جذور البحث تنبت في الوجود الفعلي
يختص هذا الفصل والفصل الذي يتلوه بتفصيل ما تنطوي عليه العبارة القائلة بأن المنطق يستمد خصائصه من الطبيعة؛ فسيُعنَى هذا الفصل بأسس البحث الطبيعية البيولوجية؛ فواضح بغير إقامة الحجة أن الناس إذ يبحثون يستخدمون أعينهم وآذانهم وأيديهم ورءوسهم؛ وهي كلها أعضاء بيولوجية؛ الحاسُّ منها والمحرك والمركزي؛ ومِن ثَم كانت العمليات والتكوينات البيولوجية شروطًا ضرورية للبحث إن لم تكن كافية وحدها. وهذه الحقيقة القائلة بأن البحث يتضمن استخدام عوامل بيولوجية، هي حقيقة يُفرض فيها عادة أنها تثير مشكلة خاصة في مجال الميتافيزيقا أو الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) وأعني بها مشكلة العلاقة بين العقل والجسم؛ وحين تُحال المسألة على هذا النحو إلى مجال خاص، بغض النظر عندئذٍ عن أهميتها بالنسبة إلى النظرية المنطقية؛ غير أننا إذ نقول عن الوظائف البيولوجية إنها مقومات لا غنى عنها للبحث، فلسنا بهذا القول نورط المنطق في حبائل النظريات المختلفة عن العلاقات التي تصل العقل بالجسد؛ فحسبنا أن نقبل الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها، وهي أن الوظائف البيولوجية عوامل لا بد منها في البحث، ثم ننظر بعد ذلك كيف تعمل تلك العوامل في سيره؛ والغاية من الدراسة الآتية هي أن نبين أن الوظائف والتكوينات البيولوجية تمهد الطريق أمام البحث الذي نقوم به عن تدبير، ثم نبين كيف تؤثر سلفًا في نمط ذلك البحث.
والمصادرة الأولى لنظرية المنطق القائمة على أساس طبيعي، هي اتصال الأدنى (أي الأقل في درجة التركيب) بالأعلى (أي الأكثر في درجة التركيب) من درجات المناشط والصور؛ وليست فكرة الاتصال هذه موضحة لنفسها بنفسها؛ غير أن معناها يُبعد طرفين: فهو يبعد — من جهة — أن يكون هنالك قطيعة تامة بين الأدنى والأعلى، كما يُبعد أن يكون هنالك مجرد تكرار للواحد في الآخر تكرارًا يجعلهما شيئًا واحدًا بذاته؛ أي إنه يبعد إمكان تصفية «الأعلى» بحيث ينحل في «الأدنى»، كما أنه يبعد أن يكون بين الجانبين ثغرات وفجوات لا سبيل إلى وصلها؛ وإن نمو الكائن العضوي الحي — كائنًا ما كان — وتطوره من البذرة إلى النضج، لَيوضح لنا معنى الاتصال؛ ونستطيع بدراسة ما يحدث فعلًا أن نحدد الطريقة التي يتم بها مثل هذا التصور؛ فليس الذي يحدد لنا هذه الطريقة تصورات عقلية نقيمها في أذهاننا مقدمًا، وإن تكن أمثال هذه التكوينات العقلية مما قد يُعيننا باعتباره فروضًا نهتدي بها في توجيه ما نقوم به من ملاحظة وتجربة.
فلسنا نستطيع — مثلًا — أن نقول مقدمًا إن كان التطور يتقدم في سيره بزيادات طفيفة، أو هو يتقدم في ذلك السير بقفزات مباغتة؛ أو أن نقول مقدمًا إن كان سيره من الجزء إلى الكل بأن يُراكم العناصر بعضها فوق بعض، أم هو يبدأ بالكل كاملًا ثم يأخذ في تفريعه إلى أجزاء محددة ومتصل بعضها ببعض؛ فليس في هذه الإمكانات ما يُحذف؛ إذ كلها صالح أن يكون «فروضًا» تُختبر بنتائج البحث الذي نجريه عليها؛ أما الذي تبعده مصادرة الاتصال فهو هذا الذي يبدو على المسرح، آتيًا من الخارج ولا علاقة أبدًا بينه وبين ما هو قائم، ثم نزعم له أنه القوة التي تسبب ما يحدث من تغيرات؛ نعم يجوز أن ينبثق من التغيرات التي تُعزَى إلى ضرب من ضروب النشاط الإشعاعي ضرب جديد جدة تَسترعي النظر، إلا أن النشاط الإشعاعي لم يُختلق جزافًا ولم يُؤتَ به من الخارج لنتخذه وسيلة لتفسير أمثال هذه التغيرات؛ بل إنه لَيُعرف أول ما يُعرف قائمًا في الطبيعة ثم نعلم بعد ذلك — إن كانت تثبت هذه النظرية الخاصة بنشأة التغيرات المذكورة — أنه يحدث فعلًا في الظواهر البيولوجية، وأنه يعمل في تلك الظواهر عملًا يمكن ملاحظته ووصفه، أما إذا دلت نتائج البحث على أن التطور يسير بزيادات طفيفة، فلن تستطيع تلك الزيادات مهما بلغ مقدارها أن تُحدث «تطورًا» اللهم إلا إذا تَوَلَّد عن تراكمها شيء جديد يختلف عنها كيفًا.
فتطبيق مصادرة الاتصال على دراستنا لمادة المنطق معناه إذن — من ناحيته السلبية — أننا لكي نفسر الخصائص المتميزة الفريدة التي تميز مادة المنطق، لن نستحدث — فجأة — قوة جديدة أو ملَكة جديدة ﮐ «العقل» أو «الحدس الخالص»؛ بل إن معناه — من ناحيته الإيجابية المشخصة — هو ما نبسطه من شرح معقول للطرائق التي يمكن بها للسمات التي تتميز بها عملية البحث ذي الخطة المدبرة والكيان المستقل، أن تنشأ من مناشط بيولوجية لا تتسم بتلك السمات؛ نعم إنه في مقدورنا بطبيعة الحال أن نتناول الموضوع المباشر لدراسة المنطق دون أن يثار هذا الإشكال؛ لكنه مما يستثير دهشتنا أن نرى الكُتاب الذين لا ينفكون عن رفضهم لكل ما هو خارق للطبيعة أو خارج عنها من التسلل إلى الميادين العلمية الأخرى على اختلافها؛ نراهم في الوقت نفسه لا يترددون إطلاقًا في استحداث «عقل» أو «حدس» قبلي في ميدان النظرية المنطقية؛ مع أن رجال المنطق — فيما أرى — ملزَمون أكثر من سواهم أن يجعلوا موقفهم في المنطق متسقًا مع ما يعتقدونه عن مواد الدراسة الأخرى.
إن على المنكِر لما هو خارق للطبيعة تبعة فعلية، وهي أن يبين كيف يرتبط الجانب المنطقي بالجانب البيولوجي ارتباطًا يمتد سيره في خطوات متصل بعضها ببعض، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام؛ لأنه إذا لم نوفَّق في الدراسة الآتية في أداء هذه المهمة — مهمة عرضنا لهذا الطريق المتصل المراحل عرضًا مقنعًا — كان إخفاقنا بمثابة التحدي، الذي يتطلب من أولئك الذين يقبلون إقامة المنطق على أساس مصادرة طبيعية، أن يقوموا هم بأداء هذه المهمة بطريقة أفضل.
