الحدود أو المعاني
ولا ينقض هذا القول أن نجد الكلمات المألوفة كلها تحمل معنًى ما، حتى وإن نطقنا بها وهي بمعزل عن سواها؛ وهي إنما يكون لها مثل هذا المعنى، لأنها تستعمل في سياق يتضمن علاقتها بكلمات سواها؛ هذا فضلًا عن أن معناها يظل قائمًا بالقوة أكثر منه قائمًا بالفعل، إلى أن نصلها بغيرها من الكلمات فإذا ما نطق ناطق بهذه الكلمات: «شمس» و«قطع مخروطي» و«يوليوس قيصر» … إلخ، فإنها توجه للمشاهدة الخارجية أو للتفكير العقلي طريقًا يتجه فيه؛ غير أن غاية هذا الاتجاه تظل غير متعينة، حتى تتميز من سائر الغايات الممكنة، وعندئذٍ تتضح ذاتيتها بفضل علاقتها بحد آخر؛ وإن عدم تبيننا للحدود الفواصل، لمصدر منازعات ومشاحنات حول المعاني؛ ذلك لأن الحدود غير المتعينة إما أن تزعم لنفسها أكثر من حقها، فتكون غير فاصلة الحدود لتداخلها في غيرها، وإما أن تضيق من نطاقها أكثر مما ينبغي لها فتترك بينها وبين غيرها رقعة بغير صاحب؛ وبعبارة أخرى فليس في مستطاعنا أن نحدد حدًّا ما تحديدًا كاملًا؛ ما لم نحدد معه كذلك سائر الحدود التي يتعلق بها وصلًا وفصلًا؛ والحدود — من حيث هي نهايات منطقية — تتجه بنظرها وجهتين، شأنها في ذلك شأن غيرها من الحدود الفواصل؛ فهي مستقرة المعنى من حيث هي نتيجة تولدت عن أوجه النشاط فيما مضى؛ وهي ذات أثر تشريعي فيما عساه أن يستجد من أبحاث؛ فهي تتسم بهاتين السمتين معًا، وتمارس هاتين المهمتين، بوصف كونها أدوات وسلية؛ ومثلها مثل الأدوات الوسلية كافة، في قابليتها للتعديل خلال استعمالها في الظروف المقبلة.
ولقد كانت مؤلفات المنطق التقليدية تفرق عادة بين الحدود: العيني منها والمجرد؛ ما يدل على الماصدق وما يدل على المفهوم؛ ما يشير إلى الخارج وما يشير إلى الداخل؛ المفرد (أو الجمع) والجمعي والعام؛ وسنجعل من هذه التفرقات المعترف بها مادة للمناقشة؛ غير أن تفسيرها على أساس المبادئ التي صغناها في الفصول السابقة؛ سيختلف بالضرورة — في نواحٍ هامة — عن التفسير التقليدي لها؛ وسيتضمن تفسيرنا أيضًا إضافة تفرقات أخرى، كحلنا — مثلنا — للحدود العامة إلى ما هو جامع وما هو كلي؛ ولئن كانت مناقشتنا ستختلف عن التفسيرات التقليدية، فهي ستقتضي كذلك اختلافًا عن بعض المؤلفات الحديثة التي اختلفت هي أيضًا عن التفسير التقليدي فمثلًا تقيم بعض المؤلفات (الحديثة) تفرقة حادة بين الأسماء والحدود، على أساس أن الأسماء رموز تشير إلى أشياء لا شأن لها بالمنطق بمعناه الدقيق، على حين أن الحدود صورية خالصة؛ ولو التزمنا هذا الرأي التزامًا دقيقًا، لانتهينا إلى حذف ما يُسمَّى بالحدود «العينية» حذفًا تامًّا، ولأبعدنا كذلك كافة القضايا الوجودية، ما دامت هذه القضايا تتضمن في نهاية الأمر إما أسماء أعلام أو ما يعادل أسماء الأعلام من عبارات، كاسم الإشارة «هذا».
والمؤلفات المذكورة لا تتسق أبدًا مع نفسها في هذا الموضوع؛ وفي اختلافنا عنها في غير ما ذكرناه من أوجه الخلاف، نرى وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب تقتضى استحالة القسمة الحادة الفواصل بين الصورة من جهة ومادة الموضوع من جهة أخرى؛ لأنها تذهب إلى أن مادة الموضوع هي ما هي بفضل تحديدها بالصور التي تجعل البحث هو ما هو؛ على حين أن الصور بدورها تتكيف بما هنالك من مواد موضوعات البحث التي من شأنها أن تحقق ما تقتضيه عملية البحث الموجه؛ على أن هنالك مدارس أخرى تقصر كلمة الأسماء على أشياء الوجود الخارجي، لتعطي للحدود — تبعًا لذلك — مجالًا أوسع؛ لكن الأسماء دلالات تستخدم الرموز؛ فإذا كان من المهم أهمية أساسية أن نلحظ إن كان ما يشير إليه الرمز شيئًا ماديًّا أو أمرًا صوريًّا (كما هي الحال في كلمتي «و» و«أو») فإنه من التعسف أن نصر على أن هاتين الكلمتين الأخيرتين لا تشيران أو لا تسميان ما تشيران إليه، ألا وهو العلاقات الصورية؛ ولعل الأمر هنا ضرب من الوهم نقلناه عن النحو التقليدي الذي يحتم أن يكون الاسم دالًّا على شيء متعين؛ والواقع هو أن كل رمز يُسمَّى شيئًا ما، وإلا لكان بغير معنًى على الإطلاق، ولا كان رمزًا؛ فالصورة التخطيطية أو المصور الجغرافي يشير إلى شيء ما، وله قوة دلالية، على الرغم من أن العرف اللغوي لا يجعلهما من الأسماء.
والتفرقة الأساسية التي نقترحها هنا بين الحدود، تتبع نظريتنا في الحكم؛ فأي حد معين إنما يصدق في النهاية إما على مضمون الحكم أو على مضمون محموله، أي إنه إما أن ينصرف بدلالته إلى عالم الوجود الخارجي، أو إلى عالم التصورات العقلية؛ وأما كل ما عدا هذه التفرقة من تفرقات، فهي إما جوانب من هذه التفرقة الأساسية، من حيت قوتها المنطقية، أو هي مشتقة منها؛ وفيما بين الحدود الآتية مثل بسيط يوضح هذه التفرقة.
