المنطق والعلم الطبيعي
على أن المكانة التي تحتلها الصورة في موضوع الدراسة المنطقية. بحكم طبيعتها المتأصلة فيها، لا يقتصر أمرها على كونها حقيقة معروفة شائعة، بل إنها لتقرر الخاصة التي تميز موضوع الدراسة المنطقية من موضوع الدراسة في سائر العلوم الأخرى؛ فهي التي تضع لنا المصادرة الأساسية التي نبني عليها النظرية المنطقية؛ غير أن اعترافنا بهذه الحقيقة لا يجيب لنا عن السؤال الذي نسأل به عن علاقة الصورة بالمادة ماذا تكون؛ فإذا كان بينهما علاقة ما، فماذا هي، أم أنه ليس بينهما علاقة كائنة ما كانت؛ وإن هذه المشكلة لتتناول الأساس بحيث يتوقف على طريقة تناولها المحور الرئيسي الذي يدور حوله ما بين النظريات المنطقية من اختلاف؛ فالصوريون هم أولئك الذين يذهبون إلى أنه لا علاقة إطلاقًا بين الصورة والمادة؛ ثم يعود الصوريون فيختلفون فيما بينهم؛ فطائفة منهم ترى أن الصور هي قوام عالم الإمكانات الميتافيزيقية؛ بينما ترى طائفة أخرى أن الصور إن هي إلا علاقة بنائية تربط الكلمات في جملها؛ وأما النظرية المنطقية التي هي من طراز مضاد لما ذكرنا، فتذهب إلى أن الصور هي «صور لمادة»؛ وينشعب هذا الطراز أنواعًا، بينها النوع الذي نعرضه في هذا الكتاب، وسمته المميزة هي أن الصور المنطقية تطرأ على مادة الموضوع بفضل تعرض مادة الموضوع هذه خلال البحث لشروط تقررها الغاية المنشودة من البحث، ألا وهي الحصول على نتيجة، فيها ما يسوغ قبولها.
تمهيد
إنه لا حاجة بنا أن نعيد أو أن نلخص هنا ما قد عرضناه من حجج تأييدًا لهذه الوجهة من النظر؛ إلا أنه يجمل بنا أن نكرر في شيء من الإطناب، نقطة ذكرناها فيما سبق، وهي أن الفكرة التي نحن الآن بصددها (الفكرة القائلة بأن الصور تطرأ على المادة التي لم تكن حاصلة عليها وهي في صورتها الأصلية) هي بمثابة فرض نفرضه إبَّان السير في البحث، وليست هي بالتصور العقلي الذي نختلقه اختلاقًا ليسد حاجة اقتضتها اعتسافًا نظرية منطقية خاصة؛ فهنالك أمثلة كثيرة تتخذ فيها المادة الأولية الأصلية صورة محددة المعالم نتيجة للإجراءات التي نرتب بها تلك المادة ترتيبًا من شأنه أن يجعلها تخدم هدفًا معلومًا لا بل إن هذا نفسه ليحدث كلما تناولنا المواد الخامة الأصلية بإعادة الترتيب لكي تستجيب لما يقتضيه استخدامها وسيلة تؤدي إلى نتائج مقصودة؛ فتشكيل الصورة للمادة عندئذٍ لم ينتظر حتى ينشأ المنطق؛ بل إنه لأدنى إلى الصواب أن نأخذ بالفكرة المضادة فنقول إن المنطق نفسه كان لا بد له أن ينتظر حتى تفرغ الفنون المختلفة من إقامة إجراءاتها التي عملت على صياغة المواد الأولية في صور جديدة تجعلها صالحة لأن تؤدي عملها من حيث هي وسائل توصلنا إلى نتائج معينة.
وسنختار من بين الأمثلة الكثيرة التي يمكن ضربها، مثلين نموذجيين؛ وهما: الصور القضائية والصور الجمالية؛ فلأفكارنا عن العدالة طبيعة صورية معروفة بآثارها السيئة، إلى الحد الذي سوغ الشكوى مرارًا خلال تاريخ القانون من أن شكليات الإجراء قد أصبحت هي العامل المسيطر على حساب المضمون؛ إذ إن تلك الشكليات في حالات كهذه، لم تعد صورًا لمادة بعينها، بل كانت صورة بلغت من انعزالها عن مادتها درجة جعلتها شكلية خالصة، وهي حقيقة قد تحتوي على درس مفيد للمنطق؛ إذ إنه من الواضح أن الصور القضائية لا بد لها أن تكون على النحو الذي يمكنها من خدمة الغرض المادي، ألا وهو تزويدنا بالوسائل التي تعمل على فض المنازعات؛ ذلك فضلًا عما نتطلبه من هذا الغرض الموضوعي نفسه، وهو أن يمدنا مقدمًا — بقدر المستطاع — بوسائل تنظيم السلوك تنظيمًا يجعل قيام المنازعات أقل احتمالًا مما كان؛ فالقواعد التي تنظم العلاقات الإنسانية برسمها للسبل التي يتحتم على عمليات التبادل بين الناس أن تسلكها، إنما وجدت لكي نجتنب قيام المنازعات، ولكي نفضها إذا ما نشبت، ونعوض الخاسر عما قد خسر؛ فهذه القواعد التي يسنها القانون، تعرض علينا أمثلة منوعة كثيرة للطرق التي تتشكل بها ضروب الفعل «الطبيعية» بصور جديدة، نتيجة لخضوعها للشروط التي صِيغت في تلك القواعد؛ وبما أن ما يستجد من ضروب التفاعل والتعامل الاجتماعيين، تخلق بدوره ظروفًا جديدة، ثم تفرض هذه الظروف الاجتماعية الجديدة أنواعًا جديدة من التعامل، كان لا بد لصور جديدة أن تنشأ لتسد الحاجة الاجتماعية الحادثة؛ فمثلًا حين اقتضى طراز جديد من المشروعات الصناعية والتجارية رأس مال ضخمًا، دخلت الصورة المعروفة باسم المسئولية المحدودة، على الصور التي كانت تأتلف منها القواعد القانونية الخاصة بالشركات.
وتعرض الصورة القانونية المعروفة باسم العقد أمامنا مثلًا أبسط؛ فالاتفاقات التي تتم بين أشخاص يضمون أوجه نشاطهم بعضها إلى بعض ابتغاء هدف مشترك، فيتعهد شخص منهم بأن يؤدي شيئًا معينًا يسهم به في بلوغ ذلك الهدف، ويوافق الآخر على أن يؤدي شيئًا آخر، أمثلة لضروب الفعل وهي على صورتها «الطبيعية» أو الفطرية؛ ولا بد أن تكون أمثال هذه الاتفاقات المتبادلة قد نشأت في فترة باكرة من الحياة الاجتماعية؛ أما وقد كثرت الاتفاقات وألحت على الناس مشكلة تنفيذها، وأما وقد أخذت الأعمال تبعد رويدًا رويدًا عن كونها تبادلًا مباشرًا، واقتربت شيئًا فشيئًا من أن تصبح اتفاقًا على تبادل السلع والخدمات في وقت مقبل، فقد نشأت صور معينة للتفرقة بين أنواع الاتفاقات المتبادلة، فعد بعضها مجرد عهود، لا يستدعي نكثها عقوبات بعينها، بينما عد بعضها الآخر من نوع لو نكص أحد المتعاقدين فيه عن تنفيذ ما قد تعهد بتنفيذه، وقعت عليه تبعة نكوصه، على حين اكتسب الطرف الآخر حقًّا يستطيع أن يُلزم به شريكه.
- (١)
صورة لمادة.
- (٢)
هي صورة طرأت على مادة كانت فيما مضى بغير صياغة شكلية، وقد طرأت عليها هذه الصورة لكي يصبح من المستطاع بلوغ الأهداف التي تريد تلك المادة أن تحققها على نطاق واسع وبطريقة ثابتة؛ فلما ازدادت المعاملات التجارية تعقدًا، نشأت أنواع فرعية من العقود، لكل نوع من أنواع المعاملات سماته الصورية المميزة له مما عداه.
والناس لم ينتظروا نشأة النظرية المنطقية ليأخذوا في بحوثهم أخذًا ينتهي بهم إلى نتائج، أكثر مما انتظروا قيام قانون العقود ليتعهد بعضهم لبعض؛ لكن الخبرة بالبحث، كالخبرة بتسيير معاملات الناس في تجارتهم، قد بينت في جلاء أن الغرض الذي من أجله يسير الباحث في بحثه، يستحيل أن يتحقق على نطاق واسع أو بطريقة منظمة، إلا إذا خضعت مواده لشروط تفرض عليها خصائص صورية؛ فإذا ما جردنا هذه الشروط عن موادها، كان لنا بذلك موضوع دراسة المنطق؛ لكنها تظل رغم هذا التجريد صورًا لمادة بحث معينة، من حيث دلالتها والمهمة التي تؤديها.
