الحكم من حيث هو تحديد مكاني زماني
(١) وأبدأ بالنظر في ذلك الوجه من أوجه تطور الحكم، الذي تغلب عليه الاعتبارات الزمانية؛ وأبسط صورة تظهر فيها هذه الاعتبارات الزمانية، نراها في القضايا التي نقولها عن مادة وجودية راهنة لكنها في طريق التغير، إذ نعبر عنها باللغة عن طريق الأفعال المبنية للمعلوم الدالة على اللحظة الحاضرة؛ ومن أمثلة ذلك مشاهدات كهذه: «الشمس طالعة؛ وهي تزداد إشراقًا؛ الغرفة تزداد برودة؛ إنه يزداد اقترابًا؛ الساعة تدق؛ النار في طريق الخمود … إلخ»؛ وفي قضية مثل هذه: «كان هنا منذ بضع دقائق، لكنه قد ذهب» ترى موضوع الحديث من نفس النوع السالف، لكن الكلمات: «كان» و«منذ» و«قد ذهب» تجعل الإشارة إلى الزمن الماضي أمرًا صريحًا، بعد أن كانت الإشارة إلى الماضي في الجمل السابقة أمرًا مضمرًا يفهم من سياق الحديث وها هنا لا بد لنا من ملاحظة أن كل قضية وجودية تحمل في صلبها إشارة تنتقص من صفتها الحضورية بكونها تشير إلى الماضي وإلى المستقبل معًا، إذ هي تشير إلى ما قد كانت عليه الحال وإلى ما ستصير الحال إليه؛ وبغير هذا الحد من إطلاق الصفة الحضورية على ما هو كائن الآن، يفوتنا أن نميز التغير بالطابع الذي يميزه؛ إذ لو كان الأمر مجرد سيال من التغير لما أمكن ملاحظته ولا تقويمه ولا تقديره؛ لكن الحالة من حالات التغير تتميز بالوجهة التي تسير نحوها — إذ هو تغير من شيء ما إلى شيء ما؛ ففي قولنا: «الشمس طالعة» إشارة إلى أنها كانت تحت الأفق، لكنها الآن تتحرك صاعدة فوق الأفق شيئًا فشيئًا؛ وكذلك القضايا التي من قبيل قولنا «إن الشيء الفلاني حلو أو أحمر» تقرر (كما ذكرنا من قبل) إما أن شيئًا ما في طريقه إلى أن يصير أو أنه قد صار بالفعل ذا كيف مختلف، أو أن ذلك الشيء له القدرة على أن يغير شيئًا آخر — أن يجعله أحمر أو حلوًا.
ولهذه النقطة التي أثرناها الآن توًّا أهمية أساسية بالنسبة إلى النظرية الخاصة بوجه الحكم الزماني والتاريخي، وهو وجه قد لا يكون ظاهرًا للوهلة الأولى؛ وذلك لأنها تدل على أن الموضوع الموحد في كل قضية زمانية هو دائري، أو هو دورة أو ما يدل على هذا المعنى من الألفاظ؛ فلأن تحكم معناه أن تصيِّر الأمر الذي تصب عليه الحكم أمرًا متعينًا، ثم لأن تجعل الأمر متعينًا معناه أن ترتبه وتنظمه، وأن تروي عنه في صورة معينة؛ والترتيب الزمني إنما ينشأ خلال إيقاعات تتضمن فترات متكررة وفواصل وحدودًا؛ وكلها أمور يدخل بعضها في بعض؛ إذ البدايات المطلقة والنهايات والخواتيم المطلقة أسطورة من الأساطير؛ فكل بداية وكل نهاية لا تكون إلا تحديدًا لطرفي دورة أو دائرة من التغير الكيفي وليس لتحديد الزمن — باليوم أو بالدقيقة أو باللحظة — من معنًى إلا أن يكون تعيينًا لطرف تبدأ عنده دورة التغير أو تنتهي.
ولما كان كل تغير — حين يوضع تحت البحث — حلقة أو دورة من حوادث تتحدد بدايتها ونهايتها بالموقف اللامتعين الذي يُراد له أن يفض (ومن ثَم فالبداية والنهاية ليستا مطلقتين) أقول إنه لما كان كل تغير هو هكذا، أمكن لكل تغير معين أن يروى بلغة نستخدم فيها صنوفًا لا نهاية لها من حوادث صغرى داخلة في ذلك التغير، كأن نذكر أحداثًا عارضة وحكايات ووقائع؛ فلمعة البرق عند الرجل من عامة الناس توشك أن تكون واقعة معزولة حدثت في لمحة من الزمن؛ أما وصفها العلمي فرواية تروي تاريخًا طويلًا، لم تكن لمعة البرق إلا إحدى حوادثه؛ وكلما ازدادت المعرفة العلمية نموًا، ازدادت القصة طولًا؛ وكذلك الجبل الذي يراه الرجل من عامة الناس رمزًا قائمًا يدل على الثبات، يراه الجيولوجي مسرحًا لتمثيلية فيها ولادة ونمو وتدهور وموت آخر الشوط؛ فما لم نضع نصب أعيننا الفرق بين التغير الوجودي بوصفه تغيرًا في الوجود لا أكثر، وبينه بوصفه موضوعًا نصب عليه الحكم، لبثت طبيعة الحادثة من الحوادث لغزًا غير مفهوم؛ فكلمة حادثة إنما هي حد من حدود الحكم، وليست هي شيئًا كائنًا في الوجود الخارجي بمعزل عن الحكم؛ فنشأة وتطور سلسلة جبال الأبلاش حادثة كما أن خلخلة حصاة معينة وانزلاقها على حافة معينة من سفح معين حادثة؛ وقد ينشأ الموقف الذي تكون فيه قصة من هذا النوع الثاني أهم بكثير في الحكم من تاريخ لديمومة طويلة الأمد؛ كما هي الحال — مثلًا — عندما تكون الحصاة المنزلقة «سببًا» لالتواء العقب؛ على حين أننا في القصة التي نروي بها دورة التآكل في حياة الجبل، لا نكاد نذكر انزلاق الحصاة إطلاقًا على أنه إحدى الحوادث؛ لأنه عندئذٍ لن يكون إلا نموذجًا غير ملحوظ في ذاته، ولكنه يُساق مثالًا لنوع من الوقائع لا تكون له دلالة إلا إذا أخذناه في جملته؛ فالمعنى الدقيق للحادثة هو الشيء الذي يطرأ أو الذي ينجم، أو صافي الناتج الذي يلفت النظر، أو هو الحدوث؛ فالحادثة تتضمن فكرة غائية، وهي لا تصلح للوصف وللرواية إلا إذا جعلنا لها بداية تحدد طرفها ثم فترة وسطى ثم ختامًا.
ويمكن بسهولة بحث القضايا التي تدخل فيها الروابط الزمنية دخولًا صريحًا عند تكويننا للحكم، تحت رءوسٍ ثلاثة: (١) القضايا التي تتناول ماضي قائلها شخصيًّا (٢) والقضايا التي تُقال عن حوادث خاصة لا تدخل مباشرة في مجال الخبرة الشخصية عند قائلها، (٣) والروايات التاريخية التي تتتابع فيها الأحداث.
(١) أحكام التذكر
كثيرًا ما يتخلص الباحثون من هذه الأحكام بأن يَعزوها مباشرة إلى ملكة يقولون عنها إنها ملكة الذاكرة؛ وقوام هذا الإجراء هو أنهم يُطلقون اسمًا على حقيقة كون الأحكام التي يُصدرها صاحبها على ماضيه وتاريخه أمرًا ممكنًا وواقعًا بالفعل، ثم تراهم بعدئذٍ يعاملون هذه الحقيقة كما لو كانت قوة سببية؛ فإثباتي بأني فعلت شيئًا معينًا بالأمس، أو أنني كنت مريضًا في الشهر الماضي معناه أني قد أنشأت في تقديري تتابعًا زمنيًّا؛ وهذا لا يختلف عن أي عملية أعيد بها بناء الحوادث التاريخية، إلا في كون مادته تقع داخل سيرة حياتي؛ فلو كان إثباتي ذلك قائمًا على أساس سليم، وجب أن يكون نتيجة «استدلالية»، ومن ثَم فهو يرتكز على بينات عمادها مشاهدات؛ وهو ككل حاصل استدلالي آخر معرض للخطأ حتى وإن تكن مادته متصلة بشيء تم أداؤه أو تمت معاناته منذ خمس دقائق؛ فبينما يكون مضمون القضية في العادة — إذا ما بسط ذلك المضمون في عبارة لغوية صريحة — عملة جزئية، أو شيئًا ما عاناه صاحبه في لحظة معينة من لحظات الماضي، إلا أن حقيقة الأمر من الناحية المنطقية هي أن ذلك المضمون شوط من حوادث، أحد طرفيه هو الحالة الراهنة، وطرفه الآخر حادثة حدثت في اللحظة الزمنية المعينة في الماضي.
وهكذا ترى الحالة التي نحن الآن بصددها، مثلًا يوضح المبدأ القائل بأن كل قضية زمنية تتناول دورة أو فترة ما؛ خذ قضية كهذه: «ذهبت إلى يونكرز بالأمس» أو أية جملة أخرى تُقال عن فعلة جزئية؛ فهي في ظاهرها تشير إلى حدث قائم بمفرده؛ غير أن ضمير المتكلم في هذه الجملة لا يكون ذا معنًى إلا إذا كان متكلم اليوم هو نفسه الذي كان بالأمس والذي كان خلال الأيام السابقة قبل الأمس؛ أضف إلى ذلك أن الفعلة الجزئية المذكورة في الجملة لها خلفية وواجهة، ولو لم تكن مشتبكة في مجرى الوجود المستمر، الذي منه نشأت وإليه تضيف؛ أعني أنها لو كانت معزولة وحدها عزلًا تامًّا، ومغلقة على نفسها، لما كان تعييننا لتاريخ معين ولا إشارتنا بضمير المتكلم ذا معنًى أيسر المعنى.
