القضايا مرتبة في مجموعات وسلاسل
يسير البحث في طريقه قدمًا، وفي كل خطوة تتجمع نتائج الخطوات السابقة؛ والقضايا هي الأدوات التي نتذرع بها لتخليص النتائج المؤقتة التي انتهينا إليها من البحوث التمهيدية؛ إذ نسجل تلك النتائج في قضايا، ونحتفظ بها لنستخدمها في حالات مقبلة؛ وبهذه الطريقة تقوم القضايا بمهمتها من حيث هي وسائل فعالة — مادية ومنهجية — في توجيه السير بالبحث، إلى أن ينتهي البحث إلى إنشاء مادة لها من وحدانية الدلالة ما يجعلها جائزة القبول؛ ويلزم عن ذلك (١) أن ليس هنالك ما يصح أن يكون قضية قائمة بمعزل عن سواها، أو إذا عبرنا عن ذلك بعبارة موجبة، قلنا إن القضايا يتصل بعضها ببعض بعلاقة ذات ترتيب خاص، و(٢) وأن هنالك طرازين أساسيين لمثل هذا الترتيب؛ أما أحدهما فيتصل بالمادة الواقعية أي المادة الوجودية التي تقرر الموضوع النهائي للحكم؛ وأما الآخر فيتصل بالمادة الفكرية، أي بالمعاني التصورية، التي تقرر محمول الحكم النهائي؛ وإذا استخدمنا طرائق التعبير المعتادة، قلنا إن هنالك ضربًا من قضايا تتعلق ببعضها تعلقًا يكوِّن الاستدلال، وضربًا آخر من قضايا يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا تسلسليًّا، ومنها يتكون التدليل أو التفكير النظري.
وسنعنى في المناقشة التالية — فيما يختص بهذين الطرازين — بالترتيب المنطقي للقضايا، أكثر من عنايتنا بترتيبها الزمني في القيام ببحث معين؛ ففي أي بحث يكون على درجة عالية من الصعوبة، ترانا نتقبل قضايا كثيرة خلال السير بالبحث، لا لشيء إلا لنعود فننبذها أو نعدلها في بحث تالٍ؛ وذلك لأنها ليست بالقضايا التي تكون قوامًا للنتيجة النهائية، حتى لو كان الباحث وهو إزاء بحث معين، لم يكن ليتاح له الوصول إلى تلك النتيجة بغير قبوله لتلك القضايا في مرحلة من مراحل بحثه؛ فالترتيب الذي نحن الآن معنيون به، هو من النوع الذي لا يمكن إقامته إلا بعد أن يكون الباحث قد وصل إلى نتيجة صائبة، ثم أخذ يستعرض الأسس التي تسوغ قبولها؛ وبعبارة أخرى، فالقضايا التي نعنيها هي نفسها التي كانت تسمى بمقدمات النتيجة، على شريطة ألا يكون هنالك حد ثابت لعددها؛ ولقد تحوطنا بهذا الشرط السلبي، لأن نظرية الاستدلال القياسي ترد المقدمات إلى اثنتين، تسميان بالمقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى؛ وسنبين فيما بعد أن تصورنا الذهني لمقدمتين، إحداهما كلية والأخرى مفردة الموضوع أو جامعة، هو تصور يمثل البناء المنطقي للحكم من حيث هو اتحاد (أو ربط) من قضايا، اتحادًا تتوافر فيه مضمونات المحمول والموضوع؛ وعلى ذلك فالنظرية التي تأخذ باثنينية المقدمات إنما تمدنا بتحليل للشروط المنطقية التي لا بد للنتيجة أن تستوفيها، أكثر مما هي تقرير عن المقدمات التي ترتكز عليها النتيجة ارتكازًا فعليًّا؛ وأعود فأكرر القول بأنه ليس هنالك حد نحدد به عدد المقدمات المطلوبة لتزويد النتيجة بمادتها.
(١) القضايا ذوات الحدين وذوات الحدود الكثيرة
على أن قولنا «الإنسان فانٍ» هو — من جهة أخرى — قول ذو حدين بالمعنى الدقيق، وذلك حين يكون معناه: «إذا صدق على أي كائن أنه بشري، إذن فهو فانٍ»، وذلك لأن الحدين كليهما مجردان، والعلاقة المثبتة بينهما ذات صفة مجردة وغير وجودية؛ أي إن القضية المذكورة تقرر قيام علاقة بين مضمونين فكريين؛ وكذلك الصيغة التي صاغ بها نيوتن قانون الجاذبية، هي الأخرى ذات حدين، لأنها تعبر عن علاقة كلية، هي علاقة «إذا – إذن» بين كون الشيء ماديًّا وكونه «منجذبًا» انجذاب متبادلًا بطريقة معلومة؛ وليس بنا حاجة هنا أيضًا للإكثار من الأمثلة عن القضايا ذوات المضمونات المحمولة؛ لأنها (١) مستقلة عن الإشارة إلى مكان وزمان و(٢) تقرر علاقة ضرورية بين مقدم وتالٍ؛ فمهما تبلغ الصياغة من درجة التركيب اللغوي، ومهما يبلغ عدد الجمل والعبارات الداخلة في تكوينها، فإن الجمل والعبارات لا بد أن تنتمي إلى هذا المعنى العقلي أو ذلك، من المعنيين اللذَيْن نقول عنهما إنهما متعلقان أحدهما بالآخر؛ وكذلك المعادلة من معادلات الرياضة، أو الصياغة من الصياغات التي نقرر بها دالةً رياضية، قد تحتوي على رموز كثيرة، لكنها جميعًا تقع على هذا الجانب أو ذلك من جانبي الدالة التي صغناها.
