اتصال مجرى الحكم
للخبرة اتصال زمني؛ فثمة مجرى خِبْرِيٌّ متصل المضمون أو متصل الموضوع، ومتصل الإجراءات العملية؛ ولهذا المجرى الخِبْريِّ المتصل أساسه البيولوجي الواضح؛ وذلك أن البناءات العضوية — التي هي الشروط المادية لقيام الخبرة — ذات أمد زمني؛ فهي تمسك — عن غير قصد شعوري آنًا وعن قصد شعوري آنًا آخر — بنبضات الخبرة المختلفة، تمسكها معًا بحيث يتكون من هذه النبضات الخِبْرية تاريخ، كل نبضة من نبضاته تستمد كيانها من الماضي وتؤثر في المستقبل؛ غير أن تلك البناءات العضوية، مع احتفاظها بكيانها على أمد من الزمن، تتعرض كذلك لشيء من التحوير؛ أي إن اتصال بقائها ليس مجرد تكرار لذاتياتها؛ إذ إن كل نشاط تؤديه يترك «أثرًا» أو تسجيلًا لنفسه في الأعضاء التي قامت به؛ وبهذا يحدث تعديل إلى حد ما في البناءات العصبية المشتركة في القيام بنشاط معين، بحيث تصبح الخبرات المستقبلة مشروطة بما قد طرأ على البناء العضوي من تغير؛ ذلك فضلًا عن التغير الذي يطرأ إلى حد ما — بفعل كل وجه من أوجه النشاط السلوكي — في ظروف البيئة، التي تصبح هي المناسبات أو الحوافز التي تؤدي فيما بعد إلى خبرات جديدة.
وقد اضطر «هيوم»، وهو الذي دفع تفتيت الخبرات إلى حده الأقصى، اضطر إلى إقامة مبدأ — هو مبدأ العادة — ليوازن به تفتيته لمجرى الخبرة إلى ذرات منفصلة، بحيث يتسنى له الحصول ولو على ما يشبه أن يكون رباطًا زمنيًّا يضمن للشيء من الأشياء أن يحتفظ بذاتيته الواحدة فترة من الزمن؛ إذ بغير هذه العلاقة الرابطة بين أجزاء الخبرة، يستحيل قيام الذاكرة كما يستحيل التوقع لما سيحدث مستقبلًا (دع عنك استحالة عمليتَي الاستدلال والتدليل)؛ لأن كل «انطباع» جديد سيكون (بناءً على نظرية هيوم) عالمًا منعزلًا قائمًا وحده، تنقصه الصفة التي تحدد ذاتيته؛ ولقد عد العادة «رباطًا ملغزًا»، لكنه كان مضطرًّا إلى التسليم بوجود رباط ليفسر به ثبات الأشياء على ذاتياتها، حتى وإن يكن ذلك الثبات وهمًا، وليفسر كذلك الذات الإنسانية التي يدوم بقاؤها خلال الخبرات المتتابعة، حتى إن كان بقاؤها ذاك وهمًا كذلك؛ وها هو ذا تقدم المعرفة البيولوجية اليوم قد أغنانا عن جانب «الإلغاز» في ذلك الرباط؛ إذ وجد أن نوعًا من الرابطة المتتابعة على لحظات الزمن، هو صفة أصيلة في طبيعة الخبرة كما أن من صفاتها الأصيلة في طبيعتها أن تكون ذات نبضات متميزة إحداها من الأخرى، لكنها مرتبطة بعضها ببعض في تيار واحد؛ ثم تجيء الظروف الثقافية فتعمل على مضاعفة الروابط، وتخلق صنوفًا جديدة من ربط الخبرات بعضها ببعض.
وسيرنا في عملية البحث يصور ويجسد التيار الخِبْريَّ المتصل الذي أقامته العوامل البيولوجية والثقافية معًا؛ فكل بحث خاص هو — كما قد رأينا — سير نتقدم فيه خطوة بعد خطوة، ونراكم في الخطوة التالية ما قد جاءت به الخطوة السابقة، وذلك إبَّان قيامنا بإعادة تنظيم الظروف التي سبقت عملية البحث؛ ومعنى ذلك أن البحث الذي يتم في لحظة زمنية واحدة أمر محال؛ فمحال إذن أن يكون هنالك حكم (والحكم هو خاتمة البحث) منعزل وحده عما قد سبقه وعما سيأتي بعده؛ ولا يجوز لنا أن نخلط مع هذه الفكرة بالحقيقة الواضحة وضوحًا لا يستلزم ذكرها، وذلك بسبب أنها حقيقة في الواقع، وأعني بها حقيقة أن تكوين الحكم يتطلب فترة زمنية؛ فالذي أثبته هنا هو أن البحث الذي ينتهي إلى حكم، هو نفسه سير يتم فيه انتقال زمن يظهر أثره في مادة الوجود الخارجي؛ وإلا لما تحقق لنا حل للموقف المراد حله، بل كل ما يحدث عندئذٍ هو إحلالنا لاعتقاد ذاتي ليس لدينا ما يبرره، محل اعتقاد ذاتي آخر ليس لدينا ما يسوغه كذلك.