إنه مهما يكن من أمر الصفات التي تتصف بها الحياة العضوية أو لا تتصف فلا مراء في أنها فاعلية تقتضي بيئة لسيرتها؛ فهي إذن عملية تمتد حتى تُجاوز الحدود المكانية التي تحد الكائن العضوي؛ إذ الكائن العضوي لا يحيا «في» بيئة، بل هو يحيا متوسلًا ببيئة؛ فالتنفس وإدخال الطعام وإخراج الفضلات، كلها حالات للاتصال «المباشر» بين الكائن العضوي وبيئته، ودورة الدم وتنشيط الجهاز العصبي حالتان «غير مباشرتين» نسبيًّا من حالات ذلك الاتصال، غير أن كل وظيفة عضوية هي تفاعل بين طاقات بعضها داخل في كيان الكائن العضوي وبعضها الآخر خارج عن ذلك الكيان، وقد يكون ذلك التفاعل مباشرًا أو غير مباشر؛ وذلك لأن الحياة تستتبع إنفاقًا للطاقة، ولا سبيل إلى تعويض الطاقة المفقودة إلا إذا استطاعت أوجه النشاط التي يؤديها الكائن العضوي أن تستمد مددها من البيئة؛ فالبيئة هي المعين الوحيد الذي يستقي منه ما يُعيد إليه الطاقة المفقودة؛ حتى الحيوان الذي تجمد فيه الحياة أثناء سباته الشتوي لا يستطيع أن يحيا على نفسه إلى غير نهاية؛ على أن الطاقة المسحوبة من الخارج لا تندفع مضغوطة من الخارج إلى الداخل، بل إنها لَتجيء نتيجة لطاقة ينفقها الكائن العضوي؛ فإذا زادت الطاقة المجلوبة عن الطاقة المفقودة، حدث النمو؛ ويبدأ الانحلال حين يزيد المفقود على المجلوب؛ نعم إن في العالم أشياء لا صلة لها بفاعلية الحياة في الكائن العضوي، لكن هذه الأشياء عندئذٍ لا تُعد جزءًا من بيئته اللهم إلا على سبيل القوة لا على سبيل الفعل؛ وهكذا تكون عمليات العيش قائمة على ما تقتضيه البيئة، تمامًا كما تقوم على ما يقتضيه الكائن العضوي نفسه، لأن هذه العمليات إن هي إلا تكامل الجانبين معًا.
ويتبع ذلك أن يتسع نطاق البيئة كلما حدث في تكوين الكائن العضوي تمايز بين أعضائه؛ لأن العضو الجديد يهيئ له طريقة جديدة يتفاعل بها مع بيئته، فأشياء مما لم يكن من قبل ذا صلة بالكائن العضوي، تدخل في وظائفه الحيوية؛ حتى لتختلف بيئة الحيوان ذي الجهاز الحركي عن بيئة النبات اللاصق بالأرض، وبيئة السمكة الهلامية مختلفة عن بيئة السمكة النهرية الرقطاء؛ وبيئة السمك في مجموعه مختلفة عن بيئة الطائر؛ ونعيد هنا ما قلناه توًّا، وهو أن الفرق في هذه الحالة ليس يقتصر على كون السمكة تحيا «في» الماء، وأن الطائر يحيا في الهواء؛ بل إن الوظائف المميزة لكل منهما قد أصبحت على ما هي عليه بسبب الطريقة الخاصة التي يدخل بها الماء في مناشط السمك، ويدخل بها الهواء في مناشط الطير.
وحين تتباين الأعضاء في سبل تفاعلها مع البيئة، تنشأ الحاجة إلى إيجاد توازن بينها؛ أو إن شئت عبارة موضوعية لهذا المعنى، فقل إن الحاجة تنشأ إلى بيئة موحدة. ومثل هذا التوازن تكون وسيلته جهازًا يرد به الكائن العضوي على مختلف الحالات التي قد تحدث داخل كيانه والحالات التي قد تحدث في بيئته الخارجية على السواء؛ مثال ذلك عملية التنفس — وهي وظيفة عضوية قد تبدو مستقلة بذاتها — فهي إذ تظل ثابتة، تكون وسيلتها إلى الثبات ذلك التبادل الحي بين العناصر القلوية وعناصر ثاني أكسيد الكربون الناشئة من الضغوط المتغيرة التي يُحدثها الدم من جهة، وثاني أكسيد الكربون الذي في الرئتين من جهة أخرى؛ والرئتان بدورهما إنما تعتمدان على التفاعلات الناشئة عن الكليتين والكبد، وهذه تُحدث تفاعلات بين الدورة الدموية والمواد التي تصادفها عملية الهضم في طريقها؛ ومجموعة هذه التغيرات المعتمد بعضها على بعض، والتي تسير على توقيت دقيق بعضها مع بعض، إنما تنظمها تغيرات في الجهاز العصبي.
ونتيجة هذه المجموعة الدقيقة المركبة من التغيرات الداخلية، هي قيام حالة من التكامل مع البيئة لها من الاطِّراد قسط موفور، أو إن شئت عبارة أخرى تعبر عن نفس المعنى، فقل إن نتيجتها هي قيام بيئة موحدة إلى حد ملحوظ؛ ولا كذلك ما يكون بين الجوامد ومحيطها من تفاعلات، لأن مثل هذه التفاعلات لا يكون من شأنها أن تُقيم علاقة ثابتة بين الأشياء الداخلة في الأمر؛ فضربة المطرقة — مثلًا — تحطم قطعة الحجر قِطَعًا صغيرة؛ أما عند الكائن الحي، فطالما تظل حياته قائمة على صورتها العادية، فلا يكون من شأن التفاعلات التي يدخل فيها الكائن العضوي والبيئة بطاقاتهما، إلا أن تحافظ على قيام الظروف التي يتطلبها كل من الجانبين لتعينه على تفاعلات أخرى مقبلة؛ وبعبارة أخرى فإن هذه العمليات إنما تكون حافظة لقيام نفسها بنفسها على النحو الذي لا يتوافر في حالة التفاعلات التي تحدث بين الأشياء غير الحية.
وليست تقتصر هذه القدرة على الكائنات العضوية الفردية، أعني القدرة على الاحتفاظ بصورة مطردة من التفاعل بين الكائن العضوي وبيئته؛ بل إنها لَتتبدى كذلك في إنسال الكائن العضوي لشبيهه؛ أما الحجر فمفروض فيه الحياد فلا يبالي كيف يجيء رد فعله من الناحية الآلية والناحية الكيموية (داخل حدود ما تحتمله طبيعته) بالنسبة إلى الأشياء الأخرى؛ فقد يفقد الحجر فرديته، لكن العمليات الآلية والكيموية الأساسية تمضي في طريقها غير متأثرة بتلك الفردية الضائعة؛ وأما الكائن العضوي فما دامت حياته قائمة، فإنه يؤدي من العمليات ما يكفل له قيام وتجديد أنواع العلاقة المستديمة قيامًا يتصل في غير انقطاع، وذلك هو الطابع الذي يميز مناشط الحياة في الكائن العضوي المعين.
ولئن كان كل منشط يمهد الطريق للمنشط الذي يتلوه، إلا أن هذه المناشط المتتابعات لا تكون مجرد حالات يعقب بعضها بعضًا، بل إنها لتكون سلسلة متصلة حلقاتها. وصفة التسلسل هذه التي تميز مناشط الحياة إنما تنشأ عن طريق التوازن الدقيق للعناصر المركبة التي تدخل في تكوين كل منشط على حدة. ولو اضطرب هذا التوازن الكائن في داخل المنشط الواحد المعين — أي لو زاد أحد العناصر زيادة نسبية عما ينبغي له أو نقص — إذن لبرزت الحاجة فالبحث فإشباع تلك الحاجة، وإنني لأستخدم هذه الكلمات بمعناها الموضوعي وكلما ازداد مدى التباين في تكوين الكائن العضوي، وازداد — تبعًا لذلك — مدى المناشط التي تقابل ذلك التباين، ازداد الأمر عسرًا في إقامة التوازن بين عناصر الكائن الحي؛ حتى لَيجوز لنا أن نعد العيش خطوات مستمرة التتابع: فخطوة يختل فيها التوازن، تتبعها خطوة يعود فيها التوازن إلى اعتداله؛ وكلما «علا» الكائن العضوي في سلم الكائنات، ازداد اختلال التوازن في كيانه خطورة، كما ازدادت — وكثيرًا ما طالت أمدًا كذلك — حدة الجهود اللازمة لاستعادة التوازن المفقود؛ فإن كانت حالة التوازن المختل تولد «حاجة»، في الاتجاه نحو استعادة التوازن إلى حالته الأولى هو البحث والاستكشاف حتى إذا ما أُعيد التوازن فعلًا كان ذلك هو استيفاء الحاجة أو إشباعها.