(٢) تعادل القضايا
إلى هنا قد تناولنا بالحديث الخصائص المنطقية التي تصف الطرازين الرئيسيين لصور القضايا؛ وأنتقل الآن إلى صفة لا تخص سوى القضايا ذوات المضمونات الفكرية، أي ذوات المضمونات المحمولة؛ وهي صفة تميزها من القضايا الخاصة بأمور الواقع؛ فإذا ما مثل أمامنا موقف مشكل، عرض لنا معنًى ما، باعتباره طريقًا ممكنًا للحل؛ فإذا لم نصب هذا المعنى في صيغة قضية، قبلناه من فورنا ووقف البحث عند هذا الحد؛ وعندئذٍ تكون النتيجة التي وصلنا إليها فجة وغير قائمة على أساس متين؛ لكن المعنى الذي عرض لنا هو أيضًا عضو من مجموعة معانٍ، وإذن فلا يكفي أن نصوغه في قضية قائمة بذاتها؛ بل لا بد أن نطوِّر المعنى خلال مجموعة من قضايا أخرى تصوغ معاني أخرى، هي بدورها أعضاء في نسق المعاني الذي ينتمي إليه ذلك المعنى الأول؛ واختصارًا، فهنالك تدليلٌ أو حجاجٌ أو تفكير عقلي أو انتقال من معنًى إلى معنًى يلزم عنه؛ أضف إلى ذلك أن تطوير القضايا المتعلق بعضها ببعض خلال التفكير العقلي، ذو اتجاه، لأنه مسير بحكم طبيعة المشكلة التي سيؤدي لها المعنى العارضُ مهمة طريق الحل أو منهجه؛ فلو غضضنا النظر عن الإشارة إلى طريقة استخدام المعنى أو طريقة تطبيقه، كان في مستطاعنا أن نصل قضية معلومة بغيرها من القضايا الداخلة معها في نسق واحد من المعاني، بأنواع من الصلات لا حصر لعددها ولا تحديد؛ لكن المعنى من المعاني في أي عملية فكرية معينة، إذا ما صغناه في قضية، فإنما ينمو وسط مجموعة القضايا التي يتصل بعضها ببعض على نحو خاص، والتي تتجه نحو قضية ممكنة التطبيق في الظروف التي وجدناها تكتنف المشكلة الخاصة التي نحن بصدد حلها؛ وإن هذا التوجه في اتجاه خاص، لخاصةٌ بارزة في كل عملية من عمليات التدليل العقلي، ومن عمليات التفكير النظري الذي يكون ذا صلة بمشكلتنا؛ حتى ليبدو من نافلة القول أن نذكر تلك الخاصة ذكرًا صريحًا، لولا ما لها من أثر على المشكلة المنطقية التي نتناولها الآن بالبحث.
وهنالك شرطان منطقيان لا بد من تحققهما لكل تفكير نظري منظم؛ فترتيب القضايا يتحتم أن يكون صارمًا ومنتجًا، و«واو العطف» في هذه القضية لها قوة غير قوتها التعدادية؛ إذ إن ترتيب القضايا يتحتم أن يكون صارمًا صرامة منتجة، ومنتجًا إنتاجًا صارمًا، وقولنا إن ترتيب القضايا يتحتم أن يكون صارمًا معناه أن كل قضية تلزم عن القضية الأولى — «أولى» بالمعنى المنطقي لا بالمعنى الزمني — لا بد أن تجيء مساوية في قوتها المنطقية للقضية التي سبقتها، وإلا لكانت الثانية تابعة للأولى وليست لازمة عن الأولى؛ وإنا لنؤكد هنا عبارة «في قوتها المنطقية» نظرًا لازدواج المعنى الذي تفهم به عبارة «تحصيل الحاصل» في النظرية المنطقية السائدة اليوم؛ فمبدأ تعادل القضايا ليس هو بعينه مبدأ تحصيل الحاصل، إلا إذا فهمنا تحصيل الحاصل بمعنًى خاص، معنًى لا يَجُبُّ، بل هو أقرب إلى أن يحقق شرط قابلية الإنتاج؛ فالمدركات العقلية أو المعاني التي نصادفها في القضايا التي تردُ مؤخرةً في ترتيب التفكير العقلي، هي نفسها المدركات أو المعاني التي وردت في القضايا السابقة في ذلك الترتيب، وذلك من حيث القوة الإجرائية في كلتا الحالتين، لا من حيث المضمونات؛ ولذلك فهي تؤدي في دقة صارمة إلى معانٍ ذوات مضمون آخر؛ وهذا الاختلاف في المضمون هو الذي يحقق قابلية الإنتاج في عملية التدليل العقلي، وها هنا يجيء مبدأ الاتجاه نحو وجهة خاصة، فالمطلوب هنا هو صياغة المعنى المطروح صياغةً تسلكه في صورة كلية مجردة وذلك في القضية الأولى (التي نبدأ منها تفكيرنا النظري) بحيث يكون من شأن هذه القضية الأولى أن تفضي عن طريق الإجراء العملي إلى قضية ممكنة التطبيق على الوجود الخارجي، تطبيقًا لم يكن مستطاعًا بالقياس إلى مضمون القضية الأولى؛ وإذن فاستيفاء شرط الصرامة لا يعني تحصيلًا للحاصل، بالمعنى الذي يجعل حدَّي القضية الأولى الكلية المجردة مكررين في صور لغوية مترادفة.