إن بضعة من الأمور الراهنة في اللحظة الحاضرة هي التي تكون دائمًا المناسبة التي نستعين بها على إعادة بناء الحادثة الماضية؛ ولو أخذت هذه المناسبة على إطلاقها لما كان لها عند المنطق منزلة؛ لكنها باستخدامها لجهاز عضوي (وهو جهاز له الصفة العامة التي تلحقه بما يطرأ على البدن من تكييف، وهو ما نسميه بالعادة) تستدعي أو «توحي» بشيء ما ليس حاضرًا؛ غير أن هذا الشيء الموحى به إذا أخذ على إطلاقه أعوزته الصفة المنطقية هو الآخر؛ إذ قد يكون وليد نزوة أو حصنًا في الهواء؛ وعلى أية حال، فإذا قبلت الشيء الموحى به قبولًا مباشرًا، دون بحث واختبار، إذا قبلته باعتباره يصور شيئًا ما في تاريخي الماضي، فقد يتخذ هذا القبول صورة قضية إذ أجريه في ثوب خارجي من عبارة لغوية، لكن هذه القضية لن تمس صفته المنطقية؛ ذلك لأن إثبات ما قد أثبته غير قائم على أساس سليم، وهذه حقيقة يأخذها فريق فيعلون من شأنها ويجعلونها فضيلة، بأن يرجعوا الأمر إلى إدراكٍ حدسي عند «ملكة» الذاكرة، لكن هذا الفريق إنما يأخذ — في حقيقة الأمر — نتاج عمل الجهاز النفسي الفسيولوجي، ويعدونه ضربًا من ضروب المعرفة؛ فلكي تكون فكرة الحادثة الماضية ماثلة في قضية لها خاصة منطقية، لا مناص من أن نتناول بالنقد الدقيق فكرة الحادثة الماضية التي أوحى بها جهاز التداعي؛ فأسأل: أحقًّا قد فعلت كذا، وفعلته على النحو الفلاني؟ أم أنني اقتصرت على التفكير في فعله؟ أم كان الأمر مجرد شيء سمعته فترك في نفسي انطباعًا ناصع الوضوح؟ أو ربما يكون شيئًا أتمنى الآن أن لو كنت قد فعلته؟
وحتى أولئك الذين يذهبون إلى أن بعض «أفكار الذاكرة» أو «الصور الذهنية» — على الأقل — تسوق معها إشارة تكون جزءًا منها وتدل على أن شيئًا ما يقابل تلك الأفكار أو الصور الذهنية، قد حدث بالفعل في مجرى الخبرة الماضية التي مرت بصاحب تلك الذاكرة، أقول إنه حتى أولئك لا يبلغون بمذهبهم ذاك مبلغ أن يقولوا بأن الفكرة أو الصورة الذهنية تسوق معها تاريخ حدوثها على وجه الدقة؛ فما دام (١) المكان الزمني لأية حادثة (أعني تاريخ حدوثها) في حدث متتابع اللحظات، إنما تتشابك خيوطه مع سائر خيوط الحالة التي يستعيدها المتذكر من حالات ماضية، كائنة ما كانت تلك الحالة المتذكرة، وما دام (٢) مثل هذا المكان الزمني أي تاريخ الحدوث ليس جزءًا أصيلًا من طبيعة الشيء الموحى به (أعني أنه ما دامت الحادثة الماضية الموحى بها لا تحمل تاريخ حدوثها مطبوعًا عليها) إذن فمضمون الشيء الذي نستعيده بالذاكرة هو بغير شك نتيجة استدلالية، أي إنها مرهونة بحكم ينصب عليها؛ وصحة هذه النتيجة تتوقف على المادة التي استخدمناها بينات تشهد على صحتها، شأنها في ذلك شأن أي استدلال نجريه عن حادثة تقع كلها خارج نطاق الماضي الشخصي لمن يقوم بذلك الاستدلال.
هذا فضلًا عن أن تحديد تاريخ الحدوث ليس مطلقًا؛ إذ هو يعتمد على ربط حادثة معينة بغيرها من الحوادث التي سبقتها والتي لحقتها على نحو يجعلها — إذا أخذت في مجموعتها — تكون سلسلة زمنية أو تاريخًا؛ فإذا قلت «كنت في داري الساعة الخامسة أمس» كنت في الواقع أنشئ مجرًى من الحوادث متتابع اللحظات، ليكون موضوع اعتقاد قائم على أساس سليم: فكلمة «أمس» لا دلالة لها إلا من حيث ارتباطها باليوم، وباليوم السابق على الأمس، وبسلسلة الأيام المقبلة غدًا؛ وعبارة «الساعة الخامسة» لا دلالة لها إلا من حيث ارتباطها بالساعة الرابعة وبالساعة السادسة، وهكذا؛ فالمشكلة التي يعرضها أمامنا الموقف الممتد على فترة من الزمن، والذي ينصب عليه التحديد تضبط لنا التاريخ الزمني الذي يجعل لها دلالة حاسمة؛ ولو كانت الوقائع معزولة ومستقلة بوجودها كما يبدو عليها في الجملة التي تُقال عنها، حين تنفصل هذه الجملة عن سياقها، لما كان لهذه الجملة معنًى أكثر مما تعنيه إذا ما نطق بها ببغاء؛ ولو كانت آلة حاكية هي التي نطقت بالجملة، لتحدد معناها بسياقها، كأن يحدده — مثلًا — سياق القصة أو سياق الإخراج التمثيلي الذي وردت فيه؛ فالسياق هنا — كما هي الحال في أمور أخرى كثيرة — مختفٍ عن الصورة اللغوية لا لشيء إلا لأننا نأخذه مأخذ التسليم.
ولو حدث أن كان هذا الذي يثبته المتذكر معتمدًا على ذاكرته، موضع شك عند شخص آخر، أو عند صاحب الذاكرة نفسه، لكانت وسيلة تأييده هي الإفصاح عما كان مضمرًا من التتابع الزمني في مجرى السياق، كأن يقول عندئذٍ: «في الساعة الرابعة والنصف كنت أغادر مكتبي، وإن وصولي إلى الدار ليستغرق نحو نصف ساعة كاملة، وقد عدت رأسًا من مكتبي إلى داري، وأذكر أني نظرت إلى الساعة عند دخولي، ثم تناولت صحيفة المساء وجعلت أقرأ، وحينئذٍ دخل فلان» وهكذا؛ وعلى الرغم من أن إعادة ترتيب الحوادث على هذا التتابع قد تكون كافية بالنسبة إلى معظم أغراضنا العملية؛ إلا أنها لا تكفي من الناحية المنطقية؛ لأن هذه الحوادث الأخرى هي كذلك أمور تذكرناها، فهي بدورها تتطلب هذا الضرب بعينه من ضروب التأييد كالذي تطلبه حكم الذاكرة الذي بدأنا به، وها هنا تأتي الإشارة إلى الإثبات الموضوعي لتلعب دورها في الشهادة؛ ولقد يكون اتساق الرواية التي نرويها عن حدث ما، زعمنا له الحدوث، مع روايات أخرى رويت عن حوادث معينة أخرى مزعوم لها الحدوث قبل ذلك الحدث وبعده، أقول إن هذا الاتساق قد يكون شاهدًا طيبًا في حدود نطاقه الذي يتسع له؛ لكنه معيب بالعيوب التي تؤثر في شتى الحالات التي يقتصر أمرها على مجرد اتساق أجزائها بعضها مع بعض؛ فكثيرًا ما ينشئ المرضى بالأوهام روايات عن الماضي تدعو إلى العجب في اتساق أجزائها، حتى ليقتضي الأمر حتمًا في الحالات الهامة، كالحالات التي تعرض — مثلًا — في محاكم القضاء، بينة خارجية من وثائق ومشاهدات مباشرة شاهدها أشخاص آخرون وهكذا؛ وحيثما نجد ما يسوغ الريبة في تواطؤ أو في قيام صالح مشترك يدعو أصحابه إلى خلق اعتقاد في وضع وهمي للأمور، فعندئذٍ لا يكفينا من الوجهة المنطقية إلا دليل أمعن في البعد عن مجرد الاتساق الداخلي، وإنما يكون الدليل أمعن في البعد من مجرد الاتساق الداخلي إذا استقل بذاته عن أي عنصر شخصي، ولو أننا بالطبع مضطرون في حالات كثيرة أن نتصرف وفق بينة تقصر قصورًا شديدًا عن توافر الحسم المنطقي التام.
وبعبارة أخرى فإن أحكامًا كالتي نقولها عن الشئون الوجودية كافة، إنما تقوم على الاحتمال لا على «اليقين»؛ ومن ثَم كانت أفعالنا التي نؤديها نتيجة لقبولنا لتلك الأحكام، ليست من الناحية المنطقية أفعالًا تترتب على ما قد حدث في الماضي حدوثًا حقيقيًّا، أي إنها ليست مجرد لواحق عملية تلحق بأحكام كملت صياغتها؛ بل هي إجراءات عملية من شأنها أن تزودنا بشاهد جديد يثبت أو يضعف أو يعدل على نحو ما، الرأي الذي كنا قد قبلناه قبولًا مؤقتًا تقديرًا منا أن يكون هو الرأي الصواب؛ فافرض أنني شككت فيما إذا كنت قد وضعت في البريد خطابًا معينًا بعد الفراغ من كتابته، فها هنا تراني أزعم مؤقتًا بأني قد وضعته في البريد فعلًا، وأؤدي ما يؤديه المنتظر للرد الذي يستدعيه ذلك الخطاب، وتجيء النتيجة عاملًا على القطع بصواب زعمي؛ فإما أن يصلني الرد أو لا يصلني؛ أو ربما تراني أخشى بقوة ألا أكون قد وضعت الخطاب في البريد وعندئذٍ أؤدي الإجراء العملي الذي أبحث به في كل الأمكنة التي يحتمل أن أكون قد تركت الخطاب فيها؛ وإذا لم أجده فسأظل على غير رغبة في الجزم بفكرة أني قد وضعته في البريد؛ فأكتب خطابًا آخر مستفسرًا، لأستيقن من إرسالي للخطاب الأول أو عدم إرسالي له؛ وإن هذه الأمثلة الموضحة لتدل على أن ما نبنيه من تسلسل تاريخي مستمر متتابع من حلقات كيفية الطابع، ليس مقصورًا على الماضي؛ فالحوادث التي ستحدث في المستقبل ترتبط بالحوادث التي حدثت بالفعل، وبالحوادث التي هي الآن في سبيل الحدوث، ترتبط بهذه وتلك بروابط تجعلها وإياها تيارًا متصلًا على نحو يتيح لنا أن نتخذ منها أدلة نستشهد بها عند اختبارنا لمدى صدق ما نتذكره عن الماضي، وما نقدر له الصواب تقديرًا مؤقتًا، مما يتصل بما أديناه وبما قد حدث لنا في الماضي.
