قضايا الحكم وما تؤديه في الحكم
موضوع كم القضايا — في المنطق التقليدي الصوري — يتبع موضوع الكيف؛ فالنظرية التقليدية التي تتناول القضايا من حيث الكيف والكم كلاهما، تذهب إلى أن القضايا يمكن تأويلها على أساس الماصدق والمفهوم معًا؛ أما في حالة الماصدق فالقضية تقضي بما يكون بين فئات المسميات من علاقة، وأما في حالة المفهوم فهي تقرر بأن أعضاء فئة معينة قد ثبت أنها متميزة بصفة معينة ومن ناحية الكم تكون القضية حين تفهم من جهة الماصدق دالة إما على أن فئة ما — من حيث هي فئة — محتواة في فئة أخرى، وأنها في هذا الاحتواء كلية في كمها، وإما على أن جزءًا غير متعين منها محتوى على هذه الصورة، فهي بذلك تكون جزئية في «كمها»؛ أما إذا فهمت القضية من ناحية مفهومها، فهي عندئذٍ تقرر إما أن أي عضو من أعضاء الفئة له «صفة» معينة، وإما أن جزءًا غير متعين من الفئة هو الذي يتصف بصفة معينة؛ وعلى هذا فالقضية «الكلية» القائلة بأن «كل إنسان فانٍ» معناها يكون إما أن فئة الناس محتواة في فئة الفانين، باعتبار الفئة الأولى فرعًا عن الفئة الثانية، وإما أن أي إنسان كائنًا ما كان يتصف بصفة الفناء؛ ومهما يكن من أمر، فالكم — كما يسمونه — يتعين — بناءً على هذه النظرية — بالصورتين اللتين تدل على إحداهما كلمة كل (وكذلك كلمة لا أحد، وليس أي واحد) وتدل على الأخرى كلمة بعض (وكذلك ليس بعض)؛ وهي تفرقة إذا ضممناها إلى تفرقة الإثبات والنفي، أنتجت لنا الصور الأربع من القضايا: الموجبة الكلية والسالبة الكلية، والموجبة الجزئية، والسالبة الجزئية؛ وعلى هذا فأيسر نظرة تدلنا على أن التفرقة أو الصورة المسماة بالكم، هي في حقيقة الأمر تفرقة بين الفئة المتعينة الحدود، والجزء من الفئة الذي يكون غير متعين.
إن فكرة الكم المتضمنة في هذه النظرية، والتي تبلغ من الضيق أقصى حدوده، تكاد لا تحتاج منا إلى توضيح؛ وأعني بالضيق هنا ضيقًا بالقياس إلى قضايا الذوق الفطري وقضايا العلم، التي تحمل لفظًا يدل على الكم، أما في قضايا الذوق الفطري فترى «أسوارًا كمية» مثل كلمتي قليل وكثير فيما يعد وكلمتي أكثر وأقل، وكلمتي قليل وكثير فيما لا يعد، وكلمتي كبير وصغير، على حين أن كلمة «بعض» يندر ظهورها إلا في مرحلة أولية، كما يحدث — مثلًا — في جمل كهذه «بعض السائلين الإحسان أمناء»؛ أضف إلى ذلك أنه حتى قضايا الذوق الفطري الدالة على كم تعبر عن نتائج التقدير القياسي، كما ترى في قوائم الموازين والمقاييس المستعملة في التجارة والصناعة الآلية والصناعات اليدوية، فيُقال: «فنجان واحد يسع نصف رطل: والثوب يكلف خمسة وعشرين ريالًا، وقطعة الأرض مساحتها فدان، وهكذا» أما في مجال العلم فليس هنالك قضية علمية واحدة، مما نسجل به المشاهدة والتجربة من حيث خطوات سيرهما ونتائجهما، تعد كاملة إلا إذا صِيغت خطوات السير والنتائج في صورة عددية.
فالتباين بين قضايا كهذه وبين القضايا التي يقول عنها المنطق الصوري إنها متميزة بعلامة الكم، يبلغ من الجسامة حدًّا يتطلب التفسير؛ وهذا التفسير المطلوب نلقاه — من جهة — في كون القضايا الدالة على تمييزات وعلاقات كمية — سواء أكان ذلك في مجال الذوق الفطري أم في مجال العلم — هي دائمًا وسائل لغايات موضوعية، وليست هي في ذاتها بالمراحل الختامية؛ ونلقاه — من جهة ثانية — في كون التفرقة التي كانت هامة وضرورية في منطق العلم الأرسطي، هي الآن مقطوعة الصلة بمضمون العلم قطيعة تجعلها — إذا ما أبقينا عليها — صورية خالصة، وفارغة، وغير ذات صلة بما هو موضوع النظر، سواء نظرنا بعين أرسطو أو بعين الذوق الفطري أو بعين العلم؛ أما أن الصورية الحديثة بعيدة كل البعد عن فكرة أرسطو، فظاهر في كون الكم من وجهة نظره أمرًا عرضيًّا لا جوهريًّا؛ ومن ثَم كان الكم عنده هو الأساس المنطقي للتفرقة بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية، لأن الكم كان هو المميز الفاصل الذي يميز الجزئي من الكلي في «الطبيعة»؛ فعند أرسطو كانت كلمة كل معناها تمام كيان الشيء، أي إنها تشير إلى ما هو كامل كمالًا كيفيًّا؛ ولهذا كانت كل قضية تُقال عما هو تام الكيان قضية ضرورية؛ فلم تكن كلمة كل في دلالتها المنطقية دالة لا على جمع من الأفراد ولا على ما هو عام مجرد تعميم؛ ومن هنا كانت — إذا أردنا الدقة — خارجة عن نطاق مقولة الكم؛ لأن القضايا الدالة على جمع من أفراد، يمكن تحليلها إلى عدد من الأفراد، ولذلك فهي تعد قضية جزئية، مهما يتسع نطاق الأفراد التي شملناها بالعد.
القضية العامة التي تقتصر على مجرد التعميم، هي قضية تقر بأن الأشياء هي كذا وكذا بصفة عامة، أو هي كذا وكذا عادة، أو على وجه الجملة، لا باعتبار هذه الأشياء تكون كلًّا واحدًا؛ ولهذا فالقضايا العامة تقع هي الأخرى في مقولة واحدة مع القضايا الجزئية فالضرورة والتمام من جهة، والعرضية وعدم التمام من جهة أخرى، هما صورتا القضايا المنطقيتان النابعتان من طبيعة القضايا، والصورة الأولى تبينها كلمة كل، والصورة الثانية تبينها كلمة بعض؛ وهاتان الصورتان المنطقيتان كانتا تؤخذان على أنهما قسيمتان تقابلان نوعي الخصائص في حقيقة الوجود؛ وذلك لأن بعض ضروب «الوجود» تكون ذات كينونة مطلقة، أي يكون لها «وجود» بالمعنى الكامل لهذه الكلمة؛ فهي قائمة في الوجود الفعلي دائمًا دون أن يطرأ عليها تغير أو يشوبها ظل من تحول؛ وعن هذه الموجودات تُقال القضايا الكلية؛ ولكن هنالك أشياء أخرى تتغير، فهي موجودة وغير موجودة؛ إذ هي تدخل في عالم «الوجود» ثم تزول عنه، وعن هذه الأشياء لا يمكن أن تقام القضايا إلا في صورة جزئية؛ أي إنها تُقال عنها حالة كونها متفرقة؛ إذ إن هذه الأشياء بحكم طبيعتها مفرقة ومقطوع بعضها عن بعض؛ فلو سلمنا بهذا الإطار الكوني والوجودي، لما وجدنا ما هو أدنى إلى الصواب ولا ما هو أدنى إلى الشمول من التفرقة الأرسطية بين كل وبعض من حيث هما صورتان أوليان للقضايا.