مثال ذلك القضية الآتية: «التيار الكهربي مساوٍ لفرق الجهد مقسومًا على المقاومة» فها هنا لا يكون للحد «الجهد مقسومًا على المقاومة» نفس القوة الدلالية المباشرة، أي نفس الإشارة الوجودية، التي تكون للحد «التيار الكهربي»؛ لكن تعادل المضمونات الفكرية كما تريد القضية أن تثبته، يمكن من قيام قضية تالية تُقال عن شيء هو بدوره مساوٍ لعبارة «الجهد مقسومًا على المقاومة»، وهكذا؛ فكلمة «تيار» لا تظهر في القضية التالية، وعبارة «الجهد مقسومًا على المقاومة» تحل محلها في القضية التالية علاقةٌ تقوم بين تلك العبارة وبين شيء آخر مساوٍ لها؛ وهكذا دوالَيْك حتى تظهر لنا قضية في صورة ممكنة التطبيق — من الوجهة الإجرائية — في موقف تجريبي من شأنه أن يتمخض لنا عن مادة لا غناء لنا عنها لحل المشكلة التي بين أيدينا؛ أو على الأقل لصياغة عبارة أفضل نحدد بها كنه المشكلة؛ فلا بد أن تكون أفكار: التيارات، واختلاف المعادن في قابلية التوصيل والمقاومة، والاختلافات في قوة التيارات، أقول إن هذه الأفكار لا بد أن تكون قد نشأت في تاريخ باكر نسبيًّا، ولا شك في أنها قد نشأت قبل أن نصل إلى القانون المذكور بزمن طويل؛ لكن الصيغة التي نقرر بها نسبة أو علاقة محددة بين أفكار كانت من قبل مستقلة بعضها عن بعض، أقول إن صيغة كهذه هي في حقيقة الأمر طريقة جديدة لتصورنا العقلي لشتى هذه الأفكار؛ أضف إلى ذلك أن هذه الطريقة الجديدة لتصورنا لهذه الأفكار، هي التي مكنت لعلاقات تعميمية معينة أن تنفذ بصورة صارمة الدقة؛ وإذن فالتعادل هو القدرة على «استبدال» معانٍ في سلسلة القضايا التي منها يتألف التدليل العقلي؛ وعلى ذلك فليس ثمة إعجاز يدعو إلى العجب في كون «الاستنباط» ينتج لنا قضايا ذوات مضمونات مختلفة عن مضمونات القضايا التي كانت أصلًا لها؛ لأن القضايا المستخدمة في التفكير البرهاني، أي التفكير الاستنباطي، قد صِيغت هي نفسها على نحو يستحثها على أداء هذه المهمة؛ فليست الحيلة التي يلجأ إليها العلم — إن جاز هذا التعبير — هي في جانبه الجدلي أو التدليلي؛ ولو أنه في هذا الجانب أيضًا بحاجة إلى حكمة، اللهم إلا في شتى الحالات التي نألفها إلفًا يجعل حسابنا لها أمرًا آليًّا؛ بل الصعوبة الرئيسية، والبصيرة النافذة التي نتطلبها قبل غيرها للتغلب على تلك الصعوبة، إنما هي في صياغة المعاني التي يتعلق بعضها ببعض على نحو يتيح للقضايا المتعادلة أن يحل بعضها محل البعض، أثناء سيرنا قدمًا في خطوات البحث، سيرًا منتجًا (ومع ذلك فهو دقيق في انتقاله من خطوة إلى خطوة تساويها)؛ وبإحلال القضايا المتعادلة بعضها محل بعض تنبسط القضايا انبساطًا يجعل منها سلسلة (محكمة الحلقات).
إن العلاقة المتبادلة — التي أسلفنا ذكرها — بين القضايا ذوات المضمونات الفكرية أو المجردة، وقضايا أمور الواقع، لتنشأ من كون مادة الفرض تعرض لنا أولًا بوحي من المشكلة الأصلية، ثم تختبر بعد ذلك وتراجع على أساس نتائجها؛ والمعيار الذي نهتدي به في هذا الاختبار والمراجعة، هو قدرة هذه النتائج على تيسير حل للمشكلة التي نحاول حلها؛ وإن الشرط الذي يقتضيه الاستمرار في البحث، ليتحقق بالدرجة التي يتسع لها مدى قدرتنا على إحلال قضايانا بعضها محل بعض (خلال خطوات التفكير الاستنباطي)؛ فإذا كان التعادل بين القضايا مقتصرًا على نطاق محدود من كائنات الوجود الخارجي، كأن يقتصر — مثلًا — على مسائل الحرارة أو التغيرات الميكانيكية (أعني التغيرات التي يمكن وصفها على أساس الحركة كما تحدث في المكان والزمان) مع بقاء تلك المسائل مستقلًّا بعضها عن بعض، كان نطاق التدليل العقلي المنتج منحصرًا في تلك الحدود، على الرغم من أنه يكون عندئذٍ أوسع بكثير من ذلك النطاق في حالة الركون إلى الذوق الفطري؛ وأما حين ننشئ من الفروض ما يتسع نطاقه ليشمل في التطبيق حقائق الحرارة والكهرباء والضوء والحركة الميكانيكية، فعندئذٍ يزداد مدى الحرية التي نتمتع بها في إقامة القضايا المتعادلة — وإذن يزداد مدى الحرية في التدليل العقلي — زيادة كبيرة؛ وعندئذٍ تصبح «النسقات» الخاصة أعضاء في نسق واحد شامل؛ وبسبب العلاقة المتبادلة بين القضايا التي هي من هذه الصورة، وقضايا المشاهدة المنصبة على أمور الواقع، يتسع مدى الاستدلال اتساعًا يتمشى مع ازدياد التعادل بين القضايا في مجال التدليل العقلي.
ويصدق هذا الذي قلناه صادقًا مباشرًا على فكرة القضايا الأولية التي لا يقوم عليها برهان، باعتبارها أساسًا نبدأ منه كل برهان عقلي بعد ذلك؛ فلا شك البتة في أنه في كل حالة من حالات التدليل العقلي، لا بد أن تكون هنالك قضيةٌ أولى، لا تكون مستمدة ولا «مستنبطة» في مجالها الخاص الذي وردت فيه، إذ إن قولنا عنها إنها قضية «أولى» هو بمثابة أن نقول عنها إنها لا تلزم عن قضايا سابقة عليها؛ لكنه (١) لا تناقض قط في كون تلك القضية أولى في تلك المجموعة المعينة من القضايا، وكونها في الوقت نفسه تابعة أو قضية ختامية بالنسبة إلى مجموعة أخرى من القضايا؛ بل الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ إن استمرار البحث يقتضي أن تصبح النتائج في مشكلة معينة أو مجموعة معينة من المشكلات، نقط ابتداء في تفكير نتناول به مشكلات جديدة؛ ففكرة النسق نفسها (التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة) وفكرة النسق الذي يتألف من نسقات فرعية، لا تعني إلا هذا النوع من الإمكانات التي تهيئ لنا سبل الانتقال من مجال إلى مجال، فتحدث إعارةٌ واستعارةٌ بين حالات التدليل العقلي المختلفة؛ (٢) والقضية الأولى هي قضية كلية اشتراطية، نأخذها ونستخدمها ابتغاء ما ستفضي إليه؛ فترانا نختبرها ثم نعيد اختبارها باعتبارها فرضًا، ومحك الاختبار هو قدرتها الإنتاجية في إقامة قضايا كلية أخرى؛ على أن يكون اختبارها الأخير مستندًا إلى النتائج الوجودية التي تنجم عن تطبيقها على ظروف الواقع؛ وبرهانها هو في هذه النتائج، كما يكون البرهان على صلاحية نوع من الطعام في أكله؛ فإذا ما نشأت لنا قضايا تتناقض إما مع القضية الأولى، أو مع قضية تفرعت عنها، نشأت لنا بذلك مشكلة جديدة؛ وفي حالات كهذه، سنجد عادة أن القضية السابقة في سلسلة القضايا، يمكن تعديلها بحيث تستوفي مقتضيات الدقة الاستنباطية، دون أن نلجأ في هذا التعديل إلى شيء غير المعاني التي نشأت لنا من إجراءات تجريبية جديدة.
