المنهج العلمي
مهما يكن ما نقوله عن المنهج العلمي مما يميزه وما ليس يميزه، فهو على كل حال معنيٌّ بالتثبت من اقترانات السمات المميزة التي تصف الأنواع وصفًا يقيم الحدود الفواصل بينها بعضها بالنسبة إلى بعض؛ كما هو معنيٌّ بالتثبت من العلاقات المتبادلة بين المعاني المجردة التي تأتلف منها المدركات العقلية المجردة القابلة للتطبيق على نطاق واسع؛ والقضايا التي تنتج عن هذا التثبت هي تعميمات من صورتين: فهي إما تعميمات جامعة (للصفات المميزة للأنواع الخارجية) أو تعميمات كلية مجردة؛ والأولى وجودية المضمون، والثانية لا وجودية؛ ولقد أطلق على الطرائق التي نصل بها إلى التعميمات اسم «الاستقراء»؛ وأما الطرائق التي نستخدم بها تعميمات قائمة بالفعل، فقد أطلق عليها اسم «الاستنباط»؛ هذه ملاحظات أقل ما نفيده منها هو أنها تحدد مجال المناقشة؛ فأي تفسير للمنهج العلمي لا بد أن يكون قادرًا على أن يقدم إلينا مذهبًا متسقًا عن طبيعة الاستقراء والاستنباط، وعلاقتهما الواحد بالآخر؛ هذا إلى أنه لا بد أن يتفق مع ما هو جارٍ فعلًا في البحث العلمي كما يحدث عمليًّا.
فبالنسبة إلى الاستقراء والاستنباط، لا يزال ميدان المنطق مليئًا ببقايا التصورات المنطقية التي تم تكوينها في عهد سابق لتطور المنهج العلمي، وبعض هذه البقايا متماسك تماسكًا يقل هنا ويكثر هناك، وبعضها الآخر يشبه الأنقاض شبهًا يقل هنا ويكثر هناك؛ وعلى ذلك فليس في مادة الدراسة المنطقية مجال يتطلب الإصلاح الشامل لجانبه النظري (وهو أمر جعلناه موضوعًا لفصل سابق) بمثل الضرورة الملحة التي يتطلبه بها الاستقراء والاستنباط؛ فمما قد جرى به التقليد أن نكرر العبارة القائلة بأن الاستقراء يسير من الجزئيات إلى ما هو عام، وأن الاستنباط يسير من العام إلى الجزئيات؛ لكن أحدًا لم يمحص تمحيصًا نقديًّا مدى سلامة هذه الأفكار، أعني أن يمحص سلامتها بحيث يرى إن كانت على وفاق مع ما يجري فعلًا في البحث العلمي؛ فكثيرًا ما تكون نتيجة ذلك أن يرغم المنهج العلمي إرغامًا على التقيد بمدركات سابقة التكوين ولا علاقة لها بما هو قائم في واقع الأمر؛ ولا طريق إلى خلاصنا من مثل هذا التصرف إلا بتحليل الاستقراء والاستنباط من وجهة نظر مناهج البحث كما هي قائمة بالفعل.
إن أفكارنا التقليدية، والتي لا تزال سائدة، عن الاستقراء والاستنباط، مستمدة من المنطق الأرسطي، الذي كان في عصره — كما قد بينا — تنسيقًا للصور المنطقية على أساس اعتقادات معينة في حقيقة الوجود وما له من نواميس؛ وما دام التقدم الفعلي الذي طرأ على البحث العلمي قد أدى بنا إلى نبذ هذه الاعتقادات الأساسية فيما يختص ببناء «الطبيعة»، جاز لنا أن نتوقع قبل البداية أن نجد أفكارنا عن الاستقراء والاستنباط المستمدة من المنطق الأرسطي، غير ذات صلة بالمنهج العلمي كما يمارسه العلماء ممارسة فعلية، إلى الحد الذي يجعلها مصدرًا للخلط والتشكك حين نستخدمها أساسًا لتفسيراتنا لا ينطوي على فهم صحيح؛ ومع ذلك فلن نقيم مناقشتنا على أساس ظن محتمل قبل أن نتبين حقيقة الأمر؛ وسأبدأ ببيان موجز عن النظريات الأرسطية الأصلية، وعلاقتها بالأساس الكوني الذي قامت عليه؛ ثم أقدم موجزًا مختصرًا لكيف ينبغي أن نفهم الاستقراء والاستنباط على أساس المبادئ المنطقية التي سبق أن بسطناها في هذا المؤلف، ثم نعرض آخر الأمر تحليلًا مستقلًّا عن هذا وذاك.