(١) الحدود العينية والحدود المجردة
الألفاظ الدالة على كيفيات تقع لنا في الخبرة المباشرة، هي ألفاظ عينية لا يعادلها في ذلك غيرها من الألفاظ؛ مثال ذلك، حلو، وصلب وأحمر، وزاعق، حين تستعمل لتصف أمورًا مشاهدة وصفًا يميزها من سواها ويحدد ذواتها؛ أعني حين تستعمل هذه الكلمات من حيث هي علامات دالة، أو رموز؛ وكذلك من الألفاظ العينية كلمات الإشارة: هذا، وذلك، والآن، وعندئذٍ، وهنا، وهناك، ومنها أيضًا الأسماء المشتركة التي تدل على أنواع، والنعوت التي ندل بها على السمات المميزة التي نستعين بها على تمييز الأنواع بعضها عن بعض، وإبراز حقائقها الذاتية؛ وأما الألفاظ المجردة فهي تلك التي تنوب عن تصورات ذهنية، بما في ذلك العلاقات التي نستخدمها دون أن يكون لها دلالة الانطباق الفعلي على الأشياء الخارجية، مثال ذلك: حلاوة وصلابة، واحمرار، وزعيق، وحضور، وغياب، ووضع، وموضع، وأبوة، وصفة كون الشيء زاوية … إلخ؛ على أن من الكلمات — إلى جانب الكلمات المجردة التي تستمد معناها المجرد من طريقة تصريفنا للأسماء العينية — طائفة كبيرة نعرفها مجردة أو عينية تبعًا للسياق الذي ترد فيه، بغض النظر عن صورتها اللفظية؛ فاللون والصوت — مثلًا — كلمتان عينيتان حين تشيران إلى سمات تتسم بها الأشياء الكائنة في الوجود الخارجي؛ على حين أنهما مجردتان في العلم، إذ تعنيان عندئذٍ اللونية أو إمكان الرؤية، والمسموعية؛ باعتبار هاتين الحالتين ممكنتين؛ ولكي يمكن الاستعانة بهما في توجيه البحث العلمي تراهما تعرفان بما يدل على نسب عددية؛ وهنالك نعوت كثيرة تتلفت النظر بعدم تعين معناها بالنسبة إلى التفرقة العددية المذكورة، فهي عند تطبيقها تطبيقًا مباشرًا على الأشياء، تكون بطبيعة الحال ذات دلالة وجودية، إلا أنها قد ترمز أيضًا إلى ما يمكن حدوثه في الحالات البسيطة، فكلمة دائري أو كلمة مستطيل عينيتان حين تستعملان لوصف الأشياء الفعلية، كأن نقول مثلًا «منشار دائري» و«نضد مستطيل». وأما في الرياضة فالدائرة معناها الدائرية والمستطيل معناه كون الزوايا قائمة والأضلاع مستقيمة؛ وكما يدل هذا المثل، قد تكون الأسماء المستمدة من النعوت مجردة في طريقة استعمالها، دون أن نشير إلى صورة التجريد حين لا تؤدي الكلمة عملها في قضية معينة؛ وعلى هذا فكلمة «صلب» قد تستعمل لتميز الأشياء الصلبة من «السائلة»، على حين أنها في الرياضة تدل على مفهوم معنوي يعرف لنا الطرق الممكنة التي يكون بها الشيء ذا شكل مجسم، تمييزًا له من الحالة التي تدل عليها كلمة «مستوٍ».
لكننا لا نستطيع أن نحصل على المجرد من العيني بأن نقصر نظرنا على صفة معينة وهي قائمة بمعزل عن سائر الصفات التي تقترن بها في شيء ما؛ فقد نقول — مثلًا — هنالك جواد أسمر اللون، ذكر، عمره خمسة أعوام، وارتفاعه خمسة عشر شبرًا؛ ونستطيع أن نختار أية صفة شئنا من هذه الصفات لنتابعها بالفحص، دون أن نفكر في سائر الصفات، أو نتناولها ببحث؛ فمثلًا لو فكر شارٍ في شراء جواد ليضمه إلى جواد عنده ليكون له منهما زوج مؤتلف، فقد ينصرف عندئذٍ ببحثه إما إلى اللون أو إلى الارتفاع، أو إلى العمر، باعتبارها هي الجوانب التي تقرر إن كان الجوادان «يأتلفان» أو لا يأتلفان معًا؛ لكن الصفة التي يفكر فيها ما زالت «عينية»؛ فالأسمر ليس هو السمرة، وكون الجواد عمره كذا ليس هو العمر بمعناه المجرد، وكون ارتفاعه كذا ليس هو صفة الارتفاع مجردة؛ فالمقارنة التي تنتهي بنا إلى اختيار صفة معينة من مجموعة صفات هي شرط للتجريد، لكن الصفة المختارة لا تصبح باختيارها صفة كلية؛ هذا فضلًا عن أن الصفة المعينة لا تكون صفة كلية لمجرد كونها تميز عددًا من المفردات بل إنها بتمييزها هذا للمفردات التي تتصف بها، تحيط نوعًا معينًا بحدوده، كما تفعل ذلك أية سمة أخرى؛ وأما إذا أردنا لها أن تكون صفة كلية، فلا بد أن نعرفها تعريفًا يجعل منها ضربًا ممكنًا من ضروب الإجراء العملي؛ فتكون مهمتها عندئذٍ هي تحديد السمات المميزة التي لا بد من تحققها في الوجود الخارجي لكي يجوز لنا أن نستدل من وجودها أن فردًا معينًا ينتمي إلى نوع معين؛ وإنا لنجد أمثلة حقيقية نوضح بها التجريد، في فكرتنا عن الحرارة بأنها ضرب من الحركة الذرية، كما نجد مثلًا للتجريد الزائف في الفكرة القديمة عن الحرارة بأنها السعر الحراري — فلا نصنع سوى أن نكرر بكلمة مجردة صفة كيفية نصادفها في خبراتنا؛ وإذا كان يجوز لنا أن ننسب صفة أملس للأشياء، فما ذلك إلا لأن المعنى الكلي ملاسة من شأنه أن يرسم لنا طرق الإجراءات العملية في عمليات القياس الفنية؛ فالفكرة التي نحصل عليها بإدراكنا الفطري عن الملاسة، والتي نستمدها من إجراءات نجريها باللمس والبصر، تخدم لنا أغراضًا عملية كثيرة مألوفة، لكنها ليست فكرة علمية بحال من الأحوال؛ ولا يعرف الملاسة (تعريفًا علميًّا) إلا صيغة رياضية؛ وعندئذٍ لا تعود الملاسة مستمدة من صفات كيفية مدركة بالخبرة إدراكًا مباشرًا، عن طريق اختيارنا وتمحيصنا ومقارنتنا لتلك الصفات، أكثر مما نستمد تعريفنا للحرارة بأنها حركة ذرية من التمحيص والمقارنة المباشرين للصفة الكيفية التي نَخْبُرُها في مختلف الأشياء الحارة.
(٢) الحدود المفردة، والجامعة، والكلية
كل حد دالٌّ على تصور عقلي، مما يكون له قوة حملية، هو حد كلي، إذ إنه يدل على إجراء ممكن الأداء، بغض النظر عما إذا كانت الظروف التي يصدق عليها في التطبيق العملي داخلة في مجال المشاهدة أو غير داخلة فيه؛ وأما الحدود المفردة والحدود الجامعة فذوات دلالة وجودية، ومكملة بعضها لبعض فالكائن الجزئي الفرد — من حيث هو كذلك — هو موقف فريد وغير قابل لتكرار الحدوث وكيفي؛ والمفرد، الذي تمثله كلمة «هذا» مثلًا، يكون مادة لموضوع نختاره اختيارًا محددًا من مجموعة موقف كيفي ابتغاء استخدامه في مهمة تحديد المشكلة القائمة، وفي تزويدنا بالوقائع التي — إذا اتخذناها شواهد — نختبر بها سداد أي حل مقترح للمشكلة؛ فالصفات الكيفية — كما قلنا من قبل — ليست تعاود الوقوع في ذاتها، لكنها تعاوده من حيث مهمتها التي تؤديها بكونها شواهد؛ وبوصفها هذا، تكون هي السمات المميزة التي تحيط نوعًا معينًا بحدوده؛ ويتبع هذا أن يكون الحد المفرد والحد الجامع بمثابة إبرازنا لموضوع القضية إبرازًا ذا ناحيتين (من حيث هو فرد ومن حيث هو عضو في نوع)، أعني موضوع القضية الذي نشير به إلى شيء من موجودات العالم الخارجي؛ فقولنا: «هذا شهاب» قول مفرد الموضوع بالنسبة لكلمة «هذا» وهو قول دالٌّ على نوع بالنسبة إلى كلمة «شهاب»؛ والسياق وحده هو الذي يبين على أي الصورتين المتكاملة إحداهما مع الأخرى ينصب الاهتمام في حالة معينة؛ فإذا كنا ندخل الشهب في نوع أشمل نطاقًا منها، كانت قضيتنا قضية تدل على العلاقة بين الأنواع، وعندئذٍ لا يكون ثمة ذكر صريح لكائن مفرد بعينه، أو لما نشير إليه بكلمة «هذا»؛ بل إن القضية في هذه الحالة لتصدق — إن كانت صادقة — بغض النظر عما إذا كان هنالك — أو لم يكن — شهاب أثبتت المشاهدة وجوده الفعلي في هذا الزمن المعين أو ذلك، وفي هذا المكان المعين أو ذلك؛ لكن القضية تسلم بفرض أولي، وهو أن الشهب لها وجود فعلي تظهر به في زمان ما وفي مكان ما؛ ولهذا فهي تشير إشارة مضمرة — وإن لم تكن مباشرة — لوجود المفردات؛ ولا تختلف عن هذا حالة نقول فيها إن «الغيلان حيوانات خرافية»، لأن القضية هنا أيضًا تسلم بفرض أولي، هو وجود اعتقادات خرافية أو أسطورية، وتثبت أن الاعتقاد في الغيلان قد كان قائمًا بالفعل، وأن مثل هذه الاعتقادات هي من قبيل ما يُسمَّى بالخرافي، ما دامت المشاهدة لم تؤيد وجود الغيلان، ولو أنها تجيز إثباتنا لقيام اعتقادات عنها.