وليس في مثل هذا الإطار مكان خاص لقياس الكم وتحديد المقدار أو الدرجة؛ فكلمتا أكثر أو أقل كانتا علامة لا مندوحة للناس عنها، يميزون بها بعض الأشياء؛ فإذا عرفوا عن هذه الأشياء هذه الصفة التقريبية، عرفوا كل ما يريدون معرفته عنها؛ فلئن كان قياس الكم مما قد يساعد أوجه النشاط العملي الذي يتناول المواد المتغيرة، إلا أنه يستحيل أن يؤدي في أية حالة من الحالات إلى معرفة برهانية، ولا حاجة بنا أن نطيل الوقوف هنا عند الموقف الراهن الذي يختلف عما قد ذكرنا أشد اختلاف، وأعني به الموقف الذي نراه قائمًا في إطار العلم كما نعرفه اليوم؛ فالموضوع العلمي هو قبل كل شيء ارتباط بين تغيرات يقابل بعضها بعضًا في صورة دالة رياضية؛ ولا سبيل إلى القول إن كان مثل هذا الارتباط قائمًا أو معدومًا، إلا بعمليات نقيس بها المقادير الكمية، بحيث تنتهي بنا إلى نتائج نضعها في صورة عددية؛ ومن ثَم كانت القضايا الجزئية من حيث هي كذلك، في سياق العلم الحديث، عبارة عن تحديدات لمادة المشكلة التي هي موضوع البحث، يُراد بها المضي في البحث خطوات أخرى؛ فتلك القضايا الجزئية ليست ختامية، لأنها لا تشير إلى آخر ما يمكن ﻟ «الفكر» أن يبلغه بالنسبة إلى الأشياء التي هي بطبيعتها جزئية وغير كاملة؛ فالقضايا الجزئية هي مرحلة البداية في عملية البحث؛ وعلى ذلك فاحتفاظنا بالقضايا الجزئية التي نميزها بكلمة تدل عليها وهي كلمة بعض، أقول إن احتفاظنا بهذه القضايا الجزئية على أنها نوع من القضايا متميز مما عداه، هو مثل آخر لتجميدنا لمبدأ كان له ذات يوم دلالته بالقياس إلى حقيقة الوجود، وكان له ما يبرره تبريرًا علميًّا بالنسبة إلى عصره؛ فمهمة النظرية المنطقية هي أن تعيد نظرية القضايا الدالة على كم، تعيدها بحيث تصبح على صلة بعملية البحث كما هي اليوم قائمة فعلًا.
وإنما تبدأ (النظرية المنطقية في أداء مهمتها تلك) حين نتنبه إلى أن الرابطة التي تصل التحديد الكمي بعملية الإثبات والنفي، ليست رابطة آلية تمس الأمر من ظاهره، بل هي عضوية تنبع من طبيعته؛ فلا «الكيف» ولا «الكم» يمكنه القيام بمعزل عن المقارنة والمقابلة؛ فإذا ما كانت لدينا هذه المقارنة وهذه المقابلة، فعندئذٍ نحدد القضايا بما يميزها من كيف وكم؛ ولئن كان السير في المناقشة وحده هو الذي يقتضينا أن نتناول الكيف وحده أو الكم وحده؛ إلا أن هذا الفصل بينهما لا يقصد به إلا تيسير للحديث لا أكثر ولا أقل؛ وليس لهذا الفصل ما يقابله في مادة الموضوع المبحوث، التي هي أساس المقارنة ونتيجتها وليس بنا حاجة أن نعيد هنا ما قد أسلفناه عن الرابطة التي تصل عملية الحذف بعملية المقارنة؛ وأما ما يهمنا في هذا السياق فهو أن كل مقارنة هي من قبيل قياس للكم؛ إذ من الواضح أن المقارنة تتضمن اختيارًا لهذا ونبذًا لذاك، لأنه محال علينا أن نقارن الأشياء والحوادث في جملتها؛ والدلالة الإيجابية لهذه الحقيقة هي أننا لكي نقارن موضوعات البحث بعضها ببعض، فلا بد لهذه الموضوعات أن تنحل إلى «أجزاء»، أي تنحل إلى مقومات يمكن معالجتها من حيث هي منتمية إلى نوع بذاته، أي من حيث هي متجانسة؛ فلأن تقارن معناه أن تزاوج، وما تزاوج بينه من الأشياء إنما يصبح بهذه المزاوجة نفسها قابلًا للقياس الكمي قياسًا من شأنه أن يعين على المضي في بعض الإجراءات التي تعتزم إجراءها.
والعقبة الوحيدة التي تحول دون الاعتراف بهذه الموازاة القائمة بين المقارنة والقياس الكمي، هي كون النتائج المترتبة على كثير من عمليات القياس الكمي تُصاغ في لغة الكيف، ولا تُصاغ في لغة الأعداد؛ فهنالك أولًا وقبل كل شيء ازدواج في المعنى يتناول الأساس في فكرة الكل والجزء؛ فهي بأحد معنييها فكرة كيفية لا دخل للكم فيها؛ وذلك حين نفهم من كون الشيء كلًّا أنه كامل وتام التكوين، أي أن يكون ذا كيفية مصمتة من أوله إلى آخره؛ فإذا ما ذكرت الأجزاء بالقياس إلى مثل هذا الكل، لم تدل هذه الكلمة على أن شيئًا يمكن فصله أو تحريكه من بناء ذلك الكل؛ وأكثر الأمثلة إلفًا لنا في هذا النوع من «الأجزاء» هو المثل الذي يذكر أعضاء الجسم الحي في بنائه العضوي؛ فإن أزيلت هذه الأعضاء عن جسمها، لم تعد الأعضاء التي كانت قبل، من حيث كانت «الأجزاء» حية من كائن عضوي حي، ولم يعد هذا الكائن العضوي الحي كلًّا كاملًا؛ ومع ذلك فلا حاجة بنا إلى أن نلجأ إلى ما يسمونه بالعلاقات العضوية التماسًا لأمثلة توضح الجانب الكيفي من علاقة الكل بأجزائه؛ ففيما قد أسميناه موقفًا، هنالك صفة كيفية مباشرة تسود كل شيء يدخل في بناء ذلك الموقف؛ فلو كان الموقف الذي نخبره هو موقف من يضل طريقه في غابة، كانت الصفة الكيفية التي هي هذا الضلال عن الطريق متغلغلة ومؤثرة في كل تفصيلة من التفصيلات التي نشاهدها ونفكر فيها؛ فعندئذٍ تكون «الأجزاء» أجزاءً بجانبها الكيفي وحده.
وكلمة «كل» ما تزال تستخدم كثيرًا فيما يتصل بالكلَّات الموحدة توحيدًا كيفيًّا، فنقول مثلًا: «ما كل حياة تُعاش» و«كل بدن هو كالكلأ الذي يكون اليوم يانعًا ثم يُلقى به غدًا في النار» و«قد انتهى الآن كل شيء»؛ و«لقد خمدت النار كلها» و«كل الضيوف المدعوين قد وصلوا» حين نقول هذه الجملة الأخيرة بمعنى أن الجمع قد كمل؛ لا بمعنى يُراد به تعداد الضيوف واحدًا واحدًا؛ لكن المعنى الكمي من علاقة الكل بأجزائه — من جهة أخرى — هو إما أن يشير إلى مجموعة منوعة، أو أن يشير إلى تجمع لوحدات متجانسة بحيث يكون الكل الذي نحن بصدده مما يتحدد مقداره أو عدده بعدِّ الوحدات التي تكوِّنه؛ وبين هذين الطرفين: الطرف الذي يكون الكل فيه كيفيًّا خالصًا، والطرف الذي يكون الكل فيه كميًّا خالصًا، تقع حالات وسطى تقترن فيها المقارنة بالقياس الكمي؛ ومن هذا القبيل قضايا الذوق الفطري التي نميزها بقولنا أكثر عددًا وأقل عددًا، أو تميزها بما يسمونه درجة المقارنة، كقولنا أحر وأبرد، أطول وأقصر، كثير العدد وقليل العدد، كثير المقدار وقليل المقدار … إلخ؛ فهذه القضايا تمثل قياسات للكم، لكنها قياسات لم تبلغ أن تكون تحديدًا عدديًّا، فهذه الحالات الوسطى هي التي تعمل على غموض العلاقة التي تصل عملية المقارنة بعملية القياس الكمي.