(١) الاستقراء والاستنباط في المنطق الأرسطي
(١-١) الاستنباطي
وفي كل من هاتين الصورتين نرى الاستنباطي والقياسي مترادفين لشيء واحد بذاته؛ فلو سلمنا بالمزاعم المنطوية في هذا المذهب عن النواميس الكونية، ألفينا معنًى أصيلًا في الفكرة القائلة بأننا نسير من العام إلى الجزئي؛ ففي حالة القياس البرهاني، يكون الانتقال من الأوسع شمولًا إلى الأضيق شمولًا، وهنا نفهم «الجزئي» بمعناه المنطقي الدقيق، نفهمه على أنه معادل لتمييزنا في الأنواع بين ما هو أخص مما هو شامل شمولًا كليًّا؛ لكن «الجزئي» يختلف معناه في حالة القياس الظني؛ إذ إن أي شيء متغير هو جزئي بمعنى أنه ناقص أو غير كامل؛ أما والأشياء المحسة هي أشياء مشاهدة في تكثرها، متميزة في ذلك من الأنواع الثابتة التي تنتمي إليها، فهي لا تعرف معرفة صحيحة — كما قد ذكرنا الآن — إلا إذا أدرجناها — وبالدرجة التي ندرجها بها — تحت قضايا كلية نقرر بها طبيعة الأنواع المتأصلة في كيانها؛ فإذا ما أدرجت الجزئيات على هذا النحو، «لزمت» من حيث هي جزئيات عما هو عام.
(١-٢) الاستقرائي
ليس هنالك إلا تشابه لفظي بين صياغة الطرائق الاستقرائية للعلم القديم وللعلم الحديث على التوالي؛ فكلاهما يبدأ من معطيات مبعثرة (أو من جزئيات) ثم يتحرك نحو تكوين التعميمات؛ ولكن التشابه بينهما لا يجاوز الصيغة الغامضة التي تقول: «السير من الجزئيات إلى ما هو عام»، (١) فالجزئيات مختلفة فكرتها في الحالتين اختلافًا جوهريًّا، و(٢) عملية «السير» أو الطريقة التي يوصل بها من الجزئيات إلى ما هو عام جد مختلفة في إحدى الحالتين عنها في الأخرى؛ أما طبيعة الإجراءات الاستقرائية المتبعة في العلم الآن، فسنجعلها موضوعًا خاصًّا لتحليل يأتي فيما بعد؛ ولكن بغض النظر عن نتائج هذا التحليل، فيكفينا استعراض للفكرة الأرسطية عن الاستقراء لنتبين عدم صلاحيته — بحكم طبيعته — لأن يحقق شروط العلم الحاضر؛ فالنظرية الكونية عند أرسطو تفترض بادئ ذي بدء أن كل شيء مما يمكن معرفته، هو شيء ينتمي إلى نوع معين أو فصيلة معينة؛ فحتى الإدراك الحسي ضرب من المعرفة يجيء في مرتبة دنيا، إلى الحد الذي ندرك به الشيء المرئي أو المسموع أو الملموس، من حيث هو فرد ينتمي إلى فصيلة معينة، وأدنى درجة من درجات المعرفة، وهي مجرد الإحساس، هي درجة ندرك بها مباشرة من الكيفيات ما تحدده «الصور الحاسة» كما هي الحال في حاسة اللمس حين ندرك بها الصلب واللين؛ والإحساس والإدراك الحسي ضربان من المعرفة تسودهما «المادة» التي هي مبدأ التغير، ومن ثَم فهي مبدأ النقص في «الوجود»، مثال ذلك حين يتحول اليابس إلى رطب؛ وبصفة عامة فإن «الجزئي» الذي «يعرف» بالإدراك الحسي، خاضع للكون والفساد أي إنه خضع «للولادة» و«الموت»؛ كالشجرة تخرج من البذرة ثم تتحلل وتزول؛ والإدراكات الحسية المتكررة هي التي تؤلف الخبرة؛ وعند الموهوبين في ملكاتهم الفطرية من الناس، الذين لهم القدرة الكامنة على التفكير العلمي والفلسفي، تكون الصورة مدركة من حيث هي صورة، ويتم ذلك شيئًا فشيئًا، فهي تدرك أول الأمر بكونها صورة تخضع المادة، ثم تدرك آخر الأمر بكونها صورة تحررت تحررًا كاملًا من أية رابطة تربطها بالمادة؛ وهكذا ينشأ تعريف الأشياء وتصنيفها، وتتكون المعرفة العلمية على أساس الإدراك العقلي؛ أو على أساس رؤية حقائق الأشياء رؤية مباشرة؛ واختصارًا فإن الإنسان ليلم بالمعنى الكلي وهو على طبيعته الأصلية؛ وهذه العملية هي التي منها يتكون — في التصور القديم — «السير» من الجزئيات إلى الكلي، الذي هو الاستقراء عندهم؛ «فالصور» التي لا يطرأ عليها تغير، والتي هي ضرورية وكلية، تكون ماثلة منذ البداية فيما يدركه الحس والإدراك الحسي من كيفيات وأشياء؛ وما الاستقراء إلا العملية التي نستخلص بها هذه الصور من اشتباكها «بالمادة» حتى يمكن إدراكها بالعقل وهي في طبيعتها الجوهرية الخالصة؛ على أن تعريف «العقل» هو على وجه الدقة هذا الإخراج إلى الوجود بالفعل في عالم المعرفة، لصور «الوجود» الخالصة.