وإن انفصامًا ملحوظًا يقع في اتصال مجرى التتابع في الحوادث المستقبلة أو القادمة مع الحوادث التي نظنها قد وقعت لنا في الماضي، ليكفي — على وجه العموم — لكي نعتقد بأن ما قد ظنناه صوابًا هو باطل إن لم يكن وليد الخيال؛ ومن ناحية أخرى، فإن كثرة تكرار التأييد الذي تؤيد به الحوادث المقبلة أحكامنا الزمنية التي أنشأناها من تذكر الماضي، ليزودنا بثقة عملية في إمكان الركون إليها بصفة عامة، ولما كانت عملية البحث عملية متصلة، كانت النتائج التي ننتهي إليها بمنهجنا هي الأساس الذي يبرر لنا أن نركن إلى المعطيات الأولية ونعدها كافية حتى لو لم تكن في ذاتها كافية كفاية مادية؛ إذ إن هذه الثقة (ثقتنا في صدق السالف على أساس صدق ما قد نتج عنه) تجعلنا نعتاد التصرف على فرض أن المعطيات الأولية كانت دقيقة دون أن نخضعها لاختبارات منطقية خاصة؛ وحتى الحالات التي إذا ما نظر إليها نظرة سطحية خلقت اعتقادًا بأن تذكر المتذكر لماضية ليس من قبيل الأحكام المستدلة، بل هو من قبيل «المعرفة المباشرة أو الحدسية»؛ أقول إنه حتى هذه الحالات هي بذاتها الحالات التي إذا فحصت عن كثب، تبين «أنها أمثلة من بنائنا لتتابعات من الحوادث وقعت على أمد فسيح من الزمن»؛ وعلى وجه الجملة فإن ركوننا إلى ما نعيد إقامته من خبرتنا الشخصية الماضية، ليجد ما يؤيده مرة بعد مرة في مجرى الحوادث المقبلة، حتى لنرى أنفسنا قد اعتمدنا عليه دون إخضاعه لاختبارات خاصة؛ فلسنا نلجأ إلى مثل هذه الاختبارات الخاصة إلا في حالات الشك الشديد.
وربما بدا أننا قد أنفقنا وقتًا طويلًا في مناقشة نقطة هي في ظاهرها غاية في الوضوح، أو هي نقطة إن لم تكن واضحة فهي على كل حال ليست بذات أهمية كبيرة؛ لكن الأمر ليس كذلك في حقيقته، لأن القول بأن كل قضية زمنية هي قضية تروي رواية، معناه أن القضية إنما قيلت عن مجرى من الحوادث المتتابعة، لا عن حادث معزول وحده في لحظة مطلقة من الزمن؛ وإن هذه الفكرة لتبلغ من الأهمية الجوهرية حدًّا يضطرنا أن نستيقن من صوابها بحيث لا يأتيها بعد ذلك شك معقول؛ وأبسط الأمثلة لذلك هو مثل التذكر؛ وما دامت قد سادت اليوم فكرة استعيرت من مذهب سيكولوجي لم يمحص، بأن التذكر حالة نعيد فيها إقامة الماضي إعادة «مباشرة»، فهي إذن فكرة ذات دلالة منطقية خطيرة.
(٢) الأحكام عن الحوادث التي تقع خارج التذكرات الشخصية
إننا لا نفتأ نصوغ أحكامًا تعيد بناء المشاهد الماضية التي تقع بأكملها خارج نطاق الخبرة الشخصية، حتى ليستحيل علينا أن ندخلها تحت نظرية المعرفة المباشرة أو المعرفة الواضحة بذاتها؛ فقد نجد إنسانًا ميتًا في ظروف لا يبدو من ظاهرها أنها تزودنا بالدليل الشاهد على زمن موته والطريقة التي مات بها؛ ومع ذلك فهنالك من الظروف ما يمكن مشاهدته، وها هنا نلجأ إلى فحص تحليلي نستخدم فيه ما يمكن استخدامه من أدوات ومن طرائق فنية؛ وعندئذٍ نحصل على معطيات حاضرة نجعلها أساسًا لاستدلال ما قد حدث في الماضي؛ فيزودنا الفحص الطبي بمعلومات نستدل منها زمن وقوع الموت على نحو التقريب كما نستدل منها شيئًا عن ظروفه المباشرة؛ كأن يُقال مثلًا إن الموت قد حدث منذ ثماني ساعات برصاصة أُطلقت من مسدس ذي عيار معين … إلخ، وهي نتائج لا تزودنا بها المعطيات في حد ذاتها لو قصرنا أنفسنا عليها وحدها، بل هي نتائج ننتزعها بعملية استدلالية، فتكون بمثابة تأويل للوقائع كما قد شهدناها مشاهدة مباشرة؛ والتأويل بدوره مستمد من أفكار ذهنية كنا قد حصلناها من الخبرة السابقة؛ وإنما تكون هذه الأفكار الذهنية مستوفية لما يقتضيه المنطق بالدرجة التي نكون قد حللنا بها خبراتنا الماضية تحليلًا نقديًّا؛ وذلك فضلًا عن أن القضايا التي نصوغ بها النتائج التي استدللناها، هي بغير شك مراحل وسطى (خلال السير في البحث) وليست هي بالمرحلة الختامية.
وترانا نقول إن المعطيات تُقضى باستبعاد فكرة الانتحار أو إمكان حدوثه؛ وهي وإن تكن توحي بوقوع اغتيال، إلا أنها لا تدل على ذلك؛ فربما كان الرجل قد أصيب بالرصاصة عرضًا أو وهو في حالة الدفاع عن نفسه أثناء عراك نشب؛ ثم نأخذ في البحث بوسائل أخرى عن شواهد تدل على سرقة، وعن أشخاص ممن يكون لديهم الدافع الذي يحفزهم على القتل، وعن شهود ممن قد يكونون سمعوا صوت انطلاق الرصاصة أو رأوا العراك الذي نشب، وغير ذلك؛ وحين تتبين شخصية القتيل، يقوم بحث عن حركاته قبل موته؛ وهل كان يحمل معه نقودًا؛ ومَن أعداؤه؛ وأي تهديدات وجِّهت إليه، وما إلى ذلك؛ ولما كنت الآن لا أقصد إلى كتابة قصة بوليسية، فحسبي أن أشير إلى أن البينات تتألف (١) من وقائع هي الآن موضع مشاهدة ممكنة، وأن هذه الوقائع توصف في قضايا تشير إلى وقائع أخرى لازمتها في زمن الحدوث، و(٢) من معلومات نستمدها مما نتذكره من مشاهدات لنا سابقة؛ فإذا ما تجمعت لدينا هذه القضايا أصبحت المشكلة هي أن ننسجها معًا في نتيجة مدعمة، بأن الرجل الذي نحن بصدده قد لقيَ الموت على يدَيْ شخص آخر في لحظة معينة من الزمن، وفي ظروف من شأنها أن تخرط الفعلة فيما يعده القانون جريمة قتل من الدرجة الأولى (إذ مهما يكن لدينا من كثرة التفصيلات من المعطيات المادية، فهي تكون مشكلة من هذا الطراز المنطقي العام) وحل مشكلة كهذه محال إلا على أسس مسلَّمة مفروضة، وهي أن الموضوع المطروح للبحث يتألف من شوط زمني من حوادث متتابعة، وإلا على أساس شرط وهو أن المادة التي تحت أيدينا توفي بما تقتضيه المسلَّمة المذكورة؛ فمن جهة، تنشأ لدينا قضايا عن أشياء ممكنة المشاهدة الآن؛ مثال ذلك أن ليس هنالك أساس قانوني لاتهام أحد إلا إذا وجد جسم الجريمة؛ ومن جهة أخرى، تنشأ لدينا قضايا عن حوادث حدثت في الماضي؛ لكن لا هذه المجموعة من قضايا الماضي ولا تلك المجموعة من قضايا الحاضر المشاهد، تكون لها قوتها في البحث ما لم نستطع التدليل المعقول على قيام استمرار في الزمن بين ما يقابل هاتين المجموعتين من مواد الواقع؛ إذ ليس ما يستهدفه التحديد المنطقي إلا مجرى الحوادث الذي منه يتألف هذا التاريخ وليست القضايا التي نجمعها عن وقائع ماضية وعن وقائع يمكن مشاهدتها الآن، إلا وسائل نستعين بها على صياغة هذا الحكم الذي يروي عن تتابع الحوادث كيف تتابعت زمنًا؛ أما هذه القضايا في ذاتها فلا تزيد على كونها فقرات منفصلة عددها كذا؛ وليست هي بالكاملة ولا بالختامية؛ أضف إلى ذلك أن التاريخ الذي نكون بصدد تحديده يمتد إلى المستقبل، إذ يتوقف حدوث شيء ما في المستقبل على ضبط واتهام شخص معين يكون هو الذي اقترف جريمة القتل، كإعدامه أو سجنه.
