النظرية العامة في القضايا
ولقد كانت القضايا — من الوجهة المنطقية — متميزة من الحكم، إلا أنها الأدوات المنطقية الضرورية التي نتوسل بها لبلوغ قرار ختامي جائز القبول، أي لنصل إلى حكم؛ فلا سبيل إلى تسويف الفعل المباشر إلى أن نجري بحثًا في الظروف الخارجية وخطط السير إزاءها، إلا باستخدامنا لعملية الرمز (وهي الفصل الذي يميز القضايا تمييزًا يجعلها نوعًا قائمًا بذاته)؛ حتى إذا ما حان الحين آخر الأمر، لقيامنا بالفعل بصورة سلوكية مكشوفة، جاء عندئذٍ فعلًا بصيرًا لا فعلًا أعمى (كما كان ليكون لو أديناه بغير بحث)؛ وبناءً على ذلك فالقضايا — من حيث هي قضايا — أدوات وسلية مؤقتة تقع في مراحل الطريق الوسطى (بين قيام المشكلة أولًا وحلها أخيرًا)؛ ولما كانت موضوعات القضايا تتناول نوعين من الوسائل: وسائل مادية ووسائل منهجية، كانت تلك الموضوعات مندرجة في مقولتين رئيسيتين: (١) مقولة وجودية تشير مباشرة إلى الظروف الفعلية كما قد حددتها المشاهدة المبنية على تجارب، و(٢) مقولة عقلية أو فكرية، تتألف من معانٍ يتصل بعضها ببعض، وهي معانٍ لا تكون وجودية المضمون بإشارة مباشرة إلى العالم الخارجي، لكنها تكون مما يمكن أن يصْدق على الوجود الخارجي إذا نحن أجرينا الإجراءات التي تعرضها علينا تلك المعاني عرضًا على سبيل الإمكانات؛ وحين يزودنا هذان الضربان من القضايا بالوسائل المادية والوسائل الإجرائية على التوالي، فإنهما يكونان مكملين أحدهما للآخر، أي إنهما يكونان متقابلين في الأداء؛ فهما بمثابة تقسيم العمل في عملية البحث إلى قسميه الرئيسيين.
وهنالك حركة معاصرة في النظرية المنطقية — تعرف باسم الوضعية المنطقية — تجتنب استعمال كلمتَيْ «قضايا» و«حدود» لتستبدل بهما كلمتَيْ «جمل» و«كلمات»؛ وإننا لنرحب بهذا التغيير إلى الحد الذي يجعله تغييرًا يركز الانتباه فيما للقضايا من بناء ومضمون رمزيين؛ لأن تبين هذه الحقيقة يحرر النظرية المنطقية من تبعيتها للاعتمادات التي قد نسبق إلى اعتناقها عن الحقيقة الكونية وعن الميتافيزيقا؛ ويسمح للنظرية المنطقية أن تمضي في طريقها مستقلة بكيانها، على أساس مضمونات القضايا ومهماتها التي تؤديها كما تعرض لنا فعلًا لنحللها؛ وإن هذا التغيير إذ يبرز العنصر الرمزي في القضايا، يصلها باللغة صلة تردها إلى منبع واحد؛ هذا إلى أن اللغة ستُعَدُّ عندئذٍ مختلفة الكيان عن الأشياء التي تُقال تلك اللغة عنها، على الرغم من أنها تُقال عن تلك الأشياء إما بطريق مباشر أو طريق غير مباشر؛ أضف إلى ذلك أن صياغة موضوع المنطق في لغة الرموز، من شأنها أن تحرر النظرية المنطقية من اعتمادها على العالم الذاتي الذي قوامه «إحساسات» و«أفكار» حين يوضع هذا العالم ليقابل عالمًا آخر قوامه الأشياء، وذلك لأن الرموز واللغة أحداث موضوعية ترد على الخبرة الإنسانية.
وثمة اعتراض ثانوي على استعمال كلمتَيْ «جمل» و«كلمات» لتدلا على ما قد كان يُسمَّى بقضايا وحدود، وهو أنه ما لم نكن على حذر في فهمنا لتينك الكلمتين، أدى استعمالهما إلى تضييق نطاق الرموز واللغة بغير داعٍ؛ لأننا عندئذٍ سنحذف تعبيرات الوجه وسنحذف الرسوم (كالخرائط والرسوم التخطيطية … إلخ) إذ لم يجرِ العرف على أن نعامل هذه الأشياء معاملتنا للجمل أو الكلمات؛ ومع ذلك فهذه صعوبة يمكن أن نجتنب الوقوع فيها؛ أما الاعتراض الأهم فهو أننا إذا لم نحسن صياغة المصطلحين الجديدين، ألفيناهما لا يميزان بين اللغة التي اصطنعناها لأغراض التبادل الفكري (وهي ما أسماها «لُكْ» باللغة «المدنية») وبين اللغة التي لم تتقرر إلا خلال بحوث سابقة متصلة بأغراض البحث الذي نكون بصدده، واللغة بمعناها الثاني وحده هي ذات المضمون المنطقي؛ فهذه المشكلة الخطيرة لا يمكن التغلب عليها بالنظر إلى الجمل والكلمات وهي قائمة وحدها، لأن التفرقة تعتمد على نية المتكلم التي لا يمكن استخلاصها إلا من السياق كله.
ولا مناص من حدوث المغالطات في النظرية المنطقية، طالما كانت أمامنا حالة معينة لم نجد إزاءها إن كانت نية المتكلم أن ينقل فكرة معلومة من قبل، أو أن يستعمل ما قد ظن أنه معلوم، وسيلةً للبحث في أمر لبث حتى ساعة الكلام غير معلوم ومثار إشكال؛ فمثلًا خذ مسألة الموضوع والمحمول: فالموضوع في النحو هو مادة يُفرض فيها أنها معلومة، ومتفق عليها، و«مفهومة» — عند نقل الحديث — لمن ينقل فكرته ولمن تُنقل إليه؛ وأما المحمول في النحو فهو ذلك الذي يُفرض فيه أنه جزء مما لدى الشخص الذي ينبئ سواه بنبأ أو ينصحه بنصح، من معرفة وفكر، لكن لا يكون جزءًا من معرفة المستقبل وفكره؛ فافرض أن الجملة هي «الكلب قد ضاع» فمعنى «الكلب» معرفة مشتركة، أو مفروض فيها أنها مشتركة بين المتكلم والسامع؛ أما أنه «قد ضاع» فمفروض أن يكون ذلك معلومًا للمتكلم، لكنه لم يسبق للسامع علمٌ به، ولو أنه متصل بخبرته واعتقاداته.
وعلى خطورة هذه الاعتراضات التي ذكرناها، فهنالك اعتراض آخر أخطر منها، وهو أن الوضعية المنطقية — كما تُصاغ عادة — واقعة تحت تأثير الصورية المنطقية المستمدة من تحليل الرياضيات، إلى الحد الذي يجعلها تفرق تفرقات حادة مسرفة في حدتها بين المادة والصورة، وتطلق على هذين الجانبين اسمَيْ «معاني الكلمات» و«علاقات البناء اللفظي»؛ نعم إنه لا جدال في أن النظرية المنطقية لا بد أن تميز بين الصورة والمادة، لكن ضرورة هذا التمييز لا تدل بذاتها إن كان هذان الجانبان المتميزان مستقلين أحدهما عن الآخر أو غير مستقلين، أي إن التمييز في ذاته لا يدل إن كانت الصورة والمادة — مثلًا — متعلقين أحدهما بالآخر تعلقًا نابعًا من صميم طبيعتهما الداخلية، عندما يتمثلان معًا في موضوع القضية المنطقية، وأنهما إن تميزا فلا يتميزان إلا في التحليل النظري وحده، أقول إن التمييز بين هذين الجانبين لا يدل بذاته إن كانت هذه هي حقيقة أمرهما أو لم تكن؛ فبينما طبيعة الجمل أو اللغة تغرينا بإقامة التفرقة بين معاني الكلمات التي هي قوام مادتها وبين الطرق التي نرتب بها تلك الكلمات في بنائنا للجمل؛ فما هذه التفرقة إلا أسلوب جديد نخرج به المشكلة الأساسية القديمة، مشكلة قيام أو امتناع العلاقة بين المادة والصورة، أو بين المعاني والبناء الفظي؛ فإذا جئنا نزعم — زعمًا مضمرًا أو صريحًا — بأن التمييز بين الجانبين ينهض برهانًا على استقلال كل من المادة والصورة عن الآخر، جاعلين اختصاص المنطق مقصورًا على الصورة وحدها، لم نكن بهذا الزعم إلا بمثابة من يسلم بالنقطة الأساسية التي هي نفسها موضع النزاع.