(٣) قضايا الواقع في استقلالها وفي قوتها المتجمعة
يتم ترتيب القضايا التي نحدد بها مادة موضوع الحكم النهائي، وفق مبدأ آخر؛ فليست القضية من تلك القضايا تلزم عن قضية سواها بالمعنى الذي يجعلها متضمنة فيها، أو يجعلها متعادلة معها في قوتها المنطقية تعادلًا يجيز إحلال الواحدة منهما محل الأخرى إحلالًا مباشرًا، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ إن قوة كل من هذه القضايا إنما تقاس أولًا بكونها ذات موضوع مستقل، يتقرر بإجراء تجريبي مستقل، وثانيًا بانضمامها إلى قضايا أخرى ذوات موضوعات مستقلة انضمامًا قد يحقق لها أن تتلاقى معًا تلاقيًا يجمع قواها؛ فالقضايا الوجودية إنما ترتب لأن موقفًا مشكلًا بعينه هو الذي يضبطها بالقياس إليه، فترتب على أساس نصيبها من تيسير حل لذلك الموقف، غير أنها في ترتيبها ذاك لا تكون سلسلة بل تكون مجموعة؛ فلئن كانت القضايا المتسلسلة في التدليل العقلي شبيهة بترتيب درجات السلم، فالقضايا التي تُقال عن أمور الواقع — والتي تزودنا بالشواهد التي تدعم الاستدلال — هي أشبه بخطوط يتقاطع بعضها مع بعض، تقاطعًا من شأنه أن يحصر رقعة تقوم بذاتها وكأنها كلٌّ واحد؛ ففي السلاسل التي هي من طراز قضبان السلم، يكون الترتيب المتتابع أمرًا جوهريًّا، وأما بالنسبة إلى القضايا التي تحدد الصفات التي نجعل منها شواهدنا، فلا يكون الترتيب المتسلسل بذي أهمية؛ وقوام الترتيب المنطقي في حالات التسلسل (متميزًا من الترتيب الزمني الذي تتم به الإجراءات التي نجمع بها المعلومات الأولية ذوات القيمة والمتصلة بموضوع البحث) أقول إن قوام الترتيب المنطقي في حالات التسلسل هو علاقات التداخل (أي الإثبات) والتخارج (أي النفي أو الحذف) التي نعرف بها عملية المقارنة؛ وأما إجراءات المشاهدة التجريبية فهي (١) تضيق نطاق المادة التي تصلح أن تكون شواهد ذات صلة بالبحث، و(٢) تخلق حالات تتقاطع تقاطعًا يتجمع تجاه قوة موحدة دالة، ومن ثَم فهي تتجه نحو إيجاد نتيجة موحدة.
مثال ذلك الطبيب في تشخيصه للمرض، تراه يقوم بإجراءات مستقل بعضها عن بعض، تزوده بمعطيات منوعة، كل منها مستقل عن الآخر، فيعلم منها درجة الحرارة، وضربات القلب، والتنفس، وإفرازات الكليتين، وحالة الدم، وحالة الهدم والبناء في خلايا الجسم، وتاريخ المريض، وربما بحث كذلك عن عناصره الموروثة … إلخ؛ وهو يمضي في هذه الاستكشافات المستقل بعضها عن بعض، ما بقيت دلالة المعلومات التي يحصل عليها من تلك الاستكشافات غامضة، أعني ما دامت تلك المعلومات في تجمعها لا تجدي في تحديد اتجاه معين تشير إليه؛ وإن ما يُسمَّى عادة بارتباط المعطيات هو هذا الالتقاء في الدلالة، وهذه القوة التي تكتسبها الشواهد من تجمعها؛ ولو أخذنا هذه القضايا واحدة واحدة، ألفيناها ذات قوة دلالية في بيان طبيعة المشكلة وحلها الممكن؛ وأما إذا ما تجمعت فإن قوتها تصبح أداة نتحسس بها حقيقة الأمر؛ على أن القوة الدلالية تصير قوة هادية حين تتعين بعد حذف سائر طرائق الحل الأخرى الممكنة؛ وتكون الرابطة المتبادلة بين قضايا الواقع وقضايا الفكر ذات أثر فعال في تمكين محصولنا الفكري (وهو محصول يتوقف على حالة البحث النظري وتنسيق الأفكار في العصر الذي نعيش فيه) من تعيين الإجراءات التي نستعين بها على استكشافات جديدة مستقل بعضها عن بعض، والتي بفضلها نتمكن من تفسير نتائج تلك الاستكشافات.