أما «العام» عندما نصف بها حدًّا منطقيًّا، فكلمة مزدوجة المعني؛ فكما قد ذكرنا مرارًا، هي كلمة تستخدم لتدل على ما هو جامع وعلى ما هو كلي في آنٍ معًا، ولقد تناولنا فيما سبق ما يحدث من خلط بين هذين المعنيين، وما يؤدي إليه هذا الخلط من نتائج لها أثرها في النظرية المنطقية؛ وأعني بذلك ما قد يحدث من قصور دون رؤية الفرق المنطقي بين ما هو وجودي وما هو غير وجودي، بين ما هو واقعي وما هو فكري؛ ومع ذلك فسنلحق بما سبق أن قلناه بعض التعليقات على المعنى المزدوج الذي ننسبه لكلمة «قانون»؛ فهي كلمة تستعمل لتدل على مضمونات التعميمات التي تُقال عن الطبيعة، وذلك في حالتين:
(١) حين تدل المشاهدة على قيام اقتران معين بين السمات، ثم تتأيد المشاهدة دون أن ينتقص من قيمتها استثناء واحد نصادفه.
(٢) حين تكون العلاقة المذكورة نفسها عضوًا في نسق من قضايا كلية متعلق بعضها ببعض؛ فكلمة «قانون» في الحالة الأولى تدل على ما نسميه حقيقة عامة، كقولنا: «الصفيح يذوب في درجة حرارة ٢٣٢ مئوية»؛ ولا اعتراض لنا على هذا الاستعمال المزدوج لكلمة «قانون»، لكن مثل هذا الاستعمال لا ينبغي أن يخفي عنا حقيقة كون القانون في إحدى الحالتين ذا دلالة وجودية، على حين أنه في الحالة الأخرى لا وجودي في معناه بغير شك؛ فالقانون في علم الطبيعة الرياضية كلي بمقدار ما يمكننا مضمونه الرياضي من استنباط قضايا أخرى في مجرى التفكير النظري؛ وأما من حيث هو قانون في علم الطبيعة، فمضمونه وجودي وعرضي.
(٣) حدود الماصدق، وحدود المفهوم
الفرق المنطقي بين هذين النوعين من الحدود هو نفسه الفرق الذي أشرنا إليه مرارًا فيما سبق، بين الحدود الدالة على مضمون الموضوع — وهو المضمون الذي تنصب دلالته على الموجودات الخارجية — وبين الحدود ذوات الفحوى العقلي والحملي؛ فالحدود تكون ذات دلالة في عالم المسميات حين تشير إلى الوجود الخارجي — إشارة مباشرة أو غير مباشرة (والإشارة غير المباشرة تكون في حالة القضايا التي تُقال عن علاقة بين أنواع) — ومن قبيل الحدود الدالة على مسميات في الوجود الخارجي الأسماء المشتركة، وأسماء الإشارة، والأفعال الدالة على تغير أو على فعل؛ ولقد أحيا «مل» الكلمة الإسكولائية «مفهوم» (ولو أنه خلع عليها معنًى مضطربًا ومختلفًا عن معناها عند الإسكولائيين) ليدل بها على المضمونات النعتية التي منها يتألف معنى الحد حين يكون حدًّا جامعًا لصفات يقترن بعضها ببعض في أفراد نوع معين، قائلًا إن المفهوم هو الذي يحدد معنى أمثال هذه الحدود؛ وبناءً على هذه النظرة يكون الحد الواحد من الحدود دالًّا على ماصدقات في الخارج وعلى مفهوم في الذهن في آنٍ واحد، ولا يستثني من ذلك إلا طائفة من حدود معلومة سنذكرها فيما بعد؛ وعلى ذلك تكون لفظة «سفينة» دالة على ماصدقات، من ناحية انطباقها على عدد لا يحصى من الأشياء، بينما يتألف مفهومها من السمات التي لا بد للشيء من حملها لكي يتسنى لكلمة سفينة أن تنطبق عليه انطباقًا مقبولًا؛ وليس الخلط الذي يتضمنه هذا الرأي من النعومة بحيث يجوز أن يفلت منا فلا نراه؛ إذ هو خلط بين السمات المميزة التي هي معنى سفينة، حين تكون هذه الكلمة حدًّا يشير إلى مسميات خارجية، وبين الأطراف المعنوية التي تسوغ — جمعًا ومنعًا — أن يكون لتلك السمات من القوة المنطقية ما يمكنها من الإحاطة بنوع معين؛ والأولى — أي السمات المميزة — إنما تقتصر على تقرير الأمر الواقع؛ إذ هي تقرر مجموعة السمات المستعملة في مجال الواقع التجريبي أساسًا نستند إليه في تسميتنا شيئًا معينًا بسفينة بدل أن نسميه — مثلًا — زورقًا أو «يختًا»؛ فإذا ما أثيرت أسئلة عما إذا كان شيء معين — أو لم يكن — منتميًا إلى النوع «سفينة»، فعندئذٍ يتطلب الأمر أن نعرف السفينة ماذا يُنتظر لها أن تكون؛ فافرض أن التعريف يتألف من اقتران الأطراف المعنوية الآتية (اقترانًا ضربيًّا «أي اقترانًا بدمج المعاني»): الطفو على الماء، وتقوس الجوانب، وسعة تكفي لنقل عدد غير قليل من البضائع والأشخاص، والاستعمال المنظم لنقل البضائع والركاب نقلًا تجاريًّا؛ فمثل هذا الحد لا يكون وصفًا للسمات التي تكون معنى سفينة، بل إن هذه السمات هي بمثابة اشتراطات تشترط ما يجب أن تكون عليه سمات الشيء إذا كان ليعد سفينة؛ فالحدود المذكورة كلها مجردة، وهي تعرف صفة كون الشيء سفينة، لكنها لا تصف السفن كما هي قائمة فعلًا في الوجود الخارجي.