وعلى الرغم من رفض (الوضعية المنطقية) رفضًا اسميًّا المبادئ والمزاعم «الميتافيزيقية» كافة، إلا أن الفكرة القائلة بوجود فاصل حاد — إن لم يكن فصلًا تامًّا — بين الصورة والمادة، هي فكرة ترتكز آخر الأمر على تقليد خاص، هو تقليد ميتافيزيقي صِرف؛ فما للرياضيات من طابع صوري، مسلَّم بصورته، لا يقوم برهانًا على انفصال الصورة عن المادة، وكل ما يفعله هو أنه يضع تلك المشكلة وضعًا يجعلها مشكلة أساسية؛ وإنا لنضيف إلى اعتراضاتنا السابقة (على الوضعية المنطقية) اعتراضًا آخر هو أمس منها جميعًا بصميم الموضوع، وهو أن توحيدنا بين الصورة المنطقية والصورة البنائية في الجمل اللغوية، مضطر أن يفرض — كأنه حقيقةٌ معطاةٌ — وجودَ الفوارق التي تميز بين الأسماء والأفعال والصفات وحروف الجر وأدوات الوصل … إلخ؛ لكن أحدًا لم يحاول قط — ولست أرى كيف يمكن لمثل هذه المحاولة أن تتم بنجاح — أن يبين أي الكلمات يكون له القوة المميزة على أساس التصنيفات المذكورة (أعني أن يبين ما الذي يجعل الأسماء أسماءً والأفعال أفعالًا وهكذا) دون أن تؤخذ معاني الكلمات في الاعتبار، والمعاني إنما هي من قبيل المضمون المادي.
لقد كان يكون سخفًا منا — بطبيعة الحال — لو ذهبنا إلى أن التفرقة المذكورة آنفًا، هي تفرقة متضمنة في طبيعة استبدالنا لكلمتَيْ «كلمات» و«جمل» بكلمتَيْ «حدود» و«قضايا»؛ ولكن أما والنظرية المنطقية على حالتها الراهنة التي هي عليها، تربط بالفعل هذا الاستبدال بفكرة التفرقة المذكورة، فقد أصبح لدينا ما يسوغ استخدامنا للمصطلحات القديمة في الموضوع؛ وإن هذا المسوغ ليزيده الاستعمالُ اللغوي قوة بسبب حقيقة سبق لنا ذكرها، ألا وهي أن كلمة «جملة» كما هي مستعملة في اللغة الجارية، تدل على ختام البحث أكثر مما تدل على بدايته، أو على السير المستمر في طريق تنفيذه؛ على حين أن كلمة «قضية» — من جهة أخرى — توحي على الأقل بأن شيئًا يعرض علينا لنقضي في أمره، بحيث يمكن أن نضعه فيما بعد موضع الاعتبار، ولذلك فهو شيء يدخل دخول التكامل في مجرى البحث المستمر.
إن موضع النزاع الأساسي حول منطق القضايا، إنما يتصل بالنزاع الأصيل القائم بين النظرية القائلة بأن القضايا تردُ في المراحل الوسطى من السير في البحث، وبأنها أدائية في مهمتها التي تؤديها، وهي إقامة حكم نهائي نختم به سير البحث، وبين النظريات — تقليدية أو معاصرة — التي تعزل القضايا عن وضعها وعن مهمتها اللذَيْن يدل عليهما السياق، واللذَيْن يجعلانها تؤدي إلى تحديد الحكم النهائي؛ وإن إحدى هذه النظريات التي ذكرناها، لتذهب إلى أن الحكم وحده هو المنطقي، وأما القضايا فليست إلا عبارات لغوية تعبر عن الأحكام؛ وهي وجهة نظر تتسق مع الفكرة القائلة بأن المنطق هو نظرية الفكر، حيث يكون الفكر أمرًا عقليًّا؛ على حين تقول نظرية أخرى من تلك النظريات أيضًا بأنه ما دام الحكم وقفة عقلية — يقفها من يصدر الحكم — إزاء القضايا، إذن فالقضايا وحدها هي ذات الطبيعة المنطقية؛ وعلى الرغم من حدة الخلاف بين هاتين النظرتين، فإن كلتيهما تتفقان معًا على أن الحكم — أو «الفكر» بصفة عامة — هو شيء عقلي؛ وعلى ذلك فكلتاهما تقفان موقف المعارضة لوجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب، ومؤداها أن البحث إنما يختص بتحويلات موضوعية تطرأ على مادة موضوعية؛ وأن مثل هذا البحث هو الذي يعرف لنا المعنى الوحيد الذي نجعل به «الفكر» أمرًا ذا صلة بالمنطق؛ وأن القضايا ليست سوى تقديرات وتقويمات مؤقتة نزن بها كائنات الوجود الخارجي وتصورات العقل، باعتبارهما وسيلتين لإقامة حكم أخير يكون بمثابة حل موضوعي لموقف مشكل؛ وبناء على ذلك فالقضايا تشكيلات رمزية، على أن هذا الرمز لا هو رداء خارجي، ولا هو شيء كامل ونهائي في ذاته.
وربما كانت أكثر وجهات النظر شيوعًا اليوم، هي وجهة النظر التي تعد القضايا مادة الرباط الذي يضم النظرية المنطقية كلها في كيان واحد؛ وللقضايا — بناءً على هذه النظرة — خصيصة تحددها، وهي أن تكون قابلة للحكم عليها بالصدق أو بالكذب من الناحية الصورية؛ وأما بناء على وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب، فالقضايا تتباين أو تتشابه على أساس المهمة التي يؤديها مضمون القضية من حيث هو وسيلة — إجرائية أو مادية — ثم نفرع عن الفروق بين القضايا المختلفة فروقًا فرعية أخرى تباين بين صورها، على أساس الطرق الخاصة التي نستخدم بها موضوعات تلك القضايا الفرعية استخدامًا يجعلها وسائل تؤدي إلى غايات؛ وهذه النقطة الأخيرة هي الفكرة الرئيسية التي نعرضها في هذا الفصل؛ لكنه جدير بنا في هذا الموضع أن نقول بأنه ما دامت الوسائل — من حيث هي مجرد وسائل — لا هي بالصادقة ولا هي بالكاذبة، إذن فليس الصدق أو الكذب هو الخصيصة التي تميز القضايا؛ فنحن إنما نقول عن القضايا إنها فعالة أو غير فعالة، وإنها تمس صميم الموضوع أو ليست لها به صلة، وإنها مضيعة أو مقتصدة؛ على أن معيار التفرقة في هذه الحالات كلها إنما يكون في العواقب التي كانت الوسائل وسائل لها؛ وعلى هذا الأساس نقول عن القضايا الخاصة إنها سليمة التطبيق (قوية وفعالة) أو غير سليمة التطبيق (ضعيفة وغير وافية)، أو نقول عنها إنها مهملة الأطراف أو محكمة الأطراف وهلم جرًّا.
لقد أسلفت القول بأن القسمة الأساسية للقضايا، إنما تقوم على مكانها الأدائي من الحكم، وها أنا ذا أعود إلى هذه النقطة؛ فالحكم المدعم يعتمد على إيجاد الوقائع التي (١) تحدد وضع المشكلة ومحيطها، أعني المشكلة التي خلقها موقف غير متعين، والتي (٢) تهيئ لنا الشواهد التي تختبر بها الحلول المقترحة والمعروضة وبهذا يكون لدينا قضايا، هي أحد قسمين رئيسيين للقضايا، وهو القسم الذي تدور قضاياه حول مضمونات الأشياء التي نجعلها موضوعات لتلك القضايا؛ لكن الحكم المدعم معتمد كذلك على معانٍ أو بناءات تصورية في الذهن (١) تمثل لنا الحلول الممكنة للمشكلة المطروحة بين أيدينا، و(٢) وترسم خطة للإجراءات التي لو نفذت لتولدت عنها معطيات جديدة تميل بنا نحو موقف متعين الحدود في العالم الخارجي؛ وهذه هي قضايا تدور حول مضمونات المحمول — وهي قضايا القسم الثاني من القسمين الرئيسيين.