لكن القاعدة القائلة بأنه من قضيتين جزئيتين لا يمكن استدلال شيء، هي من جهة أخرى تحذير لنا بأن المادة التي بين أيدينا عندئذٍ هي أضيق من أن تجيز لنا استدلالًا على أساس سليم؛ فهذه القاعدة في حقيقة الأمر نص يدل على ضرورة إضافة ما يسد النقص؛ والأغلاط الناشئة عن كون الموضوع أوسع مما ينبغي أو أقل مما ينبغي، في الأمثلة التي ترد في الكتب المنطقية المألوفة في معاهد الدراسة، أقول إن هذه الأغلاط كما توضحها تلك الأمثلة يمكن رؤيتها في غير عسر، لأنها تمس مادة تم إعدادها أو تم تشكيلها؛ أما في عملية البحث كما تجري فعلًا، فجانب كبير من مهمة الباحث هو أن يقرر هذه النقطة بالذات، وهي ماذا ينبغي حذفه من مادة الموضوع المبحوث، وماذا تنبغي إضافته، وكيف يتم ذلك الحذف أو هذه الإضافة؛ فمثلًا قد اقتضى الأمر قرنين من الزمان قبل أن يتسنى لنا الكشف عن الإسراف في السعة الذي تتسم به أفكار نيوتن عن المكان والزمان؛ واقتضى الأمر زمنًا أطول من هذا بكثير ليتسنى للبحث أن يكشف عن الضيق الذي تتسم به الفكرة القديمة عن الذرات والجسيمات، وهي الفكرة التي لم يجدها العلم صالحة لأغراضه؛ فالطريقة الوحيدة لتعديل مادة البحث التي تكون غير متعينة بسبب ما فيها من تداخل أقسامها بعضها في بعض، وما فيها من نقص لا يكفي ما هو مطلوب منها، أقول إن الطريقة الوحيدة لتعديل مادة البحث هذه هي تقديرها من حيث الكم تقديرًا يتحقق بعمليات القياس الكمي.
والقياس الكمي — كما أسلفنا القول — يتخذ بادئ الأمر صورة كيفية، فالقضايا التي تميزها كلمات مثل: كثير، وقليل، وصغير العدد، وكبير العدد، وكمية كبيرة، ونادر، ووفير، وصغير الحجم، وكبير الحجم، وعالٍ، ومنخفض … إلخ إلخ، تعبر عن قياس كمي على قدر طاقتها؛ لكن ليس ثمة شيء يكون كثيرًا أو يكون قليلًا … إلخ، على سبيل الإطلاق، أو بحكم طبيعته؛ فضلًا عن أن هذه التحديدات لا تتضمن مقارنة فحسب، بل هي كذلك تتضمن علاقة الوسيلة بالنتيجة المترتبة عليها؛ فنقول عن الشيء إنه أكثر مما ينبغي أو أقل مما ينبغي بالقياس إلى غاية معينة، لا في ذاته، فنقول مثلًا: «كنت أود أن أشتري تلك السلعة لكن ليس لديَّ من المال ما يكفي»، و«بعض الناس في هذا البلد عندهم من المال أكثر مما تتطلبه مصالحهم أو مصالح البلد»؛ وفي مثل هذه الحالات تجيء بداية تكوين قائمة الموازنة على صورة قضايا داخلة تحت التضاد، مثل: «بعض المال في متناول اليد وبعضه ليس في متناولها» و«كل إنسان بحاجة إلى بعض المال، لكن أحدًا لا يحتاج أكثر من مقدار معلوم (غير متعين على سبيل التحديد)» فقضايا كهذه فيها علامات تحدد كمها على سبيل التقريب، لكن المقادير الكمية المشار إليها في هذه الحالات ما تزال كيفية في الأغلب؛ ثم يصبح القياس الكمي أو المقارنة أمرًا محددًا إذا ما لجأنا إلى عد الوحدات وجمع ما عددناه منها؛ وعندئذٍ يكون لدينا «كل من أجزاء» بالمعاني الكمية الدقيقة لهذه الكلمات؛ «فكثير» تصبح كم هو في مقدار كثرته؛ و«عديد» تصبح كم هو مبلغ عدده.
ومع ذلك فلا يجوز لنا أن نستنتج بأن القياس الكيفي في جميع حالاته يبلغ من النقص حدًّا بحيث يحتاج — إذا ما أردنا أن نجعل منه تحديدًا وافيًا — إلى أن يتحول إلى قياس عددي؛ مثال ذلك مصور، إذ هو قائم برسم صورة يرسمها، قد يقرر بأن الأحمر في جزء معين من الصورة ليس كافيًا لكي تعطي الصورة الأثر الجمالي المطلوب؛ فعندئذٍ يحدد كم من الأحمر ينبغي له أن يضيف، صادرًا في ذلك التحديد عن «حدس» ومحاولة؛ فلا يكف عن الإضافة إلا عندما يظفر بما يسعى إلى تحقيقه من كلٍّ موحد توحيدًا كيفيًّا؛ وهو يقدر أو يقوِّم الكمية المطلوبة على أساس صافي الناتج الكيفي، لا بأن يزن اللون يميزان يشير بمؤشره إلى أعداد؛ أما إن كانت الحالة خاصة بإنتاج صناعي اقتصادي منظم، فتقدير المقادير عندئذٍ لا بد له أن يتخذ صورة التحديد العددي؛ فالقياس الكيفي في معظم الأحكام النهائية في مجالي الأخلاق والجمال يحقق الغاية المراد بلوغها؛ والإصرار على القياس العددي، حين لا يكون هذا القياس مطلوبًا بصفة أصيلة للنتيجة التي يُراد إنتاجها، هو علامة احترام لشعائر الإجراء العملي على حساب مادة المضمون.
وحين يجتمع القياس الكيفي والعددي معًا، يتحتم حذف شيء وإضافة شيء وبهذا المعنى يعمل القياس الذي يتم بحدود كيفية مثل أكثر وأقل وكافٍ … إلخ، على الاقتراب من العلاقة الكمية التي تكون بين الجزء والكل؛ وعندئذٍ يكون الفرق بين حالتي القياس الكيفي والقياس الكمي اختلافًا في طريقة القياس ومعياره، لا اختلافًا بين حضور القياس في إحدى الحالتين وغيابه في الحالة الأخرى؛ والذي يحدد معيار القياس وطريقة أدائه هو طبيعة الغاية التي تسعى عملية القياس إلى بلوغها؛ فالإصرار على القياس العددي حين تكون الغاية التي تتعلق بها القضية الكمية بعلاقة الوسيلة ونتيجتها، غاية كيفية، أقول إن الإصرار على هذا يكون عندئذٍ سخيفًا سخف من يقنع بقياس كيفي (وهو عندئذٍ ضرب من التحسين) في حالة تكون فيها الغايات المرجوة مختلفة عن الغاية المذكورة.