ومن المبادئ المنطقية المألوفة أن إثبات التالي (في القضية الشرطية) لا يضمن لنا إثباتًا تامًّا للمقدم، على حين أن إنكار التالي يقتضي إنكار المقدم؛ وعلى هذا فإن زودتنا الإجراءات بمعطيات تنقض نتيجةً كنا قد استنبطناها، ترتب على ذلك حذف أحد الاحتمالات الممكنة؛ وأما إذا اتفقت المعطيات في قوتها الدلالية مرة بعد مرة — على شرط أن تكون هذه المعطيات قد جاءتنا من إجراءات تجريبية مستقل بعضها عن بعض — كان اتفاقها ذاك مضاعفًا لدرجة الإثبات التي نثبت بها المقدم في كل حالة يتاح لنا فيها أن نثبت التالي؛ فعلى هذا النحو يكون السير في إثباتنا لأي فرض نفرضه؛ ومع ذلك فإمكان الوقوع في الخطأ حين نثبت المقدم (بناءً على إثبات التالي) ما يزال قائمًا؛ نعم إن حذف ما نحذفه من الاحتمالات الممكنة يأخذ في الحد من احتمال الوقوع في استدلال مغلوط، لكنه محال علينا أن نستيقن بأننا قبل استوعبنا بالحذف كل الاحتمالات الممكنة (ما عدا واحدًا)، وذلك لأننا لن نستوثق أبدًا من أن القضايا الانفصالية قد استوعبت شتى الممكنات جميعًا؛ ومن هنا كانت درجة الاحتمال علامة تميز كل قضية نصل إليها عن طريق الاستدلال من مجموعة قضايا قيلت عن أمور الواقع؛ كما أن ضرورة الصدق — أعني صرامة الدقة الاستنباطية — هي العلامة المميزة للقضايا غير الوجودية، التي ننشئها خلال سيرنا في التفكير النظري البرهاني؛ ولهذا لم يكن الاستيعاب الكامل خاصة تتصف بها أية مجموعة من القضايا الانفصالية التي تُقال عن الوجود الفعلي، بل هو شرط منطقي يُراد استيفاؤه فحسب.
فحتى لو كان في مستطاعنا أن نجد قطعة من الذهب الذي يكون ذهبًا خالصًا، أعني أنه يكون ذهبًا ولا شيء إلا ذهبًا، لما أمكن قط أن نعزلها عزلًا تامًّا عن علاقتها التي تتفاعل بها مع عدد لا حصر له من الظروف المحيطة بها؛ نعم إن لدينا الآن قدرة كبيرة على ضبط الظروف بفضل التقنيات العلمية؛ إلا أنه سيظل هنالك دائمًا إمكان نظري بأن بعض الظروف التي تتأثر بها الظاهرة المشاهدة، قد أفلت من زمامنا؛ وإذن فعندما نفرض مصادرة أولى نزعم بها أن ما هو بين أيدينا كيانٌ وجودي مكتمل الأجزاء، فإنما نضع بهذا الفرض حدًّا أعلى يصبو إليه البحث التجريبي؛ أي إنه حد أعلى من الوجهة المنطقية، يحدد الاتجاه الذي لا بد للبحث أن يتحرك فيه، لكنه يستحيل عليه أن يدركه إدراكًا كاملًا؛ ومن ثَم كان الجانب الإحصائي لشتى التعميمات التي نصوغها من أمور الواقع، لا يعيبه نقص التقنيات (ولو أن هذا النقص في التقنيات يصور قصورنا في مراعاة الشروط التي يفرضها علينا المنطق، والتي يجب أن نراعيها) وإنما هو راجع إلى الطبيعة الأصلية للمادة الوجودية التي نتناولها بالبحث.
والزعم القائل بأن الصفات الكيفية للأشياء تعاود الحضور بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة (أي الزعم بأنها كليات) هو غلطة (كما قد أشرنا من قبل) ناشئة من خلطنا بين دوام الشواهد على أداء مهمتها من حيث هي شواهد — وهو دوام ينشأ لنا عن البحث المستمر — وبين الصفات الكيفية كما تقع لنا في خبرتنا المباشرة بالوجود الخارجي؛ فليس هنالك صفة كيفية واحدة تقع مرتين من حيث هي صفة كيفية بذاتها؛ وإنما الذي يعاود الحدوث هو ثبات ما للشواهد من قوة البينة، أعني الشواهد التي نتخذها من كائنات قائمة في الوجود الخارجي، لكنها من حيث هي حوادث واقعة، تكون فذة لا يتكرر وقوعها؛ وحين يُقال بأن هنالك دقة دقيقة، أو ضرورة لزومية في سلسلة القضايا التي نقول بها: «جون أطول من جيمس، وجيمس أطول من وليم، وإذن فجون أطول من وليم» يفوت القائل أن «طويل» صفة يطرأ عليها التغير بما يطرأ على الظروف من تغير؛ نعم إن أحدًا لا يشك — من الناحية العملية — في أن هذه النتيجة في بعض الحالات تكون صادقة؛ لكننا لو أخذنا ثلاثة أشياء متساوية الطول تقريبًا، اتضح لنا أنه أثناء عملية القياس، قد يتغير أحدها من حيث صفة الطول فيه، على الرغم من كافة الجهود التي تبذل للإبقاء على الظروف على حالة ثابتة؛ ولهذا كان الاستدلال — نظريًّا — موصوفًا بدرجة معينة من الاحتمال، وليس موسومًا بضرورة الصدق؛ فإذا كانت القضية القائلة: «إذا كانت أ أطول من ب، وإذا كانت ب أطول من ج، إذن أ أطول من ج» ضرورية الصدق، فهي ضرورية ما دامت مضموناتها مجردة، لكنها ليست ضرورية حين تكون أ، ب، ج أفرادًا من كائنات فعلية؛ بعبارة أخرى فإن القضية هنا ضرورية من حيث هي تعريف، لكنه لا يلزم عن التعريف أن يكون «جون» و«جيمس» و«وليم» من حيث هم كائنات في الوجود الفعلي، يستوفون الشروط التي يفرضها التعريف؛ فالفكرة القائلة بأن القضايا التي تُقال عن هذه الكائنات الفعلية، لها خاصة «التعدي» اللزومية التي تكون بين حدود القضية الكلية، فكرة مغلوطة بسبب الخلط النظري الذي نخلط به بين الخصائص المنطقية لكل من القضايا اللاوجودية والقضايا الوجودية؛ فالأمر يتطلب منا إجراءات تجريبية قائمة بذاتها، لكي نقرر إن كانت العلاقات القائمة بين الكائنات الوجودية مستوفية للشروط التي وضعتها لنا قضية كلية شرطية؛ وفي بعض الحالات — كما قلنا منذ قليل — لا تنهض أمامنا صعوبة عملية في سبيل أدائنا للإجراءات المطلوبة؛ إلا أن سلامة النتيجة التي سننتهي إليها، تعتمد اعتمادًا كليًّا على اشتباك الوقائع المشاهدة بعضها ببعض، لا على وجود علاقة ضرورية في لزوم بعضها عن بعض؛ فهذه العلاقة الأخيرة هي التي تشترط ما عسانا أن نجريه من إجراءات، لكنها ليست هي نفسها العلاقة الفعلية التي تصل الكائنات الوجودية بعضها ببعض.