(١-٣) طبيعة الاستقراء على أساس التحليلات الأولى
قبل أن نبدأ في تحليل الاستقراء من وجهة النظر المادية، سأعرض وصفًا صوريًّا مختصرًا لطبيعته على ضوء المناقشة السالفة.
-
(١)
إننا نميز الجزئيات تمييزًا ينبني على عملية نختارها بها، نميزها على وجه يحدد لنا مشكلة ما، يكون لها من طبيعتها ما يشير إلى ضروب ممكنة لحلها؛ ومراجعتنا للأشياء وصفاتها المدركة بالحس التي انتقيناها دون ما عداها، مراجعة تحددها لنا تحديدًا جديدًا، إنما تتضمن بالضرورة تحويرًا تجريبيًّا للأشياء وصفاتها يحولها عن حالتها «الطبيعية» التي جاءتنا بها؛ على حين أن المنطق القديم يأخذ هذه الأشياء وصفاتها «كما هي قائمة»؛ إذ إنه بناء على نظرية هذا المنطق، بعد كل تحوير تدخله تجاربنا على الأشياء وصفاتها، في ذاته من قبيل التغيير، ولذلك فهو تحوير يدخل في نطاق «الوجود» الناقص الجزئي؛ ومن ثَم فهو تناقض منا أن نعد إجراء التجارب وسيلة تؤدي بنا إلى بلوغ المعرفة بما هو كائن «حقًّا»؛ أضف إلى ذلك أن التحويرات التي تتغير بها معطياتنا من الأشياء وصفاتها — من وجهة نظر ثقافية اجتماعية — إنما هي تحويرات تحدث في أوجه النشاط التي تنشط بها الطبقة الدنيا من صناع وميكانيكيين وفنيين؛ وإذن فمثل هذه الأوجه من النشاط وهذه العمليات التي يؤديها هؤلاء، مرفوضة منذ البداية، لكونها «تجريبية» و«عملية» صرف، ومن ثَم فهي متصلة بالرغبة وبالشهوة، أي إنها متصلة بالحاجة وبالعوز؛ فهي متميزة تميزًا حاسمًا من المعرفة التي هي معرفة «نظرية» وكافية بذاتها كفاية تقتضيها طبيعتها نفسها، أي إنها معرفة نلمح بها «الوجود» لمحًا مباشرًا وهو في صورته النهائية الكاملة.
-
(٢)
ليست تقتصر جزئيات المشاهدات التي نوجدها بالتجارب على أنها هي التي تؤلف مواد المشكلة تأليفًا يشير إلى طريقة مناسبة لحلها، بل من شأنها كذلك أن يكون لها قيمتها من حيث هي شواهد ثم من حيث هي بينات على الصواب بالنسبة إلى طرائق الحل التي توحي بها؛ فالإنسان يؤدي الإجراءات التي يؤديها متعمدًا، لكي يحوِّر تحويرًا تجريبيًّا ما كان قد سبق أن عرض له من مدركات حسية، ابتغاء خلق معطيات جديدة مرتبة على نحو جديد؛ وإيجاد المعطيات الجديدة المتصلة بالنتيجة وذات الأثر في هذه النتيجة التي نأخذ بها على سبيل الفرض، هو ألزم وأصعب جوانب البحث في العلوم الطبيعية فالأشياء والصفات كما تمثل لنا مثولًا طبيعيًّا، أي كما «تعطى» لنا، ليست هي معطيات العلم، وليس هذا فحسب، بل إنها أهم عقبة وأول عقبة نصادفها في تكوين تلك الأفكار والفروض التي هي ذات شأن وذات أثر فعال بالمعنى الصحيح.