فحين نقصر المفهوم على معنى الحد الذي يشير إلى ماصدقات في الخارج (وهو ما لا بد أن يكون إذا ما قيل عن حد ما إنه دالٌّ على ماصدقات وعلى مفهوم في آنٍ معًا) فنحن في هذه الحالة إنما نقول الشيء نفسه مرتين؛ فسفينة حد يدل من ناحية المسميات أولًا على مجموعة من سمات، ثم يدل بعد ذلك على نوع من الأشياء، لأن هذه الأشياء تتميز من سواها بهذه السمات؛ أما حين يُقال إن المفهوم يحدد قابلية انطباق مجموعة من سمات، انطباقًا يجعلها تحيط النوع بما يميزه، فعندئذٍ ينتقل البحث إلى مجال منطقي آخر، ألا وهو مجال الكليات المجردة؛ فإذا كان قولنا عن حد إنه «ذو مفهوم» يعني شيئًا يختلف عن كون ذلك الحد وصفيًّا، إذن فالحد الواحد من الحدود لا يمكن أن يكون دالًّا على ماصدقات ودالًّا على مفهوم في وقت واحد؛ فالحدود الوجودية هي التي تنصرف دلالتها إلى الماصدقات الخارجية، والحدود المجردة هي التي تشير إلى المفهومات العقلية؛ وكل حد يشير بدلالته إلى الأشياء الخارجية يكون ذا صلة بحد يقابله أو يبادله العلاقة ويكمله، مما يشير بدلالته إلى المفهومات العقلية، وتكون تلك الصلة بينهما بالدرجة التي تجعل الدلالة الشيئية للحد المنصرف بإشارته إلى الماصدقات الخارجية دلالة جائزة القبول، وهذا في الجوهر هو ما أراده الإسكولائيون باستعمالهم للمفهوم؛ فلو ضربنا المثل — بدل المثل الذي ضربناه بكلمة سفينة، التي تكتسب معناها بالعرف أو ما يقرب منه — أقول لو كنا قد ضربنا المثل بحد علمي، كعنصر كيموي، أو معدن؛ لتجلي لنا في وضوح كيف يعتمد انطباق التسمية على مسماها انطباقًا سليمًا، على المدركات العقلية التي نُعَرِّف بها ما نريد تعريفه، ففي حالة العنصر الكيموي يكون المدرك العقلي هو كون الشيء بسيطًا من الناحية الكيموية، وفي حالة المعدن يكون المدرك العقلي هو كون الشيء ذا طبيعة معدنية؛ أما إذا قال قائل إن الحد الوصفي له مفهوم بالإضافة إلى دلالته على المسميات الخارجية، لم يكن في قوله هذا تكرار جريء وكفى، بل لما ترك مثل هذا القول مكانًا لحدود نذكر بها خصائص الأشياء، ولا لِمعانٍ كلية مجردة؛ فإما أن نستغني عن كلمة «مفهوم» أو أن نحتفظ بها لتدل على المعاني الكلية المجردة وحدها.
فبناءً على مذهبه الرسمي، ينبغي أن يقتصر «المفهوم» على مجموعة الصفات الوجودية التي تؤلف معنى الحد العام «ناس»؛ إلا أنه في هذه الحالة تكون الكلمة العينية «ناس» ذات تسمية مزدوجة لا أكثر، وهي أن تكون تسمية منصرفة إلى صفات معينة تستخدم علامات مميزة، ومنصرفة في الوقت نفسه إلى الأشياء التي تتصف بهذه الصفات؛ ولهذا كان مما له مغزًى أن نرى «مل» يوضح المفهوم — في حقيقة الأمر — بالكلمات المجردة: الجسدية، والعقلية، وما إليها، وهي ليست خصائص تحملها الأشياء التي نريد الإشارة إليها، بل هي خصائص لها قوة الدلالة على الصفات (وأعني بها أن يكون للإنسان جسد وأن تكون له قوة استخدام عقله) التي يجب أن تكون سمات تتسم بها الأشياء، إذا أُريدَ للاسم «ناس» أن ينطبق على أشيائه انطباقًا سليمًا، وذلك لأن الأشياء الكائنة في الوجود الخارجي ليس لها، كلا ولا هي متصفة بالجسدية وبالعقلية، أكثر مما يكون لغروب الشمس احمرار أو أن يكون متصفًا به.
وهكذا نرى أن إنكار «مل» أن تكون أسماء الأعلام دالة على مفهوم، إنكار سليم، على أساس التفسير الذي فسرنا به المفهوم منذ قليل (وأعني به التفسير الذي يجعل المفهوم منتميًا إلى الحدود المجردة)، لكنه إنكار غير سليم على أساس نظريته هو نفسه؛ إذ ليست أسماء الأعلام مجردة بغير شك؛ فليس فيها ما يضع الأساس الذي يبرر، ولا ما يكسبها الحق في انطباقها على الأفراد لكن ما دام «مل» قد جعل المفهوم هو نفسه معنى اللفظ، فإن معنى إنكاره هو أن ليس لأسماء الأعلام معنًى على الإطلاق؛ وهو في الوقت نفسه ينسب معنًى للحدود الدالة على سمات مقترنة تميز الأنواع، مع أن معاني تلك الحدود — بناءً على ما يقوله هو — ليست سوى مجموعات من مفردات؛ ومع ذلك، فبغض النظر عن هذا التناقض، فإنكار المعنى على اسم العلَم، يسلبه قوته الدلالية بالنسبة إلى الفرد الذي يدل عليه، مع أن «مل» — رغم ذلك — يصر على أن له مثل هذه الدلالة؛ ولو كانت كلمات مثل «لندن» و«جبال روكي» (وهي يقينًا ليست أسماءً لخصائص مجردة) بغير معنًى، لما كانت رموزًا أو أسماء على الإطلاق، ولكانت مجرد أصوات لا تنطبق على شيء معين بأكثر مما تنطبق على أي شيء سواه؛ فكل الظواهر دالة على أن موقف «مل» يرتكز على خليط مهوش من شيئين مختلفين؛ فانطباق اسم العلم «لندن» على شيء مفرد بذاته، له أسبابه، وإن لم تكن له علله، بالمعنى الذي يجعل العلة تعني مبررًا منطقيًّا يبرر أن يكون له هذه الصفات بعينها التي له في الواقع، ولا يكون له سواها؛ لكننا نرى — من ناحية أخرى — أنه إذا لم يكن هنالك مبرر منطقي (إذ ليس ثمة إلا أسباب تاريخية فحسب) لقيام الحد العام «حصان» من حيث هو كلمة تستعمل لتدل على نوع من أشياء، إلا أن هناك مبررًا منطقيًّا، أي إن هنالك علة عقلية، لاختيار المجموعة الخاصة من السمات التي نستخدمها لنصف بها الحياد من حيث هي نوع متميز من سواه؛ فلو نظرنا إلى الأمر من ناحية المبرر العقلي أو الأساسي، وجدنا الحد أو الاسم «حصان» له من المعنى ما ليس لكلمة «لندن»؛ ومع ذلك فلكلمة «لندن» — أو أي اسم علم آخر — مسمًّى تشير إليه، وإذن فهي كلمة ذات معنًى، أي إنها دالة على السمات المميزة التي تميز الفرد — المسمى بها — عما عداه وتوضح ذاتيته.