(١) قصور المذهب الصوري
إن موضع الإشكال أمام الصورية المنطقية بمعناها الدقيق، بل أمام كل نظرية تفترض افتراضًا أوليًّا بوجود صور قائمة بمعزل عن المادة، أو تفترض وجود صور منطقية في مقابل الرأي الذي يدمج الصور في المادة، أقول إن موضع الإشكال ليبلغ غاية حرجه في مسألة العلاقة بين المنطق من ناحية والمنهج العلمي من ناحية أخرى؛ لأنه إذا عجز المنطق الصوري عن تناول الخصائص المميزة للمنهج العلمي، فإن وجهة نظرنا التي عرضناها في هذا الكتاب تتأيد تأييدًا قويًّا، وإن يكن تأييدًا غير مباشر؛ وإنه ليبدو بادئ ذي بدء كما لو كانت الصورية الخالصة لا بد أن تنتهي بمن يقبلون فكرتها إلى الامتناع امتناعًا تامًّا عن أية إشارة كائنة ما كانت إلى المنهج في العلوم الطبيعية، ما دام ذلك المنهج معنيًّا — بداهة — بمواد الواقع؛ لكن الأمر ليس كذلك؛ فالمنطق الصوري لا يرضيه أن يترك موضوع المنهج في العلوم القائمة على الوجود الخارجي، بحيث لا يمسه أبدًا؛ فاعتقاد أصحاب ذلك المنطق في أن ثمة رابطة تقوم على نحو ما بين المنطق والمنهج العلمي، ظاهر في استخدامهم لهذه العبارة التي تضيف أحدهما إلى الآخر، إذ يقولون: «المنطق والمنهج العلمي»؛ كما أن هنالك عبارة أخرى تحمل فكرة هذه الرابطة بينهما، وهي عبارة: «المنطق التطبيقي».
وكلتا العبارتين تصادران على الإشكال الذي يتطلب الحل، أو هما على الأقل تخفيان حقيقة قيام ذلك الإشكال؛ ففي حالة العبارة التي تبدو البراءة عليها لأول وهلة، أعني عبارة «المنطق التطبيقي»، تكون المشكلة الحقيقية هي ما إذا كانت هذه العبارة — أو لم تكن — تحمل أي معنًى على الإطلاق، ما دام المنطق يعرف على أساس الصور المستقلة عن المادة استقلالًا كاملًا؛ لأن موضع الإشكال هو — على وجه الدقة — إن كان في المستطاع لمثل هذه الصور أن تنطبق على المادة؛ فإذا لم يكن ذلك مستطاعًا، كان قولنا «منطق تطبيقي» بغير معنًى؛ لأن المسألة ليست هي ما إذا كانت الصور المنطقية تطبيق — حين نعني بالتطبيق أنها تستخدم — في البحث الذي نتناول به موضوعًا مادته في الوجود الخارجي، بل المسألة هي هل يمكن لتلك الصور أن تستخدم على هذا الوجه إذا كانت صورية خالصة؛ وقد يسوق أحد لنا — مثلًا — حقيقة كون البحث في الظواهر الطبيعية — حين يسير هذا البحث بطريقة علمية — يتضمن قضايا رياضية، برهان صدقها صوري خالص، أقول إن أحدًا ربما ساق لنا هذا ليستشهد به على قيام منطق «تطبيقي»؛ وإنا لا نقتصر هنا على مجرد التسليم بهذه الحقيقة، بل إننا لنعدها ضرورية، كما قد سبق لنا أن بينا خلال مناقشاتنا السابقة؛ لكن قبولنا لها — مع ذلك — لا ينهض برهانًا على شيء بالنسبة إلى امتناع العلاقة بين الصورة والمادة؛ وكل ما يصنعه هذا القبول لتلك الحقيقة، هو أنه يثير مسألة الشروط التي لا بد من تحققها ليتم تطبيق أو استخدام القضايا اللاوجودية في تحديد القضايا ذات المضمون والفحوى الماديين.
وإن النظرية الصورية لتنهار ها هنا، إذ تنهار — على وجه الدقة — عند هذه المسألة الأساسية، مسألة شروط تطبيق الصور على المادة؛ ولربما بدا أمرًا واضحًا بطبيعة الحالة نفسها، أن الصورة إذا ما كانت على حياد تام بالنسبة إلى المادة، لا تكون قابلة للتطبيق على مادة موضوع معين أكثر من سواه؛ ودع عنك أن يُقال عنها إنها تستطيع أن تدل بذاتها على أي المواد دون غيرها سيكون انطباقها؛ ولو كانت المادة المذكورة كاملة التعين باعتبارها مادة ذات صورة بعينها منذ اللحظة التي تتهيأ فيها للبحث، لما نشأت المشكلة إطلاقًا؛ ولا يبعد أن يقول لنا قائل إن هذه هي الحال في الرياضة، وسيكون لقوله هذا ما يدعو إلى القبول في ظاهره؛ لكن مثل هذا القول مستحيل بالنسبة إلى موضوع دراسة العلوم الطبيعية؛ فإما ألا يكون للصور المنطقية شأن بها على الإطلاق (وعندئذٍ لا تنشأ مسألة إمكان تطبيقها على المادة)، وإما أن يكون تطبيقها من شأنه أن يدخل على مادة الموضوع الأصلية، أو أن يفرض عليها من الخصائص ما يسبغ عليها منزلة علمية؛ وليس من اليسير علينا أن نرى كيف يمكن لهذا التدخل أن يحدث، ما لم تكن الصور المنطقية قادرة على اختيار المادة الخاصة دون غيرها — اختيارًا يتم بطريقة ما — أعني المادة التي لا بد أن تنطبق عليها تلك الصور في أي بحث علمي معين، وما لم تكن تلك الصور قادرة كذلك على تنظيم المادة التي اختارتها وترتيبها، بحيث يتاح لنا الوصول إلى نتائج سليمة من الناحية العلمية؛ ذلك لأن أقل معنًى يمكن أن ننسبه إلى كلمة «تطبيق» في البحث الطبيعي، هو الاختيار (بما في ذلك الحذف) وترتيب ما وقع عليه الاختيار؛ أضف إلى هذا كله أننا لا نكون قد واجهنا صميم المشكلة إلا إذا اعترفنا بأنه، في كل الحالات، تكون مشكلة أي المواد الوجودية ينبغي اختيارها، وكيف ينبغي لتلك المواد دون غيرها أن ترتب، مشكلة تختلف من حالة إلى حالة؛ وذلك لأن الصور — لو أخذت مجردة خالصة التجريد — كان انطباقها على أي مادة مساويًا لانطباقها على سائر المواد جميعًا بغير أدنى اختلاف مع أن ثمة دائمًا في البحوث الطبيعية مشكلة خاصة بتحديد مواد خاصة بعينها، مرتبة ترتيبًا خاصًّا معينًا؛ ومهما يكن الرأي في هذه المناقشة العامة التي أقدمها هنا، فهي مناقشة تفيد — على الأقل — في تحديد المعنى المقصود بضرورة تعيين الشروط التي لا بد من توافرها حتى يمكن تطبيق الصور الخالصة الخالية.
وبناءً على ذلك فإن مناقشتنا تعود فتنصب على هذه المشكلة: فمن المسلَّم به أن القضايا اللاوجودية — في شكلها الذي يتخذ صورة قضايا شرطية كلية — ضرورية لكي نصل إلى نتائج تامة التدعيم في العلم الطبيعي؛ وهذا الرأي حجة حاسمة على المنطق التجريبي في صورته التقليدية (من طراز منطق «مل») الذي يذهب إلى أن عددًا كافيًا من القضايا مفردة الموضوع، يصح أن ينهض «برهانًا» على قول عام؛ على أن تفنيد هذا الرأي هو أبعد ما يكون عن أن يؤيد المذهب الذي يأخذ بالطابع الصوري الصرف لمثل هذه القضايا كما هي مستعملة في العلم الطبيعي؛ لأن صميم المشكلة هو كيف — في أية حالة معينة — تكتسب القضايا الكلية المستعملة، ذلك المضمون الذي هو شرط لإمكان انطباقها انطباقًا محددًا؛ ولا يكفي هنا أن يُقال إن دالة القضية: «إذا صدقت ص، إذن صدقت س» هي الصورة التي يتطلبها الموقف للوصول إلى نتائج مدعمة من الناحية العلمية؛ إذ لا بد أن تعطي «ص» قيمة محددة بحيث يمكن كذلك أن تعطي «س» قيمة محددة أيضًا؛ هذا فضلًا عن المبدأ الذي يسلم به الجميع وهو أن القضية الكلية لا «تستلزم» مفردات جزئية، وبهذا فليس ثمة انتقال مباشر — في أي حالة من الحالات — من القضايا الكلية إلى القضايا الوجودية؛ فافرض — مثلًا — أن العبارة الصورية الصرفة «إذا صدقت ص، إذن صدقت س» قد اكتسبت مضمونًا بطريقة مجهولة، كأن تصبح مثلًا: «إذا كان شيء ما كائنًا بشريًّا، إذن فهو فانٍ»؛ فها هنا أمران يختلف أحدهما عن الآخر كل الاختلاف: أما أحدهما فهو أن نقول إن مثل هذه القضية لها قوة التوجيه في أداء الإجراءات التي تقتضيها المشاهدة المنظمة التي تقرر لنا إن كان لشيء معين موجود تلك السمات التي تصف النوع الذي نسميه «بشريًّا»، وهي السمات التي يجوز لنا أن نستدل منها استدلالًا مقبول الصواب، بأن أي شيء ينتمي إلى هذا النوع يكون «فانيًا»؛ وأما الأمر الثاني الذي يختلف منطقيًّا كل الاختلاف عن الأمر المذكور، فهو أن تعتقد بأن القضية السالفة الذكر — بغض النظر عن مهمتها الإجرائية في توجيه المشاهدة المنظمة — فهي كذلك ممكنة الانطباق على الوجود الخارجي؛ واختصارًا، فها نحن أولاء قد دفعنا دفعًا إلى النتيجة القائلة بأن التطبيق أمر متعلق بالإجراءات الوجودية التي نجريها على مواد الوجود الخارجي، بحيث يكون للقضية الكلية — على الأقل في العلوم الطبيعية — صفة أدائية وصورة خالصتان.