(٤) تبادل الحدود
إن العلاقة بين ما يُسمَّى بالاستدلال المباشر من جهة وتبادل الحدود من جهة أخرى، علاقة يحوطها شيء من غموض المعنى، فالعبارتان في بعض الحالات مترادفتان؛ لكنهما لا تترادفان في الاستدلال المباشر الذي يتم بإضافة «خواص» أي صفات مميزة أو يتم باللزوم الفرعي؛ لكننا نعود فتقول إن هاتين العمليتين المذكورتين إذا ما وقعتا في أي حالة لها أهميتها الدلالية، فالاستدلال عندئذٍ لا يكون استدلالًا مباشرًا؛ والأمثلة التوضيحية التي تسوقها الكتب المنطقية المألوفة «لإضافة الصفات المميزة» أمثلة تافهة لأن مادتها مألوفة ومكررة؛ وأما الحالات ذوات الدلالة فهي تلك التي تضاف فيها الصفات المميزة حين تكون القضية التي تضاف إليها تلك الصفات أوسع نطاقًا مما ينبغي وهي على صورتها القائمة (أو أعم مما ينبغي، حين تكون كلمة عام مستعملة بمعنى غامض)؛ ففي هذه الحالة نتطلب قضية أو قضايا مستقلة، لكي نقرر بها ما إذا كانت الصفة المميزة التي سنضيفها لتحدد المعنى، متساوية القوة عند تطبيقها على حدي القضية الغامضة على السواء، وفي هذه الحالات يكون الاستدلال غير مباشر؛ وأما اللزوم الفرعي فنوضحه بالمثل الآتي: «إن مجموع الزوايا الثلاث في مثلث إقليدي هو زاويتان قائمتان» ومن ثَم «فمجموع الزوايا الثلاث في مثلث مختلف الأضلاع هو زاويتان قائمتان» فها هنا تجيء القضية الثانية نتيجة لازمة عن الأولى، وإنما نسمي هذه الحالة لزومًا فرعيًّا لأن البحث الخاص الذي نحن بصدده في هذه الحالة، قد تصادف له أن استدعى حصرًا خاصًّا أو تضييقًا خاصًّا للحركة التي نتجه بها نحو القضية الختامية؛ ومع ذلك فحين تقرر مؤلفات المنطق أن العلاقة بين الحالة التي نسوقها لتحقيق صدق قضية كلية، وهي حالة نعبر عنها بقضية وجودية، وبين القضية الكلية نفسها (وهي بمثابة القانون النظري أو الصيغة المساقة على سبيل الفرض) أقول إن مؤلفات المنطق حين تقرر عن هذه العلاقة بأنها علاقة لزوم فرعي، فهي تقع في مغالطة صريحة، لأن القضية اللاوجودية يستحيل أن يلزم عنها قضية وجودية.
(٥) القياس
القياس هو تحليل للحكم النهائي إلى مقوماته المنطقية التي هي قضاياه التي يتألف منها؛ وهذه المقومات المنطقية — كما أشرنا من قبل — هي: (١) قضية تتصل بأمور الواقع، و(٢) قضية تتصل بالعلاقة القائمة بين معانٍ مجردة، أو بين مضمونات فكرية؛ أما التي تتصل بأمور الواقع فهي التي تكون مقدمة صغرى، وأما التي لها مضمون فكريٌّ وافتراضيٌّ، فهي التي تكون المقدمة الكبرى؛ وعلى ذلك فالقياس صيغة نعمم بها الشروط المنطقية التي لا بد من استيفائها إذا أردنا للحكم النهائي أن يكون قائمًا على أساس سليم؛ فكأنما هو تحذير لنا بأننا إذا أردنا أن نضمن صواب الحكم النهائي، كان لزامًا علينا أن ننشئ علاقة متبادلة بين المعطيات المشاهدة وفكرة عقلية، والفكرة العقلية إنما يكون تعريفها بصورة كلية تتخذ شكل «إذا – إذن»؛ فافرض أننا كنا قد انتهينا فعلًا إلى نتيجة تقول بأن الخفاش طائر، فعندئذٍ كانت مقدمتنا الصغرى لو وضعت في عبارة صريحة، ستكون: «للخفاش أجنحة»، ولكي ندعم النتيجة القائلة «الخفاش طائر» على أساس سليم، كنا سنضطر بالضرورة أن نضع قضية عامة نقول بها إن «كل الكائنات المجنحة هي من قبيل الطير»، ويكون معنى كلمة «كل» هنا هو قيام علاقة بين معانٍ مجردة؛ أما إذا أردنا أن نضمن صدق النتيجة ضمانًا كاملًا، فقد كان لا بد أن نقيم قضية تقول: «الطيور والطيور وحدها مجنحة»؛ فذكر المضمون الحملي في قضية نجعلها مقدمة كبرى، أمر ضروري لضبط انتزاعنا لنتيجة معينة، لأنها ستؤدي مهمة الموجه للبحوث التي تنبني على مشاهدات، تلك البحوث التي تميل نتائجها نحو أن تنتج قضية جامعة مانعة.