فالجوع — مثلًا — هو حالة من حالات التوازن المفقود بين العناصر العضوية من جهة والبيئية من جهة أخرى، أعني توازنها في كيان يُكمل بعضه بعضًا؛ وتلك هي الحياة. مثل هذا الاضطراب إنما يَنتج عن نقص في الاستجابة الكاملة نحو مواءمة الوظائف العضوية المختلفة بعضها لبعض؛ فوظيفة الهضم لا تحقق ما هي مطالَبة بأدائه مباشرة؛ والذي يطالبها به هو الجهاز الدوري الذي يحمل مادة التغذية — لتعويض الجانب المفقود — إلى كافة الأعضاء المختصة بأداء وظائف أخرى؛ وكذلك تعجز وظيفة الهضم عن تحقيق ما هي مطالَبة به مطالبة غير مباشرة توجهها إليها نواحي النشاط الحركي؛ وهكذا تنشأ حالة من التوتر حقيقية (لا مجرد شعور بها) قوامها ململة وقلق عضويان؛ وبعدئذٍ تنتقل حالة التوتر هذه (وهي التي تحدد لنا معنى الحاجة) إلى بحث عن المادة التي تعيد حالة الاتزان من جديد؛ وإنك لترى هذه الحالة في الكائنات العضوية الدنيا متمثلة فيما يحدث على أجزاء سطحها من انتفاخات وتقلصات، تُتيح للمادة المغذية أن تدخل في كيانها العضوي؛ حتى إذا ما دخلت فيه أنشأت في كل أرجاء الحيوان ضروبًا من النشاط من شأنها أن تعيد التوازن الذي هو إشباع نتج عن حالة التوتر السابقة.
فلو ضربنا مثلًا لما نقوله حالة البحث عن الطعام كما نراها عند الكائنات العضوية العليا، ظهر لنا في وضوح أن عملية البحث نفسها كثيرًا ما تؤدي بالكائن العضوي إلى بيئة تختلف عن بيئته القديمة، وأن الاغتذاء بالطعام في ظل الظروف الجديدة يقتضي تحويرًا في حالة الكائن العضوي؛ فها هنا يكون الجانب الذي أُعيد إنشاؤه هو «صورة» العلاقة بين الحي وبيئته، أي «صورة» التفاعل بينهما، لا الظروف القديمة بعينها؛ وما لم نتبين هذه الحقيقة، أصبح الانتقال من حالة إلى حالة أمرًا خارقًا للمألوف خارجًا عن المعتاد، بدل أن يكون هو الخاصة الطبيعية التي تتميز بها مناشط الحياة؛ فالحاجة تظل عاملًا ثابتًا، لكنها تغير من مضمونها؛ ومع هذا التغير في مضمون الحاجة ينشأ تغير في مناشط الاستكشاف والبحث؛ ثم هذا التغير الأخير يستتبع بدوره تغيرًا في سد الحاجة أو إشباعها؛ نعم إنه لا شك في قوة الميل نحو الجمود على حالة بعينها، ومعنى ذلك أن ثمة ميلًا نحو «العودة» إلى ما قد كانت عليه الحال؛ غير أنه بالنسبة إلى الكائنات العضوية الأكثر تركيبًا من سواها — إن لم يكن بالنسبة إلى سواها كذلك — نرى نشاط البحث يقتضي تحويرًا في البيئة القديمة، حتى وإن اقتصر ذلك التحوير على تغيير العلاقة التي تصل الكائن العضوي بتلك البيئة. وحين يكون الانتقال من حال إلى حال من السعة بحيث نسميه تطورًا عضويًّا، فعندئذٍ لا يكون مصدره إلا القدرة على خلق طريقة جديدة من المواءمة استجابة لظروف جديدة، ثم الاحتفاظ بتلك الطريقة بعد خلقها؛ وإن ذلك ليصدق بصفة خاصة على الكائنات البشرية؛ فالمناشط التي تنشط بها هذه الكائنات إشباعًا لحاجاتها تغير من البيئة إلى الحد الذي يخلق حاجات جديدة تتطلب بدورها تغيرًا جديدًا في مناشط الكائن العضوي لسد تلك الحاجات، وهكذا دَوَالَيْك في سلسلة لا تنتهي احتمالاتها.
وفي حالة الكائنات العضوية الدنيا، يحدث معظم التفاعل بين الطاقات العضوية من ناحية والبيئية من ناحية أخرى عن طريق التماس المباشر؛ أي إن توتر الكائن العضوي يكون تجاذبًا بين سطحه الخارجي وداخله؛ وأما في الكائنات العضوية ذوات القدرة على إدراك المسافة وذوات الأعضاء المحركة، فصفة التسلسل الذي يربط سلوكها في حياتها حلقة سابقة بحلقة لاحقة، تقتضي أن تكون الأفعال السابقة في سلسلة السلوك ممهدة بطبيعتها للأفعال اللاحقة؛ ومعنى ذلك أن الفترة الزمنية التي تقع بين نشوء الحاجة وتحقق إشباعها، تصبح بالضرورة أطول أمدًا حين لا يكون التفاعل عن طريق المس المباشر؛ لأن بلوغ التكامل (بين الحي وبيئته) يتوقف عندئذٍ على إقامة الروابط بين الكائن الحي والأشياء التي تقع منه على مبعدة وتُثير فيه نشاطه الكشفي بإثارتها للعين والأذن؛ وبهذا يوضع نظام معين لترتيب مراحل النشاط: أولها وأوسطها وآخرها؛ وها هنا تكون نهاية المراحل منطوية على حالة من اختلال التوازن في الكائن العضوي. بحيث يستحيل عليه بلوغ درجة التكامل بين أعضائه إذا اكتفى بمادة مما يمس كيانه العضوي مسًّا مباشرًا؛ فعندئذٍ تراه يميل ببعض جوانب نشاطه إلى اتجاه ما، وببعضها الآخر إلى اتجاه آخر: ونزيد في التخصيص فنقول إن نشاطه الذي يلمس به بيئته المباشرة في وضعه الراهن، ونشاطه المثار عن طريق حواسه المدركة للبعد المكاني، يتجاذبان تجاذبًا ينتهي بسيطرة النشاط الثاني على النشاط الأول؛ فالحيوان الشبعان لا يستثيره منظر الفريسة أو رائحتها، مع أنهما كفيلان بتحريكه في حالة الجوع؛ ومناشط البحث عند الحيوان الجائع تكون سلسلة تتوسط حلقاتها بين البداية والنهاية، وعند كل مرحلة وسطى يظل التوتر قائمًا بين أوجه النشاط التي تقتضيها الظروف المباشرة وتلك التي يستجيب بها لمثيرات بعيدة تؤثر فيه عن طريق حواسه التي يدرك بها الأشياء البعيدة؛ ولهذا تستمر الحركة إلى أن يستتب تكامل بين نوعي النشاط: ما يستثيره المثير القريب وما يستثيره المثير البعيد عن طريق النشاط البصري والحركي، وهذا يحدث حين يبلغ الكائن الحي مرحلة التهام الطعام.