فالمعاني الأولية، وترابط الأفكار والفروض بعضها ببعض على صورة أولية، يُستمدان من وضعهما وقوتهما حين تردان في المواقف التي ندركها بالذوق الفطري إدراكًا يخدم أغراض النفع والمتعة؛ فإذا ما عبرنا عنهما في رموز تُطَوِّرُها فما ذاك إلا خدمة للتفاهم الاجتماعي أكثر منه خدمة للشروط التي يتطلبها البحث الموجه؛ فالرموز عندئذٍ تكون مشحونة بالمعاني التي لا تمس البحث حين يُراد بالبحث الوصول إلى المعرفة من حيث هي معرفة؛ فإذا كانت هذه المعاني مألوفة وذات تأثير في حملنا على الاقتناع بها، فذلك لما هو مرتبط بها ارتباطًا وثيقًا مقررًا؛ ولهذا كان تقدم العلم على عصور التاريخ متميزًا ومصحوبًا بحذف متعمد لأمثال هذه المعاني، لنحل محلها مجموعة جديدة من الرموز نكوِّن بها لغة اصطلاحية جديدة؛ وإن تقدم كل علم — الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وحتى الرياضة — إجمالًا وتفصيلًا، ليشهد بالصعوبة وبالضرورة اللتين تواجهاننا معًا في إيجاد معطيات من طبقة جديدة، لهذا كان أي مثل خاص نسوقه للتوضيح، قد يعوق أكثر مما يعين، وعلة ذلك هي على وجه الدقة أن طبيعة هذا المثل ستكون مقصورة على نطاق معين؛ ومع ذلك فسأجازف بذكر حالة نموذجية: فانظر كيف وقف تقدم علم الفلك بسبب أن الأرض — من حيث هي شيء يقع للإدراك الحسي المباشر — قد بدت ثابتة، بينما بدت الشمس للإدراك الحسي وكأنما هي تتحرك كل يوم عبر السماء، كما بدت وكأنما هي تتحرك — مصحوبة بالكواكب «السائرة على غير هدى» — من الشمال إلى الجنوب ثم تعود مرة أخرى في غضون الحول؛ وانظر إلى العقبات الهائلة التي كان لا بد لها أن تزال قبل أن نستطيع الوصول إلى مدركاتنا الفلكية الحاضرة، ومعها ما قد استحدثناه من معطيات مشاهدة جديدة فسيحة المدى وبالغة الدقة، معتمدين في ذلك كله على ما اخترعناه من آلات وتقنيات جديدة؛ فلم تكن النظرية الفلكية على ما كانت عليه مدى قرون عديدة من خطأ، بسبب نقص في قدرة الإنسان على ترتيب المعطيات، بل كان ذلك بسبب ما قد حسبناه أنه هو المعطيات؛ فأحسبه واضحًا بغير حاجة إلى جدل، إن أية نظرية يفوتها أن تعد ما يطرأ على الأشياء المدركة بالحس كما تمثل أمامنا، من إجراءات نجريها عليها لنحورها بها، أمرًا أساسيًّا في تصورها للاستقراء، هي نظرية معيبة من أصولها.