وكما أن اتصال عملية البحث متضمن في تكويننا لأي حكم مفرد جائز القبول، فكذلك يمتد تطبيق مبدأ الاتصال هذا ليشمل تتابع الأحكام التي منها تتكون المعرفة بأسرها؛ وتدخل في امتداد المبدأ هذا صور معينة تميز طابعه حينئذٍ؛ إذ إن كل بحث يستغل النتائج أو الأحكام التي قد أفضت إليها أبحاث سابقة، إلى الحد الذي يبلغه ذلك البحث من نتائج يكون لها ما يبرر قبولها؛ وتكوين هذه النتائج إنما يتم بوساطة ما نصوغه لها من قضايا؛ وقوام هذه القضايا هو رموز نرمز بها إلى المضمونات التي نستمدها من الأبحاث السابقة في جوانبها ونواحيها التي نعتقد بأنها ذات صلة بحل ما نريد حله من الموقف المشكل الذي نحن إزاءه؛ ولا يختلف البحث العلمي عن البحث كما هو قائم في مجال الذوق الفطري، من حيث الطريقة التي يتبعها في استغلاله للوقائع وللأفكار (وأقصد بالأفكار المعاني الذهنية التي أنتجتها لنا الأبحاث السابقة)، لكنه يعود فيختلف عن البحث على صورته التي يقوم بها في مجال الذوق الفطري، في عنايته الفاحصة الدقيقة التي يلتزمها لكي يستوثق أولًا بأن النتائج التي جاءتنا من بحوث سابقة، تصلح مقدمًا أن تكون وسائل لتنظيم السير في بحوث مقبلة، وفي العناية ثانيًّا بأن يستوثق من أن الوقائع الخاصة والأفكار العقلية الخاصة التي ستستخدم في الأبحاث المقبلة، ذات صلة محددة بالمشكلة التي بين أيدينا؛ فلئن كانت وقفاتنا وعاداتنا التي كوناها خلال الخبرات السابقة، هي التي تعمل في مجال الذوق الفطري — إلى حد كبير — عمل السبب الذي يستلزم مسببه، فالبحث العلمي محاولة مقصودة للكشف عن الأسس التي تقوم عليها تلك الوقفات وتلك العادات، بحيث يجوز لها أن تعمل عمل السببية فيما نكون إزاءه من حالات معينة.
إن النتائج التي سبق لنا الوصول إليها، لتؤدي مهمة تمهيد الطريق للبحوث والأحكام التي تنشأ بعد ذلك؛ وإنه لمن الحقائق المعروفة المألوفة أن ما ينشأ في المراحل التالية إنما يتوقف على الوقائع وعلى الأفكار التي استحدثت في المراحل الأولى، أقول إن هذه حقيقة معروفة مألوفة في النمو العقلي للأفراد، وفي النمو التاريخي لأي علم من العلوم؛ فكون طريق السير متصلًا في نضج الأفراد وفي إقامة أنواع المعرفة من حيث طرائق بحثها والنتائج التي وصلت إليها، هو أوضح من أن يتطلب حجة تؤيد صوابه؛ بل قد كان يكون أوضح من أن يستحق مجرد الذكر، لو لم يكن هذا الاتصال أمرًا لا يقتصر على كونه شرطًا لا غناء عنه في النمو العقلي؛ بل هو — فوق ذلك — المبدأ الوحيد الذي يمكن به فهم طائفة معينة من الصور المنطقية ذات الأهمية الأساسية؛ وأعني بها صور المدركات العامة وصور القضايا العامة المقننة؛ فموضوع هذا الفصل هو — إذن — العلاقة بين اتصال مجرى البحث والتعميم من حيث هو صورة منطقية.
والقضايا كافة التي ترد فيها كلمة «هذا» موضوعًا لها، أو أي اسم مفرد آخر؛ والتي يأتي «فعل الكينونة» فيها ليكون رابطة (بين الموضوع والمحمول)، إنما هي قضايا تعبر عن الشبه بين «هذا» وبين مفردات أخرى سواه، في الكيف أو في الدرجة أو في المدى؛ كما في قولنا «هذا أحمر» و«هذا صدئ» و«هذا أكسيد الحديد» و«هذه ضوضاء» و«إنها خبطة» و«إنه صوت إخراج العادم من خلف السيارة»؛ ولو عممنا المحمولات تعميمًا صوريًّا، بحيث جعلناها حدودًا وصفية، وجدناها تتمثل في قولنا «كذا وكذا»؛ فيوصف الشيء المفرد (أي يتميز من سواه وتتحدد ذاتيته) باعتباره أحد أفراد نوع معين، باقتران مجموعة من السمات فيه تجعله شبيهًا بأشياء معينة أخرى سبق لها أن تعينت، ويرجح لها أن تعاود الحدوث في المستقبل لتكون أداة لتحديد سواها؛ وحسبنا هذه الملاحظات البسيطة تأييدًا لزعم قوي نزعمه من وجود علاقة تربط ما هو عام بمبدأ الاتصال؛ وأما المعنى الذي نفهمه من كلمة «تشابه» فموضوع إشكال سنتعرض لبحثه فيما بعد.
إنه ليس من غير المألوف أن تفسر الصورة المنطقية التي نحن الآن بصدد بحثها، بإرجاعها إلى عامل «مشترك» يثبت وجوده بتكرار حدوثه؛ وهذا التفسير الذي يلجأ إلى تكرار الحدوث، له ما يبرره بوجه من الوجوه، لأنه علامة على اعترافنا بصورة من صور الاتصال؛ لكن الإشكال هو أن نستوثق من المعنى الواحد الخاص الذي يتحتم علينا أن نفهم به كلمة «تكرار الحدوث» لأننا إذا ما أمعنا النظر في هذه الفكرة، ألفيناها تتضمن بالفعل فكرة النوع؛ وبهذا يكون تفسيرنا لفكرة النوع بفكرة تكرار الحدوث، إن هو إلا استبدال كلمة بكلمة أخرى؛ مثال ذلك حين تحدث حادثة مفردة معينة فنعقب عليها بالقضية الآتية: «هذه لمعة برق»؛ فيقينًا ليست هذه اللمعة تكرارًا لحدوث، بمعنى عودة شيء ما أو حادثة ما إلى الظهور، بعد أن كانت هي نفسها قد ظهرت من قبل، وظلت قائمة في الوجود خلال الفترة بين ظهورها الأول وهذا الظهور الثاني؛ فواضح أن تكرار الحدوث هنا معناه المقصود فعلًا مرادف لقولنا إننا نحدد ذاتية اللمعة التي ظهرت الآن بأن نجعلها واحدة من مثيلات لها تكوِّن نوعًا؛ ولا شك أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن نتخذ من عبارة «تكرار الحدوث» شيئًا تم لنا فهمه، وبوساطته نستطيع أن نفهم فكرة النوع.