في حالة المصور، تكون الغاية المنشودة هي الصورة من حيث هي كل كيفي؛ وإذن فالإكثار من هذا اللون والإقلال من ذلك، أمر يمكن قياسه بالملاحظة الكيفية المباشرة؛ فالإكثار من الأحمر هنا لا يقتصر أثره على الجزء المكاني من أجزاء الصورة، الذي يضاف فيه هذا الأحمر، بل إنه ليؤثر في الصورة باعتبارها كلًّا؛ إذ إن هذه الإضافة ستغير من سائر الأصباغ ودرجات اللون تغييرًا كيفيًّا؛ أما في حالة الوصفة الطبية — من جهة أخرى — فالمبالغة في مقدار أحد العناصر الداخلة في تركيب الدواء قد تصيِّر الدواء سُمًّا، والتقتير عما ينبغي في ذلك العنصر من الدواء قد يصيره كأن لم يكن من الناحية الطبية؛ وعلى ذلك فها هنا يكون القياس العددي أمرًا تقتضيه الغاية المراد بلوغها؛ فطبيعة المشكلة القائمة هي التي تقرر آخر الأمر أي نوع من أنواع المقارنة والقياس الكمي هو المطلوب لكي يحقق لنا حلًّا محددًا لتلك المشكلة؛ بيد أن هنالك من الأشخاص من يتحسر حين يرى العالم في سبيله إلى تحويل شتى المواد إلى حدود عددية؛ وحسرتهم هذه أساسها ظنهم بأن ذلك التحويل من شأنه أن يمحو القيم التي هي كيفية؛ وإلى جانب هؤلاء الأشخاص آخرون يصرون على وجوب تحويل الموضوعات جميعًا إلى حدود عددية؛ وكلا الفريقين مخطئ خطأ منطقيًّا هو هو بعينه من كلتا الحالتين؛ إذ إن الفريقين كليهما لا يدركان المعنى المنطقي لعملية القياس الكمي؛ وهي عملية تحددها الرابطة الوسلية التي تربط القضايا الكمية بالنتيجة الموضوعية المنشودة؛ فكلا الفريقين ينظر إلى القضايا على أنها نهائية وكاملة، على حين أنها — في حقيقة الأمر — خطوات وسطى في طريق السير، وأدوات وسلية لبلوغ الغاية.
وواضح أن أحد أوجه الاختلاف الهامة بين الذوق الفطري من ناحية والعلم من ناحية أخرى، ينشأ من ميل الأول نحو أن يكون قانعًا بالقياس الذي يغلب عليه الجانب الكيفي؛ وذلك لأننا في أغراضنا العملية يكفينا من القائل أن يصف ازدحامًا بأنه ضخم، أو أن يصف غرفة بأنها تزداد دفئًا أو تزداد برودةً، أو أن يصف النهار بأنه يزداد إشراقًا أو يزداد جهامة … إلخ، على حين ترانا نتطلب مقارنات عددية إذا ما كان الأمر أمر تقنيات أو مشروعات تجارية وصناعية، أو علم، فهذه كلها أمور لا تفي بمقتضياتها إلا المقارنات العددية؛ فالقائمون على شباك التذاكر في مسرح مثلًا يريدون أن يعرفوا على وجه الدقة مدى ضخامة «الازدحام» أو مدى ضآلته في رواد المسرح؛ وربة الدار الدقيقة تريد مقياسًا للحرارة لكي تحافظ على اختلافات درجات الحرارة داخل نطاق معين الحدود؛ والباحث في المعمل لا بد له أن يقيس قياسًا عدديًّا كم على وجه الدقة من كل عنصر، وكم من كل صورة من صور الطاقة، يدخل في استحداث الظاهرة التي هو بصدد درسها؛ ومع ذلك فكافة الحالات — سواء منها ما كان في مجال الذوق الفطري أو في المجال التقني أو في مجال الأعمال الصناعية والتجارية أو في مجال العلم — تكشف كشفًا صريحًا — عند تمحيصها — عن علاقة الوسيلة بغايتها؛ وهي بهذا الكشف تبين كيف أن قضايا الكم بطبيعتها تجيء خطوات وسطى في طريق السير، وكيف تكون بمثابة الوسائل المؤدية إلى حل محدد الموقف كان ليظل بغيرها موقفًا غير متعين.
إنه كثيرًا ما يُقال إن فكرة الكم مرتكزة على إهمال تام للكيف؛ وعلى هذا الأساس يدَّعي بعضهم — وبخاصة المناطقة الذين ينتمون إلى المدرسة المثالية — بأن فكرة الكم تنسحب من العالم «الحقيقي» إلى الحد الذي يجعلها ممثلة لدرجة دنيا من درجات «الفكر»؛ لكن هذه النظرة تقوم على قصور في تبين الصفة الإجرائية التي تتميز بها القضايا المتحدثة عن الحكم، سواء أكان ذلك في نطاق الماصدق أم في نطاق المفهوم؛ على أن فكرة إهمال الكيف تتعرض كذلك لسوء فهم جوهري؛ لأننا إذا أردنا عبارة تقرر الأمر تقريرًا صحيحًا، قلنا إن القضايا المتحدثة عن المقادير الكمية إنما تقوم على أساس من الكيف ينطوي عليه الموقف انطواءً يجعل الكيف متغلغلًا في شتى أجزائه؛ وأن تلك القضايا الكمية إن غضت النظر عن شيء، فذلك هو الاختلافات الكائنة داخل هذه الكيفية الأساسية؛ أي إنها تغض النظر عن تلك الكيفيات — وتلك الكيفيات وحدها — التي تكون داخل الكيفية الأساسية، ولا تكون ذات صلة بموضوع البحث، من حيث هي وسائل تسير بالباحث نحو النتائج المراد تأييدها؛ فلو حاول شخص — مثلًا — أن يصوغ قضية عن عدد الأغنام التي يملكها، أو عن مساحة المرعى الذي تطعم فيه تلك الأغنام، فهو يغض النظر عن الاختلافات الكيفية التي تميز أفراد الغنم بعضها مع بعض، ويغض النظر كذلك عن الاختلافات الكيفية بين الأجزاء المختلفة من الحقل الذي ترعى الأغنام فيه؛ لكنه لا بد أن يلاحظ الكيفية التي تجعل الأشياء غنمًا، وإلا أدخل في حسابه — مثلًا — الكلاب والأحجار؛ وكذلك لا بد له أن يلاحظ الكيفية التي تجعل المرعى من النوع الذي هو منه؛ والمغزى المنطقي من هذه النقطة التي لا يجهلها أحد، هو أنها تشير بصفة عامة إلى (١) تأثر قضايا الكم بتوجيه الكيفية التي يكون عليها الموقف الذي هو مثار المشكلة المبحوثة، ثم هي تشير بصفة خاصة إلى (٢) أهمية النهايات القصوى وما لهذه النهايات من طبيعة منطقية.
ومع ذلك ففي كل مثل من الأمثلة المذكورة جانب متضمن دالٌّ على اكتمال الكل، ومن ثَم فهو دالٌّ كذلك على نهاية قصوى موضوعية ونابعة من طبيعة الأمر نفسه؛ فليست القضايا جمعية بالمعنى الذي يجعلها مجرد تجمعات لوحدات تحصى واحدة واحدة؛ فالرف مليء بكتب من نوع ما؛ وزمرة الضيوف قد كملت؛ لكن لكلمة كل في بعض القضايا الأخرى معنى ثالثًا أيضًا، وهو معنى يرد القضايا المشتملة على كلمة كل التي هي بهذا المعنى الثالث، إلى مقولة الصورة الجزئية على الرغم من وجود كلمة «كل» في سياقها؛ من ذلك قولنا: «كل حبات الفول في هذا الكيس، التي تم حتى الآن فحصها بيضاء»؛ «لا واحد ممن دخلوا البهو حتى الآن من معارفي»؛ «يبلغ مجموع الطوابع في هذه المجموعة ٨٧٤»؛ ففي هذه الأمثلة وما يشبهها، لا يضع استقصاؤنا للأفراد نهاية قصوى، بل ولا هو يشير بما يدل على أن العد قد بلغ نهاية قصوى؛ وليس هنالك ما يوحي بأن ثمة شيئًا ذا كيان مكتمل قد وضعت له الحدود التي تستوعبه؛ فمن وجهة النظر المنطقية لا تختلف القضية الأولى عن القضية القائلة: «بعض حبات الفول في هذا الكيس بيضاء، وربما كانت كلها بيضاء» وهنا تكون درجة الاحتمال متوقفة على عدد الحبات التي بحثت منسوبًا إلى مجموع ما في الكيس من حبات الفول، وهذا المجموع هو الذي يضع نهاية كيفية قصوى؛ وينشأ الخلط حين نستند إلى إطلاقنا لكلمة جمعي على أمثال هذه القضايا، في تشبيهها — في النظرية المنطقية — بالمجموعات التي تصل إلى نهاية قصوى، أو التي تُوضع لها نهاية قصوى؛ فقولنا إن فرقة الجيش تتألف من كذا سرية، وإن كل سرية تتألف من كذا جنديٍّ، هو قضية جمعية بمعنى يختلف كل الاختلاف عن قضية نقولها عن عدد الكتب في مكتبة، أو عن عدد الطوابع في «مجموعة»؛ تمامًا كما تختلف صورة القضية القائلة «هذه الغرفة تحتوى على كذا قدمًا مكعبة» عن صورة القضية القائلة «هذه الكومة الرملية تحتوى على كذا حبة من الرمل»؛ وسنشير فيما بعد إلى هذا الفرق بينهما بأن تسمى الأولى وحدها بكلمة جمعي، بينما نطلق على الثانية اسم قضية تجمعية.