خذ حالة رجل تقدم بعد مضي فترة معينة من الزمن، على أنه صاحب الحق القانوني في عقار تركه شخص مات، ولكن العقار كان قد أُعطي لشخص ثالث باعتباره وارثه؛ وسنفرض هنا أن مقتضى هذه الحالة هو أنه إذا كان المدعي هو كما يدعي لنفسه أن يكون، لم يكن هنالك من شك في جانب القانون بأنه هو الذي يستحق العقار؛ وباختصار فالمشكلة هي مشكلة إثبات للشخصية؛ وإذن فالمطلوب هو قضية نقول فيها إن المدعي هو فلان أو ليس هو فلانًا — زيد مثلًا — أقول إن المطلوب هو قضية كهذه تفض موضوع النزاع، لكن هذه القضية لا تمثل الهدف الذي هو حسم الختام؛ بل هي مرحلة وسطى ووسيلة تفضي بنا إلى حكم عن التصرف النهائي الذي نتصرف به في العقار على أن القضية التي تثبت شخصية المدعي، لا تكون أداة نتوسل بها إلا إذا أقامت لنا اتصالًا تاريخيًّا، أو دلت على امتناع هذا الاتصال التاريخي بين الفرد المعلوم الذي قدمت قضايا معينة عن ماضيه، وبين الفرد الذي نكون عنه قضايا نقيمها على أساس مشاهدات قائمة الآن؛ فها هنا — كما هي الحال في المثل الذي أسلفناه — لا بد لنا من تكوين طائفة من قضايا عن وقائع راهنة، وأخرى عن حوادث ماضية؛ ولكن لا هذه المجموعة من القضايا ولا تلك تنهض برهانًا على شيء، كلا ولا اجتماعهما معًا ينهض برهانًا على شيء، حتى تسد الفجوة بينهما قضايا تصل مضموناتهما معًا في سلسلة زمنية متصلة الحلقات؛ أضف إلى ذلك أن الأمر يدخل فيه أيضًا نتيجة ستنشأ في المستقبل، وهي التصرف الأخير في العقار؛ وهذه النتيجة هي كذلك متصلة مع القضايا السابقة صلة زمنية، ما دامت هي الحلقة التي تتم بها سلسلة الحوادث؛ ولو أخذنا هذه النتيجة بمعزل عن سواها، لما كانت أحق بأن تكون هدف التحديد من مادة الحوادث الماضية أو مادة المعطيات المشاهدة في اللحظة الراهنة؛ كالبنية الجسدية للمدعي، ومظهره، وعلاماته المميزة له منذ ولادته، وغير ذلك.
وما يصدق على المثلين اللذَيْن ذكرناهما لتوِّنا، يصدق على جميع الأحكام التي تنصب على الحوادث في خصائصها الزمنية؛ فليس ثمة ما يصح أن نقول عنه إنه حكم على حادثة ماضية، أو على حادثة تحدث الآن، أو على حادثة ستحدث في المستقبل، إذا أُخذت هذه الحادثة وهي بمعزل عن سواها؛ وإنما نشأت الفكرة القائلة بوجود أمثال هذه الأحكام، من نظرنا إلى القضايا التي هي وسيلة مادية لا غناء عنها للوصول إلى موقف تم تحديده، كما لو كانت تلك القضايا كاملة في ذاتها.
(٣) الأحكام المعترف لها بأنها أحكام تاريخية
إن النتائج التي بلغناها حتى الآن بما اتضح لها من أهمية من الناحية المنطقية بمعناها الخاص، لتزداد أهميتها تلك وضوحًا حين نتناول موضوع الأحكام التاريخية بالمعنى المألوف لكلمة تاريخ؛ ففي هذه الحالة الأخيرة لا تعود بنا حاجة إلى طول الوقوف عند نقطة الاتصال الزمني الذي يتسم به موضوع الحكم، كما كان بنا مثل هذه الحاجة حين تعرضنا للموضوعات التي فرغنا من بحثها؛ ذلك لأن أحدًا لا يجادل في أن التاريخ تاريخ؛ فالمسألة المنطقية المتضمنة تتخذ الآن صورة أكثر انحصارًا في نطاقها؛ فإذا سلمنا بالاستمرار الزمني، فماذا تكون العلاقة بين القضايا التي تُقال عن التتابع الذي امتد أمده على فترة طويلة من الماضي، والقضايا التي تُقال عن الحاضر وعن المستقبل؟ أيمكن للمجرى التاريخي المتضمن في القضايا التي تُقال عن الماضي والتي نسلم جميعًا لها بأنها قضايا تاريخية، أن تتخذ مكانها في الماضي، أم أنها تمد أطرافها حتى تشمل الحاضر والمستقبل؟ نعم إن من واجب المؤرخ بالطبع أن يلتمس حلولًا لمشكلات كثيرة فنية ومنهجية، إلا أن المشكلة المنطقية الرئيسية التي تدخل في قيام حكم مدعم يتناول موضوعًا تاريخيًّا، هي — في رأيي — المشكلة التي فرغنا توًّا من بسطها، وهي: ما الشروط التي لا بد لنا من استيفائها لكي تنشأ لدينا قضايا مدعمة عن حوادث الماضي في مجرى تتابعها؟ ولسنا بهذا السؤال نسأل إن كان في مقدورنا أن نصدر أحكامًا عن الحوادث البعيدة، بحيث تجيء تلك الأحكام مسندة إسنادًا كاملًا، كلا ولا هو سؤال عما إذا كان «يمكن للتاريخ أن يكون علمًا»؛ بل السؤال هو: على أي الأسس تكون بعض أحكامنا عن مجرى من حوادث الماضي أحق بالقبول من أحكام أخرى؟
فمن الحقائق الواضحة أن الشواهد التي تُساق برهانًا على القضايا التاريخية كافة يتحتم وجودها في اللحظة التي تُقال فيها تلك القضايا، وأن تكون مشاهدتها ممكنة عندئذٍ؛ وما شواهد التاريخ إلا أشياء كالمدونات والوثائق؛ والأساطير والقصص التي تنتقل سمعًا؛ والقبور والكتابات المحفورة؛ والأوعية والمدليات والخواتم؛ وأدوات النفع وأدوات الزينة؛ والمواثيق والإجازات الدراسية والمخطوطات والآثار والمباني وآيات الفن؛ والتكوينات الجغرافية الطبيعية القائمة وهكذا إلى ما ليس له حد؛ فحيث لا يكون الماضي قد خلف أثرًا أو بقية من أي نوع مما يمتد به البقاء إلى الحاضر، فمحال لتاريخه أن يروى؛ فالقضايا التي تُقال عن أشياء يمكن مشاهدتها عند إنشاء تلك القضايا، هي المرجع الأخير الذي نستدل منه حوادث الماضي؛ فعلى الرغم من صدق هذا القول صدقًا واضحًا، فلا بد من ذكره؛ لأنه إن كان المشتغلون بمصادر التاريخ الأولية يسلِّمون بهذا القول تسليمهم بأمور الواقع المألوف، فقرَّاء المؤلَّفات التي يكتبها المؤرخون على أساس ما قد وقع لهم من المصادر الأولية، يغلب عليهم الوقوع في خداع البصر، فلا يرون المشهد على حقيقته؛ فهم يرون أمامهم نتائج البحث الاستدلالي مُعَدَّة في صورتها الأخيرة؛ ولو كان لكاتب التاريخ خيال الأديب المسرحي، بدا الماضي أمام القارئ كأنما هو حاضر مشهود؛ ويُخَيَّل إليه أن المناظر الموصوفة والحكايات المروية إنما تجيء إليه عن مصدرها مباشرة، وليست هي بالبناءات التي بنيت استدلالًا؛ فالقارئ يأخذ النتائج كما يقدمها له المؤرخ وكأنها آتية إليه مباشرة، تقريبًا كما يفعل إزاء قصة محكمة البناء وهو يقرؤها.
إن النظرية المنطقية معنية بالعلاقة القائمة بين الشواهد التي نجعلها أساسًا، والاستدلالات التي ننتزعها من الشواهد فتكون هي النتائج، وهي معنية كذلك بالطرائق التي تجعل هذه النتائج مدعمة بمقوماتها؛ فليس ثمة قضية وجودية — بالنسبة إلى النظرية المنطقية — لا تؤدي عملها إما (١) باعتبارها مادة يستعان بها على تحديد موضع المشكلة وتعيين أطرافها؛ أو (٢) باعتبارها أداة تشير إلى استدلال ما يجوز استخراجه بحيث تكون له درجة معلومة من الاحتمال؛ أو (٣) باعتبارها معينة لنا على وزن قيمة ما بين أيدينا من معطيات من حيث هي شواهد؛ أو (٤) باعتبارها تؤيد وتختبر نتيجة ما قبلناها على سبيل الافتراض؛ فلا بد لنا في كل خطوة — تمامًا كما هي الحال أثناء توجيهنا لأي بحث نجريه على ظروف طبيعية قائمة — من البحث عن حقائق تمس موضوعنا؛ ولا بد لنا من تكوين المعايير التي نختار على أساسها ما نختاره وننبذ ما ننبذه؛ فنجعل من تلك المعايير مبادئ عقلية نهتدي بها في تقدير ما للحقائق المعروضة أمامنا من وزن وقوة؛ وكذلك لا بد لنا من القيام بإجراءات عملية نرتب بها وننظم الحقائق التي تعتمد على ما لدينا من أفكار عقلية منسقة؛ فمن أجل هذه الأمور كلها نرى كتابة التاريخ مثلًا من أمثلة الحكم، من حيث يكون الحكم حلًّا — عن طريق البحث — لموقف مشكل.
فالمهمة الأولى في البحث التاريخي — كما هي الحال في أي بحث آخر — هي المشاهدات الموجهة سطحًا وغورًا — أعني جمع المعلومات الأولية، ثم تأييدها بحيث تصبح موثوقًا بصدقها؛ والتأريخ الحديث معروف بما يتطلبه من عناء يكابده في هذه الأمور، وفي تطوير التقنيات الخاصة التي يستخدمها في جمع المعلومات الأولية ومراجعتها، من حيث الوثوق بصدقها ومن حيث قيمتها النسبية؛ فقد ارتقت علوم كعلم قراءة الكتابات المحفورة، وعلم قراءة الكتابات القديمة، وعلم المسكوكات القديمة، وعلم البناءات اللغوية، وعلم تنظيم المراجع، ارتقت هذه العلوم حتى بلغت من التطور حدًّا جد بعيد، باعتبارها تقنيات تساعد على أداء التأريخ لمهمته؛ ونتائج هذه الإجراءات المساعدة تراها مقررة في قضايا وجودية تُقال عن الحقائق التي تأيدت في ظروف خضعت لأقصى ما يمكن من ضبط التوجيه؛ ولا غناء عن هذه القضايا، كما أنه لا غناء في البحث الطبيعي عن القضايا الناتجة عن المشاهدة الموجهة؛ لكنها في ذاتها ليست قضايا تاريخية ختامية؛ بل لو أردنا دقة في التعبير قلنا إنها — وهي قائمة وحدها — ليست قضايا تاريخية على الإطلاق؛ إذ هي قضايا عما هو الآن موجود؛ لكنها تاريخية في مهمتها التي تؤديها، ما دامت تستخدم معطيات مادية لنقيم عليها بناءات استدلالية؛ فهي كسائر ضروب المعطيات، تختار وتوزن بالقياس إلى قدرتها على الوفاء بما هو مطلوب من كل ما يؤدي مهمة الشواهد.