لقد زعمنا في المثل التوضيحي الذي سقناه في الفقرة السالفة، أن دالة القضية الصورية الخالصة: «إذا صدقت ص، إذن صدقت س» قد اكتسبت بوجه من الوجوه مضمونًا ما، بحيث أصبح معنى «ص» «كائنًا بشريًّا»، وهو معنًى متعلق تعلقًا ضروريًّا بمعنًى آخر، وهو «فانٍ»؛ وواضح — بغير حاجة إلى حجة نقيمها — أنه ما لم يكن من المستطاع أن «ندخل» قيمًا معينة مكان الرموز في دالة القضية، لما كان لدالة القضية الصورية أي سبيل إلى التطبيق — حتى ولا من الناحية الإجرائية — على كائن معين من كائنات الوجود الخارجي دون غيره؛ فكيف — إذن — نعطي للرمزين «س» و«ص» هذه القيم الخاصة؟ لماذا لا نستبدل بالرمزين المذكورين — في بحث معين — قيمتين تجعلان القضية المتكونة هي: «إذا كان الكائن ملائكيًّا كان بالتالي فانيًا»؟ أو «إذا كان الكائن عليلًا كان بالتالي خالدًا؟» — فأمثلة توضيحية كهذه — ونستطيع أن نكثر منها إلى غير حد معلوم — تدل دلالة جلية على أن العلاقة الضرورية القائمة بين المعنيين، هي علاقة بين مضمونات ذات صورة معينة، وليست هي بالعلاقة التي تصل صورًا مجردة بمعزل عن مضمونها؛ وها هنا يعود السؤال أقوى مما كان أولًا: كيف يتاح للصور الخالصة أن تمتلئ بمضمونات متعلق بعضها ببعض؟ ما هي الشروط المنطقية التي لا بد من توافرها لتكتسب تلك الصور مضمونات بغيرها يستحيل عليها أن تنطبق على الوجود الفعلي انطباقًا يتميز به البحث في العلوم الطبيعية؟
افرض أن صورة القضية (ص ø س) (أو ص ع س) قد اكتسبت على نحو ما، وبطريقة غير معلومة، مضمونًا يكفي لتحويلها إلى هذه العبارة: «س قد اغتيل»، فها هنا حتى لو تجاهلنا مشكلة الكيفية التي أضيف بها المضمون المادي «اغتيل» إلى الصورة الحالية، فسيظل السؤال قائمًا: كيف أعطيت «س» قيمة معينة دون غيرها من القيم الممكنة التي لا حصر لعددها؟ إنه لمما لا شك فيه أن «يوليوس قيصر»، وأن الرئيسين «لنكولن» و«جارفيلد» قد اغتيلا، وأن «كرمول» و«جورج وشنطن» لم يغتالا؛ لكن كيف أصبح هذا أمرًا معلومًا للناس جميعًا؟ إنه لمن السخف أن يُقال إنه قد أصبح هكذا بسبب صورة دالة القضية، وإذا كان هذا هكذا، إذن فالبديل الآخر هو الصواب الذي لا شك فيه، وهو أن ذلك الأمر قد أصبح معلومًا للناس علمًا مؤيدًا بفضل المشاهدة وتدوينها؛ وها هنا نجد فكرة «الاغتيال» — متميزة كل التميز من سائر ضروب الموت — متضمنة بالضرورة؛ فمن الناحية المنطقية، تكون القضيتان المنفصلتان اللتان ذكرناهما لتونا، كما تكون القضية الشرطية: «إذا حدثت السمات المتميزة الفلانية، إذن كان هذا النوع المعين، وأعني به الاغتيال» ضروريتين ضرورة منطقية؛ لكنهما شروط يُراد لها أن تتحقق وليست هي بالخصائص النابعة من طبائع الأشياء؛ ولا سبيل إلى تحقق تلك الشروط إلا عن طريق إجراءات وجودية معقدة العناصر واسعة المدى، نجريها على مواد الوجود الفعلي.
إن ما يزعمونه من أن الصور الخالصة كفيلة بالتطبيق المطلوب، لهو مثل آخر للخلط بين القوة الأدائية وقوة التوجيه اللتين تكونان للعلاقة المنطقية الصورية في وضعها للشروط التي لا بد من استيفائها — الخلط بين هذا وبين أن يكون في الصور الخالصة خاصة بنائية منبثقة من طبيعتها؛ فخذ المثل الذي كثيرًا ما يرد في المؤلفات المنطقية المعاصرة: «س هو فانٍ» وهي عبارة يقولون عنها إنها تصبح قضية إذا ما وضعنا مكان «س» اسم «سقراط»؛ غير أن كلمة «سقراط» هنا إما رمز فارغ خالٍ من المضمون والدلالة، وإلا فهو:
-
(١)
رمز ذو معنًى.
-
(٢)
وذلك المعنى هو من طراز يجعله ممكن التطبيق على الوجود الخارجي؛ فلو كان رمزًا صوريًّا، لما كسبنا شيئًا بأن نستبدله بالرمز «س»؛ وأما إذا كان ذا معنًى بتطبيقه على مسماه، فمعناه هذا لا يلزم عن دالة القضية اللهم إلا أن يكون ذلك عن طريق المشاهدات والمدونات التي يمكن أن تقع تحت أنظارنا، فهذه من شأنها أن تقرر.
-
(أ)
أن شيئًا ما — سقراط — موجود (أو أنه قد كان موجودًا في مكان وزمان معينين).
-
(ب)
أن هذا الشيء قد كان متسمًا بالسمات التي تعين النوع «ناس».
إذن فدالة القضية «س إنسان» تعبير عن صورة غير محددة المعنى إلى درجة بعيدة؛ لكننا لا نلبث — حين تُساق في صورتها الصحيحة (وصورتها الصحيحة قضية كلية شرطية) — أن نتبين في جلاء أن الإجراءات التي تشير إليها بصياغتها، من حيث تكون هذه الصياغة بمثابة القاعدة التي توجب أداء عمل ما، أقول إننا لا نلبث أن نتبين أن تلك الإجراءات ضرورية لكي نحدد بها وجود شيء ما تتحقق فيه الشروط التي تشترطها دالة القضية؛ وبعبارة أخرى فإن عبارة «س كائن بشري» تصوغ مشكلة ما، وهي: استكشاف الشيء أو الأشياء التي من شأنها أن تكون متصفة بالصفات التي توجبها كلمة «بشري» — وهو شرط يقتضي أن يكون معنى كلمة «بشري» قد سبق له أن تحدد؛ ويتبع هذا أن «التطبيق» على كائنات الوجود الخارجي، يقتضي بالضرورة.
-
(١)
مشكلة وجودية على أساسها يتم اختيار مضمونات القضايا اللاوجودية ثم ترتيب تلك المضمونات المختارة.
-
(٢)
أن نستخدم بطريقة إجرائية القضية التي هي لا وجودية من الناحية الصورية، نستخدمها وسيلة لمشاهدات نوجهها نحو البحث عن الأشياء التي تتحقق بها الشروط التي توجبها تلك القضية.