فتفسير الأنواع، التي هي أشياء عامة، على أساس تكرار الحدوث، لا يصدق — على أحسن الفروض — إلا في حالة الأشياء التي يمتد بقاؤها فترة من الزمن، والتي تظهر في مجال الخبرة آنًا بعد آن؛ فقد نرى جبلًا بعينه مرة بعد مرة في ظروف متغيرة تغيرًا منوعًا أشد التنوع، فلا تضمن لنا هذه الحقيقة شيئًا سوى وجود كائن مفرد وجودًا مستمرًّا؛ إذ إنها تتركنا بغير هداية أو سند نلجأ إليه في تمييزنا لحقيقة مفرد آخر لا يكون قد وقع لنا في خبراتنا من قبل، بحيث نقول عنه إنه جبل؛ ولو أنها تسوغ لنا أن نستدل الاستدلال الآتي: «إذا كان هذا جبلًا، فهو يتصف بالبقاء خلال فترة من الزمن» وبعبارة أخرى فإن تكرار الحدوث أحد الأسس الرئيسية التي نعتمد عليها في قبولنا للاعتقاد في الأشياء الباقية على فترات من الزمن، والتي ليست كلمعات البرق قصيرة الأمد جدًّا؛ غير أن تكرار الحدوث يترك مسألة الأنواع كما وجدناها عند بداية الحديث.
أضف إلى ذلك أن الاختلاف المذكور هو على الأكثر اختلاف في مدة البقاء الزمني؛ فإن دام الجبل زمنًا أطول من السحابة، فنحن نعلم أن للجبال أصلًا بدأت به وجودها، وأنها إذا ما مر على بقائها مدة كافية من الزمن، تآكلت واختفت من الوجود؛ وكذلك نعلم أن الفترة الزمنية التي يبقاها شيء معين لا تتحدد بماهية أزلية متأصلة في طبيعته، بل هي دالة (بالمعنى الرياضي للكلمة) من ظروف وجودية أنتجت ذلك الشيء وأبقت عليه لعدد من ثوانٍ أو دقائق أو عدة آلاف من السنين؛ فمن حيث المبدأ الوجودي لا فرق بين المطر العابر وبين المحيط «الباقي أبد الدهر» وهكذا نرى القضايا التي تتحدث عن طول أمد البقاء لشيء ما، مرهونة بالشواهد التي نصادفها، وليست هي بالنتائج المستنبطة من فكرة الجوهر.
إنه ليُقال إن من الشعوب البدائية ما يعتقد بأن مصدر الضوء الذي يغرب في المساء، ليس هو نفسه المصدر الذي يشرق في الصباح التالي ويبعث بالضوء من جديد؛ فهؤلاء فيما يُقال يعتقدون بأن لهم في كل يوم شمسًا جديدة؛ ولا فرق بالنسبة إلى التوضيح الذي نريده هنا، بين أن يكون هنالك من يأخذ بهذه العقيدة أو لم يكن؛ لأن الخبرة هي على أية حال فريدة ولا يتكرر حدوثها؛ فعلى أي أساس نميز بين طابعها هذا الفريد، وبين ذاتية الشيء الذي هو مبعث حدوثها؛ فسينقضي عام قبل أن تبدو الشمس مرة أخرى في نفس الموضع من السماء، وقد لا تبدو قط مرة أخرى في نفس الظروف بغير تغيير؛ وليست المسألة هنا هي أن نثير أي شك في صفة البقاء الثابت للشيء الذي نتحدث عنه الآن؛ وإنما أردنا أن نبين بأن المبررات التي تبرر لنا اعتقادًا ما هي أمور من الواقع، أو هي شواهد مما نشاهد، فهذه هي التي تجيز لنا نتيجة نقول عنها إنها نتيجة استدلال.
(فتحديدنا لذاتية الفرد الواحد من حالاته المختلفة، وتحديدنا لحقيقة كونه عضوًا في نوع من أشباهه) عمليتان تترتبان على إجراءات من البحث واحدة في كلتا الحالتين، وليس ذلك فحسب، بل إن العمليتين لترتبطان إحداهما بالأخرى في عملية واحدة؛ بحيث يجيء تحديدًا لفرد ما بأنه شيء يحتفظ بذاتية واحدة على فترة من الزمن، هو نفسه التحديد الذي نحدد به بأن ذلك الفرد عضو في نوع معين؛ فتمييزنا لضوء مفاجئ بأنه لمعة برق، ولصوت مسموع بأنه خبطة باب ينقفل، ليس قائمًا على أساس صفات وجودية تمثلُ أمامنا مباشرة، بل هو قائم على أساس الصفات التي تتصل بالأداء الذي تؤديه تلك الصفات من حيث هي شواهد، أو بطريقة انتفاعنا بتلك الصفات في مجرى بحث نجريه؛ فما هو مكرر الوقوع، أو ما هو مطرد، أو ما هو «مشترك» (بين أفراد النوع الواحد) هو قابلية الصفات المباشرة لأن تكون لنا علامات؛ فإن كانت الصفات المباشرة في إدراكنا إياها إدراكًا مباشرًا — كما قد رأينا — فريدة وغير مكررة الحدوث، فهي رغم كونها فريدة في خصائصها الوجودية، قادرة على أن تصبح — خلال مجرى البحث المتصل — خصائص نستخدمها لتمييز الأشياء بعضها من بعض، إذ هي خصائص تسورُ نوعًا ما من الأشياء أو من الحوادث وتحدد ذاتيته؛ فالأشياء تكون من نوع واحد بمقدار ما تتشابه خصائصها في قوتها الأدائية، من حيث تكون هذه الخصائص وسائل لتسوير الأنواع وتمييز ذاتياتها بعضها عن بعض، ولتختلف تلك الأشياء بعد ذلك في خصائصها المباشرة، فلن يكون لاختلافها ذاك عندئذٍ خطر؛ فتحديد الأنواع عند العلم — مثلًا — إنما يتم بغض النظر غضًّا يصل إلى حده الأقصى، عن الصفات المحسة إحساسًا مباشرًا؛ بل إن هذه الصفات لتعد خارجة عن موضوع البحث، وكثيرًا ما تعوق الباحث في عمله الذي يكوِّن به نسقًا استدلاليًّا يربط أشياء العالم الخارجي بعضها ببعض، ولهذا كانت تلك الصفات لا تستخدم (في البحث العلمي) لوصف الأنواع.