ولقد عاد مؤلفو المنطق إلى الغلطة الجوهرية التي وقع فيها «مل»، ولو أنهم أحيوها في صورة أخرى، مع أنهم يقفون موقف الناقدين من آراء «مل» بصفة عامة، وذلك بإنكارهم أن يكون لكلمة «هذا» جانب وصفي؛ ولن أعيد ما قد سبق لي أن ذكرته من أوجه النقد للرأي الذي يأخذ بوجود فارق منطقي حاد بين ما هو إشاري وما هو وصفي؛ ولكن يحسن بي أن أشير إلى حجتين تقامان تأييدًا لهذا الفصل بين الإشارة والوصف؛ وإحدى الحجتين هي الخلط (الذي أشرت إليه فيما سبق) بين الأداة الوصفية غير المحددة، والأداة الوصفية المحددة كما هي الحال عندما يتنازع متنازعان إن كان ما يريانه — إذ هما على ظهر سفينة في عرض البحر — جبلًا أو سحابة؛ أما أن حالات كهذه تحدث فأمر لا شك فيه، ولكن حدوثها ليس برهانًا على أن المتنازعَيْن حين يشيران بقولهما «إنه كذا» تكون كلمة «إنه» خِلوًا من المعنى خلوًّا تامًّا؛ وكل ما يدل عليه حدوث نزاع كهذا هو أن صفات الشيء المشار إليه — إلى الحد الذي شوهدت به — لا تكفي لإقامة قضية مدعمة تبرر نسبة الشيء إلى النوع الذي ينتمي إليه؛ فليست هذه الحالة بمختلفة — إلا في الدرجة وحدها — عن حالة نثبت فيها إثباتًا جائز القبول بأن ما نراه جبل، ثم يظل السؤال قائمًا أي نوع من الجبل هو؛ فواضح بغير شك أنه ما لم تكن هنالك بضع صفات تمهد السبيل — في المثل المذكور — لأن يتبين المتحدث ماذا يُراد باسم الإشارة «هذا»، لما كان لدينا ما يؤكد أن الشخصين المتنازعين أي شيء عسى «هذا» أن يكون، يشيران إلى «هذا» بعينه لا يختلف عند أحد الشخصين عنه عند الآخر؛ لأنه إذا لم يكن الشخصان يشيران إلى شيء واحد بذاته، كان من الجلي أن القضيتين اللتين يقولانهما ربما تكونان صحيحتين معًا؛ فكل بحث نتناول به الوجود الفعلي من حيث صفاته القائمة، لنتخذ من ذلك البحث أساسًا لاستدلالنا شيئًا من شيء، يتضمن — خلال مراحل سيره — مثل هذا التكييف الوصفي غير المحدد، الذي نراه في حالة إشارتنا إلى شيء ما بقولنا «هذا»؛ وكل الفرق بين الحالتين هو أن «هذا» له — نسبيًّا — حد أدنى من التحدد الوصفي.
وعلة أخرى يقدمونها تأييدًا للفكرة القائلة بأن الحدود الإشارية الخالصة لا تزيد على كونها إشارية، أي إنها بغير «معنًى»؛ وهي علة يبدءُونها من ناحية الحدود الوصفية؛ وذلك لأن ثمة حدودًا وصفية يعوزها الجانب الإشاري، مثل «جبل من زجاج» و«ملك فرنسا في الوقت الراهن» … إلخ؛ ومرة أخرى نقول إنه لا شك في صواب هذه الحقيقة التي يتقدمون بها، لكننا مرة أخرى كذلك نقول إنها لا تقيم البرهان على ما يُراد إقامة البرهان عليه؛ فلن يكون في الأمر تناقض إذا شاءت المصادفة لهذه الأشياء المشار إليها في مثل العبارتين المذكورتين أن يتبين وجودها بالفعل؛ فلربما صنع جبل من زجاج، ولقد كان ثمة ملوك لفرنسا؛ وكل ما تدل عليه العبارات الوصفية التي ليس لها مسميات في الخارج تشير إليها، هو أن المشاهدة لحظة زمنية معينة لا تكشف لنا عن أي شيء تصدق عليه أوصافها؛ وما هو أهم من الحالات المذكورة، هو أن أمثال هذه العبارات الوصفية كامنة في عدد كبير من البحوث الهامة؛ خذ مثلًا — وهو مثل تافه نسبيًّا — هذا السؤال عما إذا كان أو لم يكن في الوجود الفعلي ثعبان بحري؛ فواضح أن السير في البحث هنا مستحيل بغير وصف ما نصف به ما يُراد بهذا اللفظ؛ أو خذ سؤالًا نسأل به إن كان الأثير أو إن كانت الذرات موجودة وجودًا فعليًّا؛ فما لم يكن لهذه الحدود مضمون وصفي، لما كان لدينا إطلاقًا ما يوجه المشاهدة إبَّان محاولتنا التي نقرر بها إن كان ثمة موجودات فعلية تصدق عليها تلك الأوصاف أو لم يكن؛ ومثل آخر نسوقه هو مثل المخترعات والخطط والنوايا قبل تنفيذها، أو قل في أية لحظة قبل أن تبلغ تلك الأشياء مرحلة ختامها الكامل؛ فهي في هذه المرحلة لا تشير إلى شيء قائم بالفعل قيامًا محدد المعالم، ومع ذلك فهي ضرورية لإجراء العمليات التي ستجعل الوجود الفعلي لما يمكن أن تشير إليه تلك الأشياء أمرًا ممكنًا، ونختتم — إذن — بقولنا إنه لا هذه الحجة ولا تلك (من الحجتين اللتين تقامان لوجوب التفرقة بين ما هو إشاري صرف وما هو وصفي) يصح أن تكون مسوغًا لتعديل وجهة نظرنا، وهي أن ثمة علاقة متبادلة — بالمعنى الدقيق — بين الحدود الوصفية الجامعة لنوع ما (وهي حدود لا ينازع أحد في أنها ذات معنًى) وبين الحدود الدالة على فرد، سواء كانت هذه الأخيرة أسماء أعلام أو أسماء إشارة، مثل «هذا» و«إنه».
(٥) نطاق المسميات والتصور العقلي، والمجال الذهني٣⋆
- (١)
بما لكلمة «شيء» من ازدواج، إذ إنها تستعمل لتدل على الأشياء الوجودية وعلى الكيانات التي تعد تصورية ورياضية بالمعنى الدقيق لهاتين الكلمتين.
- (٢) وبالعجز عن التمييز بين دلالة اللفظ وإشارته إلى كائنات الوجود الخارجي؛ ولقد يتحد هذان النوعان من الخلط في جملة كهذه: «القطاعات المخروطية تدل في المفهوم العقلي على معانٍ معينة، أو على خصائص معينة، وتدل في الماصدق على الأشياء كافة التي تتمثل فيها هذه المعاني أو الخصائص؛ والأشياء التي تدل عليها عبارة (قطاعات مخروطية)، تكون الأعضاء التي تأتلف منها فئة القطاعات المخروطية»؛ ففي عبارة كهذه، ترد كلمة «شيء» بمعنى الكيانات اللاوجودية، فنتجاهل بذلك أن الكائنات الخارجية وحدها هي التي يصح أن يُشار إليها باللفظ من ناحية ماصدقاته؛ وهو تجاهل يستره استعمالنا لكلمة «يُسمَّى» بمعنى الإشارة إلى المسميات، مرادفة لكلمة «دال» مع أن كل لفظة مفهومة تدل على شيء ما، وإلا لكانت مجرد ائتلاف صوتي، أو مجرد ائتلاف لعلاقات مرقومة، ولما كانت كلمة على الإطلاق: ﻓ «إجزيبارت» — مثلًا — لا تدل على شيء قط في اللغة العربية، وإذن فهي ليست كلمة؛ ولا فرق بين الحدود المُسَمية أي الحدود الوجودية. وبين الكلمات الدالة على خصائص أي الكلمات التصورية، في كونهما معًا يدلان على شيء ما. فكلاهما ذو معنًى، وذلك لأن معاني الكلمات المستعملة في الحالتين يمكن فهمها؛ والأمر المنطقي الهام هنا هو الفرق بين الحالتين فيما تدل عليه الكلمات في هذه الحالة أو في تلك.٤
ويعترف المناطقة المحدثون بالفرق في الصورة المنطقية بين المفرد حين ننسبه إلى النوع الذي ينتمي إليه عضوًا من أعضائه، وبين الأنواع حين نجعل منها أعضاءً متعلقًا بعضها ببعض داخل نوع أكثر منها شمولًا؛ فهم إذن يعترفون بما ينشأ من صعاب حين يُقال عن نطاق الحد من الحدود إنه يمتد ليشمل الحالتين معًا؛ غير أنهم — مع ذلك — لم يريدوا الاعتراف بأن هذه «الصعاب» المذكورة، قد تبلغ حدًّا يجعلها هادمة لسلامة البناء المنطقي؛ ومن ثَم تراهم ما يزالون ماضين في حديثهم عن مدى الأشياء المفردة التي يشير إليها اللفظ باعتبارها مسمياته، لكي يجعلوا من مداها ذاك نطاقًا خارجيًّا لمعنى الكلمة وعلى ذلك يُقال عن نطاق المعنى لكلمة «سفينة» إنه الأشياء كافة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، التي تصدق عليها كلمة «سفينة»؛ ومثل هذه النتيجة التي ينتهون إليها تلزم عما كان قائمًا، ثم هي امتداد لهذا الذي كان قائمًا، من جعل إشارة اللفظ إلى مسمياته الخارجية هي نفسها نطاق معناه؛ وهي نتيجة — من الناحية المنطقية — تخلع نفس القوة أو نفس الصورة على الفرد الواحد وعلى النوع، ما دامت أنواع السفن المختلفة (القوارب، والسفن الشراعية والسفن البخارية، والمراكب الحربية) يظن بها هي الأخرى أنها ترسم للحد نطاق معناه، على الرغم من أنهم يعترفون اعترافًا صريحًا — في سياق آخر — بالفرق بين القضايا التي من قبيل «هتلر نازي» والقضايا التي من قبيل «الإيطاليون (أو الألمان) فاشيون».