هذا القول الذي أسلفناه إنما يصف الفرق بين أساليب التفاعلات حين يكون أحد الطرفين المتفاعلين عوامل البيئة، والطرف الآخر عوامل عضوية، وهي التفاعلات التي يصح تسميتها باسم الإثارة ورد الفعل، أو باسم المثير والاستجابة؛ فمثلًا ترى الحيوان الساكن قد استثارته إثارة حسية إلى التشمم؛ فلو عزلنا هذا الموقف الخاص بما فيه من علاقة وجعلناه موقفًا كاملًا بذاته، أو فرضنا فيه هذا التكامل الذاتي، كان لدينا بذلك حالة مجردة من حالات الاستثارة ورد الفعل، وشبيه بذلك أن يقفز إنسان حين يسمع صوتًا مفاجئًا، ثم لا يفعل شيئًا غير مجرد القفز؛ فالاستثارة من نوع خاص وكذلك رد الفعل من نوع خاص؛ وافرض أن الاستثارة قد جاءت من شيء بعيد عن طريق إحدى حواس البعد المكاني كالعين، فها هنا كذلك تنشأ حالة من الاستثارة ورد الفعل؛ أما إذا استُثير الحيوان للقيام بعمل فيه متابعة، فعندئذٍ يكون الموقف من طراز مختلف أشد اختلاف عما ذكرنا؛ فلئن كانت هنا أيضًا حالة خاصة من حالات الاستثارة الحسية، إلا أنها تتشابك تشابك الاتساق مع عمليات عضوية أخرى أكبر عددًا مما في الأمثلة السابقة؛ إذ تتشابك مع أعضاء الهضم والدورة الدموية، ومع الجهاز العصبي العضلي، سواء منها ما هو ذو كيان مستقل وما هو متصل بالحس والحركة وما هو مركزي؛ حتى إذا ما تم هذا التشابك المتسق بين الأعضاء بحيث أصبح بمثابة حالة معينة تسود الكيان العضوي باعتباره كلًّا واحدًا، نشأ عن ذلك ما نسميه «مثيرًا»؛ والفرق بعيد بين هذه الحالة (وسمها بما شئت من أسماء) وبين حالة الاستثارة الحسية الجزئية الخاصة؛ إذ إن تعقب الفريسة هو استجابة لحالة تسود الكائن العضوي كله، وليست هي استجابة لاستثارة خاصة تلقاها عضو معين من أعضاء الحس؛ والحق أن التمييز بين ما أسميناه مثيرًا وما أسميناه استجابة لا يتم إلا بعد تحليل عقلي؛ فما قد أسميناه بالمثير — لكونه هو الحالة الشاملة للكيان العضوي كله — إنما يتحول من تلقاء نفسه — لما هنالك من ضروب التوتر — إلى مناشط التعقب التي نطلق عليها اسم الاستجابة؛ فليس المثير إلا الجزء السابق من المجموع السلوكي المتسق المتصل الحلقات، وليست الاستجابة إلا جزءه اللاحق.
إن المبدأ الكامن في هذا التمييز الذي فرغنا لِتوِّنا من بيانه لَأهم جدًّا مما قد يبدو للنظرة الأولى، ولو غضضنا عنه النظر لأفلتت منا صفة التسلسل التي هي طابع يميز السلوك، ولأصبح السلوك عندئذٍ مجرد تتابع لوحدات من الاستثارة والاستجابة معزولة إحداها عن الأخرى. مستقل بعضها عن بعض؛ يمكن مقارنتها بنفضات متتابعة في العضل — مثلًا — نتجت عن جهاز عصبي أصابه شيء من الاضطراب، أما إذا تبينا حقيقة المثير على أنها توتر يشمل النشاط العضوي بأسره (وهو توتر يمكن رده في النهاية إلى التجاذب القائم بين مناشط البيئة المباشرة من جهة والمناشط التي تستحدثها إثارة الحواس المدركة للبعد المكاني) فعندئذٍ ندرك أن المثير في «علاقته» بالمناشط الخاصة يظل ثابتًا على طبيعته خلال التعقب من أوله إلى آخره، ولو أنه يغير من مضمونه الفعلي عند كل مرحلة من مراحل الطراد؛ فحين يعدو الحيوان في طراده، تتغير الاستثارات الحسية الخاصة، كاستثارات حواس اللمس والشم والبصر، مع كل تغير يطرأ على وضعه أو على طبيعة الأرض التي يعدو عليها، أو على الأشياء التي يمر بها (كالشجيرات والصخور) في طريق عدوه؛ وكذلك تتغير الاستثارات الحسية الخاصة من حيث حدتها مع كل تغير يطرأ على المسافة التي تفصله عن طريدته.
غير أنه رغم هذه التغيرات كلها في الاستشارات. فسيظل متسقًا بعضها مع بعض بحيث يتكون منها مثير واحد؛ وإنما يوحد بينها على هذا النحو تلك الحالة الشاملة للكيان العضوي كله؛ وإنه لمحال على النظرية التي تجعل المثير هو نفسه يتابع حالات الاستثارة الجزئية، أن تفسر الاستجابات المتصلة الموحدة كالتي نراها في مطاردة الفريسة وصيدها؛ فبناءً على تلك النظرية يتحتم على الحيوان في كل مرحلة أن يتخذ «استجابة» (رد فعل) جديدة معزولة بنفسها يستجيب بها لكل شيء على حدة مما يعترضه في طريقه؛ يتحتم عليه أن يستجيب للصخور والشجيرات وللتغيرات في مستوى الأرض وطبيعتها، استجابات تبلغ من الكثرة ومن التفكك حدًّا لا يدع مكانًا للاتصال في عملية السلوك؛ وقد ينسى الحيوان — كما يقول الناس عن أنفسهم — غايته المنشودة في غمرة ردود أفعاله المستقل بعضها عن بعض، التي يرد بها على استثاراته المنفصل بعضها عن بعض؛ وذلك لأن السلوك في حقيقته عملية تشمل الحالة الشاملة للكيان العضوي كله في علاقته ببيئته؛ فالمثيرات من حيث وظيفتها تظل ثابتة على الرغم من تغير المضمونات الخاصة للمواقف الجزئية؛ ومن أجل هذا كان السلوك سلسلة متصلة الحلقات، ينشأ كل فعل جزئي فيه من فعل سابق، ويؤدي بدوره — بما قد تراكم فيه من سوابقه — إلى فعل يتلوه، إلى أن يقع الفعل الذي يبلغ به الأمر نهايته والذي يتحقق فيه التكامل الأوفى.
ولما كان السلوك العضوي هو ما هو، وليس تتابعًا وتراكمًا لوحدات من الأفعال المنعكسة مفككة ومستقل بعضها عن بعض، كان له اتجاه وقوة تتزايد مع امتداده. نعم هنالك من الأفعال الخاصة — مثل غمضة العين وقفزة الركبة — مما يُساق تمثيلًا لأفعال منعكسة مستقلة إحداها عن الأخرى، وقد تجد من يتخذها الوحدات التي بتراكمها يتألف السلوك؛ لكنه ليس ثمة من دليل على أن أمثال هذه الأفعال قد لعبت أي دور في الارتقاء، بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ تدل الشواهد التي بين أيدينا على أنها أطراف نهايات تقف عندها خطوط الارتقاء في نواحٍ خاصة، وإن لم تكن هكذا فهي نتاج عرضي جاء اتفاقًا حين أخذت الأجهزة (العضوية) — التي نشأت خلال السير الارتقائي — تسلك سلوكها.
فما هو كائن بالفعل في العملية السلوكية العادية دورة أولها أو جانبها «المفتوح» هو توتر في العناصر المختلفة للطاقة العضوية، أما نهايتها أو جانبها «المغلق» فإقامة حالة متكاملة من تفاعل بين الكائن العضوي من ناحية والبيئة من ناحية أخرى؛ وهو تكامل يمثله في الجانب العضوي توازن الطاقات العضوية، وفي الجانب البيئي قيام الظروف التي تؤدي إلى حالة الإشباع؛ وختام الدورة — في سلوك الكائنات العضوية العليا — لا يكون هو نفسه الحالة الأولى التي أنشأت عدم التوازن والتوتر؛ إذ قد حدث تحوير في البيئة، حتى وإن اقتصر على مجرد التغير في الظروف تغيُّرًا لا بد للسلوك المقبل أن يحسب حسابه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأجهزة العضوية يحدث فيها كذلك من التغير ما يكون له أثره في السلوك المقبل؛ ومثل هذا التحوير هو قوام ما يُسمَّى بالعادة.