إن الشيء المفرد من حيث هو مجرد شيء يُشار إليه بكلمة «هذا» يثير الإشكال دائمًا، ثم يحل الإشكال بأن نتبين ماذا هو، أي إلى أي نوع ينتمي؛ وهذه الحقيقة وحدها كافية للدلالة على أن الأمرين اللذَيْن يبدوان في الظاهر مختلفين، هما في الحقيقة شيء واحد، وأعني بهما تحديد الامتداد الزمني لحادثة ما، وتحديد نوعها؛ فإشارتنا إلى شيء بقولنا «هذا» تظل لغزًا عقليًّا حتى يصبح في مقدورنا أن نصفه بما يعد في اللغة اسمًا عامًّا؛ فمثل هذا الوصف هو نفسه تمييز المفرد بما يخرطه عضوًا في نوع؛ وإذن فسؤالنا ينصب على الطريقة التي نكوِّن بها التعميم، مع ملاحظة أن تكرار الحدوث إنما ينصرف إلى عملية الاستدلال، وليس الذي يتكرر حدوثه هو كائنات الوجود الخارجي ذاتها، مستقلة عن دورها الذي تؤديه في الاستدلال.
وهنالك حقيقة يمكن أن تتخذ نقطة ابتداء لمناقشة جديدة، وهي كون الجمل الفعلية (بالمعنى النحوي) الدالة على مناشط (في دنيا السلوك)، ليست تنشعب أقسامًا على أساس التفرقة بين الأسماء «المفردة» (أسماء الأعلام) والأسماء «العامة»، وهي التفرقة التي نقسم الأسماء عن أساسها؛ لأن ما يدل عليه الفعل (بالمعنى النحوي لهذه الكلمة) هو طريقة التغير أو طريقة السلوك؛ فطريقة التغير والنشاط السلوكي، أو كيفيته أو صورته، هي طريقة ثابتة أو مطردة؛ فهي باقية على حالها على الرغم من أن الفعلة الفردية التي يفعلها الفاعل، أو التغير المفرد الذي يحدث، أمر فريد؛ نعم إن فعلًا سلوكيًّا ما، وتغيرًا ما، يمكن الإشارة إليه لتمييزه مما عداه، كما يمكن وصفه وصفًا يسلكه في نوع؛ كأن نشير مثلًا إلى حالة معينة من سباق الجري، أو إلى حالة معينة من نار؛ لكن فعل التسابق أو فعل الاحتراق طريقتان من طرائق الفعل والتغير، فهما تتمثلان في مفردات لكنهما ليستا في ذاتيهما مفردين؛ إنهما قد تتكرران، إذ هما تمثلان إمكانات لتكرار الحدوث؛ وطريقة معالجتنا للأمر عند تمييزنا لمفرد ما، فيها هذا النوع المذكور من إمكان التعميم؛ فإذا ما انتقل نشاط بالقوة — كفعل المشي مثلًا — إلى نشاط بالفعل، فعندئذٍ تظهر مشية معينة في عالم الوجود الفعلي؛ وعندما تتحقق بالفعل عملية الاحتراق في كائن مفرد، فعندئذٍ تنشأ نار معينة؛ فهي إن تكن مفردة، أو هي مما يُشار إليه بقولنا «هذا»، إلا أنها فرد ينخرط في نوع.
إننا حين نثبتُ عن هذا الشيء بأنه حلو أو صلب، فما ذلك إلا بسبب ما نجريه عليه من اختبار ومن لمس؛ ومثل هذا الإجراء يتكرر وقوعه لأنه ثابت؛ وربما كانت نتيجته أن نثبت بأن هذا الشيء المعين الذي يقع لنا في خبرة جديدة، مرٌّ ولين؛ فحدوث التمييز يرجع إلى نتائج الاتفاق والاختلاف، أي إنه يرجع إلى أن حالات الاتفاق وحالات التي تنشأ من إجراءات متكررة الحدوث في مجرى الخبرة المتصل؛ وحاصل ذلك هو أن حضور صفات مباشرة معينة، يرتبط بصفات أخرى معينة ليست مباشرة، ارتباطًا يجعل هذه الأخيرة نتيجة تستدل من الصفات الأولى؛ فإذا ما وقعت هذه الإجراءات الاستدلالية في لحظة تالية، فعندئذٍ يتحقق بالفعل التعميمُ الذي كان موجودًا بالقوة، بسبب قيام طرائق التغير والنشاط السلوكي نفسها؛ ونعد الاستدلال الناتج عن هذا، مدعمًا، بالدرجة التي تكون بها قد لحظنا العواقب المختلفة، ملاحظة تجعل بعض السمات المقترنة جائزة الاستدلال، على حين يستبعد بعضها الآخر.