وجدير بنا أن نعيد في هذا السياق نقطة — ذكرناها مرارًا — عن الخلط المذهبي الذي يخلطون به بين صورتي القضية العامة، وهما: القضية الجامعة (الوجودية) والقضية الكلية (المجردة)، وذلك لأن هذا الخلط لا مندوحة عنه إطلاقًا إذا كنا لننتقل انتقالًا مباشرًا من القضايا الكلية إلى القضايا التي تُقال عن فرد من حيث هو عضو في نوع، وإلى القضايا التي تُقال عن العلاقة بين نوع ونوع؛ وطريقة التدليل المعتادة التي يتبعونها في تأييدهم لهذا الخلط، هي شيء كهذا: القضية العامة (بالمعنى الذي يجعلها قضية جامعة) كقولنا «كل الناس فانون» حين يكون معنى هذه الجملة «كل إنسان فردًا فردًا، إذا كان قد عاش يومًا ما، أو إذا كان الآن بين الأحياء، أو سيكون بين الأحياء يومًا ما، قد مات أو هو سيموت» (وهذه قضية ذات فحوى وجودي بغير شك) — أقول إن القضية العامة التي ضربنا لها هذا المثل، يُقال عنها بحق إنها لا تشير إلى فرد واحد معين، بل تشير إلى أي فرد من عدد لا يحصى من الأفراد وإن هؤلاء الأفراد لَيمتدون في الوجود الفعلي على مدًى يشتمل على أفراد كثيرين مما لا يقع لنا الآن في مجال المشاهدة؛ وبعبارة أخرى فهي قضية تثبت رابطة قائمة بين مجموعة السمات التي تقيم الحدود حول النوع «إنسان» ومجموعة السمات التي تقيم الحدود حول النوع «فانٍ» وهم أولئك الذين يتعرضون للحادثة التي تسمى موتًا؛ وكذلك يُقال (بحق) إن جواز توكيدنا لقيام هذه الرابطة المذكورة هو آخر الأمر قضية تثبت أن المعنيين المجردين «كون الشيء بشريًّا» و«كون الشيء فانيًا» يتعلق أحدهما بالآخر تعلقًا ضروريًّا، فإذا لم نوفق إلى بلوغ مثل هذه القضية، كانت القضية وهي في مرحلتها الوجودية — على أحسن الفروض — تعميمًا، بالمعنى الذي يكون به التعميم نطاقًا لمسميات، لوحظ بعضها في حالات معينة، ثم عمم وصفها ليشمل عددًا لا يحصى من حالات لم تشاهد؛ ومثل هذا النطاق الخارجي للمسميات، يثبت «تجريبيًّا» بمشاهدة عدد كبير من الحوادث التي تحدث فعلًا، لكنه — من الوجهة النظرية — معرض للنفي في أية لحظة من حيث هو تعميم، إذ لا فرق في ذلك بين التعميم الذي ذكرناه، وبين القضية التي تقول: «كل البجع أبيض»؛ وإخراج قضية ما من هذه الصورة المقلقة (المعرضة للنفي في أي وقت إذا وجدنا فردًا يختلف عن الصفة التي كنا عممناها للنوع كله) مرهون — في حقيقة الأمر — بالبحوث البيولوجية والفسيولوجية، التي تدل على علاقة ضرورية متبادلة بين المعاني المجردة التي تعرف كلمة «يحيا» وتلك التي تعرف كلمة «يموت» — باعتبار هذين المعنيين بناءين نبنيهما بالتصورات الذهنية.
إلى هنا لا خلط هناك؛ لكن حقيقة كون القضية «كل الناس فانون» لا تشير إلى فرد بعينه من حيث هو كذلك، أو إلى إنسان مقصود بذاته دون إنسان سواه، هذه الحقيقة تفهم على وجه غير مشروع، إذ تفهم على أنها تعني أن القضية المذكورة لا تشير إلى أي فرد كائنًا ما كان؛ وعندئذٍ تراهم يحولون القضية لتصبح قضية لا وجودية هي: «إذا كان الكائن بشريًّا، إذن فهو فانٍ»؛ والتحويل هنا غير مشروع، لأن ثمة أمرين مختلفين منطقيًّا، أما أحدهما فهو أن تقول قضايا عن سمات أو قسمات مميزة تقيم الحدود حول نوع ما بحيث «يتجرد» النوع عن أي فرد معين من أفراده؛ وأما الأمر الآخر الذي يختلف عن ذلك اختلافًا جوهريًّا، فهو أن تنشئ قضية عن تجريدات من حيث هي تجريدات؛ فامتناع الإشارة الخاصة التي تعين فردًا بذاته دون غيره، لا يجوز أن يكون أساسًا لقضية تخلو من أي إشارة وجودية على الإطلاق فالطريق المنطقي مسدود بين عبارة تقول: «ليس ثمة فرد بعينه» وعبارة أخرى تقول: «ليس ثمة فرد على الإطلاق» بالمعنى الذي يجرد الأمر من الإشارة إلى الوجود الخارجي من حيث هو كذلك؛ ومع ذلك فهذا هو الطريق المستحيل الذي تسلكه النظرية المنطقية إذا ما شابهت بين صورة القضايا الجامعة (الوجودية) وصورة القضايا الكلية (المجردة).
- (١)
يذهب إلى أن الصور المنطقية صورية بالمعنى الذي يجعلها مجردة عن كل مضمون، واقعيًّا كان ذلك المضمون أو تصوريًّا، ومع ذلك
- (٢) تكون هذه الصور ممكنة التطبيق على مادة الوجود الخارجي، كما تقتضي ذلك طبيعة مناهج العلوم الطبيعية، إذا كانت هذه المناهج ذات صلة إطلاقًا بالمنطق؛ فعلى الرغم من ظهور كلمة «كل» في قضية «كل الناس فانون» (باعتبارها قضية تشير إلى شتى الأفراد واحدًا واحدًا مما يدخل أعضاء في نوع تعينه مجموعتان من سمات مميزة تحددان على التوالي نوعي «الكائنات البشرية» و«التعرض للموت») فإن القضية ما تزال من الوجهة المنطقية موجبة جزئية، وهي حقيقة يعترف بها المذهب المذكور إذ يقول صراحة (في سياق آخر) إن القضايا الموجبة الجزئية والقضايا السالبة الجزئية هي وحدها التي تشير إلى الموجودات الخارجية.٣
وأعود إلى ما كنت قد قررته في موضع سابق، وهو أنه إذا لم يكن المنهج العلمي ممكنًا بغير قضايا لا وجودية صورتها «إذا – إذن»، ثم إذا كانت أمثال هذه القضايا شروطًا ضرورية للمنهج العلمي، فهي ليست بالشروط الكافية وحدها؛ فالفرض العلمي متصل بما هو ممكن، والقضية التي تُقال عما هو ممكن، أمر لا غناء لنا عنه في أي بحث له مكانة البحث العلمي؛ والفرض العلمي إنما يُصاغ في قضية مجردة صورتها «إذا – إذن»، وعلى ذلك فهي تصوغ قاعدة ومنهجًا للملاحظة التجريبية؛ والنتائج المترتبة على تنفيذ الإجراءات المشار إليها في القضية (التي نصوغ بها الفرض العلمي) هي التي تحدد معنى التطبيق بالمعنى المنطقي المتسق الذي لا معنى سواه لفكرة التطبيق؛ فمن الشروط التي لا مندوحة عنها للتطبيق في حالة المنهج بالنسبة للعلم الطبيعي، إذن، شرط أن تكون مضمونات القضية الشرطية قد تحددت هي نفسها بأبحاث سابقة انصبت على الوجود الخارجي بطريقة تجعل المضمونات قادرة على توجيه عمليات المشاهدة الجديدة؛ هذا فضلًا عن أننا نقع في مغالطة إثبات المقدم بناءً على إثبات التالي، ما لم نكن قد قمنا بعمليات مشاهدة مستقلة بذاتها، وعلى نطاق واسع، بحيث يترتب عليها علاقة مثبتة بين المضمونات، إثباتًا له درجة من احتمال الصدق، وصدق احتمال كهذا مشروط بطبيعة القضايا الوجودية الأخرى وما تنتجه من نتائج مادية.
وأما حالة التفكير الاستنباطي المنظم، الذي تجيء كل قضاياه — في حد ذاتها — لا وجودية في مضمونها، والذي ترد فيه هذه القضايا متسلسلة تسلسلًا يقتضيه أن القضية السابقة في ترتيب التسلسل تستلزم ما بعدها — وهو أمر يختلف عن العملية الاستدلالية التي نستدل بها واقعة من واقعة في عالم الأشياء — أقول إن مثل هذا التفكير الاستنباطي المنظم لا يكون — على أحسن الفروض — استثناء يشذ عن المبدأ الذي نقول به إن الصور إنما هي صور في مادة (وليست صورًا مجردة بمعزل عن مادتها)؛ وذلك لأن الترتيب المتتابع في سلسلة القضايا الاستنباطية، يتحدد — في شتى الحالات التي ننتهي فيها إلى قضية ختامية ممكنة التطبيق على العالم الخارجي — وفق الظروف المادية؛ نعم إنه من الوجهة النظرية، أو في حالة التجريد الصرف يمكننا أن نتصور أنواعًا لا حصر لعددها من تسلسلات للقضايا الاستنباطية التي يلزم فيها اللاحق عن السابق، كما هي الحال في الرياضة؛ إلا أن سلاسل القضايا الرياضية التي يلزم لاحقها عن سابقها — كما هو ظاهر في الفيزياء الرياضية — لها مضموناتها وترتيب قضاياها — في شتى الحالات التي يدخل فيها التطبيق شرطًا — أقول إن لسلاسل القضايا الرياضية في هذه الحالات، مضموناتها وترتيبها (في تقريرها لقضية شرطية تختتم بها السلسلة) اللذَيْن يخضعان للظروف الوجودية المشاهدة التي هي قوام المشكلة التي تتطلب حلًّا قابلًا للتعميم؛ وإلا لظلت المضمونات من حيث طبيعتها ومن حيث ترتيبها على حالة من عدم التعين، بحيث لا يكون لدينا قط ما يؤكد لنا أن القضية الختامية سيكون لها أي نوع من أنواع التطبيق، حتى ولو كان ترتيب القضايا تستلزمه الضرورة بالنسبة إلى صرامة اللزوم الاستنباطي؛ وهكذا نرى أنفسنا قد اضطررنا مرة أخرى إلى القول بأن العلاقات الصورية إنما تقرر شروطًا لا بد من تحققها تحققًا ماديًّا.