إن السلوك الارتقائي لَيدل — من جهة أخرى — على أن الاستثارات في الكائنات العضوية العليا، إنما ترتبط بردود الأفعال بصورة انتشارية إلى الحد الذي يجعل الحالة التالية نتاجًا لحالة الكائن العضوي كله في علاقته بالبيئة؛ وهذا الربط (بين الاستثارة وردِّ الفعل اللذَيْن يكونان على وجه جملي) في حالتَي العادة والتعلم، تشتد أواصره لا بمجرد التكرار، بل بإقامة أسلوب من التفاعل المنتج المتكامل بين فاعليَّتَي الجانبين: جانب الكائن العضوي وجانب البيئة، وأقصد بهذا التفاعل المنتج المتكامل أن ينتهي الاستكشاف والبحث بخاتمة مثمرة تختم مجرى النشاط؛ وعلى ذلك فنمط السلوك المتكرر، الذي يكون قد اتخذ صورة خاصة أكثر تحديدًا، أقول إن هذا النمط السلوكي — في حالة الكائنات العضوية التي تنزل من سلم التطور في درجاته العليا — لا يصبح كامل التحجر، بل هو يدخل عاملًا معاونًا — إلى جانب غيره من أنماط السلوك — لتتكون منها جميعًا استجابة عامة ملائمة للظروف، ومِن ثَم تراه قابلًا — إلى حدٍّ ما — أن يكون من المرونة بحيث يتقبل تحويرات أخرى كلما اقتضتها ضرورات الظروف الجديدة التي تنشأ عند التقاء الكائن العضوي ببيئته.
فهناك — مثلًا — إثارة متبادلة بين اليد والعين في نشاطهما، فنشاط بصري يثير حركة يدوية، ثم يتبع حركة اليد تغير في النشاط البصري وهكذا؛ فها هنا ترى نمطًا من الفعل المتكرر ذا طابع محدد، فلو أن اليد لم تؤدِّ إلا شيئًا واحدًا فقط، كأن تمتد لتُمسك مثلًا، لجاز لهذا النمط من سلوك العادة أن يصبح متحجر الصورة؛ لكن اليد تؤدي أفعالًا غير هذا، فهي تلقف وتدفع وتجر وتقلب الأشياء، ولهذا كان لزامًا على السلوك البصري أن يستجيب لما تؤديه المناشط اليدوية في تنوعها الشديد، وكان حتمًا أن تتسم بمرونة وقدرة على إعادة تكييف نفسها، حتى لا تصبح الرابطة بين اليد والعين رباطًا جامدًا.
إن الرأي القائل بأن العادات إنما تتكون بمجرد التكرار، لهو رأي يضع العربة أمام الحصان، لأن القدرة على التكرار هي نفسها نتيجة لعادة تكونت خلال عمليات معدلة من التكيف العضوي أحدثها تحقيق الكائن لخاتمة مثمرة. ومثل هذا التعديل هو بمثابة رسم اتجاه معين تتجه فيه الأفعال المستقبلة؛ فطالما ظلت ظروف البيئة على حال تقرب جدًّا من حالها الأولى، فسيبدو الفعل المترتب عليها وكأنما هو تكرار لفعل سبق أداؤه فيما مضى؛ ولكن التكرار — حتى في حالة كهذه — لن يكون دقيقًا ما دامت الظروف متغيرة؛ فمجرد التكرار — في حالة الكائنات البشرية — هو نتيجة الظروف التي اطَّردت على صورة واحدة لأنه قد أُريدَ لها أن تجيء على هذا الاطِّراد بوسائل آلية، كما يحدث في كثير من «عمل» المدرسة والمصنع؛ لكن أمثال هذه العادات الرتيبة لا تظهر إلا في نطاق الظروف المُصطَنَعة التي تُقام لتكون مجالًا لنشاطها؛ ولا يجوز أبدًا أن تُساق أمثال هذه العادات نموذجًا تُبنَى عليه نظرية في كيف تنشأ العادة وكيف تعمل.
-
(١)
فظروف البيئة وألوان فاعليتها إنما تنبث في ثنايا البحث حين يكون البحث ضربًا خاصًّا من السلوك العضوي؛ وكل شرح يصف عملية البحث وصفًا يفترض أن العوامل الداخلة في ثناياها، كالشك — مثلًا — والاعتقاد، والخصائص المشاهدة بالحس، والأفكار، هي عوامل موصولة الأطراف بكيان عضوي منعزل (كالذات أو النفس أو العقل) أقول إن كل شرح كهذا من شأنه حتمًا أن يهدم كل الروابط القائمة بين البحث باعتباره فكرًا نظريًّا، وبينه باعتباره منهجًا علميًّا؛ ومثل هذا الانعزال يقتضي بالضرورة أن نرى في البحث رأيًا يبطل الفكرة القائلة بأن ثمة رابطة ضرورية بين البحث والنظرية المنطقية؛٤ لكن هذا البطلان إنما يَرجع إلى قبولنا لمقدمة معينة بغير فحصها، وهي مقدمة نتجت عن ناحية «ذاتية» في الفلسفة الأوروبية، انطبعت بها هذه الفلسفة لظروف خاصة؛ أما إذا أردنا لمدلولات ألفاظ مثل الشك والاعتقاد والفكرة والتصور العقلي أن يكون لها أية صفة موضوعية — ودع عنك أن تكون قابلة للتحقيق الجماعي — فلا مندوحة لنا عن تحديدها ووصفها على أنها سلوك يتعاون فيه الكائن العضوي والبيئة في آنٍ معًا، أو قل إنهما يتفاعلان.
لقد بدأتُ حديثي السابق بتفرقة مألوفة، يُمليها الإدراك الفطري، بين الكائن العضوي والبيئة، ثم مضيت إلى التحدث عن تفاعلهما؛ غير أنه من المحتمل — لسوء الحظ — أن يتسلل إلى الموقف لا شعوريًّا تفسير فلسفي خاص ينظر إلى هذه التفرقة من الإدراك الفطري على أنها تدل على وجود جانبين مستقل أحدهما عن الآخر، هما الكائن العضوي من ناحية والبيئة من ناحية أخرى «وجدناهما» هكذا، ثم يجيء إليهما التفاعل جانبًا ثالثًا مضافًا إليهما ليتوسط آخر الأمر بينهما؛ مع أن الأمر في الواقع هو أن التفرقة تفرقة عملية تحدث على فترة معينة من الزمن، فتبدأ من حالة التوتر التي تطرأ على الكائن العضوي في لحظة معينة وموقف معين من مجرى نشاطه الحيوي، ثم تواجه هذه الحالة المتوترة بيئتها كما تكون قائمة عندئذٍ في ظروفها تلك؛ نعم إنه لا نزاع في قيام عالم طبيعي مستقلًّا عن الكائن العضوي، لكن هذا العالم لا يكون «بيئة» إلا بالحدِّ الذي يدخل به في الوظائف الحيوية بطريقة مباشرة وغير مباشرة؛ وكذلك الكائن العضوي نفسه جزء من عالم طبيعي أوسع، لكن لا يتم وجوده العضوي إلا لأنه على اتصالات فعالة مع بيئته.
فتكامل الجانبين أعمق أساسًا من التفرقة التي نشير إليها حين نتحدث عن التفاعل بين الكائن العضوي والبيئة؛ فالتفرقة دالة على تفكك جزئي بين ما قد كان متكاملًا بادئ ذي بدء، لكنه تفكك له من طبيعته الحركية ما يَميل به (ما دامت الحياة قائمة) نحو إصلاح ما قد فسد.
-
(٢)
إن مسلك الحياة في تكوينه وفي مجراه لذو نمط محدد يتصف بحلوله في مكان ووقوعه في زمان؛ وإن هذا النمط لَيقطع مقدمًا بالنمط العام للبحث كيف يكون؛ ذلك لأن البحث إنما ينشأ عن حالة سابقة سادها توافق مستقر، ثم طرأ عليها اضطراب جعلها مائعة تبعث على التساؤل (وتلك هي المرحلة الأولى من فاعلية التوتر)؛ ثم ينتقل الأمر إلى مرحلة البحث بمعناه الدقيق (وتلك هي المرحلة التي ينشط فيها الكائن العضوي منقبًا مستكشفًا)؛ فإذا صادف التنقيب نجاحًا، انتهى السير إلى اعتقاد أو إلى قرار هو الذي يقابل — في جانب النشاط التنقيبي — إصلاح الفاسد بالنسبة إلى الكائن العضوي.