ولقد أصاب «هيوم» في بيانه للعلاقة بين الاستدلال والتوقع؛ وهي علاقة أدت به إلى نتائج لا تجاوز حدود الشك إلى اليقين، (١) لأنه لم يمضِ في تحليله لمبدأ العادة «الملغز» إلى الحد الذي يرى عنده أن ذلك المبدأ هو نفسه الاطراد في طريقة الإجراء وطريقة التغير، (٢) ولأنه قد فاته أن صياغة حالة من حالات التوقع في عبارة صريحة، تجعل ذلك التوقع قابلًا للمراجعة وللاختبار على أساس نتائجه، سواء كانت تلك النتائج إيجابية ومتفقة (مع الخبرة الماضية) أو سالبة ولا تنخرط مع الخبرة السابقة؛ (٣) على حين أن مثل هذه الصياغة ينقل التوقع من مجال السببية الوجودية إلى المجال المنطقي؛ فكل حالة من حالات التوقع تتضمن تعميمًا، باعتبارها حالة تتمثل فيها عادة نشأ عنها استعدادٌ للتصرف (أو للإجراء) على نحو معين؛ وحاصلُ هذا التضمن هو ما قد أسميناه تعميمًا منطقيًّا كائنًا بالقوة؛ فصياغة التوقع في عبارة صريحة تضعه في صورة قضية، مضافًا إليها استخدامنا في سلوكنا الفعلي لتلك الصياغة، بأن نتخذها وسيلة لضبط ومراجعة ما نحن قائمون به فيما بعد من إجراءات خلال مجرى البحث المتصل، تخلع على ذلك الوجود بالقوة (للتعميم) صورة منطقية محددة.
وسأسارع إلى ذكر نتيجة مناقشة هذه النقطة، بأن أستعمل كلمات معينة أحدد بها هذا التمييز؛ فسأطلق على القضايا التي تُقال عن الأنواع أو عن الفئات حين نعني بهذه الكلمة أنواعًا، اسم القضايا الجامعة (بالمعنى الذي تكون به الأنواع جامعة كذلك) بينما أطلق على القضايا التي نحصل مادتها من الإجراءات التي تقرر لنا مجموعة من السمات على أنها هي السمات التي تصف نوعًا ما، اسم القضايا الكلية؛ ويقابل ذلك أني سأسمي الكليات — من حيث هي كذلك — مقولات لكي أتجنب ازدواج المعنى الذي نراه اليوم في استخدامهم لكلمة «فئات» في النظرية المنطقية — فكلمة «فئة» تستعمل لتدل على الأنواع وعلى الكليات في آنٍ واحد، مع أنهما متميزان فيما يؤديان من وظيفة منطقية، وفي الصورة المنطقية، كما سنبين ذلك فيما بعد.
فهنالك كلمات في الاستعمال الجاري، مزدوجة المعاني ازدواجًا مطَّردًا، مثال ذلك كلمات كهذه: «إذا؛ لما (أو حين)؛ ظروف» فهي أحيانًا تشير إلى الكائنات الموجودة في الخارج، وأحيانًا تشير إلى الأفكار القائمة في الداخل؛ فحين يُقال: «إذا لم يحضر خلال خمس دقائق، فلن أظل منتظرًا»، فكلمة «إذا» تشير إلى مجموعة من الأحوال الحادثة زمانًا ومكانًا؛ وكذلك حين يسأل سائل: «متى تشرق الشمس غدًا؟» فواضح أن الإشارة هنا إلى حادث يحدث في زمن؛ لكن كلمة «حين» في الجملة التي قلناها «حين يسأل سائل» لها دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ إنها تعني «أيان» أو تعني إذا سئل هذا السؤال في أي وقت؛ دون أن يستلزم ذلك أن يكون السؤال قد سئل فعلًا أو أن سائلًا سيسأله أبد الدهر؛ فالقضية القائلة: «حين تظهر الملائكة بصمت الناس» لا تستلزم بذاتها أن ثمة ملائكة أو أن الملائكة ستظهر أبدًا؛ وفي العلم قضايا كثيرة ترد فيها الجملة البادئة بكلمة «إذا» حين يكون معلومًا أنها مضادة للظروف القائمة فعلًا في الوجود الخارجي، أعني أنها تكون مما يستحيل تحقيقه وجوديًّا، مثل قولنا: «إذا تأثرت ذرة ساكنة بفعل ذرة مفردة متحركة، إذن» … إلخ؛ ففي قضايا كهذه، يكون معنى «إذا» و«حين» هو العلاقة القائمة بين أفكار ذهنية، لا العلاقة القائمة بين وقائع وجودية، أو زمانية مكانية؛ وأما إذا استعملنا كلمة «ظروف» فهي الآن تشير إلى علاقة منطقية لا إلى أحوال وجودية.
وهذه التفرقة معترف بها في النظرية المنطقية اليوم، ولكن في سياقات معينة؛ مثال ذلك، المذهب القائل بأن القضية الموجبة الكلية أو القضية السالبة الكلية لا يلزم عنها قضية موجبة جزئية أو قضية سالبة جزئية؛ وكذلك في التفرقة التي يميزون بها بين القضايا الرياضية والقضايا الطبيعية؛ فهذه الاعتبارات وحدها دالة على ضرورة اعترافنا اعترافًا مطَّردًا بالفارق الذي يميز صورتين منطقيتين للتعميم، ويبدو أن تقصيرنا في جعل هذا التمييز مطردًا وشاملًا راجع لمحاولة يحاول بها أصحابها أن يردوا القضايا العامة التي تُقال عن الأنواع (وتسمى الأنواع عندهم بالفئات) إلى صورة القضايا الكلية المجردة، والمصدر الأول لهذه المحاولة هو فيما يبدو متفرع بدوره عن مصدر آخر، وهو كون الأنواع في المنطق الأرسطي كانت تفسر على أنها كليات قائمة في الوجود الخارجي؛ لكن تقدم المنطق الحديث، وبخاصة تحت تأثير العلم الرياضي، قد بين أن القضايا الكلية هي قضايا شرطية مجردة، أي إنها لا وجودية في مضمونها؛ ومن هنا نشأ الخلط في النظرية المنطقية حين ظن أن القضايا التي تُقال عن الأنواع (وهي قضايا عامة بمعنى أنها جامعة) هي بعينها القضايا الكلية.