ولهذه التفرقة التي أشرنا إليها أثرها المباشر على وضع القضايا التي ترد فيها كلمة بعض صراحة؛ ولنا أن نعود إلى المثل التوضيحي الذي سقناه في الفصل السابق عن أشخاص على سفينة تحطمت، ولكننا الآن سنصب اهتمامنا لا على الإثبات، بل على بعض «الأشخاص قد أنقذوا» وبعض «الأشخاص قد هلكوا»؛ فمن الواضح أن القضية الموجبة «بعض الأشخاص قد أنقذوا» والقضية السالبة «بعض الأشخاص لم ينقذوا» ليستا متعينتين؛ وعدم التعين هذا يظهر جليًّا إذا فرضنا أن شخصًا ما له صديق بين ركاب السفينة، جاء يسأل عما قد أصاب صديقه؛ فهاتان القضيتان المذكورتان تشيران إلى تجمعات غير متعينة، وتظلان كذلك حتى يتم تعين الأفراد، ثم يجمع هؤلاء الأفراد في قضية تبلغ في التحديد نهاية موضوعية قصوى، فإذا فرغنا من أداء الإجراءات المطلوبة، كان لنا بعدئذٍ مجموعة (محددة الأفراد)، وهي شيء يختلف عن تجمع (لم تتعين أفراده)؛ وتلك المجموعة يعبر عنها بهذه القضية: «كل الأشخاص المذكورين فيما يلي (ثم تذكر الأسماء على وجه التحديد) قد أنقذوا، وكل الأشخاص الآتية أسماؤهم قد هلكوا» فها هنا تجد تحديدًا كيفيًّا مزدوجًا، فهنالك النهاية الكيفية القصوى الدالة على اكتمال المجموعة اكتمالًا أنتجه ذكر مجموع عدد الأشخاص على السفينة، ثم وصفهم إما بأنهم هلكوا أو أنقذوا.
إلى هنا قد فرغنا من بيان المعنى الذي تكون به كلمة «كل» علامة على قضية كمية، مفرقين بين مثل هذه القضية الكمية (١) وبين مجرد التجمعات (وهذه في عدم تعينها لا تختلف منطقيًّا عن القضايا التي ترد فيها كلمة «بعض») و(٢) بين كلمة «كل» التي ترد في القضايا اللاوجودية (كقولنا «مجموع الزوايا في كافة المثلثات مساوٍ لزوايا قائمة») و(٣) بين كلمة «كل» التي ترد في قضايا كهذه «كل الناس فانون» حيث تصدق كل على كل فرد بغير استثناء من أفراد نوع معين، على الرغم من استحالة عدِّ هؤلاء الأفراد واحدًا واحدًا؛ فكون كلمة «كل» لها هذه المعاني الأربعة، تحذير لنا بألا نستعمل الكلمات استعمالًا يجعل منها مفاتيح نتبين بها الصورة المنطقية، بغض النظر عن سياقها في عملية البحث.
وأنتقل الآن إلى موضوع القياس الكمي الذي يتم بعدِّ الأفراد؛ فالمجموعة المقيسة هي نفسها ذلك النوع من المجموعات التي قلنا عنها توًّا إن لها صفة الاكتمال، بالمقارنة مع التجمع الذي نقتصر فيه على مجرد عد ما يكون فيه من أفراد؛ في حالة التجمع، لا تفرض مادة الموضوع نهايات قصوى يقف عندها العدد، وبالتالي فهي تقصر دون أن ترسم كلًّا مكتملًا؛ وأما المجموعات المقيسة فتتضمن (١) نهايات قصوى تبين أين نبدأ وأين ننتهي، (٢) شيئًا ما متعينًا يتخذ وحده للعد. (٣) تجميعًا — يطرد في الزيادة — لهذه الوحدات حتى نبلغ نهاية الختام؛ وإن كلمة تجميع كما استعملناها هنا تتضمن شيئًا يختلف عن التجمع الذي نجده في مجموعة عددية يقتصر أمرها على مجرد كونها متعددة الأفراد؛ فنحن إذ نقيس وعاءً معدًا للسوائل، من حيث سعته بالوحدات المكعبة، فإن توالي إضافة الوحدات بعضها إلى بعض يكون تجميعًا لأنه يتجه اتجاهًا مطردًا نحو نهاية قصوى على حين أنه حتى لو استطعنا أن نعد قطرات الماء المحتوى في الوعاء، كان آخر ما يمكننا أن نحصل عليه هو مجرد تجمع، كما لو كانت المصادفة هي التي جعلت في الوعاء العدد الفلاني من القطرات — لا أقل ولا أكثر.
إن إضافة الوحدات بعضها إلى بعض في القضايا الجمعية بمعناها الصحيح، ليدل على أن أمثال هذه القضايا تعتمد على مبدأ ما في الترتيب أو التنظيم، وهو مبدأ متفرع عن علاقة متضمنة في تلك القضايا، هي علاقة الوسائل بنتائجها؛ فافرض — مثلًا — أن هنالك عددًا من الأشخاص على سفينة تحطمت فعددهم محدد، ولديهم في السفينة مقدار محدد من الطعام والماء والمسافة التي تفصلهم عن البر معلومة كذلك على وجه التقريب؛ لكن مدة إقامتهم في السفينة والمسافة التي بينهم وبين سفينة أخرى يمكن أن تقوم بإنقاذهم وظروف الجو … إلخ ستظل أمورًا غير متعينة، إذ هي متوقفة على الطوارئ التي لا يمكن حسابها على وجه الدقة؛ فإذا ما قيس مقدار الطعام والماء، لم يكن ذلك لمجرد عد الوحدات الموجودة منهما، بل ليكون التقدير الكمي وسيلة لتقسيم الأنصبة، أي وسيلة لتوزيعهما؛ ولو كان هنالك مخزن من الطعام والماء في متناول الأيدي، بحيث يكفي أكثر مما يقتضيه أبعد تقدير للموعد الذي يمكن أن يتم فيه الإنقاذ، لما كان هنالك وجه للقياس الكمي؛ فلك أن تقول عن «جنة عدن» إن التبذير والتقتير كليهما مستحيل الحدوث؛ وكذلك في أي موقف شبيه بهذا، لا تفيدنا قضايا الكم شيئًا؛ أما في حالات الزيادة والنقص، حيث تتحدد الزيادة والنقص بالنسبة إلى غاية يُراد بلوغها باعتبارها نهاية قصوى، فعندئذٍ لا مناص من توزيع الأنصبة إذا أردنا لسلوكنا أن ينبني على أساس معقول، فتوزيع الأنصبة، أو قسمة الشيء على وحداته، تتضمن مبدأً للتوزيع، وهذا المبدأ هو الذي يضبط ما يتفرع عنه من عملية العدِّ؛ فلو أردنا أن نبلغ الغاية المنشودة فلا بد أن يكون هنالك ما يكفي لذلك، وألا يكون هنالك إلا هذا المقدار الكافي مسايرة لما يقتضيه الاقتصاد وما تقتضيه كفاية الأداء.