- (أ)
إنه لا يكون بحثًا ذلك الذي لا يتضمن إحداث تغير ما في الظروف المحيطة؛ وتتضح لنا هذه الحقيقة من أهمية التجربة في البحث أهمية تجعل إهمالها أمرًا محالًا؛ إذ إن إجراء التجارب ما هو إلا تحوير مقصود في ظروف كانت قائمة قبل البحث؛ وحتى في العصر السابق على التفكير العلمي، كان الفرد من الناس يحرك رأسه وعينيه، وكثيرًا ما يحرك جسده كله، لكي يحدد الظروف التي لا بد من وضعها موضع الاعتبار لينتهي إلى حكم معين؛ وأمثال هذه الحركات إنما تُحدث تغيرًا في العلاقات البيئية؛ وأقرب من ذلك دنوًّا من التجارب العلمية أن ترى الإنسان يضغط بأصابعه عامدًا، ويدفع هذا الشيء ويشد ذلك، ويدق ويقلب، ليكشف لنفسه عن طبائع الأشياء.
- (ب)
إن النمط السلوكي للحياة يتميز بتتابع متسلسل، أي إنه حلقات يتصل لاحقها بسابقها؛ ولقد أسلفنا القول بأن الطابع الذي يميز السلوك الحيوي يزداد وضوحًا في المرحلة التي تظهر فيها الحواس المدركة للأبعاد المكانية، كما يظهر فيها كذلك الجهاز العصبي اللازم لتنسيق استثارات تلك الحواس المدرِكة للأبعاد مع الحواس المختصة بإدراك المحيط المباشر، ومع أجهزة العضلات والدورة الدموية والتنفس التي تدخل كلها في السلوك؛ وفي الكائن البشري تنشأ الذاكرة عن قدرة كيانه العضوي على الاحتفاظ بما يطرأ عليه (وهذا هو تكوين النمط السلوكي الذي يصبح عادة)؛ فتساعد الذاكرة على إيجاد أهداف أو على النظر إلى نتائج بعيدة من حيث الزمان والمكان معًا، وهي كذلك تزيد من التسلسل بين حلقات السير في البحث، سواء كانت تلك الحلقات لحظات زمنية متتابعة أم حلقات رابطة بين سابق ولاحق، أقول إن الذاكرة تزيد من ذلك عما هي الحال عند الكائنات التي لا تملك أكثر من مجرد المؤثرات التي تجيئها من بعد؛ فالتذكر شرط له أثره في تكوين هدف يضعه الإنسان نصب عينه، أو في تصور نتيجة يعمل على تحقيقها؛ لأن تكوين الهدف أو تصور النتيجة إنما يتطلب إعداد خطط ثم اختيار الوسائل المؤدية وترتيبها، اختيارًا وترتيبًا يؤديان إلى إخراج تلك الخطط إلى حيز الوجود الفعلي.
- (جـ)
ومسالك السير وطرائق العمل المرتبطة حلقاتها ارتباطًا متسلسلًا، والتي هي الوسائل المؤدية إلى تحقيق خاتمة مثمرة للسلوك تحقيقًا فعليًّا، إنما هي بحكم طبائعها مراحل وسطى ووسائل تنفيذ؛ وهذا الطابع الذي يميزها، هو بمثابة تحديد سابق — على المستوى البيولوجي — لما ينبغي أن يكون عليه تفسيرنا على مستوى البحث العلمي — لعمليات الاستدلال والتفكير، في علاقتها بما تنتهي إليه من أحكام نعدها ثمرة ختامية للبحث.
- (د)
إن لعلاقة التسلسل في المنطق أهمية أساسية، وهذه الأهمية تضرب بجذورها في مقتضيات الحياة نفسها؛ فالفاعلية الحيوية تتضمن إجراء تحوير في مناشط الجانب العضوي والجانب البيئي في آنٍ معًا؛ وهذه الحقيقة في الحياة العضوية تضع الأساس سلفًا لما سيكون عليه التعلم والاستكشاف، بما يصاحب ذلك من زيادة تترتب عليه في حاجات جديدة تنشأ، وفي مواقف معضلة جديدة تقوم؛ إن البحث الذي نجريه فنُقِر به علاقة كانت قد اختلت بين الكائن العضوي والبيئة (وهذا هو نفسه تعريف الشك) لا يقتصر على إزالة الشك بالعودة إلى حالة من التكامل كانت قائمة وملائمة بين الجانبين، بل إنه لَيستحدث ظروفًا بيئية جديدة من شأنها أن تخلق مشكلات جديدة؛ فيما يتعلمه الكائن العضوي خلال سيره هذا، يزوده بقوى جديدة تقتضي من البيئة شروطًا جديدة، واختصارًا، فإن حلَّ مشكلات معينة يعود فيعمل بدوره على خلق مشكلات أخرى، وليس ثمة مرحلة يصح أن نستقر عندها استقرارًا نهائيًّا، لأن كل استقرار نحققه يجلب معه ظروفًا تنطوي على درجة معينة من قلق جديد؛ حتى إذا ما بلغنا من التطور مرحلة تتميز بظهور العلم، أصبحت إثارة المشكلات إثارة متعمدة هدفًا من أهداف البحث؛ وإذا لم تفقد الفلسفة ارتباطها المباشر بالعلم، كان في مستطاعها أن تقوم بدور هام في تحديدها لصياغة هذه المشكلات، وفي تقديم ما تراه من حلول على سبيل الافتراض؛ أما إذا حسبت الفلسفة أن في مقدورها إيجاد حل نهائي وشامل، فإنها لا تعود بحثًا، وتصبح إما بلاغة للدفاع أو وسيلة للدعاية.
- (هـ)
وإذا سلمنا بما في الطبيعة من اتصال، وما يترتب على ذلك التسليم من نتيجة أولى، هي أن البحث تطور ينشأ عما بين الجانب العضوي والجانب البيئي من تكامل وتفاعل، نتج عن ذلك موقف خاص بالعلاقة بين علم النفس والمنطق. ولقد أشرنا فيما أسلفناه إلى الجانب السلبي من هذه النتيجة، إذ قلنا إنه لا محل في النظرية المنطقية لما ينطوي عليه علم النفس «العقلي» من فروض مزعومة، وإن الفصل التام بين المنطق وعلم مناهج البحث — الذي ناقشناه في الفصل السابق — إنما يرتكز إلى حد كبير على الاعتقاد بأنه ما دام إجراء البحث يتضمن حالات من الشك والافتراض والملاحظة والتخمين والبصيرة السديدة … إلخ، وما دامت هذه الحالات كلها مزعومًا لها أنها «عقلية»، فلا بد أن تكون هنالك فجوة بين البحث (أو التفكير النظري) والمنطق؛ ولو صدق هذا الزعم لصحت النتيجة، لكنه زعم يتبين فساده إذا تبين لنا أن البحث متصل السير اتصالًا طبيعيًّا مع السلوك العضوي — وذلك أن البحث إن هو إلا ضرب من ذلك السلوك وقد تطور — وليس يخفى على دارس التاريخ الفكري كيف استطاعت الوقفة العلمية الجديدة التي وقفها القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، أن تحدث فجوة بين الجانبين العقلي والمادي؛ إذ كان المفروض عندئذٍ أن الجانب العقلي عالم من الوجود قوامه كيانات نفسية تتميز بعمليات مختلفة كل الاختلاف عن عمليات العالم الخارجي الذي يواجه «العقل»؛ وغاب عن الأنظار ما كان الإغريق قد تصوروه قديمًا من أن الفرق بين الجانبين هو فرق في طريقة «البناء العضوي» لمواد وعمليات مشتركة بينهما؛ فرضيت فلسفية المعرفة ورضي علم النفس بثنائية كاملة، وبشطر الطبيعة في شعبتين، ثم صِيغت النظرة إلى الفكر وإلى الأفكار صياغة تطرد مع هذه الثنائية المفروضة.