أما القسم الرئيسي الأول من قسمَي القضايا، فتتألف مادة موضوعه أو يتألف مضمونه من المعطيات المشاهدة أو الوقائع؛ وهذه تسمى بالوسائل المادية؛ وهي — من حيث هي وسائل مادية — إمكانات من شأنها — في تفاعلها مع ظروف وجودية أخرى — أن تنتج — متأثرةً بفعل إجراء تجريبي نجربه — أن تنتج تلك المجموعة المنظمة من الظروف التي منها يتألف موقفٌ حُلَّ ما قد كان فيه من إشكال؛ ومثل هذا الموقف الذي يتحقق وجوده في العالم الخارجي، إنما تكون الوسيلة الصريحة لاستحداثه هي ما يتم بين الوقائع الخارجية من تفاعل؛ نعم إن ما قد كان مقتصرًا على مجرد الوجود بالقوة في لحظة معينة من الزمن، قد يتحول إلى وجود بالفعل في لحظة تالية من لحظات الزمن، لا لشيء سوى ما يطرأ على الظروف المحيطة به من تغير، دون أن يتدخل الإنسان بأي إجراء ينطوي على جانب منطقي أو عقلي؛ كما يحدث مثلًا حين يتجمد الماء بسبب تغير معين يطرأ على درجة الحرارة؛ غير أنه في البحث لا بد أن يتدخل الباحث بإجراء متعمد، أولًا باختياره للظروف التي يراها عوامل فعالة؛ وثانيًا بإقامته للظروف الجديدة التي تتفاعل مع الظروف التي كانت موجودة من قبل؛ وهذان الإجراءان ترسم لهما الخطة التي من شأنها أن تقرب الباحث بقدر الإمكان من أن يحدد على وجه الدقة ماذا يكون نوع التفاعل — حين نجمع الظروف المتشابهة معًا، ونباعد بين الظروف المتباينة — ماذا يكون نوع التفاعل الذي لا غناء عنه لإنتاج مجموعة محددة من النتائج؛ وإنما تكون العلاقة بين الظروف المتفاعلة من جهة والنتائج المتحققة من جهة أخرى، علاقة عامة، كما تكون علاقة صورية من حيث جانبها الأدائي، لأنها تكون علاقةً قد تحررت من كل إشارة إلى أية حالة جزئية من حالات الحدوث المتحقق في المكان والزمان.
وينبغي أن نفرق بين حالات الوجود بالقوة والإمكانات المجردة؛ فالأولى هي «قوى» وجودية تتحقق بالفعل في ظروف معينة من تفاعل الكائنات الموجودة في العالم الخارجي بعضها مع بعض؛ وأما الإمكان — على خلاف ذلك — فأمره أمر إجراء نجريه من حيث هو إجراء صرف؛ أي إن الإمكان هو قابلية الإجراء؛ ولا نقول عنه إنه قد تحقق وجوده بالفعل إلا حين ينصب الإجراء على كائنات فعلية، لا على رموز أو بوساطة رموز؛ والإجراء الممكن — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — هو الذي تتألف منه فكرة أو تصور ذهني؛ فإذا كان تنفيذ الإجراء منصبًّا على مادة فكرية حالة كونها مرموزًا لها برمز، فإنه لا يُنتج النتائج التي من شأنها أن تزيل حالة التوتر؛ إذ هو لا ينتج هذه النتائج — كما أشرنا في الفقرة السالفة — إلا بإضافة ظروف عن طريق الإجراء العملي، فتخلق تلك الظروف نوعًا محددًا من التفاعل؛ ففكرة اجتراع شراب من الماء — مثلًا — لا تؤدي إلى شرب الماء فعلًا إلا لأنها تحدث تغيرًا في الظروف التي كانت قائمة من قبل، وأقل ما يحدث في هذا الصدد أن يدار صنبور أو يصب الماء من إناء، لكي نصل بين الماء وبين مجموعة جديدة من الظروف؛ ومن هذه الملاحظات التمهيدية العامة ننتقل بالحديث إلى النظر في الأنواع المختلفة من القضايا، أعني الأنواع التي هي الأقسام الفرعية التي ينقسم إليها هذان النوعان الرئيسيان اللذان فرغنا الآن من وصفهما.
(١) القضايا الوجودية
(١-١) قضايا الإشارة إلى جزئي
فحين تسمى القضايا السالفة الذكر — كما تسمى أحيانًا — بقضايا الإدراك الحسي، يحدث خلط بين الظروف السببية التي تقع فيها الصفة المعينة، وبين الصورة المنطقية لهذه الصفة؛ فيهمنا أعظم الأهمية في شئوننا العملية أن نعرف الظروف السببية التي تجعل الشيء صلبًا أو مرًّا أو أزرق، إذ بغير هذه المعرفة لا نجد الوسيلة التي نضبط بها حدوث أمثال هذه الصفات؛ غير أن الدلالة المنطقية ﻟ «جزئي» ما إنما يُحددها حدوث الصفة التي نكون بصددها حدوثًا متعين المكان والزمان تعينًا دقيقًا؛ ومن ثَم كانت أمثال هذه القضايا هي التي تمثل أولى مراحل تحديد المشكلة؛ لأنها تزودنا بمعلوم أوَّلي، إذا ما أضفناه إلى غيره من المعطيات، فقد يدلنا على نوع المشكلة التي يقيمها الموقف الذي نحن إزاءه، وبهذا فهو يزودنا بشاهد من الشواهد التي تشير إلى حل مقترح لها، كما يكون أداة لاختبار ذلك الحل؛ على أن هنالك حالات تكون فيها للعبارة اللغوية الواحدة قوة القضية الدالة على تمثيل الفرد الجزئي لنوع ما، بالإضافة إلى دلالتها الإشارية، وهي صورة سنتناولها فيما بعد مباشرة؛ ففي سياق معين من البحث، قد لا يعني قولنا «هذا حلو» أن تغيرًا معلومًا هو في حالة الحدوث، وأنه لا بد من أخذه مأخذ الاعتبار في صياغة مشكلة ما؛ إذ قد يكون هذا القول في سياق خاص، علامةً على أن مشكلة معينة قد انتهت إلى حل؛ كما هي الحال مثلًا في مشكلة يكون هدفنا فيها هو البحث عن شيء ما من شأنه أن يحل شيئًا آخر، أما إذا فصلنا الصورة اللغوية عن مادة السياق التي هي مشكلةٌ معينة وبحثها، كان محالًا علينا أن نقرر ماذا تكون الصورة المنطقية التي جاءت تلك الجملة لتعبر عنها.
(١-٢) قضايا تمثيل الفرد لنوعه
قضايا تمثيل الفرد لنوعه هي تلك التي تحدد ما نشير إليه بقولنا هذا، على أنه أحد أفراد نوع معين؛ خذ المعنيين الممكنين لقولنا: «هذا حلو»؛ فإذا كانت القضية هنا قضية تشير إلى جزئي، كان معناها — كما قد أسلفنا القول — أن تغيرًا مباشرًا قد حدث أو هو على وشك الحدوث؛ وأما حين يقصد بهذه العبارة نفسها أن تقدم حل مشكلة قائمة، فمعناها يكون أن «هذا» هو أحد أعضاء نوع الأشياء الحلوة، أو أن هذا فيه صفات موجودة بالقوة، هي التي تكون خصائص أي شيء حلو؛ وعندئذٍ لا تكون صفة كونه حلوًا مجرد تغير قد حدث، بل تكون علامة على مجموعة مقترنة من النتائج التي ستحدث إذا ما حدثت تفاعلات معينة؛ خذ مثلًا هذه القضية «إنه قاسٍ» أو «إنه رحيم» فها هنا نجد الصفة التي تمثلها كلمة «قاسٍ» أو كلمة «رحيم» تدل على ميل نحو الفعل بطريقة معينة، وليست هي مقصورة على تغير يحدث في لحظة معينة من الزمن؛ بل إن ما يحدث في اللحظة الزمنية المعينة يتخذ شاهدًا على السمات الدائمة التي تصف نوعًا ما؛ وإن وجود هذه السمات التي تصف النوع ليتجلى في وضوح، إذا بدلنا من صيغة العبارة بحيث تصبح «إنه شخص قاسٍ».
أما قضايا كهذه؛ «هذه شجرة من شجر الدردار» أو «هذا سكر، أو حجر من الجرانيت، أو شهاب … إلخ» فلا ازدواج في تحديدها وفي تمييزها لفرد ما على أنه عضو في نوع معين؛ ولا حاجة بنا إلى أن نعيد هنا ما قد أسلفناه عن قوة فكرة النوع أو مقولة النوع في سهولة الحصول على نتائج استدلالية مدعمة؛ لكنه قد يكون من الضروري أن نذكر أنه حين تكون لكلمة وصفية مثل «محسن» و«ثديي» نفس القوة المنطقية التي تكون للاسم العام، فعندئذٍ يكون هناك افتراض مسلَّم به، وهو وجود خصائص وصفية أخرى تقترن بالصفة التي أعلن عن وجودها؛ فحين يُقال: «هذا حديد» فمن الواضح عندئذٍ أن كلمة حديد تشير إلى سمات ليست مشهودة الآن شهودًا مباشرًا، لكنها من حيث هي نتائج موجودة بالقوة، تتصل بصلة الاقتران مع الصفة الحاضرة حضورًا مباشرًا، كصفة اللون أو صفة الملمس؛ وكذلك قلْ في الفرق بين هاتين القضيتين: «إنه (ها هنا وفي هذه اللحظة) يسلك سلوك الرحيم» و«إنه رحيم»؛ فهو فرق قوامه أن القضية الثانية تتضمن استدلالًا يبدأ من المعطي المباشر الذي هو تغيرٌ تقرره القضية الأولى، وينتهي إلى مجموعة من السمات لا تكون بذاتها مشهودة في تلك اللحظة الزمنية وذلك المكان المعين.