وينتج عن هذا أنها نسبية تختلف باختلاف المشكلة المطروحة؛ ولو نظرنا إليها بمعزل عن مشكلة ما، كانت كمواد البناء من طوب وحجر وخشب يجمعها من يعتزم بناء منزل قبل أن تكون لديه خطة مرسومة لبنائه؛ فهو يحسب ويجمع المواد آملًا أن تتبين له فائدة بعض هذه المواد بعدئذٍ — وهو لا يدري بعد أيها يكون نافعًا — حين يتم له رسم الخطة؛ هذا إلى أنه بسبب علاقة القضايا التي تُقال عن الوقائع المشاهدة بمشكلة ما — قائمة بالفعل أو بالقوة — كانت هذه القضايا تتقابل تقابلًا دقيقًا مع المبادئ العقلية التي بوساطتها يتم ترتيب القضايا وتأويلها؛ فالأفكار والمعاني — باعتبارها فروضًا — ضرورية لبناء النتائج التاريخية، ضرورتها لأي بحث طبيعي من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة محددة؛ فإذا كانت الأحكام التاريخية قد تأخرت في تكوينها عن الأحكام الطبيعية فذلك لا يرجع فقط إلى كون الأحكام التاريخية أكثر تعقدًا وأقل وفرة في معطياتها، بل يرجع ذلك أيضًا — إلى حد كبير — إلى كون المؤرخين لم ينموا عادة بسط البناءات العقلية المنظمة — بسطها لأنفسهم وإلى الناس عامة — التي يستخدمونها في تنظيم معطياتهم إلى الحد الذي يقرب من الدرجة التي تعرض بها الأبحاث الطبيعية إطارها العقلي؛ فكثيرًا ما يهمل ذكر ذلك الإطار العقلي (في حالة الأبحاث التاريخية) ليظل فرضًا سابقًا مضمرًا.
ويكفي أقل تفكير لبيان أن المعاني العقلية التي تُستخدم في كتابة التاريخ هي المعاني المتصلة بالفترة التي يكتب فيها ما يكتب من تاريخ؛ فليس هنالك (لدى كاتب التاريخ) مادة يتخذ منها مبادئه وفروضه التي تهديه، فيما عدا المادة المتصلة بلحظته الحاضرة؛ ولكن لما كانت الثقافة تتغير، فالتصورات العقلية السائدة في ثقافة ما تتغير كذلك؛ فتنشأ بالضرورة وجهات جديدة للنظر وللتقدير ولتنظيم المعلومات الأولية؛ وعندئذٍ تُعاد كتابة التاريخ من جديد، فالمادة التي أُغفلت فيما مضى، تعرض الآن نفسها في صورة معطيات لأن التصورات العقلية الجديدة تثير مشكلات جديدة تتطلب الحل، فيلزمها مادة من الواقع جديدة، يُراد لها أن تُصاغ في جمل تصفها كما يراد لها أن تختبر، ففي لحظة معينة من الزمن تعتلي تصورات عقلية معينة مكان الرفعة في ثقافة عصر معين، حتى ليبدو أن استخدامنا إياها في بناء حوادث الماضي، هو أمر تسوغه «الوقائع» التي وجدناها في ماضٍ لم يكن من خلقنا؛ ونظرة كهذه إنما تضع العربة أمام الحصان؛ فالتبرير — إن حصلنا عليه — يبدأ من التحقيق الذي ينصب على الأفكار العقلية المستخدمة في الوقت الحاضر؛ كما نجد — مثلًا — مسوغ قبولنا للبناءات العقلية المستخدمة في إعادة بناء ما قد حدث في العصور الجيولوجية السابقة على ظهور الإنسان، بل على ظهور الحياة نفسها فوق الأرض نجد مبرر قبولنا لتلك البناءات العقلية فيما قد ثبت صدقه من قوانين العمليات الطبيعية الكيموية كما هي قائمة اليوم؛ مثال ذلك إقامتنا للعصور الحجرية القديمة فالحجرية الحديثة فالبرونزية، التي تقع فيها «الأزمنة السابقة على التاريخ» بما يندرج تحت تلك العصور من أقسام فرعية، إنما ترتكز على عالمنا بالعلاقة القائمة بين التحسينات التقنية من جهة وتغيرات الثقافة من جهة أخرى وعلمنا بهذه العلاقة إنما حصلناه وحققناه على أساس الظروف المحيطة بنا في عصرنا؛ فمثلًا لما كانت الاختلافات في درجة تهذيب الاتصال في الآلات الحجرية، لا تحمل معها تواريخها التي تعين أزمنة وقوعها واحدة بعد الأخرى، لا تحمل معها تلك التواريخ محفورة عليها، كان من الواضح أن اتخاذنا لتلك الاختلافات علامات تدل على مستويات متتابعة من الثقافة، هو من قبيل الاستدلال الذي ننتزعه من تصورات عقلية تؤيدها — إذا كان يؤيدها شيء على الإطلاق — وقائع قائمة بيننا الآن؛ فنحن بحاجة إلى جهاز نظري كبير، لكي يتسنى لنا به أن نربط معطيات منوعة بعضها ببعض، معطيات مثل ما قد أبقى عليه الدهر من قواقع، والآلات المصنوعة، وبقايا الرماد، والعظام والعُدَد ورسوم الكهوف، والتوزيعات الجغرافية، والمادة التي نحصلها من دراستنا لما لا يزال قائمًا بيننا من شعوب «بدائية»؛ فبغير هذه الارتباطات البعيدة الأطراف يستحيل المضي في إعادة بناء صورة عن أزمنة «ما قبل التاريخ».
وتبيننا لما قد طرأ من تغير على حالات المجتمع ونظمه، هو شرط لا بد من توافره أولًا قبل أن ينشأ لنا حكم تاريخي؛ والأرجح جدًّا أن يكون تبين ذلك التغير قد جاءنا بخطًى بطيئة؛ فلنا أن نفترض بأن رؤية التغير قد كانت محصورة في الأزمنة الأولى على الطوارئ الكبرى التي لم تكن لتغيب عن البصر، كحركات الهجرة الجماعية وإصابات الطاعون، والانتصارات الحربية العظيمة، وما إلى ذلك، وطالما لبث الفرض قائمًا عن هذه التغيرات بأنها لم تكن سوى روايات كل منها قائم بذاته، لم يكن في وسعنا أن نقول إن التاريخ قد بدأ في الظهور؛ وإنما ظهر التاريخ حين أخذت تلك التغيرات يوصل بعضها ببعض لتكون أشواطًا متصلة أو دورات أو قصصًا لها بداياتها ونهاياتها؛ فالحكايات الصغيرة التي تنبئ عما قد حدث، هي مادة للتاريخ، لكنك لا تستطيع أن تقول عنها إنها هي نفسها التاريخ؛ فلما كانت فكرة التاريخ تتضمن استمرارًا متزايد الكثافة للحركة التي تسير في اتجاه معلوم نحو نتائج مقررة، كان المبدأ العقلي الأساسي الذي يضبط لنا تحديد مادة الموضوع تحديدًا يجعلها موضوعًا تاريخيًّا، هو مبدأ اتجاه الحركة؛ فلا يمكن كتابة التاريخ جملة؛ بل لا بد من انتقاء خيوط من التغير، ثم تنظم المادة المختارة تنظيمًا فيه تتابع، وفق اتجاه التغير الذي يميز خيط الحوادث الذي اخترناه؛ فالتاريخ تاريخ شعوب وتاريخ أسرات حاكمة؛ وهو تاريخ سياسي وكنسي واقتصادي؛ هو تاريخ للفن وللعلم والدين وللفلسفة؛ فحتى إذا ما نسجنا من هذه الخيوط نسيجًا واحدًا، ابتغاء أن ننشئ منها صورة شاملة تستوعب حركة نقول عنها إنها كاملة، فلا بد للخيوط المتفرقة أن يُعزل كل منها على حدة أولًا، لنتتبع كلًّا منها في مجراه.
ومن قبولنا لفكرة أن نتائج التاريخ المحددة التي جاءت عن طريق الاستدلال، إنما تتوقف على ما يسبق ذلك من اختيارنا لاتجاه ما، تتجه إليه الحركة، أقول إن من قبولنا لهذه الفكرة يلزم لزومًا مباشرًا أمر ذو أهمية منطقية أساسية؛ وهو أن كل بناء تاريخي هو بالضرورة قائم على اختيار شيء دون شيء؛ وإذا كان محالًا علينا أن نعيد الماضي بأسره، وأن نعيش ذلك الماضي مرة أخرى؛ فقد يظن أن هذا المبدأ هو أوضح من أن يستحق أن يوصف بأنه هام؛ ولكنه مع ذلك هام لأن الاعتراف به يضطرنا إلى توجيه انتباهنا إلى كون كل شيء في كتابة التاريخ يعتمد على المبدأ الذي يتخذ لتوجيه عملية الاختيار فهذا المبدأ هو الذي يقرر القيمة التي ننسبها إلى الحوادث الماضية؛ فماذا نقبل من تلك الحوادث وماذا نحذف؟ وكذلك هو الذي يقرر كيف يجب للوقائع المختارة أن تنظم وأن ترتب؛ هذا فضلًا عن أننا إذا اعترفنا بأن عملية الاختيار أولية وأساسية، اضطررنا إلى قبول النتيجة التي تلزم عن ذلك الاعتراف، وهي أن التاريخ كله مكتوب — بالضرورة — من زاوية اللحظة الحاضرة؛ وأنه لا يكون تاريخًا للحاضر فحسب، بل يكون كذلك تاريخًا لما نحكم عليه في عصرنا الحاضر بأنه هام، وليس لنا من ذلك مفر.