وأما الجانب الإيجابي، فهو أن علم النفس ذاته فرع خاص من فروع البحث: فهو — بصفة عامة — يتصل بنظرية البحث المنطقي بنفس العلاقة التي يتصل بها علم الطبيعة أو الكيمياء. ولكن لما كان علم النفس أوثق اهتمامًا من سائر العلوم الأخرى بالمركز الرئيسي الذي يصدر عند إجراء البحث إنشاءً وتنفيذًا، كان من الجائز أن يُضيف إلى النظرية المنطقية إضافات ليست في مقدور العلوم الأخرى، على شريطة أن يستخدم أداة لخدمة المنطق، لا أن يكون سيدًا له؛ ولو أنني شخصيًّا على شك — كما أسلفت القول توًّا — في وجود أي شيء «عقلي» بالمعنى المذهبي المزعوم، إلا أنه لا حاجة بي إلى التعمق في هذه المسألة؛ لأنه — كما ذكرنا من قبل — لو كان هنالك أي شيء من هذا القبيل فلا شأن له بنظرية البحث؛ أضف إلى ذلك أن كل بحث في أمره لا بد أن يكون هو نفسه بحثًا يفي بالشروط المنطقية لكل بحث آخر؛ ومع ذلك كله فأيًّا ما كان الموضوع الذي يلقي ضوءًا على الحالات والعمليات العضوية الداخلة في إجراء البحث ابتداءً ومسلكًا (وهو ما لا بد أن يؤديه علم نفس بيولوجي سليم) فالأرجح جدًّا أن يضيف ذلك الموضوع إضافات قيمة إلى نتائج البحث في البحث.
فقد يمهر الطبيب — بناءً على ذلك — في تبيُّنه لظواهر المرض، وفي معالجته له بسبب ما كان له من ملاحظات تكررت في حياته الماضية، وما اعتاده من ضروب العلاج، دون أن يفقه شيئًا عن المرض كيف ينشأ، ولا عن ضروب العلاج التي يستخدمها لماذا تشفي؛ ويَصدق هذا نفسه على مهارات كثير من مهندسي الآلات والصناع؛ وبهذا المعنى لكلمة «تجريبي» تكون الكلمة وصفًا لما يقع بالفعل، وعندئذٍ يكون ثمة ما يُسوِّغ تمييزها من الفاعلية «العقلية» حين نعني بهذه الأخيرة سلوكًا قائمًا على أساس فهمنا للمبادئ، لكنه من الواضح أننا إذ نقول عن نتيجة علمية إنها قد ثبتت ثبوتًا تجريبيًّا، فلسنا بذلك نريد ولا ننوي حذف الفاعلية العقلية أو التدليل؛ بل الأمر على خلاف ذلك، فكل نتيجة نصل إليها بطريقة علمية عن أمر من أمور الواقع، تتضمن تدليلًا مستنِدًا إلى مبادئ ومستمدًّا منها، والعادة أن نعبر عن تلك المبادئ بلغة الرياضة؛ إذن فقولنا عن شيء إنه قد ثبت بالتجربة، مساوٍ لقول مضادٍّ لما يُقال حين لا يعني القائل بكلمة «تجريبي» إلا المشاهدات الحسية والاستجابة المعتادة لتلك المشاهدات؛ وعلى ذلك فأولئك الذين يُحوِّلون التفرقة التي لها ما يسوغها بين التجريبي، حين نفهم من هذه الكلمة معرفة الصناع وفعلهم، وبين العقلي، حين نقصد بهذه الكلمة فهمًا علميًّا، أقول إن أولئك الذين يُحوِّلون هذه التفرقة إلى تفرقة مطلقة تجعل كل ضروب الخبرة على تَضاد مع العقل ومع ما نصفه بأنه عقلي، إنما يعتمدون في ذلك التحويل على تصور سابق عندهم تصوروه جزافًا عن الخبرة وحدودها ماذا «يجب» أن تكون؛ ولا يزال هذا التحديد الجزاف — لسوء الحظ — قائمًا في تفسيرات كثيرة لما هنالك من تمايز بين ما يقع في مجرى الزمن وما هو أزلي — مثلًا — وبين الإدراك الحسي والإدراك العقلي؛ وبصفة عامة، بين المادة والصورة.
ولنا أن نُضيف أن كلمة «خبرة» حين استُعملت عند بدء ظهورها استعمالًا يُضفي عليها الوقار، بُولغ — بغير شك — في جانبها المتصل بالملاحظة، كما نرى مثلًا عند «بيكن» و«لك»؛ ونستطيع أن نلتمس لهذه المبالغة تعليلًا سريعًا في كونها حدثت في الظروف التاريخية التي حدثت فيها؛ ذلك أن الموروث الفلسفي القديم كان قد تدهور حتى بلغ صورة استُبيح معها الظن بأن اعتقاداتنا عن أمور الواقع يمكن بل ينبغي أن نُحصِّلها بالتدليل العقلي وحده، إلا إذا كانت مستندة إلى أقوال الثقات؛ فتولدت عن معارضة هذه النظرة المتطرفة نظرة أخرى تُساويها في قَصْرِ نفسها على جانب واحد، وهي أن الإدراك الحسي وحده يمكن أن يقرر لنا على نحو مرضٍ ما عسانا أن نعتقده عن أمور الواقع، فأدت هذه الفكرة عند «بيكن» — وبعد ذلك عند «مل» — إلى إهمال الدور الذي تؤديه الرياضة في البحث العلمي؛ كما أدت عند «لك» إلى تقسيم يوشك أن يكون فاصلًا، بين معرفتنا لأمور الواقع، ومعرفتنا لما يقوم بين أفكارنا من علاقات. على أن هذه المعرفة الأخيرة — بناءً على مذهبه — تعود فترتكز في نهاية الأمر على الملاحظة الخالصة، سواء كانت تلك الملاحظة «داخلية» أم «خارجية» فنتج عن ذلك كله في النهاية مذهب يرد «الخبرة» إلى «إحساسات» باعتبار أن هذه الإحساسات هي المقومات التي تتألف منها كل ملاحظة، كما يرد «الفكر» إلى روابط خارجية تصل هذه المقومات؛ على أن المفروض في الإحساسات وفي روابطها معًا أن تكون عقلية فقط، أي أن تكون نفسية خالصة.
إن مشكلة العلاقة بين المادة التي هي موضع الملاحظة، والموضوع الذي نضعه أمام الفكر أو التصور العقلي، هي مشكلة حقيقية خصوصًا بالنسبة إلى ما يساويها في مجال المنطق؛ لكنه لا يجوز لنا أن نحل المشكلة حلًّا وسطًا منذ البداية بأن نعرضها في صورة التفرقة الفاصلة المطلقة بين ما هو تجريبي من ناحية وما هو عقلي من ناحية أخرى؛ لأن عرضها على هذا النحو يتضمن أن ليس ثمة إشكال منطقي في الأمر، وأن كل ما هنالك هو فصل بين الجانبين نجعله مطلقًا ومباشرًا؛ وليس في مستطاعنا أن نسوق في هذه المرحلة من بحثنا، مسوغاتنا في الاعتقاد بأن من يتصور الخبرة على حقيقتها؛ يجد الاستدلال والتدليل العقلي والتكوينات الذهنية إنما تنتسب إلى الخبرة كما تنتسب المشاهدة سواءً بسواء، ويجد كذلك أن الفصل الحادَّ بين تلك وهذه لا يُسوِّغه قط إلا أسطورة في تاريخ الثقافة؛ على أنه إذا اتخذنا النظرة الطبيعية التي نأخذ بها في هذا الكتاب أساسًا لنا نشأت أمامنا مشكلة نضعها على النحو الآتي: كيف حدث أن تطور السلوك العضوي إلى بحث له ضوابطه، قد أنتج ما هو قائم بين عمليات المشاهدة من ناحية وعمليات التصور العقلي من ناحية أخرى، مِن تباين وتعاون؟
نعم إننا سنجد في مناقشتنا للغة وللرموز اللغوية في الفصل التالي أساسًا نُقيم عليه الإجابة عن هذا السؤال؛ لكنه لا مناصَ لنا من إعادة ما قد أسلفناه، وهو أن التشبث بتقليد كان قد تَكوَّن قبل قيام البحث العلمي الحديث (بما في ذلك البحث البيولوجي) وقبل إخضاع هذا البحث العلمي لتحليل مستقل. أقول إن التشبث بمثل هذا التقليد لا يجوز أن يُسمح له بتحويل مشكلة قائمة أمام المدارس كلها على حد سواء، إلى حل مزعوم تم إعداده من قبل؛ لأن حلًّا كهذا يَحُول دون ظهور موضع الإشكال في المشكلة؛ وأخيرًا، فبينما الموقف الذي نقفه في هذا الكتاب يتضمن أن يكون المنطق موضوعًا تجريبيًّا بمعنى أن مادته تتألف من بحوث في متناول الناس جميعًا، ومكشوفة للمشاهدة، إلا أن ذلك لا يعني أنه تجريبي بالمعنى الذي طَوَّر به «مل» — مثلًا — أفكار «لك» و«هيوم»؛ فهو قائم على الخبرة بنفس الطريقة التي يكون بها أي علم طبيعي تجريبيًّا في مادته ونتائجه: أي إنه قائم على الخبرة بنفس الطريقة التي يكون بها أي علم طبيعي قائمًا على الخبرة، فهو متميز بهذا مما يكون تأمليًّا صِرفًا ومتميز كذلك مما هو «قبلي» وحدسي.