-
(٣)
ولقد بينا أن العمليات التي نحور بها المادة المقدمة لنا في المواقف الكيفية التي تصادفنا في إدراكنا الفطري (نحورها لكي تزودنا بمادة من شأنها أن تعين أطراف مشكلة ما، وأن تكون في الوقت نفسه شاهدًا نهتدي به) هي عمليات من إثبات ونفي يقابل أحدهما الآخر؛ بحيث يكون الناتج الذي يتولد لنا عن ذلك هو مجموعة من مواد الواقع تكون جامعة ومانعة، وتكون أيضًا على التبادل ضابطة بعضها لبعض ومؤيدة بعضها لبعض في وقت واحد؛ فمما هو معلوم لنا جميعًا أن البحوث العلمية تلتمس المعطيات التي تمس مشكلاتها، مستعينة في ذلك بالتجارب تحدد بها ذاتيات الأشياء كما تحدد بها مواضع الاختلاف بين الأشياء؛ ولا حاجة بها في هذا الموضع من سياق الحديث إلا أن نلحظ الاتفاق التام بين هذا الإجراء العلمي المتفق عليه من الجميع، وبين الشروط المنطقية التي تتطلبها النظرية التي بسطناها؛ ولا بد لنا كذلك أن نذكر أن العمليات التي نجريها لنجمع أفراد النوع الواحد معًا، ونمنع ما ليس منها من الدخول فيها، هي عمليات فعلية تنصب على الموجودات الخارجية (وليس هي بالعمليات «العقلية») وأنها عمليات تحل الصفات التي هي وليدة تفاعلات محل الصفات المدركة بالحس إدراكًا مباشرًا.
(١-٤) الطرائق الاستقرائية العلمية
مادة القسمين السالفين قد صممت على أساس أن نبين بها أولًا قصور المنطق التقليدي عن أن يزودنا بالمبادئ التي يتم الاستقراء على هداها فعلًا؛ ثم أن نعرض بعد ذلك جوانب معينة من الطريقة الاستقرائية، تلزم صوريًّا عن الموقف الذي اصطنعناه في هذا المؤلف؛ وأنتقل الآن إلى تحليل تلك الطرائق العلمية التي يجوز لنا أن نطلق عليها اسم «استقراء»، إذا كان لهذه الكلمة ما تنطبق عليه إطلاقًا؛ فليست المسألة مسألة كلمة ومعناها، حتى وإن تكن هذه الكلمة قد أحاطها طول الاستعمال بهالة من قداسة، بل المسألة مسألة الطرائق الحقيقية التي نسلكها في تأييدنا للأقوال العامة في العلوم الطبيعية؛ هذا إلى أن تلك التعميمات تجيء على صورتين: فهنالك التعميمات التي تنشئ علاقة الأنواع الشاملة بالأنواع المشمولة؛ وهنالك التعميمات التي تنشئ القضايا الكلية المجردة التي ترد على صورة «إذا – إذن» لتكون بمثابة الفروض والنظريات؛ فإذا أردنا شرحًا وافيًا للطرائق العلمية، من حيث هي الوسائل التي نستعين بها على صياغة تعميمات جائزة القبول، فلا بد لذلك الشرح — إذن — أن يصدق على هاتين الصورتين معًا؛ وهذه الملاحظة هي — في الحقيقة — تحذير أحذر به سلفًا من استحالة أن نقيم فاصلًا حادًّا بين «الاستقراء» باعتباره الإجراءات التي نكوِّن بها تعميمات وجودية، و«الاستنباط» باعتباره الإجراء المختص بالعلاقات التي تربط القضايا الكلية المجردة في مجرى التفكير النظري، ففيما يختص بالبحث الطبيعي — على الأقل — لا بد لنا من تفسير الاستقراء والاستنباط تفسيرًا يظهرهما جانبين متعاونين من إجراءات هي في النهاية واحدة بذاتها.