فكل مؤلف حديث في المنطق يشير إلى ازدواج المعنى في مثل هذه القضية: «كل إنسان فانٍ» فأحد التفسيرات لهذه القضية، وهو التفسير الذي يحميه العرف التقليدي، هو أنها تعني أن فئة الناس (والفئة هنا معناها النوع) مشمولة في فئة الكائنات الفانية؛ فلو سقنا القضية سياقًا صريحًا يعرض مضمونها الوجودي، كان معناها: «كل الناس قد ماتوا أو سيموتون»، وهي قضية مكانية زمانية؛ لكنها من وجهة نظر أخرى تعني أنه «إذا كان ثمة كائن بشري، إذن فهذا الكائن فانٍ»، أي إن ثمة ارتباطًا ضروريًّا متبادلًا بين صفة كون الشيء بشريًّا وصفة كونه فانيًا، ومثل هذه القضية لا يستلزم، كلا ولا هو يفرض مسلَّمة تقول بأن الناس أو الكائنات التي تموت قائمة في الوجود الفعلي؛ فهي قضية صادقة — إذا كانت صادقة إطلاقًا — حتى ولو لم يشتمل الوجود على إنسان، لأنها تعبر عن علاقة ضرورية قائمة بين خصائص مجردة؛ ولكن قضية «كل إنسان فانٍ» — من جهة أخرى — إذا فُسِّرت تفسيرًا يبين إشارتها إلى الوجود الخارجي، كانت من الناحية المنطقية قضية موجبة جزئية؛ وما دامت تندرج عندئذٍ في النوع الاستقرائي من القضايا، فهي إذن معرضة لطوارئ الوجود الفعلي ولمقتضيات المعرفة حين تنصب على أمور الواقع؛ أي إنها عندئذٍ تكون قضية لها درجة معينة من الاحتمال؛ فالرابطة بين الحقيقة الواقعة التي هي الحياة، والحقيقة الواقعة التي هي الموت، تختلف في صورتها المنطقية عن العلاقة بين كون الشيء بشريًّا وكونه فانيًا؛ فهذه الأخيرة تصدق، كما قلنا منذ حين قصير، إذا صدقت على الإطلاق، بحكم تعريفنا لفكرة ما؛ وأما الحالة الأولى فأمرها مرهون بالشواهد، وهذه تحددها المشاهدات.
إلى هنا والطريق ممهدة نسبيًّا؛ لكن التمييز (بين نوعي التعميم) كثيرًا ما تعقب عليه المؤلفات المنطقية المعاصرة بزعم — صريح أو مضمر — هو أن القضايا التي تُقال عن الأنواع هي في نهاية التحليل من نفس الطراز المنطقي الذي تكون عليه القضايا الكلية التي صورتها «إذا – إذن»؛ والتدليل الذي يؤدي إلى هذا الزعم — أو إلى هذه النتيجة — هو كما يأتي: إن القضايا التي تُقال عن الأنواع ليست تنصرف إلى أفراد النوع، بل تنصرف إلى العلاقة التي تصل السمات المميزة — التي بها يتعين النوع — بعضها ببعض؛ فإثباتنا أن كل الأفراد الذين يدخلون في نوع الإنسان يدخلون في النوع الذي هو أوسع نطاقًا، وأعني به نوع الكائنات الفانية؛ أقول إن إثباتنا لهذه الحقيقة لا يتضمن معرفتنا لأفراد الناس كافة، بل لا يتضمن معرفتنا لشخص واحد بذاته؛ إذ هو قول يصدق على الناس الذين لم يُولدوا بعد، كما يصدق على عدد لا حصر له من الناس الذين لا صلة لنا بهم؛ وعلى ذلك فأمثال هذه القضية تختلف في صورتها المنطقية عن أية قضية تُقال عن فرد واحد.
ويمضي «مل» في حديثه ليثير سؤالًا عن الكلمات المجردة مثل كلمة «بياض» إن كانت عامة أو مفردة؛ وبعد أن تأخذه الحيرة بسبب اعتبارات معينة سنذكرها الآن فورًا، تراه ينتهي إلى نتيجة هي أن «خير سبيل، ربما تكون اعتبار هذه الأسماء لا عامة ولا فردية، فنضعها في فئة وحدها»؛ وإن هذه النتيجة لتشهد بما كان ﻟ «مل» من حاسة تدرك الصور المنطقية: فتلك «الفئة القائمة وحدها» هي في حقيقة الأمر فئة الكليات المجردة؛ لأنه إذ يقول إن تلك الأسماء ليست «عامة» فهو يستعمل الكلمة بالمعنى الذي تكون به الأسماء المشتركة (بين أفراد النوع الواحد) مثل كلمة لون، أسماء عامة؛ فحيرته كانت إذن راجعة إلى اعتقاده بأن بعض الحدود المجردة هي أسماء تطلق على نوع من الماصدقات؛ فاللون — مثلًا — يشمل بناءً على وجهة نظره، البياض والاحمرار والزرقة … إلخ، والبياض بدوره يشمل درجات متفاوتة؛ وهو يقول إن هذا نفسه يصدق على المقدار الكمي وعلى الوزن بالنسبة إلى ما لها من درجات متفاوتة؛ أما الحدود التي من قبيل «مساواة» و«تربيع» … إلخ فتدل — في رأيه — على خاصة «تتصف بالوحدانية ولا تقبل التعدد»، ومن العجيب أنه يجعل «إمكان الرؤية» في هذه الطائفة نفسها، مع أنه من الواضح أن إمكان الرؤية له درجات.