وهكذا تعود بنا القضية التي تتحدث عن فرد من حيث هو عضو في نوع، إلى ما قلناه في الفصل السابق عن سير الحكم في طريق متصل الحلقات؛ فهذه القضايا الآتية: «هذا له لمعة الزجاج؛ ولا يمكن خدشه بسكين؛ وهو يخدش الزجاج؛ ولا ينصهر بنافث النار؛ ويتحطم في شظايا صدفية» هي قضايا — لو أخذت كل منها على انفراد — كانت أوصافًا لطرائق معينة من التغير؛ أما إذا طبقناها مقترنةً ومتجمعةً على شيء معين نشير إليه ﺑ «هذا»، فعندئذٍ نحصل منها على مجموعة من السمات المقترنة التي تصف نوع حجر الصوان (الكوارتز)؛ (١) فتغير واحد معين لا يكون من بين ما نلاحظه على أنه حقيقة واقعة فنشاهدها كما تقع؛ بل الذي نلاحظه عندئذٍ هو الظروف التي لا بد من توافرها لحدوثه؛ (٢) وهذه التغيرات يتبين لنا أنها مشتبكة بعضها مع بعض على نحو يجعل حضور إحداها علامةً مأمونة على أن سائرها سيمثلُ أمام أعيننا إذا ما حدثت تفاعلات من نوع معين، رغم تنوع الظروف التي قد تحيط بها في حالات مثولها؛ وكذلك قلْ في هذه القضية: «هذا يحيل الورقة الزرقاء حمراء» فهي في ذاتها وبذاتها لا تفعل أكثر من كونها تسجل ملاحظةً قائمة وحدها؛ لكننا إذا ما كنا في طريقنا من أبحاث يكمل بعضها بعضًا، ويجيء سابقها متبوعًا بلاحقها، وإذا ما وجدنا هذه الأبحاث تنتج لنا قضايا أخرى عن هذا (المشار إليه في القضية المذكورة)، فعندئذٍ تصبح قضية «هذا حامض» (أي إنه منتمٍ إلى نوع بعينه) قضية جائزة القبول (بفضل القضية المذكورة سابقًا)، وهكذا قد أصبح في مستطاعنا أن نحدد تحديدًا قاطعًا الفوارق المنطقية بين الصفة، والقَسْمة، والسمة، والخصيصة، وهي فوارق قد أثبتناها فيما سبق؛ ﻓ «تحويل الورقة إلى اللون الأحمر» — باعتباره موضوعًا لمشاهدة جزئية — يكون صفة؛ لكنه يكون سمة أو قسمة مميزة تعين حدود النوع، لو كان ذلك التحويل إلى اللون الأحمر يمكننا من الاستدلال المأمون من الخطأ بدرجة معقولة، فنستدل منه حدوث صفات أخرى في ظل ظروف معينة؛ ثم يصبح خصيصة إذا ما ثبت بأمثلة سلبية وأخرى إيجابية أنه علامة ثابتة يركن إليها في توقع قسمات أخرى نعلم أنها مقترنة بالقسمة المذكورة؛ فعندئذٍ تكون هذه الخصيصة منتمية إلى النوع كله بجميع حالاته، وبحكم طبيعته الأصيلة.
لقد أعدنا الإشارة مرارًا إلى «الظروف» السياقية، باعتبارها ضرورة لا غناء عنها في تحديدنا لمفهوماتنا عن قسمات الأشياء المميزة لها، وعن الوجود بالقوة، وعن الاستدلال؛ وحقيقة هذه الظروف التي تعين طبيعتها، كثيرًا ما «تُضْمَر» أي إنها تُؤخذ على أنها أمر مسلَّم به؛ فيستحيل أن تُساق في عبارة صريحة سياقًا كاملًا، حتى في البحث العلمي نفسه وفي عملية الاستدلال؛ وذلك لأن عرضها في تقرير كامل أمر محال، إذ إن ذلك يقتضي أن نستوعب كل شيء تقريبًا؛ ولهذا ترانا نأخذ مأخذ التسليم بالظروف التي نرى أنها مفروضة الوقوع، فإذا بسطنا هذه الظروف في عبارة صريحة فيما ذلك إلا حين تتباين في آثارها، فنبسطها في العبارة الصريحة بمقدار ما هي متباينة الأثر؛ فهنالك ظروف عضوية خاصة لا يكون طعم السكر فيها حلوًا، وظروف مادية معينة لا يحلي السكر فيها غيره من المواد؛ ففي حالات خاصة كهذه فقط، يتحتم علينا أن نبسط الظروف في عبارة صريحة، أعني الظروف التي تجعل النتائج مغايرة للنتائج التي نسلم بوقوعها في الحالات المعتادة؛ فمثلًا ليس بمأمون من الخطأ أن تستدل بأن شيئًا ما لزجٌ لأنه حلو؛ لكن إذا ما بسطت الظروفُ المغايرة بسطًا وافيًا، فعندئذٍ تصبح بمنجاة من الخطأ أن تستدل بأن «هذا الشيء الحلو هو من فئة الأشياء اللزجة»؛ فتسليمنا منذ البداية — تسليمًا مضمرًا أو صريحًا — بالظروف المحيطة المطلوبة في حالة معينة، مساوٍ لقولنا عن مجموعة تلك الظروف إنها قد أصبحت مقننة لشتى الحالات.
(١-٣) قضايا العلاقات بين الأنواع، أو القضايا الجامعة
وإلا فالمعالم التي نستخدمها لنصف بها نوعًا معينًا قد تكون إما متداخلة (وفي هذه الحالة يصبح من الممكن أن ننسب الشيء أو الأشياء التي نكون بصدد التحدث عنها إلى نوع آخر) أو أن تكون المعالم المأخوذة غير كافية لنسبة الشيء إلى النوع الذي خصصناه له، أريد أن أقول إن المعالم عندئذٍ إما أن تكون أوسع مما ينبغي أو أضيق مما ينبغي (أي لا هي بالمانعة ولا هي بالجامعة)؛ مثال ذلك حين كانت الخفافيش تنسب إلى نوع الطيور، وكانت الحيتان تنسب إلى نوع الأسماك، فعندئذٍ كانت صفة الطيران وصفة السباحة على التوالي، أوسع شمولًا وفي الوقت نفسه أضيق حدودًا من أن تسوغ نسبة هذه الكائنات إلى هذه الأنواع؛ وإذن فالاستدلال لا يمكن أن يسير سيرًا مقبولًا في حالة القضايا التي تنسب فردًا إلى نوعه؛ إلا إذا حددنا مختلف الأنواع التي تندرج معًا في نوع أشمل منها، مع تحديدًا للفوارق التي تفصل كل نوع منها عن سائر الأنواع؛ فبهذا وحده تتحقق لنا الشروط المنطقية التي تجيز لنا السير في الاستدلال المذكور.
وهذا الذي نقوله من أن القضايا التي ننسب بها فردًا إلى نوعه، والقضايا التي نقرر بها العلاقة بين الأنواع، تتصلان كلتاهما بعملية الاستدلال، هو بمثابة القول بهزيمة النظام القديم الذي كانت تنسق به أنواع النبات والحيوان تنسيقًا جامدًا، وأعني به نظم «التصنيف»؛ فقد كان لا مندوحة لهم عن تصنيف أنواع الكائنات تصنيفًا جامدًا، ما دام المفروض في تلك الأنواع هو أنها أنواع ذوات حقيقة وجودية ثابتة، ينفصل بعضها عن بعض في الطبيعة الخارجية؛ ثم أحللنا محل هذه النظم مجموعات مرنة متصلًا بعضها ببعض، فكان ما نراه في علمَي الحيوان والنبات من ممالك وفصائل وأسر وأنواع وصنوف … إلخ؛ وكل هذا هو بمثابة تحديدنا للعلاقات الكائنة بين الأنواع على أساس صلاتها بالاستدلال النسقي المنظم؛ ومع ذلك فقد كان الأثر المباشر لهدم فكرة الأنواع الطبيعية الثابتة عاملًا على التفكك من الناحية المنطقية، لأنه أدى إلى فكرة لا تزال قائمة في النظرية المنطقية عند التجريبين التقليديين، وهي الفكرة القائلة بأن كل قسمة إلى أنواع يتصل بعضها ببعض، إن هي إلا وسيلة للسهولة العملية دون أن تكون لها دلالة منطقية متأصلة في طبيعتها؛ لكن الكشف عن تفرع الأنواع من أصل مشترك، تفرعًا تطرد خطاه بفضل التنوع الذي ينشأ عن اختلاف الظروف المحيطة، قد وضع لنا أساسًا موضوعيًّا؛ إذ إنه قد أعاد إلينا موضوعية التصنيف، كما كانت الحال في نظرية الأنواع الثابتة، لولا أن هذا الأساس الجديد يختلف عن أساس النظرية القديمة، وإن اتفقا في الموضوعية؛ ووجه الاختلاف — من ناحية الظاهر الخارجي — علامته إحلالنا لاعتقادنا في «أصل الأنواع» محل الزعم الذي كانوا يفرضون به أنواعًا طبيعية ثابتة.