- (١)
نطاق المعنى الخارجي خاصة تلحق ببعض الحدود المشيرة إلى موجودات فعلية (وأعني بها الحدود التي تشير إلى أنواع، لا الحدود التي تشير إلى مفردات)؛ وبأن:
- (٢)
«الإشارة إلى المسميات» و«النطاق الخارجي للمعنى» ليستا عبارتين تسميان صورة منطقية أو عملية منطقية بذاتها في كلتا الحالتين؛ وبأن:
- (٣)
الحدود التي ليس لها تصورات ذهنية لا هي تسمى مسميات في الخارج (حتى وإن تكن ذات معنًى) ولا هي ذات نطاق خارجي لمعناها؛ فنطاق معنى «سفينة» إن هو — على وجه الدقة — إلا أنواع السفن القائمة الآن، أو التي كانت قائمة فيما مضى، أو التي ستقوم فيما بعد؛ وليس هو بالسفن المفردات، على الرغم من أن كلمة «سفينة» تسمي هذه المفردات؛ هذا إلى أن تعريف «سفينة»، أو كون الشيء ذا خصائص تجعله سفينة، من جهة أخرى، ليس لمعناه نطاق خارجي؛ لأن التعريف يسمح بطرائق مختلفة لكون الشيء متصفًا بذلك الاقتران الذي يوحد الخصائص المتعلقة بعضها ببعض، والتي بها نعرف «السفينة»؛ مع أن هذه الطرائق المختلفة ليست هي الصفات المميزة التي تتصف بها أنواع المراكب المختلفة (كما هي قائمة بالفعل)؛ ولعلنا لم نحسن اختيار المثل حين اخترنا كلمة سفينة، لأنه ليس بين كلمات اللغة المستعملة الحد المجرد «السفنِيَّة» وإذن فلنأخذ حدًّا من الرياضة من حيث هو حد رياضي ليس إلا، فنقول إن القطاعات المخروطية دوائر وأشكال بيضية وقطاعات مكافئة وقطاعات زائدة؛ فلو نظرنا إلى هذه العبارة من جانبها اللغوي، ألفينا الجملة من الناحية النحوية لها نفس الصورة التي تكون لجملة تُقال عن أنواع السفن، أو عن الزهور، أو عن المعادن، أو عن أي نوع آخر من الموجودات؛ أما من حيث هي حدود رياضية، فليس للكلمات قوة وجودية؛ ومن ثَم فالدائرة والشكل البيضي ليسا نوعين من أنواع القطاعات المخروطية، بل هما طريقتان لقيام المعنى الكلي المجرد الذي نحن بصدده؛ فكلمتا «قطاع مخروطي» هما اقتران ضربي (أي يدمج الصفتين معًا) لفكرتي المخروطية والقطاعية؛ و«الدائرة» هي الدائرية … إلخ؛ وهكذا لا تكون الدائرة والشكل البيضي … إلخ مؤلفة لنطاق خارجي تصدق عليه هذه الحدود المذكورة؛ إذ إن هذه الحدود مقولة (أي إنها كلي مجرد) «للقطاعية المخروطية» حين تصبح متعينة الحدود.
ولسنا بحاجة إلى أن نطيل الحديث عن التصور العقلي لصفات الأشياء؛ فكلمة «تصور عقلي» تستعمل اليوم بثلاثة أوجه على الأقل؛ فهي تستعمل لتدل على «المعنى» حين يكون المراد:
-
(١)
دلالة الألفاظ كائنة ما كانت صورها المنطقية.
-
(٢)
مرادفًا لمجموعة السمات المميزة التي تأتلف منها القوة الوصفية للحد الإشاري.
-
(٣)
مرادفًا للفحوى المنطقي الذي يكون لحد عقلي مجرد، أعني لحد دالٍّ على خصائص ذهنية؛ وإنه لأمر جزاف أن نصرف كلمة تصور عقلي إلى أي من هذه الأوجه الثلاثة في سياق معين؛ لكننا نتخلص من هذا التخبط في استعمال الكلمة، إذا نحن حرصنا على استعمالها بمعنًى واحد فقط، في المؤلف الواحد، لنظفر بما نريده من اتساق منطقي؛ فهنالك لفظتان بينهما تماثل نستخدمهما عندما نتحدث عن الكليات، وهما لفظتا «مفهوم Connotation» (والمقصود بها هو نسبة الخصائص الفكرية إلى ما يتصف بها) و(مجال ذهني Comprehension)؛ وإن مثل هذا التماثل اللغوي ليوحي لنا بأن نستعمل لفظتي «تصور عقلي intension» و«نطاق مسميات extension» لتسيرا جنبًا إلى جنب فيما يختص بالحدود الدالة على مسميات خارجية؛٦ لأننا إذا لم نخصص لهذه الحدود كلمة تدل على تصورنا الذهني لمدلولاتها الخارجية؛ لما كانت لدينا وسيلة نفرق بها بين (المعنى في حالة الحدود المجردة) والمعنى في حالة الحدود التي تشير إلى موجودات خارجية؛ وقوام المعنى في هذه الحالة الثانية هو مجموعة سمات مقترنة نستخدمها لنصف بها نوعًا؛ وعلى أية حال، فلا بد لنا من حيلة لغوية تجنبنا ازدواج الدلالة في كلمة «معنى» لو تركناها مهملة بغير تحديد، وتعيننا على التفرقة بين الصورتين المنطقيتين المتميزة إحداهما من الأخرى، وهما التعريف من ناحية والوصف من ناحية أخرى؛ فابتغاء هذا الوضوح وهذا الاكتمال في تحديد المراد، رأينا أن نجعل كلمتي «نطاق المسميات» extension و«التصور العقلي» intension خاصتين بالحدود الدالة على مسميات خارجية؛ وأن نجعل كلمتي «مجال ذهني» Comprehension و«تعريف» definition خاصتين بالحدود الدالة على التجريدات الذهنية.