وأختم حديثي بإشارة إلى إشكال يُحيط بالسلوك العضوي وبالبحث المتعمد معًا؛ وذلك أن ثمة مفارقة ما تنفك قائمة بين الوسائل المستخدمة والنتائج المترتبة عليها؛ وقد تبلغ هذه المفارقة أحيانًا حدًّا من الخطورة بحيث ينشأ عنها ما نسميه بالخطأ أو بالزلل؛ وإنما تقوم هذه المفارقة لأن الوسائل المستخدمة، التي هي الأعضاء والعادات المستخدمة في السلوك، والأعضاء والتصورات العقلية المستخدمة في البحث المتعمد، لا بد أن تكون راهنة وفعلية، بينما النتائج التي يُرجى بلوغها مرهونة بالمستقبل؛ والوسائل الراهنة الفعلية إن هي إلا نتيجة لظروف ومناشط كانت قائمة فيما مضى؛ وهي وسائل ناجحة الأداء، أو قل إنها تؤدي عملها أداءً «صوابًا»، وذلك (١) إلى الحد الذي تكون عليه الظروف البيئية القائمة قريبة الشبه بالظروف التي ساعدت في الماضي على تكوين العادات، و(٢) إلى الحد الذي تحتفظ به العادات بمرونة تكفيها لمعاودة المواءمة بينها وبين الظروف الجديدة في غير عسر. وهذا الشرط الأخير لا يجد وسيلة استيفائه مُيَسَّرة عند الكائنات العضوية الدنيا؛ فإذا ما تحقق له ما يستوفيه، كان معنى ذلك أن مرحلة في «التطور» قد حدثت؛ ولهذا ترى العوامل التي يُنتظر لها أن تساعد على استيفائه، موجودة في مناشط الكائنات البشرية على نطاق أوسع من غيرها بكثير. لكن جانب القصور الذاتي من العادة قوي، وبمقدار ما تستسلم له الكائنات البشرية، تظل في حياتها على مستوى حيواني إلى حد ما؛ حتى تاريخ العلم نفسه قد تميز بعصور كانت الملاحظة والتفكير النظري فيها لا يعملان عملهما إلا داخل إطار إدراكي رُسِمَت له حدوده من قبل، فهو بهذا مثل يُساق لجانب القصور الذاتي من العادة؛ ولم يتبين الإنسان إلا منذ عهد قريب نسبيًّا أن السبيل الوحيدة لاجتناب الأخطاء المترتبة على هذا الجمود، هي الاعتراف بأن الحقائق الداخلة في بحث ما ذات طبيعة موقوتة بزمن معين ومرهونة بظروف معينة (وذلك مهما يكن نوع البحث وهو في طريق إجرائه)، والاعتراف كذلك بأن التصورات العقلية والنظريات المستخدمة في البحث هي أيضًا ذات طبيعة فرضية؛ غير أن معنى هذه الحقيقة التي تبينت لنا لم يكد بعد يتغلغل في ثنايا بحوثنا التي نُجريها على موضوعات لها أعظم الأهمية للإنسان في حياته العملية، ألا وهي الدين والسياسة والأخلاق.
إن إدراكنا لما أسماه «بيرس» ﺑ «التعرض للخطأ» في تميزه مما أسماه ﺑ «العصمة من الخطأ» ليس هو من قبيل الحكمة فحسب، بل إنه لَيَنتج بالضرورة عن إمكان قيام مفارقة — أو ترجيح ذلك — بين ما لدينا من وسائل نستخدمها والنتائج التي تؤدي إليها تلك الوسائل؛ أي بين ظروف الماضي وظروف المستقبل؛ وليس هو بنتيجة لضعف قوانا الخلقية وكفى؛ فلأننا نعيش في عالم دائب السير، لم يكن المستقبل — على الرغم من أنه استمرار للماضي — مجرد تكرار لذلك الماضي؛ وإن هذا المبدأ لَيَنطبق بقوة ملحوظة على البحث في البحث، وليس بي حاجة إلى القول بأن هذا يشمل البحث الذي أقدمه من مؤلَّفي هذا؛ إن الألفاظ نفسها التي لا غنى لنا عن استخدامها، هي ألفاظ كانت قد تحددت لها معانيها في الماضي لتُعبِّر عن أفكار لا تشبه الأفكار التي لا بد لها اليوم أن تنقلها إذا كان لها أن تُعبِّر عما أُريدَ لها أن تُعبِّر عنه؛ فإذا كان هذا الكتاب معيبًا ﺑ «تعرضه للخطأ»، فلن يكون ذلك فيه إلا حافرًا يحفز أولئك الذين هم ذوو ميول نحو المذهب الطبيعي في تفكيرهم، يحفزهم إلى أداء ما يحاول هذا الكتاب أداءه، لكنهم يؤدونه على وجه أفضل. فهذا الكتاب محاولة في تناول الموضوع وليس هو بالرسالة التي بلغت ختامها؛ والهدف الذي يرجو أن يحققه هو أن تكون محاولته من الاتساق والتماسك بحيث تكفي حافزًا لسواي أن يتصدَّوا للعمل الطويل المتعاون (وهو عمل على أي حال لن تكون له نهاية ما دام البحث قائمًا) وإنه لَعَمل لا بد منه لاختبار الإطار الذي أوجزت خطوطه في هذا الكتاب، ثم لِسَدِّ ما فيه من ثغرات.
المهم عندي هو أنه لا ينبغي لأولئك الذين يرفضون الرأي القائل بتدخل عامل خارق للطبيعة في الأمر، لا ينبغي لهم أن يطرحوا هذا الفصل على اعتبار أنه خارج عن الموضوع، مسوقين إلى ذلك الحذف بأنه لم يكن مألوفًا للنواحي البيولوجية أن تدخل في مناقشة النظرية المنطقية. ولئن كان أولئك الذين يؤمنون بتدخل العوامل الخارقة للطبيعة، فلديهم ما يسوغ لهم الاعتقاد في «عقل» قبلي ترتكز عليه الصور والمبادئ المنطقية، فهم لذلك مرتبطون بالتزام سابق أن يروا بأن كل الآراء التي هي من قبيل ما قد عرضناه هنا، خارجة عن الموضوع؛ فالمعتنِق للمذهب الطبيعي — إذا كان كامل العقيدة في مذهبه — هو كذلك مرتبط بالتزام لا يقل عن التزام زميله، والذي يُلزمه هو منطق مذهبه نفسه؛ إذ يُلزمه بالعقيدة في استمرار التطور، وما يترتب عليه من مجموعة العوامل التي تتدخل في إقامة الصور الشكلية والإجراءات، ولا فرق في ذلك بين طرائق المنطق وطرائق الحياة البيولوجية.