ولقد أخذنا أمثلتنا التوضيحية من مجال الذوق الفطري، أي مجال المواقف التي يُراد بها النفع والمتعة؛ وفي هذا المجال يتبين في أجلى وضوح كيف يمسك الجانب الكيفي بالزمام، حتى ليرجح لقضايا الذوق الفطري الدالة على كم أن تكون — كما أشرنا من قبل — هي نفسها شبيهة بالقضايا الكيفية؛ ثم جاء الانتقال من هذه الحالة — على الأرجح — سيرًا بطيئًا على مر العصور، لأنه انتقال اقتضته ضرورات التقنية والتبادل والعلم؛ فكلمة قليل العدد (في الإنجليزية) — مثلًا — مشتقة من أصل لغوي معناه فقير؛ وكلمة كثير العدد (في الإنجليزية) (وكذلك وفير بالعربية) مشتقة من أصل معناه وفرة أو امتلاءً؛ فلئن كان العلم الطبيعي معتمدًا على القياس الكمي بوساطة وحدات عددية متجانسة، فمن الحق كذلك أن يُقال عن هذا العلم بأن العدَّ فيه مقصود به القياس الكمي، وأن هذا القياس إنما توجهه المشكلة التي يضع لها إحدى نهايتيها القصويين موقف كيفي معين، ويضع لها نهايتها القصوى الثانية ذلك الموقف نفسه حين ينفض إشكاله انفضاضًا يكون هو النتيجة الموضوعية المنشودة؛ أما العد لمجرد العد، والقياس لمجرد القياس، فعملان صبيانيان (أي إنهما ينمان على عدم النضج) في محاكاتهما لإجراءات المنهج العلمي.
والوحدات المتجانسة المطلوبة للقياس الكمي حين يتحدد تحددًا عدديًّا، تتعين أول ما تتعين في حالة الأجسام الممتدة في المكان؛ فالشيء الذي يشغل مسافة أو امتدادًا يمكن قسمته في غير عسر إلى مسافات فرعية أو إلى امتدادات فرعية ذوات أبعاد متساوية على وجه التقريب؛ وعَدُّ هذه المسافات الصغرى باعتبارها وحدات، يقيس لنا مدى الجسم الأكبر؛ وأغلب الظن أن امتداد الكف، وامتداد الخطوة في السير، كانا أول ما نشأ من هذه الوحدات؛ وكذلك من المستطاع لقطعة من الخيط أن تثنى نصفين، ثم يثنى النصف نصفين، ثم تعقد فيها العقد عند المواضع التي نريد؛ وباستخدامنا لخيط انعقدت فيه العقد على مسافات متساوية تقريبًا، يمكن أن نحز علامات في عصا، ثم نضع العصا إلى جوار شيء نريد قياسه، فقياس طول الشيء بعدِّ العلامات المحزوزة في العصا الموضوعة إلى جواره، ما دامت العصا والشيء كلاهما يتحدان في الأطراف أو في النهايات؛ وهكذا تتحول الكلمتان اللتان هما كيفيتان نسبيًّا، وأعني بهما كلمتَيْ طويل وقصير تحولًا يسير بهما نحو الدقة فتصبحان طولًا مقداره كذا وقصرًا مقداره كذا؛ ومع ذلك فحتى نشأة الهندسة لم تكن قد حُلَّت مشكلة تحويل العلاقة الكيفية إلى علاقة كمية تحويلًا كاملًا، بل لم يكن يُنظر إلى المشكلة على أنها كذلك؛ فظل تساوي المسافات على الخيط أو على العصا — رغم ذلك — مرهونًا بالتقدير الكيفي، إذ كان متوقفًا على عمليات «الحس والحركة» المباشرة.
وقياس الأشياء المنفصلة هو الحالة التي تبدو في ظاهرها أنها أقرب الحالات إلى الظن بأنها ليست من حالات القياس الكمي، وأنها مجرد عد للوحدات؛ مثال ذلك أن نعد المقاعد في الغرفة، أو أن يعد الراعي أغنام قطيعه، أو أن يعد شخص ما عدد أوراق النقد وقطع العملة التي في كيس نقوده؛ لكنه إذا لم تكن هنالك غاية مرجوة من العد (وفي هذه الحالة لا يكون ثمة قياس ولا وزن) كان مثل هذا العد شبيهًا بعد الأطفال — بعد أن يتعلموا عملية العد — حين يعدون لمجرد المتعة التي يجدونها في ذلك، بل إنه حتى في هذه الحالة يكون هنالك هدف يضع النهاية القصوى، كأن يروا إن كان في مستطاعهم أن يعدوا إلى المليون؛ والراعي يعد أغنامه ليرى إن كان قطيعه «كله هناك»، وليعلم إن كان في طريقه إلى الزيادة أو إلى النقص، وهكذا؛ والمتعقب لرصيده من المال إنما يفعل ذلك لأن له غاية يريد تحقيقها بذلك المال، وهكذا؛ وما هو أهم من ذلك أن مجرد الانفصال المادي بين الوحدات لا يصلح أساسًا للعد في الحالات المذكورة، على شرط أن نفهم من كلمة «مجرد» هنا غض النظر عن النتيجة المراد استحداثها؛ فليس ما يسمونه بالذاتية العددية شيئًا يقدم إلى البحث جاهزًا، بل هو أمر يتقرر في البحث؛ فالكتاب الواحد يكون هو الوحدة لمشكلة ما ولغرض معين، على حين تكون الصفحة هي الوحدة لمشكلة أخرى ولغرض آخر، بل ربما كانت الكلمة الواحدة أو الحرف الواحد هو الوحدة التي نتوسل بها إلى غاية أخرى، وهكذا قد تكون المكتبة الواحدة، أي المجموعة كلها من الكتب، هي الوحدة التي نقول إن لها «ذاتية عددية»؛ فالمواد التي ترد في القضايا على أنها ذاتيات (عددية) إنما تتحدد — كسائر الذاتيات — من أجل الاستخدام الإجرائي، وبفعل ذلك الاستخدام الإجرائي أثناء قيامنا بحل مشكلة معينة.
ويتفرع عن ذلك ضرب من القياس الكمي تزيد أهميته آخر الأمر على أهمية الأصل نفسه الذي تفرع عنه، وهو ضرب يتناول ما يحدث من زيادة أو نقص في التغيرات ذات الطبيعة المتصلة في الوجود الخارجي — وذلك هو نوع الكمية التي نسميها كمية غزارية لنفرق بينها وبين الكمية الامتدادية — فكون الجسم يزداد برودة أو يزداد حرارة، وكونه يتحرك بسرعة تزداد أو تقل (وبصفة عامة كونه يتجه نحو الكيف المضاد) هو من قبيل المقارنات التي تعبر عن قياسات كيفية غامضة يمكن إقامتها على أساس المشاهدات المعتادة؛ أما مشكلة تحويل هذه التقديرات الكيفية إلى صورة محددة، أعني إلى صورة عددية، فهي مشكلة تقتضي التغلب على صعاب لا وجود لها في حالة المقادير الامتدادية؛ وذلك لأن التغير المتصل في صفة كيفية معينة أمر لا يقبل الانقسام إلى وحدات متجانسة؛ إذ إنه بحكم الوصف نفسه ما تنفك الصفة الكيفية عن تحولها المستمر إلى حالات تباين الحالة التي كانت عليها؛ ومن وجهة نظر العلم اليوناني من حيث مضمونه، بما كانت له من نظرة الازدراء إلى التغير، كل ما يلزمنا إزاء التغير هو أن نصنف أنواع التغير الكيفي المختلفة التي تحدث، فنصنفها أنواعًا كهذه: انتقال من الحار إلى البارد، ومن الرطب إلى اليابس، ومن اللين إلى الصلب، ومن أعلى إلى أسفل، أو العكس؛ وهكذا كان العلم القديم يكفيه أن تقول إن كل كيفيات الإدراك الحسي تتغير بين نهايات قصوى متضادة، فالبارد — والبارد وحده — هو الذي يصير حارًّا، وهكذا؛ فلم تكن هنالك حاجة إلى القياس الكمي، وإذن فلم تكن هنالك حاجة إلى الوحدات التي بها نقيس.
