا على هذا النحو لما أدى ذلك إلا لنبذنا تعميمًا سابقًا، بحيث يكون هذا النبذ هو نهاية الأمر، أما ما يحدث في الواقع فهو أننا نتناول التعميم السابق بالتعديل والمراجعة على ضوء المثل المناقض الذي استكشفناه؛ فبعض الحقائق المعينة التي انكشفت لنا باستخدامنا لنظرية أينشتين في النسبية نقضت قانون الجاذبية كما صاغه نيوتن؛ فلو كان لتلك الحالات النافية الصفة المنطقية التي نسبها إليها المنطق الصوري التقليدي، لأدى ذلك إما إلى أن نعلن خطأ الصياغة النيوتنية، وبذلك ينتهي الأمر عند هذا الحد، وإما إلى أن نعلن بأن الوقائع المشاهدة باطلة ومستحيلة الحدوث لأنها تناقض القضية الكلية؛ وحتى في الحالات التي يتبين فيها أن الاستثناء ظاهري لا حقيقي، فلا يؤدي ذلك إلى توكيد صحة التعميم السابق توكيدًا مجردًا، بل إن ذلك التعميم ليكتسب لمحة جديدة من المعنى، تنشأ عن قابليته للانطباق على الحالات غير المألوفة التي يبدو عليها أنها حالات نافية له؛ وهذا هو المعنى الذي نقصد إليه بقولنا «إن الاستثناء يؤيد القاعدة».
وهكذا يكون في المنطق الخاص بعلاقة التناقض بين القضايا، برهان يتوج بقية البراهين الدالة على الجانب الأدائي الإجرائي الذي يتسم به مضمون القضايا الموجبة والقضايا السالبة؛ فليس في عملية البحث ما هو أهم من استحداث القضايا المناقضة؛ إذ إنه ما دام أحد النقيضين لا بد أن يكون صادقًا إذا كذب الآخر، فالنقيضان متعينان على نحو لا يتوافر للضدين أو للداخلين تحت التضاد؛ غير أنه لو كانت النظرية التقليدية قائمة على أساس سليم، لتحتم على عملية البحث أن تقف عند نفي النقيض لنقيضه، ولما كان هنالك أساس يسوغ لنا أن نقول أي النقيضين صادق وأيهما كاذب؛ فأولئك الذين يؤثرون الركون إلى «شهادة الحواس» سيذهبون عندئذٍ إلى أن التعميم المنقوض قد ثبت بطلانه، وأما أولئك الذين لا يثقون في الحس ويكبرون من شأن «العقل» فسيميلون إلى عكس النتيجة، وسيقولون بأن الجزئيات الفردية ليست «في حقيقة الأمر» كما تبدو في ظواهرها؛ فاستحداث الحالات المتناقضة في الطريقة الفعلية التي يسير عليها البحث العلمي، إنما يستمد أهميته من حيث هو وسيلة تقطع بصحة أحد النقيضين وببطلان النقيض الآخر، يستمد أهميته من كونه لا يأخذ بالقواعد التي تشترطها أية نظرية تجعل ذكر النقيضين أمرًا ختاميًّا وكاملًا؛ إذ إن استحداث حالة النفي الناقضة — إبَّان السير في عملية البحث — إن هو إلا خطوة في سبيل إقامة بحث يتجه نحو الحكم الختامي؛ وآخر ما ننتهي إليه في حقيقة الأمر، هو أن نراجع الحكم العام الذي كنا قد وصلنا إليه في الأبحاث السابقة، بحيث يصبح ذلك الحكم العام، بعد ما أدخل عليه من تعديل، صالحًا بالقياس إلى الشواهد القديمة التي كانت قد أيدته فيما سبق، وصالحًا في الوقت نفسه بالقياس إلى الشواهد الجديدة التي جاءت مناقضة للأحكام العامة السابقة.