وأبدأ بعبارة موجزة أذكر بها النتائج التي يُنتظر بلوغها من جوانب البحث التي تكون استقرائية متميزة، وجوانبه التي تكون استنباطية متميزة، وما بينهما من علاقة متبادلة، أو من تقابل في الأداء؛ (١) فالجانب الاستقرائي يتألف من مجموعة عناصر الإجراءات التجريبية التي نحور بها ما قد كان قائمًا في الوجود الخارجي من ظروف، تحويرًا نحصل به على معطيات تشير إلى طرائق لحل المشكلة القائمة، وتختبر في الوقت نفسه سداد تلك الحلول المقترحة؛ (٢) وكل حل يُقترح أو يُشار إليه، لا بد أن يُصاغ الصياغة التي تجعله أحد الممكنات؛ ومن مثل هذه الصياغة يتكون الفرض؛ وهذا الفرض الذي ينتج لنا على صورة قضية تقول «إذا – إذن» لا بد أن نتناوله بالبسط في علاقته المنظمة مع غيره من القضايا ذات الصورة الشبيهة بصورته (أي نتناوله بالتطوير في قضايا يلزم بعضها عن بعض في مجرى التفكير النظري)؛ حتى نحصل على المضمونات المتعلق بعضها ببعض، فتكون منها القضية الخاصة ذات الصورة «إذا – إذن»، والتي من شأنها أن توجه المشاهدات التجريبية التي تتمخض لنا عن معطيات جديدة؛ والمعيار الذي نقيس به سداد أمثال هذه الفروض، هو قدرة المعطيات الجديدة التي تنتجها تلك الفروض، على أن تنضم إلى المعطيات السابقة (التي كنا وصفنا بها المشكلة القائمة) بحيث يتألف منهما كل واحد ذو دلالة موحدة؛ (٣) ويلزم عن ذلك لزومًا مباشرًا طبيعة ما يكون بين هذين الجانبين من جوانب البحث، من علاقة متبادلة، أو من تقابل في الأداء؛ فالقضايا التي تصوغ المعطيات، لا بد لها — لكي تستوفي شروط البحث — أن تكون على النحو الذي يمكنها من تحديد مشكلة ما، تحديدًا يجيء على صورة تشير إلى حل ممكن؛ على حين أن الفرض الذي يُصاغ به هذا الحل الممكن، لا بد أن يكون على النحو الذي يمكنه من تزويدنا — إجرائيًّا — بالمعطيات الجديدة التي تملأ الفجوات التي تتخلل المعطيات التي سبق لنا أن حصلنا عليها، ثم ترتب تلك المعطيات، وهكذا ترى حركة مستمرة من جيئة وذهاب بين مجموعة القضايا الوجودية التي قيلت عن المعطيات، والقضايا اللاوجودية التي قيلت عن مدركات عقلية متعلق بعضها ببعض.
وبعد هذه النبذة التمهيدية أنتقل إلى الموضوع الرئيسي: ألا وهو تحليل الطرائق الاستقرائية من وجهة النظر المادية؛ وستكون المادة التي نتخذ منها وسيلة للتوضيح المبدئي، هي البحوث التي انتهى أصحابها إلى تعميم عن تكوين الندى وطبيعته؛ فمشاهدة الإنسان بإدراكه الفطري كافية في هذه الحالة — على الأرجح — لتمييز الظواهر المفردة التي نجمعها معًا تحت اسم واحد هو «الندى»؛ فثمة من السمات ما هو مميز تمييزًا كافيًا لعزل ظواهر الندى عزلًا يجعل منها نوعًا قائمًا بذاته، أي يجعل منها نوعًا يختلف عن غيره من الأنواع؛ وهي سمات يمكن مشاهدتها في يسر مشاهدة تتكرر مرة بعد مرة؛ فمن هذه السمات: وقت ظهور قطرات الندى، ومكانها، وتوزيعها فوق الأرض، وشكلها … إلخ؛ غير أن المشكلة الرئيسية الخاصة بهذه الظاهرة، لم تكن هي الكشف عن السمات التي تميز قطرات الندى، بل كانت هي تحديد النوع الشامل الذي يندرج فيه النوع المسمى «ندى»؛ فمنذ عهد أرسطو، بل ربما قبل ذلك بكثير، كانت الفكرة المقبولة هي أن الندى نوع فرعي للنوع الأشمل «مطر»، أو بعبارة أخرى كانت الفكرة المقبولة هي أن يُقال إن قطرات الندى سقطت، ولبث هذا الاعتقاد موضع التصديق حتى أوائل القرن التاسع عشر.