هذه الحجج التي قدمناها تبين بيانًا لا يحتمل الجدل، أن الصور الخالصة — حين تعني كلمة «خالصة» «أنها مستقلة استقلالًا كاملًا عن أية صلة بالمضمونات ذوات المعنى» (سواء أكان ذلك المعنى واقعيًّا أم تصوريًّا) — يستحيل عليها أن تحدد طريقة التطبيق، بالمعنى الذي يجعل التطبيق أمرًا لا مندوحة عنه في العلوم الطبيعية؛ وهنالك حالة خاصة واحدة، كثيرًا ما تُساق مثلًا في المؤلفات المنطقية الحديثة التي يفرض فيها أنها تبرهن على أن القضية الكلية (المجردة) قادرة على أن تحدد الاستدلال الواقعي تحديدًا مباشرًا، أعني الاستدلال الذي يختص بأمور الوجود الخارجي؛ فهي — إذن — جديرة منا بالتمحيص، لأن تمحيصنا لها سيكشف عن المغالطة النموذجية التي هي متضمنة في شتى الأمثلة التي يسوقها المذهب الذي نحن بصدد مناقشته؛ والمثل المشار إليه هو القضية الشرطية (إذا – إذن) الآتية «إذا زاد عدد السكان في مدينة عن عدد الشعرات على رأس أي من هؤلاء السكان، إذن فلا بد أن يكون هنالك ساكنان (أو أكثر) متساويان في عدد الشعرات على رأسيهما» فليس — بالطبع — من سبيل إلى الشك في أنه إذا تحققت الشروط الواردة في جملة المقدم، تبعتها الحالة الواردة في التالي؛ لكننا إذا خصصنا القول بقضية ننبئ بها عن حالة شخص معين أو أشخاص معينين، في أية مدينة معينة قائمة بالفعل، ألفينا القضية تثير سؤالًا هو: هل تتحقق فعلًا تلك الشروط؟
وهذا سؤال ينصب على واقعة مادية، ولا يمكن الإجابة عنه إلا بعمليات مشاهدة مستقلة بذاتها، توجهها القضية المذكورة، قضية «إذا – إذن»؛ هي قضية إذا ما استخدمت في هذا التوجيه، جعلت من غير الضروري أن نعد الشعرات التي على رأس كل شخص ممن يسكنون مدينة معينة؛ وكل ما يلزم هو أن نحصل على تقدير موثوق به لعدد الشعرات على رأس الشخص الذي يكون له أكثف الرءوس شعرًا بين من نصادفهم من الأشخاص، وأن نحصل كذلك على تقدير موثوق به لعدد سكان المدينة؛ فإن توافرت لنا هذه المعطيات عن الوجود الواقع، جاز لنا أن نستدل قضية تقول إن شخصين غير معينين لا بد أن يكونا متساويين (أو ألا يكونا متساويين) في عدد الشعرات على رأسيهما؛ والحالة التي نستدل فيها نتيجة تقرر أنهما ليسا متساويين في عدد الشعرات، هي الحالة الأرجح وقوعًا إن كنا إزاء قرية لا يسكنها إلا عدد قليل من الناس؛ وأما في حالة المدن الموغلة في الكبر، مثل لندن أو نيويورك، فتكفينا معطيات المشاهدة لكي تجيز لنا قبول القضية الوجودية التي تقول إن شخصين (غير معينين) أو أكثر، يتساويان في عدد شعرات رأسيهما؛ لكن كفاية معطيات المشاهدة لاستدلال هذه القضية، ليست قائمة على أساس أن تلك القضية «لازمة» من القضية الشرطية المذكورة، بل على أساس تحديد المشاهدات للمعطيات الوجودية، مأخوذة في صلتها بالقضية الشرطية، باعتبار هذه الأخيرة هي القاعدة التي وجهت اختيار المعطيات وترتيبها.
والتحليل نفسه يصدق تمامًا على القضية الوجودية التي تقول إننا نستطيع — في بلد يأخذ بنظام الزوجة الواحدة للزوج الواحد، والزوج الواحد للزوجة الواحدة — أن نستدل تساوي عدد الأزواج مع عدد الزوجات، دون أن نضطر إلى الدخول في عملية التعداد المملة، لنعد ما هنالك في الواقع من أزواج ومن زوجات؛ وذلك لأنه لا بد لنا من عمليات مشاهدة مستقلة بذاتها، لنعلم بها إن كان بلد معين يتبع أو لا يتبع نظام الوحدانية في الزواج؛ وقل هذا بعينه في حالة استدلالنا أن عدد المقاعد وعدد الأشخاص في ردهة معلومة، متساويان على وجه التحديد دون حاجة منا إلى عد المقاعد أو عد الأشخاص، إذ إنه لا بد لنا — ها هنا أيضًا — من ملاحظة مستقلة بذاتها لنعلم بها أن كل مقعد هو — في الواقع — مشغول؛ وهكذا نرى أن مصدر المغالطة في شتى هذه الأمثلة، هو أولًا: أننا نأخذ من الحالات ما قد سبق لإجراء وجودي أجريناه أن أعد لنا مادته، وثانيًا: أننا نتجاهل الطريقة التي أعدت بها تلك المادة، تجاهلًا يعادل النفي في هذه الحالة.
إن مناقشتنا — إلى هذا الحد — قد أيدت المذهب القائل بأن الصور المنطقية هي صور في مادة، تأييدًا يرتكز على جانب سلبي، ألا وهو: التناقضات التي تنشأ في حالة قبولنا للرأي المعارض؛ وأما التأييد الإيجابي للمذهب المذكور فهو أن المضمونات المتعينة — واقعية كانت أم تصورية — وكذلك الصور التي ترتب فيها تلك المضمونات، تتحدد إبَّان البحث العلمي تحديدًا يجعلها تقابل بعضها بعضًا تقابلًا دقيقًا؛ ولو حاولنا أن نسوغ هذا القول في هذا الموضع، لاقتضانا ذلك أن نعيد التحليل والنتائج التي أسلفناها في الجزأين السابقين؛ غير أننا بدل أن نشغل أنفسنا بهذه المهمة التي لا تدعو إليها الحاجة، سنعالج النقطة التي هي موضوع النظر، بأن نبحث في المبدأ الذي يمثل في موضوعات البحث المتماثلة؛ فمقولة المنطق الأساسية هي «الترتيب»، وهي بعينها المقولة الأساسية أيضًا في كافة الفنون، والترتيب الذي ترتب به المضمونات المادية في جميع الحالات التي يكون فيها سير موجه توجيهًا معقولًا، هو الترتيب الذي يجعل الوسائل مؤدية إلى نتائج؛ أما المواد الموجودة فعلًا في العالم الخارجي، فتزودنا ﺑ «المادة الخامة»، لكن موقف هذه المواد من حيث هي وسائل، يتطلب إجراءات في الاختيار وفي إعادة الترتيب، بحيث يمكن إحداث تفاعلات خاصة من شأنها أن تنتهي إلى النتائج المقصودة؛ ففي بداية السير، حين تكون لدينا الرغبة في نتيجة معينة، قد نستخدم بعض المواد القائمة فعلًا بحالتها «الطبيعية» أو الفطرية، كأن نستخدم عصًا سهلة التناول، لنحرك بها حجرًا؛ ففي هذه الحالة لا تتجه إجراءات المشاهدة المطلوبة إلا إلى اختيار عصًا مناسبة، أما إذا عاودتنا الحاجة مرة بعد مرة إلى نوع معين من النتائج، فعندئذٍ يحسن ألا نختار إلا المواد التي يمكن تطويعها لتكون أدوات من شأنها أن تحقق لنا الهدف المقصود بأسهل الوسائل وأرخصها، وفي أحوال متباينة تباينًا واسعًا من حيث زمانها ومكانها؛ فعندئذٍ تختار المواد وتشكل لتصلح روافع؛ وقد لا تزيد الرافعة في مرحلة معينة من التقدم الثقافي، على مجرد «عتلة»؛ أما إذا تطورت الحاجة بحيث استلزمت استحداث نتائج في ظروف شديدة التنوع، فعندئذٍ نوسع من مبدأ الروافع ونهذبه، لتشمل ضروبًا متباينة من الحيل المادية، التي — إذا ما صغناها صياغة علمية — أفادت من قانون قوى الدفع، فتستفيد من ذلك القانون «ميزة» ميكانيكية؛ فيصبح الخبير الميكانيكي ملمًّا — حتى ولو لم يكن على علم بالقانون الذي صِيغ صياغة علمية — بأنواع كثيرة من الآلات التي هي من نوع الروافع، لأنها — رغم اختلافها حجمًا وشكلًا — تقوم كلها بالمهمة التي تجعلها وسائل مؤدية إلى نوع من النتائج متميز بخصائص معينة.