(٦) الحدود الجمعية
قد أشرنا فيما سبق إلى تعدد المعنى لكلمة «مجموعة»، وذلك عندما كنا نناقش الجانب الكمي من القضايا؛ فكلمة «مجموعة» تستخدم — في غير تمييز — للدلالة على تجمع الوحدات تجمعًا غير محدود العدد، ويمثله كومة أو كدس من وحدات؛ وللدلالة على طائفة من وحدات يحددها وصف مميز لها، كفرقة عسكرية؛ وللدلالة على كلٍّ كيفي تكون مميزات الوحدات الداخلة في تكوينه متأثرة في كيفها بالكل الذي هي أجزاؤه، كما هي الحال حين نقول: «إن فرقة نيويورك العسكرية حاربت في بسالة، في معركة شاتو ثييري»، فهذه الجملة لا تقتضي أن يكون كل فرد من أفراد الجنود باسلًا؛ وإن الأحاجي الملغزة القديمة عن القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، والشعرة الجزئية المعينة التي إن فقدها صاحبها أصبح أصلع الرأس، لأمثلة أخرى توضح المعنى الكيفي المذكور.
إن موضوع الحدود الجمعية لذو أهمية خاصة بالنسبة إلى موقعي في هذا الكتاب على وجه الإجمال، وذلك لسببين؛ أولهما خاص بصعاب معينة نشأت في منطقة الرياضة، مثال ذلك ما يُقال من أن الأعداد تكون مجموعة لانهائية، حين يقصدون بذلك تجمعًا للوحدات؛ ففكرة كهذه تميل إلى مشابهة الأعداد بالأشياء الوجودية التي تنصب عليها كلمة «مجموعة» عادة، والتي تكون وحداتها قابلة للعد؛ ومن ثَم تنشأ المشكلات المحيرة التي ما كانت لتنشأ، لو تبين لنا أن العدد (كون الشيء عددًا، إذ إن هذا معنًى يختلف عن قولنا هذا العدد أو ذلك) صيغة إجرائية نستخدمها لنحدد بها ما هنالك من تجمعات ومجموعات، لكنه ليس هو نفسه مجموعة نهائية أو لانهائية؛ وحتى لو كان من الضروري أن نعرف العدد على نحو يتيح لنا أو يحتم علينا أن نأخذ المجموعة اللانهائية مأخذ ضرب أو طريقة يكون بها الشيء عددًا، فليس يلزم عن هذا أبدًا أن يكون العدد كما هو معروف، هو نفسه أحد أنواع المجموعات أو التجمعات.
والسبب الثاني متصل ببعض المفارقات المزعومة؛ فهنالك مثل «السلسلة التي لا تمثل إلا نفسها»؛ كخريطة إنجلترا — مثلًا — إذ نقول عنها إنها عبارة عن مجموعة فيها تسلسل انعكاسي؛ وذلك أنك إذا رسمت خريطة لإنجلترا، قيل لك إنه لكي تكون الخريطة كاملة، فلا بد هي نفسها أن تشتمل على الخريطة المرسومة؛ وهو شريط يتطلب رسم خريطة أخرى، وهكذا دواليك تمضي في مجموعة من خرائط لا تنتهي عند حد أخير؛ مع أن رسم الخريطة عملية إجرائية تحدث في الوجود الفعلي؛ ومن حيث هي كذلك، فهي تحدث في تاريخ زمني معلوم؛ وليس هنالك في عملية الرسم نفسها، أو ما يترتب عليها، ما يتطلب رسم خريطة أخرى؛ فلو استلزم الأمر لأسباب عملية، غير منطقية، أن ترسم خريطة أخرى لإنجلترا، تمثل فيما تمثله الخريطة القديمة، كان هذا الفعل الآخر حدثًا زمنيًّا آخر؛ ولا تنشأ المفارقة المزعومة إلا إذا قفزنا من المجال الوجودي إلى المجال التصوري؛ فإذا كانت عبارة «رسم خريطة» ترمز إلى شيء تصوري صرف، أو ترمز إلى ضرب من ضروب الإجراء، كانت عندئذٍ بمثابة التعريف أو الصيغة التي يجيء الإجراء العملي بعدئذٍ على غرارها؛ وفي هذه الحالة يكون عدد الخرائط المراد رسمها، وتكون الأشياء التي تجيء وتلك الخرائط لتصورها، أمورًا غير متعينة بالنسبة إلى تصورنا الذهني؛ وهكذا نرى أن خريطة من الخرائط، أو مجموعة منها، تعتمد على ظروف وإجراءات وجودية في طبيعتها، ومن ثَم فهي غير «متضمنة» في فكرتنا التي نتصورها عنها.
وإن ما يسمونه مجموعة انعكاسية، والتي يُقال عنها إنها تمثل نفسها بنفسها، ومن ثَم فهي مجموعة لا تنتهي وحداتها إلى حد أخير؛ لهي حالة يصدق عليها تحليل شبيه بالتحليل الذي ذكرناه؛ فخذ — مثلًا — علاقات انعكاسية في ظاهرها، مثل قولنا: «حب الحب» و«كراهية الكراهية»؛ فالحب والكراهية وهما اللفظان اللذان يكون كل منهما الجزء الأول من كل من العبارتين، اسمان عينيان، لأنهما يشيران إلى ما هو كائن في الوجود الفعلي، إذ هما يدلان على فعلين تأدَّيَا في زمان ومكان معلومين، سواء تم أداؤهما مرة واحدة أو تكرر ذلك الأداء عدة مرات، وأما الحب الكراهية اللذان يكون كل منهما الجزء الثاني من العبارتين المزدوجتي الحدود، فمن صورة مختلفة عن الصورة في الحالة الأولى؛ وهما لا يشبهان الحدَّيْن الأولَيْن إلا شبهًا لفظيًّا فحسب؛ لأنهما في الحالة الثانية يدلان على معانٍ مجردة، وهذه — بالطبع — تصورات ذهنية وليست هي بالكائنات الوجودية، فغيِّر من العبارتين بحيث تصبحان: «حب الخير» و«كراهية الشر» يختفِ كل أثر للعلاقة الانعكاسية، وللمجموعة التي تمثل نفسها بنفسها؛ «فكراهية شيء ما» فعل عيني، وأما «الكراهية» من حيث هي هدف الفعل، فمجردة.
وتتميز «المجموعة» من حيث صورتها، من «النوع» ومن «الفئة» إذا أخذنا هذه الكلمة الأخيرة بمعنى المقولة؛ فالمعجم — من وجهة نظر معينة — مجموعة كلمات؛ والكلمات يمكن حصر عددها حصرًا تامًّا في مكان وزمان معينين، على الرغم من أن المعجم قد يعرض كلمات أكثر أو كلمات أقل عددًا من الكلمات التي تؤلف المجموعة في طبعات لاحقة أو في طبعات سابقة؛ فهي كمجموعة الطوابع معرضة للتغير العددي في لحظات الزمن المختلفة، وأما إذا أخذت في لحظة معينة فعدد وحداتها عندئذٍ يكون على وجه الدقة هو ما هو عليه حينئذٍ؛ لكن الحدود الجامعة التي تصدق على أنواع الأشياء، فهي تصدق على أشياء النوع كافة في عددها الذي لا يحده حصر، وأعني بها الأشياء التي تتميز بسمات خاصة تجعل منها نوعًا قائمًا بذاته؛ لكن الحد الذي نسمي به نوعًا من الأنواع، وإن يكن دالًّا على عدد من الأفراد لا حصر لمقداره، وليس هو بالدالِّ على عدد محصور من المفردات التي يشير إليها، إلا أنه في الوقت نفسه محدد المعنى تحددًا كاملًا لا يعتوره نقص، وذلك من حيث هو حد دالٌّ على مجموعة السمات المميزة التي يدل عليها؛ وأما المقولة فقوامها العلاقة المتبادلة بين معنيين كليين مجردين، كل منهما قد يكون في ذاته مركبًا من عدة عناصر؛ ومن هنا فليس العدد — وأقولها مرة أخرى — مجموعة، بل هو صيغة نستعين بها على تحديد المجموعات تحديدًا إجرائيًّا، على حين أن عددًا معينًا من الأعداد، مثل «٢» أو «١٧٠٠» يعد مجموعة تتحقق فيها الشروط المفروضة بحكم تعريف العدد؛ ومع ذلك فالمجموعة هنا ليست مجموعة أشياء ولا مجموعة مفردات موجودة بل هي مجموعة إجراءات، وأعني بها الإجراءات التي تحدد الوحدات، بناءً على تعريفنا للعدد وهو بمعناه المجرد؛ وعلى هذا يكون العدد «٢» معناه أن الإجراء الذي يتكون منه العدد «١» يؤدى مرتين.