فواضح — فيما أرى — أن «مل» حين يتحدث عن الحدود المجردة التي لها — كالأسماء المشتركة — ماصدقات من أنواع ودرجات، قد انزلق من الأشياء المجردة إلى الأشياء ذوات الوجود الفعلي وما لها من خصائص؛ نعم إن الأشياء الواقعية لها أحجام مختلفة أو درجات من الكم وأوزان مختلفة؛ لكنه يستحيل علينا أن نرى كيف يمكن للفكرة المجردة عن المقدار أو عن الثقل، أن يكون لها درجات أكثر مما يمكن أن تكون هذه الدرجات للتربيع أو للمساواة؛ فما دامت الأشياء المختلفة قد تتساوي مقدارًا، بينما تختلف حجمًا عن غيرها من الأشياء، فإن تدليله في حالة المقدار يفضي به منطقيًّا إلى النتيجة التي مؤداها أن المساواة هي أيضًا اسم يطلق على «فئة من صفات» ما دامت الأشياء قد تختلف حجمًا، ومع ذلك يظل بعضها مساويًا لبعضها الآخر؛ والمقدار يمثل الشيء الكبير بنفس الطريقة التي يمثله بها الشيء الصغير؛ وكذلك تمثيل الوزن بمعناه المجرد، لا فرق فيه بين جسم ثقيل وآخر خفيف؛ وهكذا قل في الاحمرار والزرقة والبياض، فكلها طرق تظهر فيها اللونية، لكنها ليست أنواعًا من اللون (بمعناها العيني) كأحمر وأزرق وأبيض.
وسنفيض القول فيما بعد عن ازدواج معنى فكرة «دخول نوع في نوع»، فحين يُقال عن أنواع معينة إنها داخلة في نوع أوسع مجالًا في مسمياته، فمدلول كلمة «دخول الأنواع في غيرها» هنا منصرف بغير شك إلى الكائنات الخارجية؛ وأما حين يُقال عن تعريف متعدد الأضلاع في الهندسة بأنه «يشتمل» على تعريف المثلثات والأشكال ذوات الأضلاع الأربع … إلخ، فمعنى الكلمة يصبح مختلفًا أشد اختلاف عما كان في الحالة السابقة؛ وهو معنًى قد يتضح نوعه بنص وارد في معجم أكسفورد، وهو: «لا بد أن ندخل في فكرة «العمل الشاق» شتى المشاعر التي لا يستريح لها صاحبها … مصحوبًا بها استخدام الإنسان لفكره أو عضلاته أو كليهما في أدائه لعمل معين.»
«والدخول» هنا مرتبط بتعريف فكرة أو تصور عقلي؛ فالنص المذكور يقرر أن أي تعريف للعمل الشاق (والكلمة هنا مستعملة بمعناها المجرد) يكون معيبًا إذا لم يشتمل فكرة عدم ارتياح القائم به، باعتبارها جزءًا ضروريًّا أو مكملًا لمفهوم العمل الشاق؛ فإذا قبل التعريف، أو حين يقبل، فهو يزودنا بشرط منطقي ضروري نقرر على أساسه إذا كانت وظيفة معينة هي من نوع يدخل (بالمعنى الثاني للدخول في الفقرة السابقة) في نوع الأعمال التي توصف بأنها شاقة؛ فبناءً على التعريف السابق، إذا قيلت قضية بأن الوظيفة الفلانية هي من العمل الشاق أو ليست منه، كانت القضية تعتمد في الفصل بين النوعين على حضور أو غياب صفة عدم الارتياح التي تصاحب أداء تلك الوظيفة؛ ولو عرفنا أو تصورنا العمل الشاق تعريفًا أو تصورًا يختلف عن التعريف المذكور، لجاز أن ينتج عن هذا التعريف مجموعة مختلفة من السمات التي على أساسها ندرج لونًا معينًا من النشاط في نوع معين، وعلى أساسها كذلك نحدد علاقة الأنواع بعضها ببعض؛ فهذا المثل يوضح لنا العلاقة الضرورية القائمة بين تحديدنا للقضايا الجامعة وبين القضايا الكلية المجردة، التي هي بمثابة تعريفات لِمعانٍ عقلية أو فكرية؛ لكنه مثل يتضمن أيضًا ما بين نوعي القضايا من اختلاف في الصورة المنطقية؛ ويبين كذلك الاختلاف الصوري بين مفهومي تداخل الأنواع بعضها في بعض وتخارجها بعضها عن بعض؛ فالقاعدة التي توضع للتداخل وللتخارج ليست هي نفسها حالة من حالات التداخل أو التخارج التي تترتب على تطبيقها؛ فلأن تستبعد أو تستخرج شيئًا بحكم التعريف، أمر يختلف منطقيًّا عن رفضك وضع نوع داخل نوع آخر معتمدًا على بينات الشواهد.
وسنعود في الفصل التالي إلى مناقشة مفصلة للقضايا الجامعة والقضايا الكلية، في ضوء التفرقة بين الصور المنطقية التي أسلفنا صياغتها؛ ولكننا ونحن إزاء الحالة التي نرى النظرية المنطقية عليها اليوم مضطرون أن نتعرض لمناقشة كانت تعد استطرادًا خارجًا عن الموضوع، لو أن التفرقة المذكورة كانت معترفًا بها مأخوذًا بها أخذًا مطردًا؛ ولنا أن نختم هذا الجانب الحاضر من جوانب المناقشة، بقولنا إن دوافع منطقية ثلاثة — فيما يبدو — قد اجتمعت لتسبب قصور رجال المنطق دون تبينهم لما يميز الصور المنطقية بعضها من بعض؛ أولها تأثير الطريقة الأرسطية في جعل الفئات، من حيث هي أنواع وجودية ثابتة يمكن تعريفها بماهية صورية، في جعل هذه الفئات هي والكليات شيئًا واحدًا؛ وثانيها هو الرغبة في المحافظة على الفكرة التي تتصور المنطق على أنه صوري بحت (يستبعد كل إشارة إلى ما هو ذو وجود فعلي أو ما هو مادي) وذلك بأن تتخذ القضايا الرياضية على أنها الصورة المنطقية التي يقاس إليها تأويلنا للصورة في القضايا العامة كافة، وهي فكرة لو أُخذ بها أخذًا دقيقًا، لاقتضت — مع ذلك — حذف كل إشارة إلى الخارج، ولاقتضت بالتالي — في نهاية الأمر — حذف القضايا الفردية والقضايا العامة أيضًا؛ وأما التأثير الثالث فينشأ عن اعتبار كامن في طبيعة البحث نفسه، وأعني به المهمة الضرورية التي تؤديها القضايا الكلية في تقرير ما يجوز لنا قبوله من القضايا الفردية والقضايا العامة؛ وهي نقطة سنناقشها بإسهاب في الفصل التالي.