فكل عدة، أو أداة، أو قطعة من الأثاث والتأثيث، وكل قطعة من ثياب، وكل وسيلة للنقل والمواصلات، إنما تمثل — من الوجهتين العملية والوجودية — تحول المواد الخامة إلى وسائل اختِيرت عمدًا ورُتِّبت بحيث أصبحت «مادة مصبوبة في صورة»؛ وإن شئت أن تعبر عن هذا المعنى من جانب الصورة فقل إنه يصبح لدينا «صور في مادة»؛ فقد تصبح الصورة والمادة من تكامل الارتباط إحداهما بالأخرى بحيث يبدو المقعد مقعدًا والمطرقة مطرقة، بنفس المعنى الذي يكون به الحجر حجرًا والشجرة شجرة؛ وهكذا نرى أن هذه الأمثلة شبيهة بالحالات التي يصبح فيها للبحوث السابقة من المعاني المألوفة ما يجعلنا نظن أن الصورة متأصلة في طبيعة المادة تأصلًا لا يتوقف على المهمة التي تؤديها هذه المادة، أو ننظر إلى المادة (كما هي الحال في بعض المحاجات الصورية التي نقدناها) كما لو كانت المادة نفسها صورية بحتة؛ وهي نتيجة نصل إليها لما نراه من تمام التكامل في اتصال الصورة والمادة إحداهما بالأخرى.
هذه أمثلة توضح المبدأ الذي ذكرناه في الجزء الأول من هذا الفصل، وهو أن الصور تطرأ على المادة في اطراد منتظم، بفضل المواءمة بين المواد والإجراءات العملية بعضها مع بعض، لكي تحقق لنا أهدافًا بعينها؛ على أننا — مع ذلك — قد سقنا هذه الأمثلة في هذا الموضع لغاية أخرى وإن تكن غاية مرتبطة بالغاية المذكورة — وأعني بها توضيح المبدأ القائل بأنه في شتى حالات المواد المصبوبة في صور بذاتها، تنشأ الصورة والمادة بادئ ذي بدء، ثم تتطوران وتعملان في تقابل دقيق إحداهما مع الأخرى؛ فكل عدة (وأنا أستعمل هذه الكلمة بمعنى واسع يشمل كل أداة وكل حيلة آلية خلقت واستخدمت لتحدث نتائج معينة) أقول إن كل عدة هي بمثابة العلاقة بين طرفين؛ فالصورة إذ تكون علاقية تصبح هي العلاقة التي تصل الوسائل بنتائجها بينما يكون لكل شيء يخدمنا من حيث هو وسيلة فعالة، وجود مادي بوجه من الوجوه.
-
(١)
ونستطيع أن نحلل العلاقة المجردة التي تصل الوسائل بنتائجها تحليلًا صوريًّا؛ فهي علاقة تتضمن تقابلًا بين المادة من ناحية ومعالجتها معالجة إجرائية من ناحية أخرى؛ وهو تقابل يتمثل — في مجال العُدَد والأواني وقطع الثياب … إلخ — في حقيقة كون المواد من ناحية والوسائل الفنية من ناحية أخرى، تتكيفان الواحدة للأخرى تكيفًا متبادلًا بينهما؛ فالعمليات الفنية التي نصطنعها في إعادة تشكيل المواد الخامة إنما ابتكرت لكي تصير قادرة على إعادة تشكيل المادة الخامة التي نجري عليها تلك العمليات إجراءً يجعل من تلك المادة أداة نتوسل بها لغاية معلومة؛ فينبغي لتلك العمليات أن تكون بحيث تستطيع أن تجري من ضروب التطبيق ما يلائم المواد التي تتناولها بالمعالجة؛ ولا تلبث التقنيات (أي الوسائل الفنية) أن تخلق حتى يصبح في مستطاعها أن تتطور تطورًا مستقلًّا بذاته؛ فإذا ما تقدمت في دقتها، لم تعد مقتصرة على تحويل المواد القديمة تحويلًا فيه النفع العاجل والاقتصاد في النفقات، بل إنها لتجاوز ذلك فتتناول بمعالجتها مواد خامة جديدة لم تكن من قبل صالحة لأن تستخدم وسيلة لغاياتنا؛ وهذه المادة الجديدة المصبوبة في الصورة التي نظفر بها عندئذٍ، تعود بدورها فتؤدي إلى تطورات جديدة في التقنيات (الوسائل الفنية) وهكذا دواليك إلى غير نهاية، دون أن يكون هنالك — من الوجهة النظرية — احتمال الوقوف عند حد يكون هو ختام المسير.
-
(٢)
إنه لا بد لكل تقنية (وسيلة فنية) أو مجموعة من الوسائل الإجرائية، أن تستوفي شروط ترتيب المادة بحيث يؤدي ترتيبها إلى اكتسابها لخصائص صورية وإنك لترى أبسط الوسائل الفنية التي تستخدم في إعادة تشكيل المادة الخامة واضحة المراحل — بالضرورة — من حيث البداية، والنهاية، والخطوات الوسطى التي تصل الطرفين؛ فلها من الخصائص الصورية ما يجعل هذه المرحلة أولى، وهذه أخيرة، وتلك وسطى بين الأولى والأخيرة — والخطوات الوسطى لها من الأهمية الجوهرية ما يحدد حتى معنى كلمة «وسيلة» نفسها ماذا عساه أن يكون وهذه العلاقة المتعدية المرتبة التي تتمثل في الكلمات؛ أولى، وأخيرة، ووسطى حين نصف بها إجراءاتنا، هي علاقة صورية، ويمكن تجريدها، لأنها هي التي تؤلف العلاقة المتبادلة الضرورية التي تقوم بين المعاني المجردة؛ فإذا غيرت إحداها، تغيرت الأخريان تبعًا لها تغيرًا لا محيص عنه، ولو عممت هذه النقطة، نشأت لك عن ذلك التعميم فكرة الترتيب التسلسلي، من حيث هو ترتيب ضروري للمادة باعتبارها مادة صبت في صورة، وذلك بالنسبة إلى شتى أوجه النشاط التي تجري على خطة معقولة.
-
(٣)
وعلى أساس النقطة الأولى التي ذكرناها (وهي المقابلة المتبادلة بين المادة من ناحية والوسائل الإجرائية أو التقنيات من ناحية أخرى) يكون الترتيب التسلسلي في مراحل الخطة الإجرائية، هو الذي يحدد العلاقات الصورية في المواد التي نعالجها بالتقنيات (أي الوسائل الفنية)؛ فحتى التقنيات البدائية الساذجة المستخدمة لاستحداث نتائج موضوعية، قد أنشأت تفرقة ساذجة بين خصائص المواد التي تميزها بعضها من بعض؛ فمواد معينة «صالحة» للتقنيات التي تنتج لنا الثياب، ومواد أخرى صالحة لصناعة الأواني التي نخزن فيها المواد أو نطهوها … إلخ؛ ومع تطور تقنيات صهر المعادن، تبينت لنا فوارق تميز ضروب المواد المعدنية من تلقاء نفسها — إذا جاز هذا التعبير — فأصبح في مقدورنا أن نفرق بين مختلف أنواع المعادن؛ وإذا عممنا المبدأ الذي نوضحه بهذه الأمثلة، تكونت لنا بهذا التعميم جملة تقول إن السمات المميزة التي تقيم الحدود الفاصلة بين الأنواع المختلفة، لا تنشأ إلا حين ننظر إلى المواد من حيث هي وسائل، وذلك بالنسبة إلى الإجراءات التي نجريها لنحصل على نتائج موضوعية بعينها. والغاية حين تتحقق — كالثياب مثلًا — تكون نوعًا من الأشياء، لكن الثياب تعود فتنقسم أنواعًا مختلفة، لتلائم الفصول المختلفة والمناسبات، والطبقات الاجتماعية، فتنقسم المواد بالتالي انقسامًا يجعلها «صالحة» لهذه الأغراض المتمايزة: فهذا قماش للشتاء، وذلك للصيف؛ وهذا للحرب وذلك للسلام؛ وهذا للقساوسة وذلك للأعيان، وثالث «لعامة» الشعب؛ وهكذا تتميز الأنواع وتتصل في تقابل دقيق بعضها مع بعض.