وهذا التغير يساوي في مجال المنطق مصادرةً نفرضها لنعمل على أساسها، وأعني بها أن ترتيب الأفراد في الفئات التي من شأنها أن تفيد وأن توجه عملية الاستدلال التي ننتقل بها من كائن معلوم إلى كائن مجهول، هو نفسه الترتيب الذي نرتب به تسلسل الأحياء فرعًا عن أصل، حيث نقرن اختلاف الأنواع باختلافات الظروف المحيطة؛ فعلى هذا الأساس تكون الزواحف أقرب نسبًا إلى الطيور منها إلى الضفادع والتماسيح التي كانت توضع معها في صنف واحد بادئ الأمر؛ وهذا التحول إلى مبدأ للتصنيف يقوم على أساس تسلسل الأحياء، هو نفسه ما حدث في مجال المنطق من الانتقال من السوابق إلى اللواحق لتكون هي الأساس الذي نقيم عليه اقتران المعالم التي نميز بها نوعًا من الأنواع؛ وهو انتقال يتمشى مع الأهمية التي جعلناها لتفاعل الظروف بعضها مع بعض.
ثم خذ هذه القضية: «زيد يعطي تفاحة إلى خالد» فهو يؤدي هذا الفعل في زمان ومكان معينين، وإذن فالقضية تشير إلى تغير وجودي قائم في ذلك الزمان وذلك المكان؛ وقد لا يكون هذا التغير حدث قط من قبل، وربما لن يحدث قط في المستقبل؛ ومع ذلك فكثيرًا ما تفسر القضية على الوجه الآتي: «زيد هو واهب لتفاحة إلى خالد» وليس هذا الاختلاف بين الصورتين اختلافًا لفظيًّا فحسب، بل إنه اختلاف ينقل الأمر من صورة منطقية إلى صورة منطقية أخرى، لأن العلاقة بين الواهب والموهوب إليه علاقة جامعة، ومن ثَم فهي متحررة من قيود الزمان المعين والمكان المعين؛ ولو فهمنا هذه العبارة الثانية فهمًا حرفيًّا، كان معناها هو أن زيدًا يضطلع بمهمة دائمة وهي إعطاء تفاح إلى خالد، أو أنه — على الأقل — يميل نحو أن تكون هذه هي مهمته؛ وخذ مثلًا قضيةً كهذه: «إبراهيم قد أوصى بوصية لصالح إسماعيل»، فهذا فعل (أي تغير) يحدث في زمان ومكان معينين، ولا بد أن يكون على حدوثه شهود ومشاهدون؛ إلا أن العلاقة بين الموصي والموصى له هي علاقة جامعة لأن العبارة التي تقرر هذا الفعل الخاص في حدود هذه العلاقة، تدرج الفعل في نسق من مقولات لها تعريفها في مجال القضاء، وهي مقولات تتنوع عواقبها عند تطبيقها؛ ولو أبعدنا ذلك الفعل الخاص عن كونه فعلًا من النوع الذي تحدده مقولات القانون، لما صح وصفه بأنه وصاية بوصية، لكنه سيظل مع ذلك فعلًا حدث في زمان ومكان معينين، غير أنه قد لا يختلف عندئذٍ عن كتابة كاتب لاسمه — لغير غاية مقصودة — على قطعة من الورق.
وعلى خلاف القضايا التي فرغنا لتونا من مناقشتها، نرى القضايا التي تُثبت علاقة بين الأنواع، بحيث تدل على أن نوعًا ما يدخل مع أنواع أخرى في نوع يشملها جميعًا، أقول إن هذه القضايا هي — بالبداهة — «تصنيفية»؛ لكنه يكون خلطًا منطقيًّا خطيرًا، لو أننا مددنا في نطاق هذه الصفة التصنيفية حتى تشمل القضايا التي تنسب الفرد إلى نوعه في مفهومها، كما تشملها في ماصدقها، على حين أن الجانب التصنيفي مفروض هنا — بالبداهة — أن يقتصر على مجال المفهوم وحده دون الماصدق؛ فنحن نخلط بين الصور المنطقية إذا استنتجنا من المعالم التي نحدد بها علاقة بين الأنواع، معتمدين في ذلك على الجانب العقلي من تلك المعالم، أقول إننا نخلط بين الصور المنطقية إذا استنتجنا من ذلك أن «حلو» في قضية «هذا حلو» صفة عقلية تحمل على «هذا»، لأن هذه الصفة ليست صفة محمولة عقلًا على «هذا» بأي معنًى من معاني الضرورة؛ وكل ما تشير إليه هذه الصفة في هذه الحالة هو أن تغيرًا جزئيًّا معينًا قد حدث، أو في طريق الحدوث، أو سيحدث في زمان ومكان معينين؛ وإلى هنا لا نقول شيئًا أكثر من أن نعيد — في عبارة أخرى — نقطةً أشرنا إليها من قبل؛ لكننا نضيف نقطة جديدة ذات أهمية منطقية، حين نذكر هنا أن تفسير كافة القضايا على أساس تصنيف الأفراد أو على أساس حمل الصفة على موضوعها (وتفسيرها على أساس الماصدق وعلى أساس المفهوم) إنما هو تفسير يُبهم طبيعتها الوسلية والأدائية.
إنه لا شك في أن قضية «الحديد معدن» معناها أن النوع الذي نرمز إليه بلفظ «الحديد» يندرج في النوع الذي نرمز إليه بلفظ «المعادن»؛ أو إذا أردنا أن نعبر عن هذا بعبارة تتناول الأمر من جانب صفاته العقلية، قلنا إن تلك القضية تعني بغير شك أن العلاقات القائمة بين المعاني التي نعرِّف بها كون الشيء معدنيًّا، تصدق كذلك على العلاقات القائمة بين الصفات التي نعرِّف بها كون الشيء حديدًا؛ لكن على أية حال من هاتين الحالتين اللتين قد نفهم بهما القضية المذكورة، فالقضية وسلية بالنسبة إلى الاستدلال؛ والأساس المنطق الوحيد لتمييز الصورة المنطقية التي تتمثل على هذا النحو، من الصورة المنطقية التي تنتمي إليها قضايا مثل «هذا حديد»، الأساس المنطقي الوحيد لهذا التمييز هو في نوع الاستدلال المراد خدمته؛ فإذا قرر صانع أن «هذا حديد» أمكنه أن يستدل النتائج التي ستترتب إذا هو عالجه على نحو معين؛ فمثلًا إذا أحماه أصبح لينًا إلى الدرجة التي تمكنه من صياغته؛ أما هاتان القضيتان «الحديد معدن» و«إذا كان الشيء معدنيًّا كان عنصرًا كيمويًّا». فهما — كما أشرنا — أساسان لاستدلال من طبقة تختلف عما ذكرنا.
(١-٤) القضايا الشرطية عن الحقائق العرضية
هنالك طراز من القضايا، هو شرطي في صورته اللغوية، لكنه مع ذلك يشير إلى أفراد؛ فالقضية؛ «إذا استمر هذا الجفاف فسيجيء المحصول غاية في القلة» والقضية: «إذا سقط هذا، فربما أعقب سقوطه انفجارٌ» تشير كل منهما إلى تغيرات وجودية يفرض في بعضها أنه متضمنٌ في بعضها الآخر؛ ويصدق هذا نفسه على قضية مثل «إذا استمر المطر فسترجأ مباراة الكرة عن موعدها المقرر»؛ فقضايا كهذه تمثل طرازًا من القضايا واسع الشيوع، وهي قضايا تظهر فيها كلمتا «إذا – إذن»؛ غير أنه في مثل هذه الحالات — كما لاحظنا في فصل سابق — هنالك فروض أولية مسلَّمة، وهي وجود رابطة وجودية بين ظروف وجودية يكون فيها لكلمتي «مقدم» و«تالٍ» معناهما الحرفي، أي يكون لهما معناهما الوجودي؛ فالجفاف والقنبلة قائمان الآن في الوجود الخارجي؛ فإذا حدث شيء ما (نرمز إليه بكلمتي «استمر» و«سقط») تبعته نتائج مادية معينة، بالمعنى الزمني لكلمة «تبع»؛ والرابطة هنا عرضية وللقضايا درجة معينة من الاحتمال؛ وهي — فضلًا عن ذلك — بمثابة التمهيد لما يجيء بعدها، إذ هي من قبيل النصح أو التحذير من حيث إنها تعد لحوادث محتملة الوقوع في المستقبل؛ فكأنما قائلها يقول: «استعد لنقص في محصول الغلة» و«لا تسقط ذلك الشيء إلا إذا كان مرادك أن يحدث انفجار» و«لا تذهب إلى ملعب الكرة حتى تستيقن من حالة الجو»؛ وإذن فهي قضايا متميزة من القضايا الشرطية الكلية المجردة من حيث صورتها، وذلك لما فيها من إشارة إلى مكان وزمان معينين.