لقد كانت مشكلة طبيعة التعميم موضوعًا له من الخطر في تاريخ المنطق الفلسفي، وتاريخ النظرية الميتافيزيقية على السواء، ما يستدعي أن نضيف بضع كلمات نوضح بها السمات التي تفرق بين موقفنا في هذا الفصل، وبين وجهات النظر التي عرفتْ تقليدًا بأسماء: المذهب الشيئي، والمذهب التصوري، والمذهب الاسمي، وحسبي هنا أن أفرق فقط بين موقفنا وبين هذه المذاهب، لا أن أحتجَّ بالحجة له وعليها؛ فالنظرية التي نعرضها تتفق مع المذهب «الشيئي» في تأويل الكلمات العامة، في أنها تثبت بأن طرائق الفعل السلوكي لا تقل وجودية عن الأشياء والحوادث المفردة؛ ولكنها تختلف عن هذا المذهب في قولها بأنه مع كون طرائق التفاعل هذه شروطًا ضرورية للتعميم المنطقي، إلا أنها ليست شروطًا كافية لقيام ذلك التعميم، لأن الشروط الكافية لا تتوافر إلا حين نتخذ مما هو عام تعميمًا وجوديًّا، أداة نوجه بها طريق السير — إذ نحن في مجرى البحث المتصل — نحو بلوغ ما يجوز لنا قبوله من نتائج.
ويتبع ذلك أن تتفق نظريتنا مع «المذهب الاسمي» في أخذها، ليس فقط بأن الصفات المباشرة هي الأساس المطلوب لتحديد النطاق الذي يحدد تعميمًا معينًا ينصرف بإشارته إلى كائنات الوجود الخارجي، وأنها الأساس المطلوب كذلك لاختبار صلاحية ذلك التعميم للانطباق على حالة معينة، بل إنها لتتفق مع المذهب الاسمى أيضًا في قولها (وهذه نقطة أكثر أهمية فيما نحن الآن بصدده) بأن ما هو عام من الناحية المنطقية، سواء أكان تعميمه جامعًا أم كليًّا، لا بد بالضرورة أن تكون له خصيصة الرمز؛ لأنه ما دام اللفظ العام ليس تصويرًا حرفيًّا لما هو عام في الوجود الخارجي، بل هو طريقة للانتفاع بهذا الأخير تحقيقًا للغرض الخاص المقصود من البحث (أي إنه صورة منطقية بكل ما يميز الصورة المنطقية من خصائص) فالرمز — من حيث مكانته ومن حيث مهمته — يماثل الفرد المعلوم الذي تتطلبه دالة القضية لكي تصبح قضية كاملة؛ وصياغة هذه القضية الكاملة أمر لا بد منه بحكم طبيعة الحال، لكي يتسنى السير في البحث الموجه؛ لكن نظريتنا تعود فتختلف عن المذهب الاسمى اختلافًا جوهريًّا، في أخذها ليس فقط بأن ما هو عام يرتكز على أساس من الوجود الخارجي (وبالتالي فليس هو مجرد لفظ مناسب لتذكيرنا، أو للإشارة إلى عدد من المفردات) بل كذلك في أخذها بأن عملية الرمز باللفظ شرط ضروري لكل بحث ولكل معرفة، وليست هي مجرد تعبير لغوي عن شيء معلوم لنا من قبل، ولا يحتاج منا أن نرمز إليه إلا تحقيقًا لسهولة التذكر ونقل الأفكار إلى الآخرين.
وعلى ذلك فنظريتنا تتفق مع «المذهب التصوري» في نقطة واحدة، وهي أن ما هو عام تصوري أو فكري في طبيعته؛ لكنها تختلف عن المذهب التصوري اختلافًا رئيسيًّا في فكرتها عن التصورات العقلية ماذا تكون طبيعتها؛ فمن الناحية السلبية — كما سبق لنا أن ذكرنا — هي ترفض رفضًا تامًّا الرأي القائل بأن التصور العقلي لفكرة كلية يمثل جانبًا مختارًا من المادة التي كانت قد وُجدتْ «مشتركة» بين عدد من المفردات؛ ورفضها ذلك معتمد على (١) تأويلها لما هو «مشترك» على أساس المهمة الأدائية التي تؤديها الخصائص الوجودية في عملية الاستدلال، و(٢) على ضرورة الكلي المجرد لتسويغ استعمالنا للخصائص الوجودية استعمالًا استدلاليًّا في أي بحث؛ والنقطة الثانية أهم من الأولى، لأنها تشير إلى ضرورة التصورات الذهنية ضرورة منطقية، تلك التصورات التي إن تكن المفردات الجزئية توحي بها، إلا أنها ليست مستمدة منطقيًّا من تلك المفردات، حتى ولا مما هو مشترك بين تلك المفردات؛ وذلك لأن الفكرة أو التصور الذهني هو في طبيعته إمكان، ولهذا فهو في حقيقته يختلف عن الوجود بالفعل، مهما كثر تردد الصفة الفعلية، أي مهما كان لهذه الصفة من درجة الشيوع فيما يتكرر وقوعه من المفردات؛ أضف إلى ذلك أننا نذهب إلى أن طابع الإمكان في التصور العقلي، هو من الناحية المنطقية شرط موضوعي ضروري في كل ما نقرره لأنفسنا من اعتقادات مقبولة أو من معرفة مقبولة؛ وليس هو بالزائدة النفسية، كما يُفهم — فيما يبدو — من المذهب التصوري التقليدي.