ويعمل الاختيار بطرق ثلاث؛ فأول اختيار في الترتيب الزمني، يقوم به أهل الماضي الذين نكتب الآن تاريخهم؛ وهم يقومون به خلال نفس العصر الذي كانوا يعيشون فيه؛ فقد كتب هيرودوت — كما يقول — «حتى لا تنسى على مر الزمن الأشياء التي تم أداؤها» ولكن ما الذي حدد له اختياره للأشياء التي لا يجوز أن تنسى؟ حدد له ذلك إلى حد ضئيل — ولا شك — ميوله وأذواقه الخاصة؛ فمثل هذه العوامل لا يمكن استبعادها بأية حال؛ ولكن لو كانت هذه العوامل هي المعول الوحيد أو المعول الرئيسي، لانحدر تاريخه نفسه إلى النسيان بعد قليل؛ إنما المعول الحاسم هو ما كان هامًّا في أنظار الشعب الأثيني، الذين كتب لهم ما قد كتب، بصفة مباشرة؛ المعول هو الأشياء التي عدها ذلك الشعب جديرة بالتخليد مما قد اشتملت عليه حياتهم وأعمالهم؛ فقد كان لهم هم أنفسهم تقديراتهم الخاصة لما يكون ذا قيمة، وكانت هذه التقديرات تعمل على أساس الاختيار؛ فالأساطير التي تناقلوها، والأشياء التي فاتهم أن يعيدوا روايتها وآثارهم ومعابدهم، وغير ذلك من المباني العامة؛ وعملاتهم؛ وشواهد قبورهم؛ واحتفالاتهم وشعائرهم، هي أمثلة من التقويمات التي كانت أداة للاختيار، والتي قرروها لأنفسهم بأنفسهم؛ والذاكرة أداة للاختيار؛ والذكريات التي هي ذكريات شعبية وباقية على الزمن، لا الفردية العابرة، هي المادة الأولية التي يعمل في حدودها المؤرخون الذين هم على وعي وعلى قصد فيما يعملون؛ ويقوم التراث الشعبي وأدوات العيش والآثار الباقية على الزمن، تقوم هذه الأشياء عند الشعوب الأكثر تخلفًا من سواها، بنفس المهمة، ومهمة التقدير الذاتي الذي تقرره الشعوب الحية لنفسها في أوجه نشاطها وأوجه إنتاجها؛ أقول إن تلك الأشياء عند الشعوب المتخلفة تؤدي هذه المهمة، رغم كوارث الدهر التي تحيق بها حينًا بعد حين.
ثم يجيء المؤرخ فيضيف مبدأً آخر للاختيار، إذ يختار لنفسه أن يكتب تاريخ أسرة حاكمة، أو تاريخ عراك ناشب لبث أمدًا طويلًا، أو عن نشأة ونمو علم أو فن أو دين أو الوسائل التقنية المستخدمة في الإنتاج؛ وهو إذ يؤدي هذا الذي يؤديه، تراه يقدم عمله بمسلَّمة يفترض بها وجود سيرة أو شوط زمني أو دورة من دورات التغير؛ فالاختيار هنا هو مصادرة منطقية بمعناها الحقيقي الذي يتوافر للمسلَّمات التي يعترف لها بهذه الصفة في قضايا الرياضة؛ فمن هذا الاختيار تلزم تقديرات نجعلها أساس الانتقاء بالنسبة إلى (١) المادة التي تكون تحت تصرف المؤرخ من حيث قيمتها النسبية وصلتها بموضوع بحثه، و(٢) الطريقة التي ترتب بها أجزاء المادة بعضها مع بعض؛ فلم تحدث قط حادثة يصح أن يُقال عنها إنها مجرد قيام أسرة حاكمة، أو مجرد حادثة علمية، أو مجرد حادثة تقنية؛ إذ لا تكاد الحادثة تتخذ مكانها باعتبارها حدثًا من تاريخ معين، حتى يكون إصدار الحكم عليها قد انتزعها من مجموعة السياق الذي كانت هذه الحادثة جزءًا منه، ثم وضعها في مكانها من سياق جديد؛ على أن يتحدد هذا السياق وهذا المكان منه، خلال عملية البحث، فليسا هما بالخصيصتين اللتين تصفان الموجودات الأصلية بحكم طبائعها؛ فقد لا تجد مكانًا آخر يظهر فيه عمل الحكم في تمييزه للأشياء وفي خلقه للمركبات، ظهورًا ملحوظًا بالقدر الذي تلحظه به في استثارة المؤرخ لحوادث الماضي وإعادة بنائها؛ ولن تجد مكانًا آخر يسهل عليك فيه أن تجد حالة أوضح تمثيلًا للمبدأ القائل بأن الصور الجديدة تتجمع حول المادة الوجودية عندما تخضع هذه المادة للبحث، وبسبب خضوعها ذاك، أقول إنك لن تجد مكانًا يسهل عليك فيه أن تجد حالة كهذه، سهولته في إنشاء التاريخ.
ويتضح هذا الذي قلناه وضوحًا جليًّا في الحقيقة المعروفة المألوفة، وأعني بها ازدواج المعنى الذي نجعله لكلمة تاريخ؛ فالتاريخ هو ما قد حدث في الماضي وهو أيضًا العملية الذهنية التي تعيد بناء تلك الحوادث في لحظة من الزمن تالية لحدوثها؛ وأما الفكرة التي تقول بأن البحث التاريخي إن هو إلا إعادة عرض الحوادث التي حدثت ذات يوم «كما قد حدثت فعلًا» ففكرة بلغت من السذاجة حدًّا غير معقول؛ فقد تكون ناموسًا منهجيًّا له قيمته، إذا فهمناها على أنها تحذير لنا كي نجتنب الميل مع الهوى، وأن نجاهد في سبيل الحصول على أكبر قدر ممكن من الموضوعية والنزاهة، ثم إذا فهمناها على أنها دعوة تحفزنا إلى الحذر والتشكك عندما نتعرض لتحديد الصدق التاريخي للمادة المعروضة علينا باعتبارها مما يمكن أن يصبح هو معطياتنا الأولية؛ أما إذا أخذنا الفكرة بأي معنًى آخر، كانت لغوًا لا يفيد؛ وذلك لأن البحث التاريخي عملية (١) فيها اختيار وترتيب، و(٢) توجهها المسائل والمعاني العقلية التي تسود الثقافة القائمة في العصر الذي يكتب فيه ذلك البحث التاريخي؛ نعم إنه ليحق لنا بغير شك أن نقول إن شيئًا معينًا قد حدث على نحو معين في لحظة معينة من الماضي، ما دمنا قد حصلنا على المعطيات الكافية، وتناولناها بالنقد؛ لكن عبارة: «قد حدث الشيء الفلاني فعلًا بهذه الطريقة» لا تكون لها منزلتها ولا يكون لها مغزاها إلا داخل الإطار، الذي تجعله الكتابة التاريخية حدودها ومسرحها، فالعبارة لا ترسم الشروط المنطقية للقضايا التاريخية، وهي فوق ذلك لا تحدد انطباق هذه القضايا على الحوادث عند حدوثها أول مرة، بحيث تكون تلك القضايا وهذه الحوادث شيئًا واحدًا؛ فالحوادث الأصلية في وقوعها الفعلي الذي حدث، ليست أصليتها إلا في أسبقيتها وفي كونها معروضة للاختيار وللتنظيم على أساس ما هو قائم الآن من مشكلات ومفاهيم.
ومبدأ آخر له أهميته، وهو أن كتابة التاريخ هي نفسها حادثة تاريخية؛ فهي شيء يحدث، ويكون لحدوثه نتائج في الوجود الفعلي؛ فكما عملت الأساطير والآثار والمدونات الموروثة التي كانت لأثينا — مثلًا — على تحوير مجرى الحياة الأثينية فيما بعد، فكذلك قل عن البحث التاريخي وإنشاء التاريخ إنهما عاملان في توجيه سير التاريخ؛ فالشعور بالقومية الذي احتد في عصرنا الراهن — مثلًا — لا يمكن تفسيره دون أن نحسب حسابًا للكتابة التاريخية؛ فالفكرة الماركسية عن الدور الذي قامت به في الماضي قوى الإنتاج من حيث تحديدها لعلاقات الملكية، وعن الدور الذي قام به نزاع الطبقات في الحياة الاجتماعية، أقول إن هذه الفكرة الماركسية قد عملت هي نفسها — خلال أوجه النشاط التي خلقتها — على حث قوى الإنتاج على أن تكون عاملًا في تحديد العلاقات الاجتماعية المستقبلة؛ كما عملت كذلك على ازدياد ما لتنازع الطبقات من مغزًى؛ فكون التاريخ — من حيث هو بحث يظهر في صورة إعادة بناء الماضي — هو نفسه جزء مما يحدث تاريخيًّا، عامل هام في أن تكون كلمة «تاريخ» مزدوجة المعنى؛ وأخيرًا فإن القضايا التاريخية هي المجال الذي تظهر فيه — أوضح ما تكون — الدلالة المنطقية لاهتمامنا الذي أبرزنا به مسألة الاتصال الزمني الذي يصل الماضي بالحاضر والمستقبل بحيث يجعلها تيارًا واحدًا، وذلك عندما تناولنا بالحديث القسمين الأولين من هذا الفصل.