ولا يتفق هذا الشرح الذي أسلفناه مع النظرية التقليدية، لأن هذه الأخيرة — على وجه الإجمال — تجعل القياس والصورة الاستنباطية شيئًا واحدًا؛ فهي لهذا (١) لا تفسح مجالًا لأية قضية وجودية، و(٢) تعتصم بالفكرة القائلة إنه لا يجوز أن يكون هناك أكثر من «مقدمتين» في سلسلة القضايا التي ننتقل فيها بالفكر الاستنباطي، وهي فكرة تنفيها كل صور التدليل الرياضي؛ وأما الفكرة القائلة بأن القضية الوجودية الصغرى يمكن أن تستنبط من قضية كلية، فهي فكرة تمثل خطأً ذكرناه بالتعليق عليه مرارًا فيما مضى؛ فسواء أكانت القضية الصغرى مفردة الموضوع (أي موضوعها فرد في نوع) أم كانت قضية جامعة (تمثل علاقة بين أنواع) فلا بد لها أن تقام على أساس إجراءات قائمة بذاتها من مشاهدات تجريبية؛ فحين يكون القياس من الشكل الأول في ضربه الذي تكون فيه مقدمته الكبرى كلية موجبة ومقدمته الصغرى كلية موجبة والنتيجة كلية موجبة، تكون القضية التي هي مقدمته الصغرى قضية جامعة، لا قضية كلية، لأنها عندئذٍ تكون مشيرة إلى الوجود الفعلي؛ وإذن فهي في أية حالة من حالاتها الفعلية تكون ذات درجة معينة من درجات الاحتمال، أي إنها تكون قضية موجبة جزئية؛ وإن هذه الحقيقة لتبين أن القياس من الشكل الأول في الضرب المذكور لا يمكن اعتباره — حين تشير مقدمته الصغرى إلى الوجود الخارجي — قياسًا يبرر الخصائص التي لا بد من توافرها في أي استدلال حقيقي؛ لكن الأمر يختلف إذا ما نظرنا إلى القياس من الشكل الأول على أنه صيغة تضع الشروط المنطقية التي لا بد لنتيجة الاستدلال أن تستوفيها من الوجهة النظرية؛ وعلى ذلك فالطابع العام للقضية الصغرى، هو أنها وسيلة نقرر بها — من الوجهة النظرية — أو من الوجهة العقلية الصرف، أنه لا بد من قيام علاقة متبادلة دقيقة بين التعريف الذي تعبر عنه المقدمة الكبرى، وأمور الواقع التي تؤلف مادة المقدمة الصغرى؛ فلو فهمنا القياس على هذا الوجه، كان معناه أن النتيجة تكون جائزة القبول من الوجهة المنطقية، بل إن الوسيلة الوحيدة التي تجعلها جائزة من الوجهة المنطقية، هي أن تتلاقى الإجراءات المتضمنة في مجرى التفكير النظري، مع الإجراءات المتضمنة في المشاهدة التجريبية التي نشاهد بها كائنات الوجود الخارجي، لتخلقا معًا موقفًا متعينًا محلول الإشكال إلى درجة الكمال.
تفسيرٌ كهذا للقياس يجعل له أهمية منطقية كما يجعله شيئًا لا غناء لنا عنه؛ لكنه تفسير يقتضي مراجعة خطيرة للنظرية الأرسطية للقياس؛ ذلك لأن المقدمة الكبرى في منطق أرسطو — أي التعريف — كانت قولًا يصف جوهرًا من شأنه أن يحدد حقيقة نوع من الأنواع كما هو قائم في الحقيقة الكونية الخارجية، على حين كانت المقدمة الصغرى إثباتًا بأن نوعًا ما يندرج من حيث وجوده الخارجي في ذلك النوع الأشمل (الذي تصفه المقدمة الكبرى) — وإذا لم تكن المقدمة الصغرى كذلك، فهي إخراج إلى الوجود الفعلي لما هو — من الوجهة المنطقية — موجود بالقوة في الجنس؛ فها هنا، كما في حالات أخرى ذكرناها فيما سبق، احتفظ المنطق التقليدي بالصورة العارية، بعد أن نُبذ الأساس الوجودي الذي كانت ترتكز عليه تلك الصورة (أي بعد أن نبذت فكرة الأنواع والجواهر الثابتة) ومن ثَم تعرض المنطق التقليدي لنقد «مل»؛ غير أن «مل» أبقى على الغلطة المنطقية التي وقعت فيها النظرية التقليدية، وإن يكن أبقى عليها في اتجاه معكوس؛ ذلك أن النظرية التقليدية تذهب إلى أن المقدمتين الكبرى والصغرى من صورة منطقية واحدة، وفاتها أن ترى أن إحداهما غير وجودية بينما الأخرى وجودية، وأن الإجراءات التي نتطلبها في تكوين كل من المقدمتين، تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى اختلاف المشاهدة الخارجية عن التفكير العقلي الداخلي؛ فجاء «مل» وارتكب الغلطة نفسها. لولا أنه جعل الكبرى والصغرى معًا قضيتين وجوديتين؛ فبدل أن يشبه صورة المقدمة الصغرى بصورة المقدمة الكبرى (كما تفعل النظرية التقليدية) شبه صورة الكبرى بصورة الصغرى، أعني أن «مل» يذهب إلى أن المقدمة الكبرى — أو القضية العامة — إن هي إلا مذكرة نلخص بها عددًا لا حصر له من القضايا الجزئية الوجودية.