فمما هو جدير بالذكر — من جهة — أن مثل هذه النتيجة الاستدلالية كانت في حقيقة الأمر محتومة، ما دام المفروض في الصفات المدركة إدراكًا مباشرًا، هو أنها وحدها تكفي لتحديد نوع من الأنواع، وأن التغير الذي طرأ على فكرة النوع — من جهة أخرى — لم يحدث إلا بعد الوصول إلى نتائج عامة معينة عن توصيل المواد للحرارة وعن إشعاع الحرارة؛ لأن هذه التعميمات قد اقتضت أن تكون السمات الوجودية المستخدمة في تحديد أحد الأنواع تحديدًا وصفيًّا، هي مما يفهم على أساس طرائق التفاعل، لا على أساس الصفات المدركة إدراكًا مباشرًا؛ (١) فالفكرة الجديدة عن الندى قد عرضت لنا بعد أن ثبت أن سمات معينة، التي هي نتائج تتولد عن الحرارة، وعن توصيل الحرارة وإشعاعها بين الأجسام المتفاوتة في درجات حرارتها، بعد أن ثبت أن تلك السمات مرتبطة بسمات الأجسام من حيث هي صلبة وسائلة وغازية؛ فجاء الفرض الجديد لتفسير الندى إيحاءً مباشرًا أوحت لنا به هذه المادة، ولم توحِ به أية معطيات مما قد سبق لنا أن لاحظناه؛ (٢) وعندئذٍ أصبحت الصفات المشاهدة الظاهرة بمثابة الظروف التي تقيم لنا مشكلة يُراد حلها، ولم تعد تلك الصفات هي السمات التي يمكن الاعتماد عليها في الوصول إلى ذلك الحل؛ وذلك لأن أفكارنا عن الإشعاع وعن توصيل الأجسام للحرارة، وعن الحرارة، والضغط، هي أفكار علاقية في مضمونها، بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، لأنها أفكار قوامها الروابط التي تصل ألوان التغير بعضها ببعض؛ (٣) وأخيرًا، فبينما تعميماتنا عن الحرارة والضغط قد بلغت حدًّا يكفي لقبولنا إياها على أنها هي الصواب بوجه عام إلا أن علاقتها بظاهرة الندى ظلت موضع شك وافتراض؛ ولو أنه كان فرضًا مرجح القبول بأن هذه الأفكار يمكن أن تفسر لنا الندى؛ فهو فرض قابل للتطوير في خطوات من التفكير النظري، تطويرًا ينتهي بنا إلى قضايا مستنبطة نراها وثيقة الاتساق مع الظواهر التي كانت قد وقعت لنا في مجال المشاهدة؛ فاختفاء حرارة الشمس ليلًا، معناه انخفاض درجة حرارة الهواء؛ وهذا الانخفاض في درجة الحرارة — بدوره — معناه — بناءً على قوانين معترف بصوابها — أن الرطوبة في الهواء تتكثف وتظهر على الأشياء القريبة؛ هذه النتيجة يمكن الوصول إليها بالتفكير النظري وحده؛ فعلى أساس المنطق القديم، كانت هذه «المعقولية» النابعة من طبيعة النتيجة نفسها، تكفي لقبولها وإثباتها فورًا؛ فالجانب الهام من الناحية العلمية، من جوانب منطق البحث العلمي، هو أن نتيجة كهذه لا تعامل بأكثر من كونها فرضًا يستخدم في توجيه عمليات المشاهدة، أي إنها تعامل على أنها فكرة يجري عليها الاختبار، ويقام عليها «البرهان» على أساس النتائج المترتبة على تلك العمليات؛ فمضمون الفكرة الجديدة عن الندى، يتضمن افتراضًا لشروط بعينها، ولا بد لنا من القطع برأي: هل هذه الشروط متحققة أو غير متحققة في وقائع الحال كما يمكن أن تقع لنا في مجال المشاهدة.
فالفرض هنا يزعم — مثلًا — وجود بخار غير مرئي في الهواء، يكفي مقداره أن يفسر الندى المتكون على الأشياء؛ فكان لا بد من القيام بمشاهدات تجريبية دقيقة لنرى إن كان هذا الشرط متحققًا؛ فتبين من المشاهدات أن الندى يكون في أغزر حالاته على أشياء عرفنا عنها بمشاهدات وبتقديرات كمية مستقلة، أنها تتصف برداءة التوصيل للحرارة، وبجودة الإشعاع؛ فأوجدنا — بقدر المستطاع — ارتباطات عددية بين القدرة على التوصيل وعلى الإشعاع، وهي القدرة التي أثبتناها بعمليات قائمة بذاتها، وبين ما قسناه من كميات البخار الذي استقر على الأشياء؛ وكان لا بد لنا كذلك أن نقرر بمشاهدة تجريبية أن كمية تغيير حرارة الهواء — مع بقاء سائر الظروف متساوية — تتناسب بنسبة ثابتة مع مقدار التغير في حرارة الأشياء التي استقر عليها البخار؛ وكذلك أجريت تجارب أفادتنا بأن الاختلاف في درجة الحرارة اختلافًا خلقناه خلقًا بوسائل تجريبية، متناسب مع ظهور قطرات الماء على الزجاج وعلى ألواح من المعدن المصقول.