فالفكرة الأرسطية الأصلية عن الإثبات والنفي على أقل تقدير، كانت تقابل ما كان مفروضًا فيه أنه الطبيعة الوجودية للأشياء التي ما جاءت القضايا الموجبة والقضايا السالبة إلا لتصدق عليها؛ وأما الفكرة الأدائية التي نبسطها في هذا الكتاب، فتنكر أن تكون للقضايا الموجبة والقضايا السالبة علاقة واحد بواحد مع الأشياء كما هي قائمة في الوقع؛ وهي فكرة تكسب تلك القضايا قوة إجرائية وسلية تصلح بها أن تكون وسائل لتحويل موقف فعلي تكتنفه الريبة والاضطراب، إلى موقف تعينت حدوده وانفض إشكاله؛ فالنظرية الحديثة التي استخلصها أصحابها — كما أسلفنا القول — من محاولتهم استبقاء الصور بعد تفريغها من مضمونها المادي الوجودي، تقوم على غير أساس، ولا تؤدي إلى شيء؛ فهي ليست صورية إلا بالمعنى الذي يجعلها فارغة وآلية، فلا هي تصور الوجود كما قد عرفناه بالفعل، ولا هي تدفع عملية البحث دفعًا ينتهي بها إلى ما يمكن أو ما ينبغي معرفته، وإذن فهي زائدة دودية أخذت صورة المنطق.
ولما كانت المسألة الميتافيزيقية الخاصة ﺑ «الواحد»؛ و«الكثير» قد أثرت في مختلف العصور تأثيرًا بالغًا في النظرية المنطقية، فقد يكون من المناسب — ونحن نختم هذا الفصل — أن نقول كلمات قليلة عن ذلك الموضوع من ناحية تأثيره على النظرية المنطقية؛ فالوحدة أو ما يطلق عليه اسم «الواحد» هو القسيم القائم في الوجود الفعلي. والذي يقابل حاصل العمليات الإجرائية التي من شأنها أن تخلق ما يمكن قبوله من وحدات ذاتية، بفضل ما تستخدمه من اتفاق بين مضمونات مختلفة، توحد بينها في قيامها شاهدًا تستشهد به، على أن النفي — من جهة أخرى — هو الذي يخلق الفوارق المميزة ويحدث أوجه التباين، التي إذا ما جسدناها كان لنا ما نسميه «بالكثير»؛ وعلى ذلك فالمسألة إذا نظر إليها من الناحية المنطقية، أصبحت مسألة إجراءات نجريها لنوحد ما هو متفرق أو نفرق ما هو موحد؛ ولهذه الإجراءات بطبيعة الحال أساس وأصل في الوجود الفعلي، وذلك أن عملية التكامل (التي توحد المتفرقات) وعملية التمييز (التي تفرق ما هو موحد) هما عمليتان بيولوجيتان تستبقان الإجراءات المنطقية التي أشرنا إليها توًّا؛ والعمليتان البيولوجيتان ذاتهما كانت قد مهدت لهما واستبقتهما عمليات فيزيائية قوامها الاتصال والانفصال؛ فالمشكلات التي تستعصي على الحل، والتي قد أدت إلى البناءات الميتافيزيقية التأملية عن «الواحد» و«الكثير» إنما تنشأ من خلقنا لكيانات — نشير إليها بأسماء نسميها — نجسد بها عمليات وإجراءات، لو كنا لنرمز إليها بالرمز المناسب، لرمزنا إليها بأفعال مبنية للمعلوم وبأحوال كيفية تصف تلك الأفعال.
الحق أن من أعوص المشكلات التي نصادفها في المنطق مسألة القضية السالبة إلى أي شيء تشير؛ لأننا إذا قلنا إن القضية الإخبارية صورة تشير إلى واقعة خارجية، ثم إذا كانت وقائع العالم الخارجي كلها — بالبداهة — إيجابية، فإلى أي الوقائع يشير قولنا — مثلًا — «ليست الشمس طالعة»؟ إن العبارة الموجبة «الشمس طالعة» تشير إلى واقعة بعينها يمكن الإشارة إليها، وهي ظهور الشمس في السماء، لكن إلى أي شيء نشير إذا أردنا أن نجد مسمى عبارة «ليست الشمس طالعة»؟ لهذا يميل بعض المناطقة المحدثين إلى اعتبار حالة الإيجاب هي الأصل، وأما النفي فحالة تتم داخل الإنسان حين يبحث عن شيء معين فلا يجده فيستخدم قضية سالبة يقول بها «ليس …» لا ليصور شيئًا في الخارج، إذ ليس في الخارج «ليس»، بل ليصور حالة نفسية رافضة يقفها حين يتنكر للحالة الإيجابية المعينة التي يجد نفسه إزاءها؛ ولهذا يميل أصحاب المنطق الرمزي أن يرمزوا إلى النفي بعلامة كهذه «– –» توضع إلى جانب القضية الإيجابية لتدل على أن الوضع المشار إليه بالقضية الموجبة ليس بين الأوضاع الكائنة في العالم الخارجي؛ وإلى هذه المشكلة يشير المؤلف هنا.