ولو كنا لنعود إلى الملاحظات التي أبديناها في الفصل الذي عقدناه للجذور البيولوجية التي عنها نشأت عملية البحث، لذكرنا أن العلاقات الصورية المتمثلة في الترتيب التسلسلي، كانت لها أصولها الأولى في الحياة العضوية؛ فثمة حاجات (بمعنى توترات فعلية)، وهذه الحاجات لا تشبع إلا بإحداث تغير في الحالة القائمة؛ واستحداث الحالة التي تختم التوتر، أي الحالة التي يتحقق بها الإشباع، يتطلب سلسلة مرتبة من الإجراءات العملية، يكون بين حلقاتها من المواءمة بعضها مع بعض ما يجعلها تتعاون معًا على الوصول إلى الخاتمة الأخيرة؛ ولو قارنا هذه الأمثلة من الوسائل العضوية الطبيعية، في علاقتها المرتبة بالنسبة إلى النتيجة، ظهر لنا فارق هام؛ «فالغاية» في حالة النشاط المبذول للوصول إلى النتيجة المقصودة، والغاية في حالة الظروف المادية، تختلفان في كون الغاية في الحالة الأولى هي غاية بالمعنى الذي يجعلها نهاية أو ختامًا، وأما في الحالة الثانية فهنالك معنى التراكم الذي يجمع الخطوات السابقة في كل خطوة حاضرة؛ وإن الخاتمة الموضوعية في هذه الحالة — لكونها متصورة قبل وقوعها ومقصودة — لتصبح غاية ماثلة أمام العين، فتعمل على توجيه بصير لاختيار ما نختاره من التقنيات ومن المواد، ثم ترتيبه، غير أن هنالك نموذجًا لارتباط (الوسائل بغايتها) مشتركًا بين الحالتين.
هذه الملاحظات التي أبديناها — لو نظرنا إليها من الجانب العملي — ألفيناها مألوفة إلى الحد الذي يجعلها أمورًا معروفة وليس فيها جديد؛ ولهذا فقد تبدو غير جديرة بالذكر في مناقشة النظرية المنطقية؛ لكنها ملاحظات في صميم الموضوع، لأنها تبرز عددًا من النقط ذات الدلالة الهامة بالنسبة إلى النظرية المنطقية؛ ونستطيع أن نسترجع الملاحظات الأساسية ملخصة فيما يلي:
-
(١)
إن دخول الصور على المادة في حالة البحث، ليس من الفروض التي نتبرع بها وكان يمكن ألا نفعل.
-
(٢)
إنه حيثما تصير المواد مواد منصبة في صورة، كان الترتيب متضمنًا في الأمر، أي كانت هنالك مراحل متسلسلة.
-
(٣)
وهذا الترتيب — لكونه صوريًّا — يمكن تجريده وصياغته على نحو يمكننا من بسط ما يتولد منه في استدلال استنباطي.
-
(٤)
هنالك استمرار متصل الحلقات في تطور السير من مرحلة العلاقات المنظمة في الحياة العضوية، إلى العلاقات المرتبة عن عمد في الفنون الثقافية، ثم من هذه إلى العلاقات المرتبة التي يتميز بها البحث الموجه.
- (١)
هذه الصفات إن هي إلا صفات موجودة بالقوة.
- (٢)
ولا يتبين لنا أنها الصفات الممكن حدوثها، إلا عن طريق الإجراءات التي نجريها عليها بغية تحويلها إلى وسائل مؤدية إلى غايات؛ وهي إجراءات قد تكون أول الأمر عشوائية و«عرضية»، ثم ينضبط لنا زمامها إبَّان تقدم الثقافة حتى لتصبح إجراءات تجريبية بالمعنى العلمي لهذه الكلمة؛ ويوضح النقطة الأولى حقيقة كون طائفة معينة من المواد تصبح ألوانًا من الطعام مع نشوء الحياة الحيوانية؛ لهذا قد تجد من يقول إن هذه المواد كانت طعامًا طوال الزمن، بل من يقول إنها «طعام» بحكم «طبيعتها» المتأصلة في تكوينها؛ لكن هذه النظرة إلى الأمور تخلط الوجود بالقوة بالوجود بالفعل؛ نعم إننا إذا التفتنا بأنظارنا إلى الوراء، استطعنا أن نقول بحق إن هذه المواد كانت مما يمكن أن يكون طعامًا؛ لكنها لا تصبح طعامًا بالفعل إلا إذا أكلت وهضمت؛ أعني أنها لا تصبح طعامًا إلا إذا أجريت إجراءات معينة من شأنها أن تخلع على المواد الأولية من الخصائص الجديدة ما يسلكها في نوع معين من أنواع الكائنات ألا وهو نوع «الأطعمة»؛ وأما النقطة الثانية فيوضحها أن الفرق بين ما يؤكل، وما لا يؤكل، وما هو سام، لم يستكشف إلا بعمليات من المحاولة والاختبار؛ فحتى القبائل التي تعد بدائية، قد وجدت الوسائل التي تجرى بها من الإجراءات الفنية ما تحول به المواد التي تكون سامة في حالتها الفطرية، إلى وسائل للتغذية؛ وإنا لنستطيع أن نقيم البرهان على أن الصفات من حيث هي موجودات بالقوة إنما تتبين لنا بإجراءات تجريبية، بأن نذكر أن مدى الأشياء الصالحة للأكل قد اتسع إلى غير حد بفضل ما قد أصابته الإجراءات الفيزيائية الكيميائية من نمو وزيادة في الدقة؛ فمثلًا يتوقف نجاحنا أو إخفاقنا في إنتاج لبن «صناعي» على ما بين أيدينا من تقنيات (وسائل فنية) فقط؛ فليس هو بالأمر النظري إلا إلى الحد الذي يجعل قيام نظرية ما أمرًا ضروريًّا لهداية المجهود العملي سواء السبيل.
وهذه النسبية في الصفات التي تأتلف منها السمات المميزة التي تقيم الحدود الفواصل بين الأنواع، مضافًا إليها نسبية كشفنا عن هذه الصفات، بالقياس إلى تنفيذ ما نؤديه من إجراءات، تقوض النظرية الكلاسية — كما رأينا في سبق — من أساسها، وهي النظرية التي تقول بأن الأنواع تحددها طبائعها المتأصلة فيها، أو ماهياتها؛ كما أن لهذه النسبية تأثيرًا هامًّا آخر على النظرية المنطقية؛ فلقد قصرنا مناقشتنا الماضية على المذاهب التي تقيم فاصلًا حادًّا بين الصورة والمادة؛ لكن هنالك نظريات منطقية أخرى تخلع صفة وجودية مباشرة على الصور المنطقية، ولو أنها تفعل ذلك بطريقة تختلف عن طريقة المنطق الأرسطي في ذلك؛ وهي نظريات ترتكز على أساس من الواقع؛ إذ هي تعترف بأن الصور المنطقية لا يمكن أن تنصب على المادة الوجودية إلا بطريقة تبلغ أقصى حد يجعلها مزعزعة الأساس ومعتسفة كما يجعلها قائمة في الوجود الخارجي اللهم إلا إذا كان للمادة — من حيث هي قائمة في الوجود الفعلي — قدرتها — النابعة من طبيعتها — على قبول تلك الصور؛ لكن هذه اللمحة الصادقة يساء فهمها لا لشيء إلا بسبب الخلط الذي ذكرناه لتونا بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ فالوجود الخارجي بصفة عامة يتحتم أن يكون من خصائصه القدرة على تقبل الصورة المنطقية؛ والوجود الخارجي في جزئياته لا بد له كذلك من القدرة على تقبل مختلف الصور المنطقية، لكنه لا مندوحة لنا عن الإجراءات العملية التي تؤلف البحث الموجه، لكي يتسنى لهذه القدرات أو لهذه الإمكانات أن تتحول إلى وجود بالفعل.
والطريقة الخاصة التي تسلكها النظرية الحديثة في خلعها على الصور المنطقية صفة وجودية مباشرة (بدل أن تخلع عليها هذه الصفة الوجودية بطريق غير مباشر، بأن يتم لها ذلك خلال مهامها التي تؤديها في عملية البحث) هي تأويلها تأويلًا ميتافيزيقيًّا للثوابت؛ وتتضح إلى حد ما هذه الثوابت بمعناها المنطقي، من طريقة استعمالنا لطائفة معينة من الثوابت التي صِيغت صياغة رياضية، في البحث الفيزيائي؛ فلو عممنا ما يتضمنه استعمالنا هذا للثوابت الرياضية، كانت صور التعميم هذه ثوابت منطقية؛ مثال ذلك أن التفكير الاستنباطي المرتب مستحيل بغير علاقة اللزوم بين القضايا، وإذن فهذه العلاقة «ثابت» من الثوابت؛ وكذلك استدلالنا واقعة من واقعة أخرى استدلالًا مدعمًا، مستحيل بغير «ثابت» هو العلاقة الصورية بين اقتران السمات من ناحية وتمييزنا للأنواع بناءً عليها من ناحية أخرى؛ غير أنه لا يلزم عن كون «الثوابت» ضرورية لتسيير الأبحاث المنتجة لمعرفة جائزة القبول، أقول إنه لا يلزم عن ذلك أنها أمر محتوم لا بد منه للوجود الخارجي، ولا بد أن يكون قائمًا في الوجود الخارجي الذي نعرف عنه ما نعرف؛ فتحت ستار المبدأ السليم الذي يقول إن الصور المنطقية ذات دلالة وجودية، يتسلل مبدأ مختلف عنه جد الاختلاف، وهو عبارة عن فكرة ميتافيزيقية عن الوجود الخارجي؛ ثم تستعمل هذه الفكرة التي تسيطر على صاحبها في طريقة نظره إلى الأشياء، فيحدد على أساسها معنى الثوابت المنطقية؛ وبهذا يتحول المنطق إلى شيء يعتمد وجوده على وجود غيره، إذ يعتمد على مبدأ ميتافيزيقي لا يوصل إليه هو نفسه بطرائق يسنها المنطق وحده؛ أضف إلى ذلك أن الثوابت في منهج البحث العلمي هي ثوابت بالقياس إلى مجموعة معينة من القضايا، على حين أن وجهة النظر التي نهاجمها بالنقد تزعم أن الثوابت ثوابت على وجه الإطلاق.