ولسنا نجد فكرة التسلسل لا في علم اليونان ولا في منطقهم؛ فلم تظهر هذه الفكرة إلا عندما تبين أن التغير يمكن تحويله إلى حركة، تحويلًا يحقق لنا ما نبتغيه من إقامة مقارنات موجهة؛ وبتحويل التغير إلى حركة، ألفيناه قابلًا للقياس الكمي بوحدات متجانسة من المكان ومن الزمان؛ وعندئذٍ أصبحت نظرية ميكانيكا الأجرام السماوية — لفترة من الزمن — هي النموذج لشتى الأوصاف العلمية والتفسيرات العلمية؛ وكانت المشكلة المبسوطة للبحث هي كيف نترجم التغير الكيفي المتصل، الذي لم يكن يسع القياسات الكيفية إزاءه إلا أن تعالجه بلغة الدرجة الغزارية (فتقول مثلًا أكثر وأقل، وعلى الأقل وعلى الأكثر)، كيف نترجم ذلك التغير الكيفي المتصل إلى ما تعد وحداته من الامتداد، واتجاه الحركة، وسرعة الحركة وعجلة السرعة، مع ربط هذا كله بما يعد من وحدات الزمن.
وهكذا تكون المزاوجة أو المطابقة على وجه من وجوهها، هي العملية الأساسية في كافة القضايا التي يرد فيها تحديد للكم حين يشير هذا التحديد إلى شيء في الوجود الخارجي؛ وهذه الحقيقة توضح لنا المعنى الذي يكون به العدد والمقدار الكمي دالَّيْن على علاقات؛ وإن تكن العلاقة المتضمنة هذا علاقة مركبة، فمثلًا أفرض أن عصًا قد قسمت اثنتي عشرة مسافة متساوية؛ فعندئذٍ يمكن القول بأن العصا مساوية في طولها لهذه المسافات الاثنتي عشرة، وأن كل مسافة منها طولها يساوي جزءًا من اثني عشر جزءًا من طول العصا بأسرها؛ لكننا لو وقفنا بالأمر عند هذا الحد لما كان ثمة قياس، إذ لا يقتصر أمر القضايا على كونها دائرية، بل هي كذلك غير دالة على شيء؛ ولا تصبح العصا وأقسامها الفرعية أداة للقياس إلا حين نحاذي بينها وبين أشياء أخرى على نحو يجعل العصا ويجعل أجزاءها متزاوجة مع اختلافات الأبعاد في هذه الأشياء الأخرى؛ فما لم نستخدم المسطرة لنقيس بها أشياء أخرى، فقدت طبيعتها من حيث هي أداة القياس، وأصبحت مجرد شريط من الخشب تصادف له أن يكون محزوزًا أو مخططًا على نحو معين فيه شيء من غرابة؛ وحتى لو حاذينا بين مسطرة ومسطرة أخرى، أو بين ياردة وياردة أخرى، فلن يكون هنالك قياس، بل كل ما هنالك عندئذٍ هو مراجعة الدقة من حيث القدرة القياسية في إحدى وحدتي القياس، أو في كلتيهما معًا.
والزعم الشائع في مجال الأخلاق هو أن أخلاقية الأفعال المعينة لا يمكن تقريرها ما لم يكن هنالك معيار مطلق تقاس إليه تلك الأفعال؛ وهكذا تراهم يجسدون الحق والجميل بطريقة متشابهة في الحالتين؛ لكن حقيقة الأمر هي أننا نقيم معايير للعدالة والحق والخاصة الجمالية … إلخ، نقيم تلك المعايير لكي يتسنى لنا أن نقارن مقارنة معقولة بين مختلف الأشياء والحوادث بعضها مع بعض، مقارنة من شأنها أن توجه أوجه نشاطنا التي نتناول بها أشياءنا وأمورنا كما تقع لنا في تعينها، تمامًا كما نقيم قضيبًا بلاتينيًّا ليكون مقياسًا معياريًّا تُقاس إليه الأطوال؛ فالمعيار خاضع للتعديل وللمراجعة في إحدى الحالتين خضوعه لهما في الحالة الأخرى سواءً بسواء، وإنما نخضعه للتعديل والمراجعة على أساس النتائج التي تترتب على تطبيقه تطبيقًا عمليًّا؛ ولو اعتقدنا في سر يكمن في طبيعة المعيار فيجعله معيارًا مطلقًا، كنا كالشعوب البدائية وهي تعتقد في السحر؛ فأفضلية فكرة ما عن العدالة على فكرة أخرى، هي في منزلة واحدة مع أفضلية النظام العشري على مجموعة الموازين والمقاييس التي كانت قد وضعت جزافًا أو بما يشبه الجزاف، والتي زالت ليحل محلها النظام العشري في إجراءات البحث العلمي؛ أقول إن الأفضلية في الحالتين هي من منزلة واحدة وإن لم تكن متشابهة الكيف في الحالتين.
إن الياردة والميل، والأوقية والرطل، واللتر والجالون، كلها أفكار ذهنية تنخرط في نفس السلك العام الذي تنخرط فيه الأفكار الذهنية في مجال الذوق الفطري، والتي يتصل بعضها ببعض — كما قد رأينا — على أسس اجتماعية تاريخية؛ إذ هي وسائل لتيسير وتنفيذ شتى ضروب المعاملات الاجتماعية الخاصة بالنفع والمتعة؛ وأما نظام المقاييس العشرية فهو أقرب إلى أن يكون نوعًا من أنساق الرموز ومعانيها، إذ هو نسق نصوغه على أساس العلاقة المتبادلة بين تلك المقاييس بعضها ببعض، كما نصوغه كذلك على أساس السهولة في تحويل بعضها إلى بعض؛ وإذن فالقضايا التي تنشأ لنا نتيجة لتطبيق تلك المقاييس تطبيقًا عمليًّا، هي قضايا وسلية أيضًا، ولو أنها وسائل تفضي بنا إلى غاية تختلف (عن الغاية التي تحققها وسائل التعامل في مجال الذوق الفطري)، وهذه الغاية في الحالة الثانية، هي أنها تيسر لنا عملية البحث؛ وما الأفكار العقلية والمبادئ التي نستعين بها على قياس أو تقويم السلوك الخلفي والعلاقات الخلقية إلا أمور تندرج تحت النوع المذكور نفسه — إذا نظرنا إليها من الناحية المنطقية — ولا بد لنا من تناولها على هذا الأساس إذ نتناولها في شئون حياتنا الاجتماعية العملية.
وجدير بنا في هذا الموضع أن نذكر، على سبيل التمهيد لما سنعود إلى ذكره، على الأقل بأنه بناءً على المبدأ الذي شرحناه، لا يكون المكان والزمان في العلم هما ما نقيسه، بل يكونان هما النتائج التي ننتهي إليها من قياسنا للأشياء والحوادث قياسًا نجريه ابتغاء الوصول إلى تحديد موضوعي لمواقف كانت في بداية الأمر موضع إشكال؛ ولهذه الحقيقة — في سياق هذه المناقشة التي نقدمها — أثر محدد المعالم على العلاقة بين المقدار المنفصل والمقدار المتصل، كما نراهما في القضايا التي تشير إلى حالات الوجود الفعلي؛ ذلك أن وحدة القياس — إذ ننظر إليها من حيث هي وحدة للقياس — هي مقدار منفصل، ولكنها في داخل نفسها مقدار متصل، سواء أكانت ملليمترًا أم كيلومترًا؛ فما يعد مقدارًا منفصلًا في إحدى العمليات الأدائية، يستخدم هو نفسه مقدارًا متصلًا في حل مشكلة أخرى، والعكس صحيح؛ وهذا المبدأ نفسه يصدق أيضًا على القضايا التي تنبئ عن اللحظات الزمنية (وهي مقدار منفصل) والقضايا التي تنبئ عن الامتدادات الزمنية (وهي مقدار متصل)؛ فحتى لو كان هنالك في الوجود الخارجي نبضات من التغير ينفصل بعضها عن بعض، ولا تقبل التجزئة، أقول إنه حتى لو كان هنالك من وحدات التغير ما تكون الواحدة منها كلًّا واحدًا يستحيل تجزئته، فرغم ذلك (١) لا بد لأمثال هذه النبضات من اتجاه إذا أردنا أن نستخدمها في تحديدنا للتغير باعتباره أمرًا متصلًا، و(٢) لا تكون هذه النبضات وحدات للقياس الزمني إلا إذا عددناها واستخدمناها وسائل للمقارنة وللقياس؛ فالاتجاه ضروري، لأنه هو الذي يحدث تداخل الوحدات على النحو الذي يميز كل تغير من التغيرات التي تقع لنا في المشاهدة، والتي نأخذها في جملتها؛ فمثل هذا التغير لا يمكن حدوثه بمجرد وضعنا لنبضات التغير المنفصلة وضعًا يجاور بين الواحدة والأخرى.