(١-٥) قضايا الأمر الواقع، أو القضايا الانفصالية عن الحقائق العرضية
قد أسلفنا الإشارة إلى ضرورة تحديد المعالم — بوساطة النفي والعزل — التي تصف سائر الأنواع الداخلة مع النوع الذي نحن بصدد الحديث عنه في نوع يشملها جميعًا؛ ومن مراعاتنا لهذا الشرط تتولد قضايا وجودية انفصالية؛ فعبارة «الحديد معدن» ليست قضية تتأيد بمجرد الكشف عن سمات معينة يتسم بها الحديد، كما يتسم بها مع الحديد الصفيحُ والنحاس والرصاص والزئبق والزنك وغيرها؛ إذ هي لا تتأيد إلا إذا حددنا السمات المميزة التي تفصل الحديد كله من حيث هو نوع، وفرقنا بينها وبين السمات التي تصف المعادن الأخرى؛ وإلا لجاز أن يكون الحديد مزيجًا مثل النحاس الأصفر أو البرونز؛ فبغير القضايا السلبية، أي القضايا التي تعزل الحديد عما عداه، لا نكون قد استوفينا كافة الشروط التي يشترطها تعريف الشيء بكونه معدنًا، كتعريفه مثلًا بكونه عنصرًا كيمويًّا؛ فقبولنا إدخال نوع ما في نوع آخر إنما يعتمد — إذا تحقق له المثل الأعلى عند المنطق — على تكوين مجموعة من قضايا انفصالية تستوعب شتى الأنواع الفرعية الداخلة في نوع يشملها جميعًا، كأن نقول مثلًا: «المعادن هي إما … أو … أو … أو … وهذه الأنواع هي كل أنواع المعادن الموجودة» وقد أردنا بالنقط (…) التي في الجملة الأخيرة أن نشير إلى أن أمثال هذه القضايا الانفصالية مشروطة بالظروف المادية، ومن ثَم فهي عرضية إذ ليس هنالك ما يضمن لنا استيفاء الشرط الذي يشترط استيعاب كافة الأنواع الفرعية الداخلة في النوع الذي يشملها؛ فلئن كان الاسيكتروسكوب قد وسع نطاق مشاهدتنا، إلا أننا يستحيل أن نوقن بأن قائمة المعادن قد كملتْ لنا، حتى نشاهد مشاهدة تحليلية كل شيء في شتى الأكوان والمجرات؛ وحتى إذا استوفينا هذا الشرط، فسيظل الأمر أمرَ حقيقة واقعة، لا أمر قطع نظري، بأن بدائل الانفصال قد شملت كل ما هنالك من حالات؛ فلن تكون القضايا الانفصالية غير عرضية إلا على أساس التفكير النظري الذي يقيم لنا البرهان على أن وجود معادن أخرى (غير التي ذكرناها) مستحيل منطقيًّا، لما يقتضيه وجودها من تناقض.
(٢) القضايا الكلية
(٢-١) القضايا الشرطية
ولا نكاد نتناول معنًى من حيث هو معنًى، حتى يدخل عضوًا في نسق من معانٍ؛ وهذا القول متضمنٌ في الملاحظة التي ذكرناها في الفقرة السابقة، بأن المعنى من المعاني لا بد أن يتطور في علاقته مع المعاني الأخرى؛ ومن هذا التطور يتألف التدليل أو التفكير العقلي، حين نقصد بالتفكير انتقالًا متتابعًا من فكرة إلى فكرة تلزم عنها، أكثر مما نقصد به نقلًا لشيء سبق لنا أن احتويناه كاملًا؛ وبعبارة أخرى فإن القضية الكلية يكون لها معناها باعتبارها عضوًا من نسق، لا وهي قائمة وحدها؛ وما علاقة اللزوم إلا تعبير عن هذه الحقيقة، حتى إن الذي يحدد ماذا عسى أن يكون ذلك المعنى، هو تطويرنا للمعنى الذي تناولناه بالتوسيع، أو للمعنى الكلي الفرضي، تطويرًا يستخرج منه القضايا التي تلزم عنه؛ فإذا انبثق لنا عنه متناقضات — كما يحدث في برهان الخلف — كان ذلك برهانًا على أن المعنى الأصلي لم يكن المعنى الذي حسبناه؛ وها هنا عند هذه النقطة يتبين الفرق المنطقي الحاسم بين القضية الكلية والقضية الجزئية؛ فالقضايا الجزئية هي التحديدات التي نحدد بها معطياتنا تحديدًا يبرز المشكلة التي تتطلب حلًّا؛ فالجزئيات المختلفة، التي هي مستقلة بفحواها المادي بعضها عن بعض، ترتبط إحداها بالأخرى برباط اشتراكها جميعًا في أداء مهمة واحدة، ألا وهي تحديدها لمشكلة ما تحديدًا منطقيًّا؛ ففي المثل الذي سقناه فيما سلف عن حجر الصوان، كان قرارنا «هذا حجر صوان» قد تم على خطوات يضاف بعضها إلى بعض، من إجراءات أجريناها في مشاهداتنا، حين كان كل إجراء منها مستقلًّا عن غيره من حيث مادته، مثل «هذا له بريق الزجاج؛ وهو يخدش الزجاج لكنه لا ينخدش بسكين … إلخ»؛ فقوة هذه القضايا لا تزداد على التوالي تأييدًا برهانيًّا إلا إلى الحد الذي تكون به مضموناتها مستقلًّا أحدها عن الآخر من حيث مادته، وبحيث لا يكون بينها مضمون مشترك إلا أنها جميعًا تشير إلى «هذا»؛ ولكن نقيض هذا تمامًا هو الحال بالنسبة إلى القضايا الكلية، ففي هذه إذا انفصمت عراها الرابطةُ لها في مجموعة واحدة من المعاني، كان ذلك انفصامًا في صرامة التدليل العقلي.
لقد سبق لنا أن بينا أن القضايا الكلية هي صياغات لإجراءات يمكن أداؤها؛ وما دامت هذه الإجراءات باقية بغير تنفيذ، ظلت مادة القضايا الكلية مجردة، أي ظلت مادة لا تتصل بالوجود الخارجي؛ خذ القضية «إن اللوم لا يوجه إلى الناس عدلًا، إلا إذا كان الناس أحرارًا»، فها هنا لا إثبات لقيام الحرية فعلًا، ولا لتوجيه اللوم العادل فعلًا؛ بل إن وجود الناس نفسه ليس مثبتًا لا على سبيل التضمين ولا على سبيل التصريح، ولو أنه يمكن لقائل أن يقول إن وجودهم فرضٌ أولٌ مسلَّم به؛ أما العلاقة المثبتة هنا بين الحرية وبين اللوم العادل — إذا كانت علاقة صادقة على الإطلاق — فستظل صادقة حتى لو محونا كافة بني الإنسان من الوجود؛ فالحرية والعدل واللوم كلمات تدل هنا على معانٍ مجردة؛ ومع ذلك فالقضية تصوغ لنا ما يمكن أداؤه من إجراءات، لو أجريناها بالفعل، ألفيناها تنطبق على السلوك الذي يسلكه الناس فعلًا، بحيث يؤدي هذا التطبيق إلى توجيه مشاهداتنا إلى حالات اللوم الحقيقية من حيث ظروفها ونتائجها؛ وأما ونحن بمعزل عن مثل هذا التطبيق، فإن القضية عندئذٍ لا تصور لنا إلا إمكانًا مجردًا، متوقفًا على تعريف للحرية والعدالة، وهو تعريف قد يكون — بالقياس إلى الوجود الحقيقي — اعتسافًا؛ وإذا كان أمره كذلك، أمكن لمن شاء أن يعارض القضية المذكورة بأضدادها، فيقول مثلًا: «إن اللوم لا يثمر ثمرته إلا إذا كانت أفعال الناس مكيفة تكييفًا سببيًّا؛ ثم لا يكون للوم ما يسوغه إلا إذا كان مثمرًا».