وإن القول بوجود الصور في الوجود الخارجي، وهو أحد جوانب الزعم الميتافيزيقي الذي أسلفناه، ليستوقف النظر بوضوحه، وذلك في كونه بحكم تعريفه مختصًّا بالوجود الفعلي، على حين أن البحث في الوجود الفعلي يستحيل عليه الوصول إلى نتائج إلا إذا كانت هذه النتائج ذات درجة معينة من درجات الاحتمال؛ وواضح أن تصورنا لثابت محتمل، ولبناء تكويني مستعصٍ على التغير، إنما هو تصور لما ينقض نفسه بنفسه؛ هذا إلى أن التصور في ذاته تبرع منا لا تقتضيه الضرورة، لأن مثول الصور الثابتة التي تحتمها الضرورة الإجرائية للوصول (خلال البحث) إلى نتائج جائزة القبول، أقول إن مثول تلك الصور الثابتة هو ما يمكن تعليله تعليلًا كاملًا على أساس سيرنا في البحث نفسه سيرًا موجهًا توجيهًا قديرًا؛ فالزعم بوجود تقابل تام بين صور المعرفة الموثوق بها، وصور الوجود الخارجي، بحيث تقابل كل صورة من هذه صورة من تلك، هو زعم لا ينشأ عن شروط محتومة داخل إطار منطق البحث نفسه، بل إنه لزعم صادر عن مصدر خارجي، إبستمولوجي وميتافيزيقي.
- (١) يتميز تاريخ التقدم الحقيقي للعلوم باصطناع وابتكار الحيل المادية وما يتصل بها من تقنيات: كضروب الأجهزة العلمية المعقدة والتي نال منها التهذيب، وما يتصل بها من تقنيات محدودة في طريقه استعمالها؛ ففي نصف القرن الأخير نفسه، حدث انقلاب في علم الفلك، بسبب اختراع واستعمال أدوات مادية في البحث، كالمنظار الطيفي، والبولومتر، وعدسة ما وراء الأشعة البنفسجية، والمستحلبات الكيموية في التصوير الفوتوغرافي، واستخدام الألومنيوم بدل الزئبق لكساء المرايا، والتقنيات التي مكنتنا من صناعة عدسات قطرها ثمانون بوصة، ومرايا قطرها مائتا بوصة.٥
- (٢)
وما قد خلقته هذه الآلات لنا من معطيات جديدة، يفيدنا بأكثر من مجرد تزويدنا بحقائق نؤيد بها أفكارنا القديمة ونهذبها؛ إذ هو يثير أمامنا طبقة جديدة من المشكلات التي يتطلب حلها إطارًا جديدًا من التصورات الذهنية نرجع إليه عند الحل؛ ونذكر بصفة خاصة أن استعمال الآلات الجديدة والتقنيات الجديدة هو الذي كشف لنا عن وجود تغيرات وعلاقات بين المتغيرات فيما قد كان يظن من قبل أنه ثابت، وهو كشف سِرْنا فيه بخطًى تزداد سرعة منذ القرن السابع عشر؛ ولقد كان هذا التغير الذي طرأ على طبيعة المعطيات سببًا ونتيجة — في وقت واحد — لاصطناع الإنسان في شتى أرجاء العالم للمنهج التجريبي، ولهذه الطبقة الجديدة من التصورات العقلية التي اقتضاها تنفيذنا لذلك المنهج تنفيذًا موفقًا.
- (٣)
ولقد كان هذا الانقلاب العلمي مصحوبًا — في جانب التصورات العقلية — بانقلاب في مدركاتنا الرياضية؛ وكان هذا الانقلاب هو أيضًا سببًا من ناحية ونتيجة من ناحية أخرى؛ فطالما كانت هندسة إقليدس مأخوذة على أنها النموذج الأمثل للمنهج الرياضي، كانت مقولات الرياضة المضمرة فيها، من نوع لا يجد سبيله إلى التطبيق إلا في مجال التكوينات الثابتة داخل حدود معلومة؛ لهذا لبث منطق الاستنباط من حقائق عقلية ثابتة أولية، هو المسيطر حيثما اقتضت الضرورة قيام مبادئ عامة؛ ثم جاءت التحليلات الديكارتية، وحساب التفاضل والتكامل، وما ترتب على ذلك من تطورات، نتيجة اقتضاها تغيير موضع الاهتمام تغييرًا جوهريًّا في مجال البحث العلمي، إذ تركز الاهتمام في الارتباطات التي تربط المتغيرات؛ هذا في الوقت الذي أدى فيه تطور المدركات الرياضية تطورًا مستقلًّا إلى الكشف — عند تطبيق تلك المدركات على الوجود الخارجي — عن مشكلات جديدة أوسع نطاقًا وأدق أطرافًا، تتصل بما بين المتغيرات من ارتباط.
وحدث في الوقت نفسه أن نظرية في المنطق تأخذ بالمبدأ التجريبي أخذًا صحيحًا، وتساير البحث العلمي الحقيقي كما يمارسه العلماء عملًا، قد غُلَّتْ عن السير غلًّا خطيرًا، وانحرفت عن جادة الطريق، لتشبثها بمجموعة من أفكار كانت قد تطورت في العصر السابق على نشأة العلم؛ فكان من أثر المفارقة القائمة بين هذا الإطار الفكري من جهة والبحث العلمي في إجراءاته الحقيقية ونتائجه الفعلية من جهة أخرى، أن ازداد موقف المدرسة اللاتجريبية التي تأخذ بالمبادئ القبلية، قوة، وجاءت هذه الزيادة في قوة موقفها على سبيل رد الفعل؛ لمنطق «مل» — باعتباره ممثلًا لطراز من التجريبية ظهر في مرحلة باكرة — جدير بالذكر، من حيث هو دمج لشيئين: العناية الحقيقية بالمنهج العلمي على أنه المصدر الوحيد للنظرية المنطقية السليمة، وفهم هذا المنهج فهمًا خاطئًا، وما مصدر خطئه إلا التمسك بأفكار صِيغت قبل نشأة المنهج العلمي الحديث، عن الإحساسات وعن الجزئيات والتعميمات: فكان حاصل هذا الموقف إنكارًا منه لأهمية التصورات العقلية، وإنزاله للفرض العلمي منزلة ثانوية «مساعدة»، وظنه بأن الجزئيات وحدها يمكنها أن «تبرهن» على قول عام … إلخ.
وإذن فهذا الفصل — في جانبيه النقدي والإيجابي معًا — تمهيد لتمحيص مفصَّل لمنطق المنهج العلمي، كالذي نراه ماثلًا في العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية؛ وهكذا ترى النظام الذي اتبعناه في عرض الموضوعات في هذا المؤلَّف يسير بوجه من الوجوه في اتجاه مضاد للنظام الذي تطورت به مضموناتها في الواقع؛ لأن النظرات المنطقية الخاصة، وهي النظرات التي بسطناها فيما أسلفناه من حديث، تمثل — كما ذكرنا الآن — نتائج تحليل الشروط المنطقية للمنهج العلمي، وتحليل ما ينطوي عليه هذا المنهج من أصول؛ على حين أن تلك الشروط وهذه الأصول قد وردت في غضون الفصول السابقة، مأخوذة — في الأغلب — على أساس موقفها المنطقي الصرف؛ وعلى هذا فالفصول الآتية ستؤدي لنا مهمتين: فهي ستكون بمثابة الصياغة الصريحة للأسس الأولية التي تنبني عليها الآراء التي أسلفنا شرحها، وستكون في الوقت نفسه اختبارًا لسلامة هذه الآراء.
وسنتناول الشروط المنطقية للاستنباط الرياضي أول ما نتناول من الموضوعات التي سنتعرض لها بالحديث، للدور الهام الذي تقوم به الرياضة في العلم الطبيعي وكذلك للجانب الصوري المتميز بطابع خاص في مادة البحث الرياضي.