فلو كان لهذه النبضات الموحدة وجود، فهي كيفية، شأنها في ذلك شأن القضيب البلاتيني الذي أشرنا إليه؛ وهي لا تصبح وحدات كمية إلا إذا استُخدمت على نحو أدائي يربط — في إطار موحد — تغيرات لو تركت وشأنها لظلت مفككة ومتباينة؛ فلئن كان تنظيم الزمن في خط مستقيم يمتد إلى غير نهاية في اتجاه معين، أمرًا يفيدنا في بعض أغراضنا، إلا أن الامتداد الزمني على صورته التي يدخل بها في أية قضية وجودية (أي قضية غير رياضية) له من الكثافة ما يحدثه تداخل التغيرات المتتابعة، وما يحدثه أيضًا كون التغير في إحدى حالاته الخاصة إنما يقتضي — في تحديده — إشارة إلى التغيرات التي تحدث معًا في آن واحد؛ فقولك — مثلًا — إن حكمًا معينًا قد امتد أمده من ١٨٠٠ إلى ١٨٣٠، كان يكون بغير معنًى إذا لم يكن للفترة المذكورة من مضمون سوى هذا الحكم.
ولقد يحسن بنا أن نشير إشارة صريحة إلى الإجراءات الفعلية التي تتضمنها عملية المقارنة والقياسات الكمية؛ فهي في المزاوجة التي يتميز بها الذوق الفطري، تتخذ الصورة الواضحة، التي هي صورة العد وصورة محاذاة أداة القياس بالشيء المقيس، مضافة إلى ما نقوم به عندئذٍ من مجاورة وحدة القياس بالشيء المقيس أو وضعها عليه؛ وحين تتم المزاوجة بوساطة أسماء الأعداد، فلا بد لهذه الأسماء — ولو أنها لا تزيد على كونها رموزًا — أن تَخرج نطقًا أو أن تُرقم علامات، إذا أُريدَ للعدِّ أن يتم حدوثه؛ فالعد هو إجراء عملي يقع في الوجود الخارجي، كما هي الحال سواءً بسواء في الصفير أو الغناء؛ فإن تكن العمليات الحسابية في العمل العلمي قد تستمر في سيرها داخل الرأس فلا فرق بين ذلك وبين أن تكتب على الورق، أما الرموز من حيث هي رموز فحسب فلا يكون لها تأثير ظاهر في الوجود المادي؛ فإذا أردنا للعملية الحسابية أن يتم حدوثها، فلا بد لنا من تناولها تناولًا وجوديًّا؛ فإن رأيت العرف قد جرى على حذف أعمال العد والحساب التي تتخذ صورة وجودية، من المجال الذي يُعنى به المنطق، فما ذلك إلا مثل آخر لذلك الإهمال المنظم الذي يهملون به سائر العمليات الإجرائية، والذي هو طابع مميز للمنطق الصوري؛ وهو إهمال مرده ذلك المذهب الذي يجعل من القضايا مجرد عبارات تفصح أو تعلن عن حالات وجودية في الخارج أو حالات عقلية في الداخل سبق قيامها قيام تلك القضايا.
وأخيرًا فإن التوجيه الكيفي الذي يوجه القضايا الوجودية الخاصة بالعدد وبالكم لذو صلة بالفرق الكائن بين الواحدية والوحدة؛ فالكل الكيفي وحده هو الذي نقول عنه إنه موحد أو أنه واحد؛ فهو باللغة التي استخدمناها قبل ذلك في هذا الفصل، مؤلف من أعضاء، لكنه ليس تجمعًا من أجزاء ولا هو مجموعة من أجزاء؛ فإذا ما حدث في الكل الكيفي تضارب داخلي، كان لكليته الشاملة لأجزائه أثرها في تغيير كيفية ذلك التضارب، تمامًا كما تكتسب الحرب الأهلية صفتها التي تجعلها حربًا أهلية من كونها تمزقًا طرأ على وفي داخل الواحدية التي كانت تضم أمة أو شعبًا؛ ولا يمكن فض هذا التضارب الحادث، وخلق موقف موحد كيفي جديد، إلا بالخروج من نطاق الموقف الذي كان قائمًا من قبل، خروجًا يمكننا من حذف بعض عناصره وإدخال عناصر أخرى جديدة ومن ثَم كانت ضرورة «المقارنة والمباينة» التي ما هي — كما رأينا — إلا اسم نطلقه على الإجراءات العملية التي يتم بها هذا الحذف وهذه الإضافة؛ والزمام الذي نضبط به تلك الإجراءات التي نجريها هو ما يكون لدينا من غرض نقصد إليه، ألا وهو خلق موقف جديد موحد؛ والقضايا هي الوسائل التي نتوسل بها إلى تنفيذ ما نقصد إلى تنفيذه؛ وإنما تكون هذه الوسائل مقتصدًا فيها وفعالة الأثر (كما هي الحال في بلوغنا أية نتيجة نريد بلوغها) بمقدار ما تتخذ عملية المقارنة صورة القياس الكمي والوزن؛ إذ بغير النتائج التي نحصل عليها من هذه العمليات الإجرائية، تكون الوسائل التي نستخدمها إما دون ما يكفي لتحقيق الغاية التي أردنا تحقيقها، أو مجاوزة للمقدار المطلوب مجاوزة تخلق موقفًا ربما يكون أعقد إشكالًا وأشد تضاربًا من الموقف الأصلي الذي ما استخدمت تلك الوسائل التي استخدمناها إلا لتوحيده؛ نعم إن الكلَّات الكيفية من حيث هي كذلك ليست مما يخضع للقياس الكمي، لا لشيء إلا لكونها فريدة في كيفها، إلا أنها هي الأطراف أو هي «النهايات» التي تصبح القضايا وسائل للسير منها وإليها؛ ولكونها أطرافًا على هذا النحو، كانت لنا بمثابة المعايير التي نقيس بها مدى الأهمية والقوة اللتين تكونان لقضايا القياس، سواء منها ما كان كميًّا وما كان كيفيًّا.
وكذلك الحال في القضية الشرطية كقولنا: «إذا نزل المطر اخضرَّ الزرع» فها هنا لا يجوز لنا أن نستنتج من صدق التالي، الذي هو «اخضرَّ الزرع» صدق المقدم الذي هو «نزل المطر»، لأن الزرع ربما اخضرَّ بسبب آخر غير نزول المطر؛ ولو رتبنا صدق المقدم على صدق التالي وقعنا في خطأ منطقي مصدره أن موضوع الأسباب التي تؤدي إلى اخضرار الزرع تُرك بغير تحديد، فأصبح الموقف أوسع مما يمكننا من الوصول إلى حكم صواب بالنسبة إلى السبب المتعين الذي أدى في هذه الحالة المعينة إلى اخضرار الزرع.