إن مناقشتنا — بأسرها — للتحديدات التاريخية، قد كشفت لنا عن قصور وسطحية في الفكرة القائلة بأنه ما دام الماضي هو بغير شك ما تنصب عليه تلك التحديدات مباشرة، فالماضي — إذن — هو وحده موضوع التاريخ الذي يستوعبه بأكمله؛ فهنالك من الكتب ما يعالج تاريخ إسرائيل وتاريخ روما وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى، وهكذا وهكذا، ومنها أيضًا ما يعالج الأمم والنظم الاجتماعية، والأوضاع الاجتماعية التي كانت قائمة فيما مضى؛ فلو أننا استقينا فكرتنا المنطقية عن التاريخ مما هو محتوًى بين أغلفة هذه الكتب، لانتهينا إلى نتيجة هي أن التاريخ ينصب على الماضي وحده دون سواه؛ لكن الماضي بالضرورة المنطقية هو ماضٍ لحاضر، كما أن الحاضر ماضٍ لما هو مقبل وإن يكن لا يزال قائمًا الآن؛ ففكرة اتصال التاريخ تستلزم هذه النتيجة بالضرورة؛ وذلك لأن التغيرات لا تصبح تاريخًا، ولا تكتسب دلالة زمنية — ونحن هنا نعيد ما قد أسلفنا ذكره — إلا إذا فهمناها على ضوء اتجاه يسير من شيء ما إلى شيء ما؛ نعم إنه يكفي لأغراض هذا البحث المعين أو ذلك أن يعين موضع «من» و«إلى» المذكورين عند أي لحظة من الزمن وأي مكان نختارهما اختيارًا على أساس معقول، إلا أنه من الجلي أن هذا التعيين (لطرف البداية وطرف النهاية مكانًا وزمانًا) أمر نسبي يختلف باختلاف غرض البحث والمشكلة المبحوثة، وليس هو شيئًا متأصلًا في طبيعة الحوادث السائرة في مجراها؛ فحالة الأمور كما هي قائمة الآن هي بوجه من الوجوه الحد الراهن الذي نجعله طرف النهاية؛ لكنه هو نفسه طرف يتحرك بغير انقطاع؛ فإذا جعلناه موضوعًا تاريخيًّا كان شيئًا مما قد ينظر إليه مؤرخ المستقبل نظرته إلى طرف البداية الذي يبدأ عنده مجرى الزمن المتصل.
إن ما هو الآن ماضٍ، كان ذات يوم هو الحاضر الحي؛ كما أن ما هو الآن حاضر حي، هو في طريقه فعلًا إلى أن يصير ماضيًا بالنسبة إلى حاضر آخر، فلا قيام لتاريخ إلا على أساس الحركة التي تتجه نحو نتيجة معينة، أي نحو شيء نعده وليد ما قد حدث، سواء كان ذلك الشيء هو «نشأة وسقوط الإمبراطورية الرومانية» أو «استرقاق الزنوج في الولايات المتحدة» أو «المسألة البولندية» أو «الثورة الصناعية» أو «ملكية الأراضي الزراعية»؛ فاختيارنا لما يكون نتيجة ختامية، أو لما يكون نهاية نختم بها سير البحث، هو الذي يحدد لنا اختيار المادة وتنظيمها، مع توجيهنا للأمر — طبعًا — توجيهًا نقديًّا ملائمًا نمحص به صدق الشواهد؛ غير أن اختيار الغاية أو النتيجة الختامية هو علامة على اهتمام شخصي معين، وهذا الاهتمام إنما يمتد بأطرافه إلى المستقبل؛ وهذه علامة تدل على أن النتيجة ليست أمرًا ختاميًّا، وأن الخاتمة التي نتحدث عنها ليست هي النهاية من حيث الوجود الفعلي؛ فأهمية المسائل الاجتماعية التي تتطور في يومنا هذا بسبب قوى الإنتاج الصناعي والتوزيع، قد أصبحت مصدرًا لاهتمام جديد بالتاريخ من وجهة نظر اقتصادية؛ وأما حين تبدو المسائل الجارية وكأنما هي سياسية في أغلبها، فعندئذٍ تكون الكلمة العليا للجانب السياسي من جوانب التاريخ؛ وسرعان ما يجد من يشتد به اهتمامه بالتغيرات المناخية، الفرصة مواتية ليكتب التاريخ من زاوية الأثر الذي أحدثته التغيرات الكبرى التي وقعت على مساحات واسعة في توزيع المطر مثلًا.
وإذن فهناك للسير طريق مزدوج؛ فمن جهة، تضع التغيرات الحادثة في الوقت الحاضر، والتي بحدوثها هذا تلفت المشكلات الاجتماعية لفتة جديدة، تضع هذه التغيرات ما قد كان لحوادث الماضي من دلالة في ضوء جديد؛ إذ تخلق أمورًا جديدة لتكتب قصة الماضي كتابة جديدة من هذه الزاوية الجديدة؛ ومن جهة أخرى؛ فما دام حكمنا على دلالة الحوادث الماضية سيتغير، فإننا بذلك نكسب أدوات جديدة نستعين بها على تقدير قوة الظروف الحاضرة من حيث هي مبعث لممكنات المستقبل؛ فالفهم البصير للتاريخ الماضي هو — إلى حد ما — رافعة نحرك بها الحاضر بحيث يتجه نحو مستقبل ذي صورة معينة؛ فليس الحاضر التاريخي مقصورًا على إعادة توزيع لعناصر الماضي بما نجريه عليها من تباديل وتوافيق؛ فالناس لا هم منصرفون إلى نقل الظروف التي ورثوها نقلًا آليًّا يغير من وضعها الزمني فحسب، ولا هم منصرفون إلى مجرد إعداد أنفسهم لما عساه أن ينشأ في المستقبل؛ بل إن لهم من مشكلاتهم الحاضرة ما يتطلب الحل، كما أن عليهم أن يقوموا بتكييف أنفسهم بما تقتضيه شئونهم الراهنة؛ فلئن كانوا يواجهون المستقبل، فإنما يواجهونه من أجل الحاضر لا من أجل المستقبل نفسه؛ وهم إذ يستعملون ما قد هبط إليهم من تراث عن الماضي، مضطرون إلى تعديله بحيث يصلح لسد حاجاتهم الحاضرة؛ وهذه العملية من شأنها أن تخلق حاضرًا جديدًا يطَّرد فيه سير العملية نفسها؛ ولما كان مُحالًا على التاريخ أن يفر من سير الحوادث نفسه، فلا بد له دائمًا من أن تُعاد كتابته؛ لأنه كلما ظهر حاضر جديد، أصبح الماضي ماضيًا بالنسبة لحاضر يختلف عن الحاضر الجديد؛ وهكذا نرى الحكم الذي يقع مكان الاهتمام فيه على الجانب التاريخي أو الجانب الزمني من جوانب العملية التي نراجع بها تحديدنا للمواقف اللامتعينة، نرى هذا الحكم شاهدًا أخيرًا على أن الحكم ليس مجرد تصوير لما قد كان موجودًا بالفعل، بل هو في حد ذاته تغيير للكيفية التي يكون عليها الوجود الفعلي؛ ولا حاجة بنا إلى ذكر الحقيقة القائلة بأن تغيير الكيف في الوجود الفعلي آنًا بعد آنٍ، هو نفسه أمر يخضع لما لا بد أن يخضع له كل بحث وطيد من شروط.
(٢) لقد انصرفنا بانتباهنا فيما أسلفناه إلى قضايا الرواية التي نسوق بها الحكم الوجودي، تاركين القضايا الوصفية، غير أن الأشياء التي تحدث إنما تقع في مكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، فإذا كان المؤرخ — من حيث هو قاصٌّ لرواية — إنما يعني قبل كل شيء بالحوادث المتتابعة من ناحية تتابعها، إلا أنه على وعي تام بأن الحوادث لا تحدث في الزمن فحسب، بل هي تقع في مكان ما، وأن الظروف القائمة في ذلك «المكان المعين» إنما يعاصر بعضها بعضًا، كما أنها تعاصر أشياء تقع في أمكنة أخرى؛ فالمواضع والأمكنة والمواقع كلها نسبية بعضها إلى بعض، وهي تتعاصر بعضها مع بعض؛ فإن كان الزمن المجرد من حيث هو كائن رياضي، يمكن تصوره ذا بعد يتجه في خط واحد، إلا أن الحوادث لا تحدث في حالة التجريد، ولهذا فخط التتابع التاريخي يتألف من عدة أبعاد؛ ولو فرضنا أن حادثًا واحدًا هو الذي حدث في عام ١٤٩٢م — مثلًا — لما كان عام ١٤٩٢م لحظة من التقويم التاريخي، بل كان ليكون فكرة رياضية، أو مجرد عدد بحت؛ فكون التاريخ لا يمكن كتابته بمعزل عن الجغرافيا، ولا الرواية يمكن أن تسير بغير وصف، ليس ناشئًا عن مجرد اختيار يختاره المؤرخون على هواهم، ولا ناشئًا عن الرغبة في تلوين الحوادث وصبغها صبغة أدبية.