وقد كان تفسير «مل» هذا ليكون تفسيرًا سليمًا لو كانت قوة الشهادة مرهونة بما هو واضح بذاته، أعني لو كنا في غير حاجة إلى مبدأ أو إلى قضية كلية، لنقرر على أساسه ماذا يصلح شاهدًا وماذا لا يصلح، وإلى أي حد تكون المعطيات الخاصة في أية حالة معلومة ذات وزن وذات صلة بالموضوع الذي نحن بصدده؛ فلو أخذنا رأيه كما هو، ألفيناه يصادر على المطلوب بزعمه أن الجزئيات — من حيث هي جزئيات — مزودة بالفعل بقوة الشهادة الكافية؛ لكننا — لو استخدمنا اللغة التي سبق لنا استخدامها — نقول إن الجزئيات توحي لنا بفكرة معينة (والفكرة عامة) لكنها لا تدل دلالة سليمة على الفكرة، وأبعد من ذلك عن الصدق أن نقول إنها تبرهن عليها؛ فمشكلة البحث كلها — من جانبها الذي يتصل بالمشاهدة — هي في أن نحدد أي الظروف المشاهدة هي التي تصلح أن تكون معطيات نستشهد بها، أعني أي الظروف نعدها «وقائع الحال»؛ أما القول بأن ما قد قررنا عنه بالفعل أنه من الشواهد، يكون له قوة الشواهد، فهو من قبيل تحصيل الحاصل، لأن «الشواهد» و«قوة الشواهد» لفظان مترادفان؛ فالذي فات «مل» أن يراه، هو أن المشاهدات — إذا أُريدَ لها أن تزودنا بمادة للشواهد — لا بد أن توجهها أفكار، وأن هذه الأفكار لا بد أن يعلن عنها في عبارة صريحة — أي لا بد أن نصوغها في قضايا، وأن تكون هذه القضايا لها الصورة الكلية التي نعبر عنها بقولنا «إذا – إذن»؛ لكن ما يحسبه «مل» شهادةً «كافية» لا يجاوز أن يكون عددَ الجزئيات التي حصلنا عليها، لا المبدأ الذي على أساسه نقرر ما يكون لأي جزئي معين من قوة الشاهد.
وكذلك يقرر «مل» أن المقدمة العامة أو الكبرى، إنما نصل إليها بالاستقراء؛ فلئن كانت نظريته في الاستقراء مهوشة، إلا أنها يقينًا تتضمن إجراءات تُجرى لتحليل المادة التي تأتينا بها المشاهدات الأولية، مصحوبة بإجراءات نحذف بها ما نحذفه، ونقر بها ما يكون بينها من اتفاق في الشهادة على حقيقة بذاتها؛ لكنه يضطر إلى قبول الفروض وأهميتها، على الرغم من أنه يضعها في منزلة «ثانوية».
وتقدم لنا النظرية التقليدية مثلًا آخر لازدواج معنى كلمة «كل»، إذ إنها ترتكز على فهم كلمة «كل» بمعنيين: بمعنى وجودي ومعنى غير وجودي؛ فافرض قائلًا يقول: «كل الحيتان ثدييات، وكل الثدييات ذوات دم حار، إذن فكل الحيتان ذوات دم حار»، فلو كان هذا المثل مثلًا يُساق ليوضح تحليلًا لحكم قائم على أساس منطقي، كانت مقدمته الكبرى قضية كلية صورتها «إذا – إذن»، تُثبت أن ثمة علاقة ضرورية بين كون الحيوان ثدييًّا وكونه حوتًا، بحيث إذا نفينا هذه العلاقة بين الصفتين، أدى بنا النفي إلى تناقض؛ في القضية هنا تظل صحيحة — إذا كانت صحيحة — حتى لو زالت الحيتان من الوجود؛ فهي من حيث هي قضية إجرائية، توجه المشاهدة وجهة تستوثق بها إن كانت — في حالات فردية وجودية معينة — سماتُ إرضاع الصغار، وولادة الصغار … إلخ توجد مقترنة إحداها بالأخرى؛ لكن كلمة «كل» — من جهة أخرى — في هذه القضية الآتية: «كل الحيتان ثدييات» قد تعني أننا في حدود ما قد شاهدناه من أفراد الحيتان قد وجدناها — بغير استثناء — حيوانات ثديية؛ وهذه القضية معناها أن «الحيتان قد تكون ثديية»، وهي تدل على هذا الاحتمال دلالة تبلغ من القوة حدًّا يحفزنا إلى البحث عن العلة التي جعلت السمات تقترن على هذا النحو — أعني أنها تحفزنا إلى البحث عن علاقة بين الخصائص تصلح أن تقيم لنا قضية صورتها «إذا – إذن»؛ ولا نصل إلى حكم نهائي إلا إذا أقمنا تعليلًا ما، في وسعه أن يصوغ قضية من النوع المذكور، وإذا لم نصل إلى حكم نهائي، فسيظل البحث في مرحلة القضايا التي يقتصر فيها الأمر على مشاهدة المفردات وعلى تكوين الفروض واختبارها.
ولو أنعمنا النظر تبين لنا أن الصعاب التي زعمنا أنها نابعة من طبيعة الصورة القياسية، إنما تنشأ من الظن بأن هذه الصورة القياسية هي نفسها الخصائص التي يتميز بها التدليل العقلي أو التي يتميز بها الاستدلال الخارجي حين ننظر إلى كل منهما بمعزل عن الآخر؛ لكن تلك الصعوبات تختفي إذا نظرنا إلى الصورة القياسية على أنها لا ترمي إلى أن تكون هي صورة الاستدلال الخارجي ولا إلى أن تكون هي صورة التفكير العقلي؛ بل هي صورة الرابطة المتبادلة بين مادتي الحكم: مادته الواقعية من جهة ومادته الفكرية من جهة أخرى؛ نصوغها على نحو يهدينا إلى الشروط العقلية وشروط القيام بمشاهدات خارجية، تلك الشروط التي لا بد من استيفائها، إذا أُريدَ للحكم أن يقوم على أساس كامل التدعيم؛ فلو فسرنا القياس على هذا الوجه، كانت «فائدة» الصورة القياسية كائنة في كونها تعمل لنا عمل المُراجع الضابط في حالة الأحكام الخاصة؛ إذ إنها تضع أمام أبصارنا الشروط المنطقية التي لا بد عندئذٍ من استيفائها؛ أي إن الصورة القياسية هي بمثابة الحد الأعلى الذي نصبو إليه ونقف عنده؛ فحتى لو لم يكن هناك حكم من الأحكام التي نصدرها فعلًا، يحقق بالفعل هذه الشروط المثلى، فإن إدراكنا لقصورنا عن تحقيق تلك الشروط، من شأنه أن يخلق لنا مناسبة لبحث جديد كما أن من شأنه أن يوجه هذا البحث الحديد، وذلك في الجانبين معًا: جانب المشاهدة الخارجية وجانب الأفكار العقلية؛ مما يزيد من اتصال البحث، ويؤيده.