والحق أن في التعريفات كافة شيئًا من صفة التضاد مع الواقع؛ لأنها مثلٌ عليا كما أنها فكرية؛ فشأنها شأن المثل العليا في أنها لا يُقصد بها هي نفسها أن تتحقق بالفعل، بل يُراد بها أن توجه سيرنا نحو تحقيق ما هو موجود بالقوة ليصبح موجودًا بالفعل في الظروف القائمة، ولقد كانت تلك الموجودات بالقوة لتغيب عن أنظارنا لولا هداية المثل الأعلى، أو التعريف؛ فنحن لا نعلي من شأن الدائرة الرياضية بسبب أننا لا نجد ما يناظرها في الأشكال ذوات وجود الفعلي، كلا ولا نحط من شأن الأشكال الموجودة بالفعل بسبب أن ليس بينها شكل له الاستدارة كما يعرفها لنا التصور الرياضي؛ فتقديس المثل الأعلى وازدراء ما هو موجود وجودًا فعليًّا لأنه لا يطابق المثل الأعلى قط، طريقتان متصلة إحداهما بالأخرى تخفيان عن أبصارنا جانب المهمة الأدائية التي يقوم لنا بها المثل الأعلى والموجود الفعلي: فالأمر ها هنا كالرؤية لا تكون هي نفسها منظرًا، لكنها هي التي تمكننا من تكوين المناظر التي ما كان ليكون لها وجود بغيرها؛ أما أن نفرض أن الرؤية ليست بذات قيمة ما لم تصبح — مباشرة — منظرًا من المناظر، فطريق عريض يسوق إلى التشاؤم أولئك الذين يأخذون الفكرة مأخذ الجد، كما يسوق إلى خيالات الأوهام عند الآخرين؛ فتجاهل المثل الأعلى أو ازدراؤه، لاستحالة ترجمته ترجمة حرفية إلى وجود فعلي، ليس هو بمثابة الاستسلام للأشياء «كما هي واقعة» — كما يُقال أحيانًا — فحسب، بل هو كذلك استسلام للأشياء «كما لا تكون قائمة»، وذلك لأن كل الأشياء القائمة تنطوي على إمكانات موجودة فيها بالقوة.
ويجوز لنا في هذا الموضع أن نشير — بغير معاودة ارتياد المجال الذي سبق لنا ارتياده — إلى أن الصورة اللغوية إذا ما جردت عن مضمونها، لا تقرر لنا إن كانت الجملة هي من الناحية المنطقية جملة عن علاقات قائمة في الوجود الخارجي، أم أنها جملة عن إمكانات لم تتحقق بالفعل؛ وعلى هذا فقد تعني هذه الجملة: «إذا قلت الغلال ارتفع ثمنها» أنه في الحالات المعروفة كافة هنالك ارتباط بين صفتي القلة في المحصول والأسعار المرتفعة (والصفتان كلتاهما تشيران إلى حوادث مما يقع بالفعل)، أو قد تعني أن هنالك علاقة ضرورية بين المعنيين المجردين «قلة» و«غلاء»؛ وإن سهولة توحيدنا لهاتين الصورتين من صور القوة المنطقية (وجعلهما صورة واحدة) ليفسرها أن بينهما علاقة متبادلة أو تجاوبًا في الأداء، قد سبق لنا أن ذكرناه؛ فما لم نستطع أن نبين أنه لا بد من الوجهة النظرية أن تكون هنالك علاقة نابعة عن طبيعة الأمور نفسها بين القلة والغلاء، فإن ما نشاهده من اقتران بين القلة في محصول الغلال وبين الأثمان المرتفعة قد يكون من مقتضيات الظروف ونتيجة لالتقاء عرضي بينهما؛ وإذا أعدنا التعبير عن هذا المعنى من الوجهة الأخرى، قلنا إن اطراد ما نشاهده من اقتران، يحفز على البحث عن علة الاقتران، وهي علة — إذا وجدناها — نصوغها في قضية تدل على علاقة قائمة بين معانٍ مجردة، كالعلاقة القائمة — في المثل الذي نحن بصدده الآن — بين القلة والغلاء.
(٢-٢) القضايا الكلية الانفصالية
إنه لا ينبغي لنا أن نوحد بين صورة الانفصال في حالة القضايا الكلية، وصورته في حالة القضايا الجامعة؛ فالقضية القائلة بأن المثلثات إما أن تكون متساوية الأضلاع أو مختلفة الأضلاع أو متساوية الساقين، ليست من نفس صورة القضية القائلة بأن المعادن إما أن تكون صفيحًا أو زنكًا أو حديدًا أو زئبقًا … والفرق بينهما له صلة بازدواج معنى كلمتي «مشمول في» و«شامل ﻟ» الذي سبق لنا أن ذكرناه؛ فالأشياء المفردات إنما تدخل في مجموعة تحتويها؛ وإذا كانت الأشياء المفردات لا حصر لعددها، كدخول كافة الأشياء التي تتميز بخصائص معينة أعضاءً في فئة بعينها (بالمعنى الذي نفهم به كلمة فئة في مجالَيْ علم النبات وعلم الحيوان) فعندئذٍ تتكون من تلك الأشياء المفردة فئة تكون المفردات أفرادها؛ فإذا قلنا عن المفردات في هذه الحالة إنها محتواة أو مشمولة في تلك الفئة، فما ذاك إلا أسلوب آخر نقول به إن تلك المفردات هي قوام هذه الفئة؛ إذ لا شك أنها لا تكون محتواة فيها احتواءً وجوديًّا كما تكون قطع النقود محتواة في صندوق، أو كما تكون الأبقار منحصرة في حقل؛ كلا ولا هي محتواة فيها على نحو ما تكون الأنواع الفرعية محتواة منطقيًّا في نوع أعم منها ويشملها؛ فإذا قلنا إن السيد فرانكلن د. روزفلت «مشمول» في فئة رؤساء الولايات المتحدة، كان ذلك القول طريقة ملتوية لما نستطيع أن نقوله من أنه أحد رؤساء الولايات المتحدة، ماضيهم، وحاضرهم، ومقبلهم، الذين منهم تتكون مجموعتهم؛ فأية فئة (من حيث هي نوع) هي آخر الأمر مؤلفة من عدد لا نهاية له من مفردات.
فيحق لنا أن نقول عن نوع إنه محتوًى في نوع آخر أوسع منه، كلما كانت الخصائص المميزة للنوع الأعم جزءًا لا يتجزأ من مجموعة الخصائص التي تميز كل نوع فرعي من الأنواع الداخلة فيه، ثم كانت أيضًا مما يمكننا — بوساطة سلسلة من قضايا سالبة ومنفصل بعضها عن بعض (إما … أو …) — من الفصل التام بين شتى الأنواع الداخلة فيه؛ ومما يبرز التباين بين دخول الأنواع الفرعية في نوع أعم، وبين دخول المفردات في مجموعة تضمها سخفُ القول بأن المفهوم العقلي لنوع «الرؤساء» يمكننا من تلقاء نفسه من التفرقة بين أفراد الرؤساء؛ فالعلاقة بين الأنواع الفرعية والنوع الشامل الذي يحتويها، ثم بين الأنواع الفرعية نفسها بعضها ببعض، تتبين في وضوح كافٍ بمجموعة الدوائر التي جرى العرف على توضيحها به؛ إذ توضح علاقة الجنس الشامل بغيره من الأجناس، بدوائر ترسم كلها خارج حدود الدائرة التي نمثل بها ذلك الجنس؛ وأما المعنى الذي يصدق به «الشمول» على التعريفات والمفهومات الفعلية، فذو صورة منطقية مختلفة عما ذكرنا؛ فلا يمكننا توضيحه برمز الدوائر، بل يوضحه أن نرمز إليه بأقواس أو بغيرها من العلامات الفاصلة؛ فافرض أن المسألة المطروحة هي تعريف الثروة في الاقتصاد السياسي، فماذا ينبغي «اشتماله» في مفهومها؛ أنعرِّف الثروة على أساس المنفعة، باعتبار المنفعة كل ما يشبع الرغبة أو ما يساعد على تحقيق الأهداف؟ أم نعرف الثروة بأنها إعفاء من «العمل» بمعناه الذي يجعله تكليفًا وتضحيةً؛ أم نعرِّفها بأنها قدرة السيطرة على سائر السلع والخدمات؛ فلسنا في كل هذه التعريفات إزاء أنواع، لكن المفهوم أو التعريف الذي نختاره — عند تطبيقه من الخارج — هو الذي سيقرر أي الأشياء يدخل في وأيها يخرج من أنواع الأشياء التي هي ثروة؛ وعلى نحو شبيه بهذا يمكننا تصنيف الأشكال الهندسية القائمة في الخارج تصنيفًا يقسمها إلى أنواع من الأشكال المستوية أو من المثلثات؛ غير أن «المثلث» — بالمعنى الرياضي — معناه صفة المثلثية، وهذه الصفة هي معنًى كلي مجرد، أو مقولة؛ فكما قلنا مرارًا، ليس هنالك ثلاثة أنواع من المثلثات، بل هنالك ثلاثة طرق يكون بها الشكل مثلثًا؛ ومن هنا كان أي تقسيم لكون الشيء كذا وكذا، في حالة ذكرنا لما هو «مشمول» في فكرة أو في تعريف، لا بد أن يكون شاملًا بالضرورة لشتى الأنواع، على حين أنه في حالة تقسيم نوع أعم إلى أنواع أخص، فالتقسيم عندئذٍ يكون ذا طبيعة عرضية؛ أما في حالة الكليات، ﻓ «الاشتمال» معناه أن يكون المشتمل جزءًا لا يتجزأ من قاعدة يمكن العمل بمقتضاها، وعند تطبيق هذه القاعدة، فإنها ستقرر أي الأشياء يقع داخل نطاق إجرائها؛ وعندئذٍ يكون إخراج شيء من ذلك النطاق معناه استبعاده عن مدى انطباق القاعدة، أو إقامة حائل يحول دون دخوله؛ فكأنما إخراج الشيء عما ليس يقع في نطاقه هو بمثابة مبدأ نقرر به عدم جواز الدخول بمعناه المجرد؛ وهكذا يكون التخارج بين القضايا الانفصالية (إما … أو …) جانبًا ضروريًّا من جوانب القضايا المجردة، ولذلك وجب أن يتكون منها نسق مترابط الأجزاء.