(٧) الحدود الجزئية
كلمة «جزئي» متعددة الوجوه، فهي أحيانًا مرادفة لكلمة «معين» حين نستعمل هذه الكلمة بمعنى «مخصص تخصيصًا قاطعًا»، كما في قولنا «الرجل الجزئي الذي تتحدث عنه»؛ ففي هذا الاستعمال تكون كلمة «جزئي» مرادفة لكلمة «مفرد»، ولا يبقى لدينا ما نقوله عن معناها المنطقي غير ذلك؛ لكن القوة المنطقية لكلمة «جزئي» حين نميزها من «مفرد» تظهر حين تنصب الكلمة على مواد وجودية لم ترتب بعد بالنسبة إلى كيانها من حيث هي بينات نستشهد بها؛ فقد يكون لدينا في مرحلة باكرة من مراحل البحث؛ محصول متراكم من مواد شاهدناها، لكن علاقتها وقيمتها بالنسبة إلى المشكلة القائمة في أيدينا، لا تزالان غير محددتين؛ فعندئذٍ تكون تلك المشاهدات أشتاتًا، وتكون ناقصة، ومن هنا تكون جزئية؛ فالكلمة وهي في صورة الجمع، وأعني كلمة «جزئيات»، تدل — بصفة عامة — على معطيات ممكنة، بينما الكلمة «جزئي» وهي في صورة المفرد، تدل على مادة كائنة في الوجود الخارجي، على صورة مخصصة محددة.
ولنا أن نذكر عن «مل» — فيما يختص بموقفه الذي يعارض هذه النظرة الأخيرة — بالإضافة إلى ما كنا قد ذكرناه عنه من نصوص، عبارته التي يقول فيها إن أسماء الأعلام هي — كالعلامة التي رسمها اللص في حكايته الواردة في «ألف ليلة وليلة» — «مجرد علامات نستخدمها لتمكننا من أن يصبح الأفراد موضوعات لتفكيرنا النظري»؛ وصحيح أن الكلمة من الكلمات إذا فهمت على أنها لا تزيد على كونها أصواتًا أو علامات مرئية نستخدمها، لصح عندئذٍ عن أية كلمة كائنة ما كانت، أنها إما أن تكون «مجرد علامة نستخدمها» لتمكننا من أن يصبح شيء ما — سواء أكان مفردًا أم نوعًا — موضوعًا نطرحه للبحث، أو أن يصبح دالًّا على شيء يمكن أن يُقال عن الأشياء المطروحة للبحث أثناء بحثها، وهذه الحالة الأخيرة هي ما يحدث في حالة الكلمات التي تدل على أفكار ذهنية؛ لكننا لو أخذنا أية كلمة على أنها كلمة أو رمز، وجدنا لكل كلمة معنًى، سواء كان ذلك من جانب تصورنا الذهني لصفات مسمياتها، أو من جانب مفهومها (إن كان من الكلمات المجردة)؛ فكون الحد الوجودي الذي ندل به على أحد المفردات، يمكن مسماه من أن يصبح موضوعًا لتفكيرنا ولبحثنا، أمر لا يتحقق إلا إذا كان ذلك الحد قد سبق له أن تميز معناه من سائر الحدود، وإلا لظل من عدم تعين المعنى بحيث يستحيل استخدامه لتدل به على شيء أو لنميز به شيئًا مما يحيط به من سائر الأشياء؛ ولو كانت هذه هي الحال لما استطعنا أن نجعل مسماه موضوعًا لهذه العملية الفكرية أو تلك، أو موضوعًا لهذا البحث أو ذلك، إذ ماذا كان ليفرقه عندئذٍ عن آلاف المعاني الأخرى أو ملايينها، التي تصلح جميعًا أن تكون محمولات للموضوع الذي نتحدث عنه؛ وحين يسلم «مل» بأن «العلامة» لها «فحوى» خاص بها دون سائر العلامات، فهو بهذا يسلم — في حقيقة الأمر — بنفس الذي كان قد أنكره بالنسبة إلى الكلمات.
هذه النتائج النظرية الواسعة المدى، التي ذكرناها، تجعل من النقطة المعينة التي نحن الآن بصدد بحثها، أمرًا ذا خطر بالنسبة إلى النظرية المنطقية؛ فهي نقطة تتصل — أولًا — بوجهة النظر القائلة بأن مضمون الموضوع الذي نجعله موضوعًا منطقيًّا للحكم، هو تحديد يعين ويميز عناصر بعينها داخل موقف كيفي يشملها مع سواها، إذ إننا عندئذٍ نختار تلك العناصر المعينة لنقيم بها حدود مشكلة معينة ولتزودنا بالظروف التي نختبر بها ما عساه أن يعرض لنا من حل ممكن لتلك المشكلة؛ ثم هي نقطة تتصل — ثانيًا — بالمذهب القائل إن المفردات الجزئية والأنواع تتحدد بصلة متبادلة بينهما، ما دمت لا تستطيع أبدًا أن تقع على مفرد جزئي لا يكون من نوع معين (أي يكون له من السمات المميزة ما يحدد نوعًا ما تحديدًا وصفيًّا)، كما أنك لا تستطيع أن تقع على نوع لا يكون آخر الأمر نوعًا يطوي تحته أفرادًا جزئية من الموجودات الخارجية؛ وثالثًا هي نقطة تتسق مع إنكارنا لإمكان قيام جزئيات ذرية، وقضايا ذرية؛ (أي جزئيات وقضايا تقوم كل منها بذاتها مستقلة عما عداها)؛ وذلك لأن الأساس النهائي الذي يستند إليه الاعتقاد في الحدود الذرية والقضايا الذرية، هو الفكرة القائلة بأن أسماء الإشارة تخلو من كل نعت وصفي يميزها؛ والنقطة المذكورة — فضلًا عما ذكرناه عنها — تكشف عن بحبوحة ذلك المذهب عن الأسماء، الذي يذهب إلى أن كل كائن مفرد — في لغة مثالية — يجب أن يكون له اسمه الفذ الخاص به وحده، بحيث يكون الكائن واسمه متعلقين بعلاقة واحد بواحد؛ ثم هي نقطة تضع أصابعنا على موضع المغالطة في المذهب القائل بأنه على الرغم من أن فكرة الأنواع وفكرة القضايا الجامعة (التي تُقال عن الأنواع) لها مكانها في النظرية المنطقية، إلا أن النظرية التي تُقال عن هذه الفكرة المذكورة ينبغي أن تكون من الصورية بحيث لا تفسح مجالًا في المنطق للكائنات العينية الوجودية؛ فالصورية المنطقية السائدة اليوم في المنطق، تريد لنفسها أن ترتبط كل الارتباط بالقضايا اللاوجودية التي هي من قبيل ما نجده في الرياضة، ولكنك تراها في الوقت نفسه تعترف بالقضايا ذوات المضمون الوجودي؛ وهي إزاء هذا التناقض، تخلط — لتستر التناقض المذكور — بين نوعي القضية العامة، وهما القضية الجامعة (التي تعمم القول عن أنواع الموجودات)، والقضية الكلية.