ومن الناحية الأخرى لا تتوافر للوصف دلالته وهو بمعزل عن الرواية؛ ففي كتابة سيرة لحياة، قد نستطيع أن نرسم صورة بالكلمات أو بإعادة لوحة لصاحب السيرة أو صورة فوتوغرافية له، لكن هذه الصورة تظل بغير معنًى ما لم تقترن بعبارة دالة على عمر الشخص، أو بتقدير لعمره، سواء أجاء ذلك في صراحة أم جاء استدلالًا من الوصف اللفظي أو الوصف التصويري؛ والوصف يتألف دائمًا من خصائص متعاصرة ارتبط بعضها ببعض على نحو يضم شيئًا ما أو حادثة ما في إطار أو في نطاق واحد، بحيث يتميز الشيء الموصوف بذاتية تجعله الكائن الفرد الذي هو ما هو؛ والأجزاء التي يتكون منها الوصف هي علامات استشهاد، بمعنى أنه مهما يكن من أمر المهمة التي يؤديها الوصف من الناحية الأدبية أو الجمالية، فمهمته المنطقية الوحيدة هي تمكيننا من تحديد ذاتيته تحديدًا يساعدنا على الحكم بما يكون لهذه القضية أو تلك من صلة بالموضوع الذي نكون بصدده؛ فقد يُقال عن شخص ما إنه يطابق وصفًا معينًا؛ وقد وجد أن ترتيبًا معينًا لخطوط منحنية تتجاور على بصمة الإصبع هو أنجح وسيلة لتمييز شخصية صاحبها؛ ووصفنا لشكل هندسي هو أن نمر على خطوطه الخارجية، لا من أجل غاية جمالية، بل لنبين ذلك الارتباط الذي يصل سماته بعضها ببعض ربطًا يمكننا من تحديد ذاتيته تحديدًا أكيدًا؛ ويكون الوصف العلمي وافيًا من الجهة المنطقية، بالدرجة التي يكون بها مؤلفًا من مجموعة سمات متعاصرة من شأنها أن تميز ذاتية الشيء الموصوف تمييزًا يجعل أي شيء له تلك السمات ويجعل الأشياء وحدها التي لها تلك السمات، منتمية إلى النوع الفلاني؛ فقولك عن شيء إن له الوصف الفلاني معناه أنه يندرج في النوع الفلاني؛ وقد كان الوصف الصحيح في البناء العلمي عند أرسطو، كما رأينا، هو كذلك بالضرورة التعريف النهائي الصحيح للشيء الموصوف؛ وأما في العلم الحديث فالوصف الصحيح لشيء ما هو على وجه الدقة وسيلة تمييز ذاتيته، غير أن التمييزات لذاتيات الأشياء أمر نسبي يختلف باختلاف المشكلة التي نكون بصدد حلها؛ فالذاتية المحددة قد تكون مادية أو نفسية أو خلقية، حسب الضرورة التي يقتضيها ما نحن بحاجة إليه من محمولات يجوز لنا حملها على الموضوع الخاص الذي نتناوله بالنظر عندئذٍ؛ وكل محمول — كما رأينا — هو عبارة عن تغيير في الكيف، أو هو وسيلة إجرائية من شأنها أن تخلق تغييرًا في الكيف، ولذا فالمحمول يتضمن حدوث تغير، ولو وضعنا هذا التغير في عبارة، لجاءت هذه العبارة زمنية روائية.
وعلى ذلك فالعبارات الوصفية هي قضايا وجودية نتوسل بها إلى حكم نصدره، لكنها ليست في ذاتها نهائية ولا كاملة، أي إنها ليست هي الحكم نفسه؛ فالصفة الواحدة قد تفيد من حيث هي علامة نشخص بها حقيقة الموقف، كما تكون صفة الاصفرار في إحدى حالاتها المعينة، وهي الحالة التي نراها في لهب النار، علامة تنبئ بوجود مادة الصوديوم؛ لكن سمة واحدة لا تكون إلا بداية للوصف، أي إنها وصف ناقص؛ وهكذا تكون عبارة «الرجل ذو القناع الحديدي» جزءًا من وصف، لكنها ليست في ذاتها وصفًا كاملًا؛ وإنما تصبح وصفًا حين ترتبط ببقية السمات التي تقوم إلى جانبها في وقت واحد؛ ويصدق الشيء نفسه على عبارة «مؤلف خطابات يونيوس»؛ وعبارة «الرجل الذي اخترع أول عجلة» وكثير غير ذلك من العبارات؛ فإذا أردنا للرجل ذي القناع الحديدي أن تتعين ذاتيته (أي أن يتكون عنه وصف كامل) فعندئذٍ يدخل فورًا في تتابع روائي؛ وإذا ما أكملنا الوصف الجزئي في هذه العبارة: «مؤلف قصص ويفرلي» بأن ربطناه بغيره من خصائص سير وولتر سكت، فعندئذٍ يصبح في مستطاعنا فورًا أن ننشئ عددًا كبيرًا من القضايا التاريخية عن مؤلف قصص ويفرلي؛ وأما إذا لم يكن «لسير وولتر سكت» من الخصائص المعروفة غير كونه مؤلف قصص ويفرلي، لما كان هنالك روابط في الوجود الفعلي تربط هذه الصفة بغيرها مما هو قائم معها، ولما ازددنا عنه علمًا بعد ذكر هذه الصفة عما كنا قبل ذكرها؛ فجملة «سير وولتر سكت هو مؤلف قصص ويفرلي» ليست قضية كاملة إلا لأن عددًا من السمات الأخرى يمكن نسبتها إليه بالإضافة إلى كونه مؤلف تلك القصص، كأن نعلم أنه رجل ولد في زمن معين، ويعيش في مكان معين، وكتب قصائد من الشعر، وله جماعة معلومة من الأصدقاء، ويتصف بالصفات الفلانية؛ والقضية — من وجهة نظر أخرى — تربط سيرة رجل معين بحركة الأدب النامية في بلده، وهذه بدورها قضية تاريخية.
فافرض أن سائلًا قد سأل: «ما ذلك؟» فكلمة «ذلك» هنا هي بغير شك غير متعينة إلى حد كبير، وإلا لما سأل السائل عن ماذا عساه أن يكون؛ غير أنه لا بد أن يكون فيها حد أدنى من التحديد الوصفي، وإلا لما عرف السائل ولا عرف المسئول أي شيء يعنيه السؤال؛ إذ قد يكون السؤال عندئذٍ عن أي شيء من مجموعة كبيرة منوعة من الأشياء التي تقع في موقع البصر على امتداد الذراع والسبابة اللتين تؤديان فعل الإشارة؛ فذلك الذي يُشار إليه قد يكون — في واقع الأمر — شيئًا معتمًا، أو شيئًا تحرك فجأة، أو غير ذلك من الصفات التي تصفه من بعض نواحيه؛ لكن السؤال يدل على أن الصفتين معتم وتحرك فجأة لا تبلغان من قوتهما الوصفية حدًّا يكفي لتعيين الشيء تعيينًا يساعدنا في المشكلة التي نحن إزاءها؛ فالوصف في هذه الحالة ناقص لهذا السبب؛ ولكنه وصف — مع ذلك — لا تعوزه جميع الصفات المبرزة لذاتية الشيء والمميزة له من سواه؛ لأنه لو كانت هذه هي الحالة لكان معناه امتناع الأساس الذي يمكننا من المضي في الوصف؛ فراكب السفينة في عرض البحر إذ يقول لزميله: «هنالك جزيرة جبلية»، فيجيبه هذا الزميل بقوله: «كلا، بل هي سحابة» قد يكون الزميلان منصرفين بحديثهما إلى شيئين مختلفين ما لم يكن هنالك صفة وصفية ما تحدد ذاتية الشيء الذي يُشار إليه بكلمة «هنالك» وبكلمة «هي»؛ أي إن اشتراكهما في مدلول الإشارة يستلزم على الأقل حدًّا أدنى من الوصف؛ فلو كان لديهما هذا الحد الأدنى، كان اختلافهما هل تكون الصفة المميزة للشيء هي أنه «جزيرة» أو «سحابة» حافزًا مباشرًا يحفزهما إلى المضي في مشاهدات أخرى يحللان بها ذلك «الشيء» المجهول تحليلًا يكشفان به — إذا أمكن — من السمات ما يبرر اختيار أحد الوصفين دون الآخر؛ فالنظرية التي نوجه إليها النقد تخلط بين الوصف الناقص الذي تحمله معها كلمة «هذا» (وهو وصف ناقص لكنه يكون أساسًا لعمليات جديدة من مشاهدة، ابتغاء التأكد من تجاور سمات معينة تجاورًا يبرر تمييزنا للشيء الموصوف على أنه فرد من نوع معين)، وبين أن يخلو اسم الإشارة خلوًّا تامًّا من كل تمييز وصفي.
وسنتناول بالحديث فيما بعد القضايا التي يكون موضوعها فردًا باعتبار ذلك الفرد عضوًا في نوع معين؛ لكننا في هذا الموضع من سياق المناقشة، نسترعي انتباه القارئ — في الواقع — إلى المعنى المزدوج لكلمتي برهان ودليل؛ فالبرهان إما أن يكون برهانًا عقليًّا، أي برهانًا ينتقل فيه الحديث في خطواته المتتابعة انتقالًا يستلزم دقة صارمة في استخراج الخطوة التالية من الخطوة السابقة؛ أو أن يكون برهانًا إشاريًّا؛ ففي حالة اختلاف الرأي هل يكون ذلك المرئي جزيرة أو سحابة، تنشأ أول الأمر فكرة عن مجموعة السمات المقترنة في كل من الحالتين، وهذا الاقتران في مجموعة السمات هو الذي يحدد إلى أي نوع ينتمي الشيء المشار إليه؛ ثم تجيء بعدئذٍ عمليات المشاهدة التي تقرر إلى أي المجموعتين الوصفيتين ينتمي الشيء المشار إليه؛ فإذا تبين أن «هذا» لا يتسم بالسمات التي تصف لتميز مفهومنا عن الجبال ومفهومنا عن «الجزر»، إذن فليس «هو» مما ينطبق عليه الوصف (القائل بأن المرئي جزيرة جبلية)؛ ولو كانت النظرية القائلة بأن اسم الإشارة لا يدل في القضية التي يرد فيها إلا على إشارة خالصة مجردة عن كل دلالة وصفية، أقول لو كانت هذه النظرية سليمة، لكان عدم انطباق القضية على الشيء المقصود بها راجعًا إلى خاصة ما من خصائص الحركة البدنية التي نؤدي بها فعل الإشارة، وهو سخف؛ فالمبدأ المنطقي الإيجابي الهام المتضمن هنا هو أنه في القضايا كافة ذات المضمون الوجودي، لا يكون البرهان أو الدليل إلا العملية التي يتاح لنا بها أن نقوم بإجراءات تحليلية في المشاهدة لنحدد بها المميزات التي تعين حقيقة الشيء الخارجي؛ فقوة البرهان إنما تكون في الشواهد لا في مجرى حديثنا نفسه؛ على أن إجراءات المشاهدة التي نجريها، إنما تتحكم فيها أفكارنا الذهنية أو ما لدينا من اعتبارات فكرية، لأن هذه هي التي تحدد الشروط التي لا بد من توافرها عندما نعين أنواع الأشياء تعيينًا وصفيًّا، معتمدين في هذا التعيين على اختلاف الأشياء في سماتها المشاهدة.