(٣) قضايا العلاقات
وبعبارة أخرى (وهذه هي النقطة الهامة)، كل القضايا الجزئية هي قضايا علاقيةٌ، وليس لها من صورة الموضوع والمحمول إلا في الصياغة النحوية؛ فقولنا «هذا أحمر» معناه — إذا حللناه من وجهة نظر منطقية — أن شيئًا قد تغير عما كان عليه، أو هو الآن في سبيله إلى التغير إلى شيء آخر؛ فهو قول يعبر عن رابطة زمانية مكانية بنفس الدقة التي تعبر عنها الأقوال الدالة على علاقات بصورة نحوية صريحة؛ والعبارة القائلة: «هذا حديد» معناها أن هذا — في ظروف خاصة — سيتفاعل بطرق معينة وسينتج نتائج معينة؛ فليس «هذا» موضوعًا و«حديد» محمولًا إلا من الناحية النحوية وحدها؛ ويتضح الجانب العلاقي في هذه الجملة من كون مضمونها يمكن التعبير عنه بصيغة المبني للمجهول، فنقول: «ستُخلق نتائج خاصة معينة بفعل «هذا» إذا أحاطت به ظروف معينة»؛ وهكذا نستطيع أن نغير من الصورة النحوية دون أن نغير المعنى، كأن يتساوى المعنى تمامًا بين قولنا «زيد يضرب خالدًا» و«خالد يُضرَب من زيد».
وكذلك القضايا عن العلاقات بين الأنواع، هي قضايا علاقية، وليس لها الصورة المنطقية ذات الموضوع والمحمول؛ فإذا كانت القضية التي من قبيل «الحديد معدن» لا تبدو قضية علاقيةً في ظاهرها، لاستحالة عكسها بحيث تصبح «المعدن حديد»، فالقضية على صورتها هذه ليست من الناحية المنطقية قضية كاملة، لأنها لا تدل، بل لا تشير مجرد إشارة إلى الأسس التي تبررها؛ فهي على أحسن الفروض إما أن تكون جملة تنقل نبأً، أو قضية تمهد الطريق إلى بحث يعقبها؛ وأما القضية الكاملة فهي: «الحديد معدن متسم بكذا وكذا من السمات التي تميزه»، وكل معدن له هذه الخصائص المعينة هو حديد، وبهذا تكون القضية — من الناحية المنطقية لا من الناحية اللفظية — قضية خاصة بعلاقة بين أنواع.
وكذلك ينبهمُ الجانبُ العلاقي في القضايا الكلية الشرطية، بسبب كونها في أغلب الحالات لا تكون كاملة التحديد، عندما نصل إليها ونصوغها؛ وتبعًا لذلك لا يكون إثباتنا ﻟ «التالي» أساسًا يسوغ إثباتنا ﻟ «المقدم» ولا نفينا للمقدم أساسًا يسوغ نفينا للتالي؛ وواضح أن ذلك راجع إلى أن ظروفًا معينة ضرورية ليتم التبادل المنطقي الكامل والتساوي المنطقي الكامل (بين المقدم والتالي في القضية الشرطية) تنقصنا عندئذٍ؛ لكنه نقص لا يعزى إلى صورة القضية الشرطية الكلية، بل هو نقص يدل على قصور مضمون القضية دون استيفائه للشروط المنطقية؛ وإنما تتوافر الخاصة الصورية — بأدق معاني هذه الكلمة — لأمثال هذه القضايا (أعني أنها تستوفي مقتضيات المنطق استيفاءً كاملًا) حين تبلغ القضية من التدعيم حدًّا يجعل كلمة «فقط» نعتًا ملائمًا؛ على أن القضية إذا اتخذت صورة كهذه: «فقط إذا … إذن …» اتضح لنا عندئذٍ أنها قضية علاقية بالمعنى الدقيق.
وقد يحسن بنا أن نختم هذا الجزء من البحث بأن نعود إلى التفرقة بين القضايا الشرطية العرضية، والقضايا الشرطية الكلية (الضرورية)؛ فخذ هذه القضية: «إذا كانت أ على يمين ب، وكانت ب على يمين ج، وكانت ج على يمين د، إذن ﻓ د على يسار أ» فإذا كانت أ، ب، ج، د أفرادًا جزئية فقد تكون هذه القضية باطلة، فهي باطلة — مثلًا — إذا كانت أ، ب، ج، د أشخاصًا أو مقاعد وضعت حول نضد؛ أما إذا فهمنا القضية على أنها تعني «على فرض أن ثمة ترتيبًا في خط مستقيم، إذن فالعلاقات هي من القبيل الذي يجعل أي شيء مرموز له ب د على يسار أي شيء نرمز له ب أ» فالقضية عندئذٍ تصبح في حقيقتها تعريفًا لصورة معينة من العلاقة المكانية، وبالتالي فهي تصبح ضرورية الصدق، لأن أ، ب، ج، د عندئذٍ لا تشير إلى أفراد جزئية، بل تشير إلى معانٍ مجردة.
الأهمية الخاصة لهذا الفصل بالنسبة إلى النظرية المنطقية، هي أننا قد بينا أن الصور المختلفة للقضايا إنما تشير إلى مراحل في طريق السير بالبحث؛ على حين أن النظرية السائدة اليوم تميل إلى النظر إلى الصور المختلفة للقضايا على أنها هكذا توجد، وكل ما على النظرية أن تفعله إزاءها هو أن تضع على كل صورة منها بطاقة تحمل اسمها: جزئية، عامة، شرطية … إلخ؛ أما إذا نظرنا إليها من جوانبها الأدائية — كما قد نظر إليها في هذا الفصل (وخلال هذا الكتاب كله) — فعندئذٍ يظهر في جلاء أن القضايا التي نشير بها إلى جزئيات، إنما تؤدي مهمتها من حيث هي أدوات نتوسل بها لنقرر المشكلة المتضمنة في موقف غير متعين، على حين تمثل الصور الأخرى التي ذكرناها، مراحلَ نجتازها لبلوغ الوسائل المنطقية التي تؤدي بنا إلى حل المشكلة؛ فلا يمكن للقضايا أن تكون أعضاء من نسق منطقي متماسك الأجزاء، إلا إذا كان بعضها متصلًا ببعض اتصالًا يجعلها جوانب لتقسيم العمل بينها في السير بالبحث إلى غايته؛ أما إذا حذفنا المهمة التي يؤديها كل منها، بحيث يسهم كل منها بمهمته في إقامة الحكم النهائي، أقول إننا إذا حذفنا ذلك من تفسيرنا النظري للقضايا، كان الحاصل أن يظهر لنا الموقف وكأنما هنالك عدد من صور القضايا، كل منها يقوم بذاته ويستقل بنفسه؛ وثمة نقطة أخيرة نذكرها، وهي أننا وإن كنا لم نبسط نتائج هذا الفصل فيما يتعلق بالجانب العلاقي الكائن في القضايا كافة، لنستعين بها على تأييد مذهبنا بأن كل صور القضايا إن هي إلا وسائل نتذرع بها للوصول إلى حكم (والحكم وحده هو الذي تكون له صورة الموضوع والمحمول)؛ إلا أن النتائج التي انتهينا إليها في هذا الفصل هي نفسها النتائج التي كنا لنتوقعها على أساس النظرية العامة التي بسطناها عن القضايا والحكم.
ولكننا نعجب إذ نرى المؤلف يتهم الوضعية المنطقية بالوقوع في هذا الخطأ نفسه، في الوقت الذي ينتهي التحليل بهذه الوضعية إلى إنكار القضية الحملية إطلاقًا، وردها إلى قضية دالة على علاقات بين أطراف، وليس هذا هو مجال القول المفصل في ذلك.