-
(١)
وجدير بنا — قبل أن نتناول حالة أخرى نتخذها مثلًا موضحًا آخر — أن نلخص بعض النتائج التي تولدت عن تحليلنا الذي بسطناه حتى هذا الموضع من الحديث، والنتيجة البارزة بين هذه النتائج هي أن الإجراءات الاستقرائية، هي تلك التي نهيئ بها مادة وجودية يكون لها وزن من حيث الإقناع باعتبارها شواهد نستشهد بها على صدق تعميم انتهينا إليه بعملية الاستدلال؛ وأما الفكرة القائلة بأن الاستقراء يتألف من الانتقال من «بعض» الحالات الجزئية (سواء أكانت كلمة «بعض» تعني منطقيًّا واحدًا أم عدة آحاد) فهي على أحسن الفروض فكرة خاوية؛ وذلك لأننا ما دمنا قد بلغنا بالبحث حدًّا يقرر لنا عنده تلك المعطيات الوجودية التي تكفي لضمان صدق النتيجة فقد وصلنا بذلك إلى هذه النتيجة فعلًا، ولا حاجة بنا بعد ذلك إلى «انتقال»؛ وأما إذا لم تكن المعطيات المادية التي نستدل منها النتيجة العامة، قد تهيأت بالفعل خلال مشاهدات تجريبية سابقة، فمحال على أي عدد من الحالات — مهما بلغ هذا العدد من اتساع المجال — أن تدعم استدلالًا، أو أن تتيح لنا أي شيء أكثر من التخمين الذي قد يخطئ وقد يصيب؛ فالعمليات التي نعد بها المادة، لا بد أن تُوَجَّه في سيرها بأفكار (تكون هي الفروض) توجيهًا يمكنها من تحقيق مهمتَي الإثبات والنفي تحقيقًا يتم بجمع المتشابهات وبالتفرقة بين شتى الاحتمالات التي يحتملها الموقف الواحد؛ وهو تحقيق لا نظفر به إلا بعد مقارنات ومباينات نجريها إجراءً عمليًّا؛ فهذه الإجراءات — حين نجريها بما نقيمه من تجارب — تكشف لنا عن مواضع الاتفاق بين الظواهر التي هي من حيث مادتها، أو من حيث وجودها الخارجي، مستقل بعضها عن بعض؛ وهي كذلك إجراءات من شأنها أن تراجع لنا مواضع الاتفاق (أعني التحقق من ذاتيات الأشياء) التي نحصل عليها بعمليات من العزل نجريها على نسق معلوم، أعني أنها تؤكد لنا ما بين الظواهر من مواضع الاختلاف؛ فلسنا نستطيع هنا أن نعرف الجانب الاستقرائي من البحث إذا أردنا أن يكون للاستقراء أي معنًى مما يتحقق على أساس البحوث العلمية كما يمارسها العلماء فعلًا، إلا على أساس الإجراءات التي نحول بها مادة الإدراك الحسي التي تلقيناها بادئ ذي بدء، تحويلًا يجعلها مادة معدة للبحث حتى إذا ما أعدت المادة إعدادًا يحقق الشروط المذكورة كانت مهمة الاستقراء قد انتهت وفرغنا منها، إذ نكون قد وصلنا إلى التعميم بحكم الأمر الواقع.
-
(٢)
والعمليات التي نؤديها لنشاهد ما نشاهده على سبيل التجارب، وأعني بها العمليات التي تعد لنا المواد إعدادًا سويًّا، تتطلب توجيهًا من قِبَل مدركات عقلية؛ فإلى أن نصوغ هذه المدركات العقلية صياغة تجعلها بمثابة الفروض، وإلى أن يتم لنا تطوير معانيها عن طريق خطوات استنباطية نسير بها في تفكير نظري مرتب، فإن المشاهدة وتجميع المعطيات تظل تخبط خبط عشواء، ولو أنه حتى في هذه الحالة العشوائية، يكون هنالك على الأقل تقدير مبهم من نوع ما، أي يكون هنالك تخمين هو الذي يؤدي بنا إلى مشاهدة بعض الظواهر دون بعضها الآخر؛ وعلى أية حال، فقيمة هذه الاستكشافات (التي نرود بها مجال المحسوسات المشاهدة) والتي ستكون غير محددة كثيرًا أو قليلًا، هي في قدرتها على استثارة ما عساه أن يوحي لنا بإيحاءات تأخذ بزمام مشاهدات تجريبية أكثر من سابقتها تحديدًا؛ وها هنا يكون تطوير المدرك العقلي الذي يرشدنا في توجيه مشاهداتنا — تطويره في تفكير نظري — هو الذي يزودنا بالمادة الوحيدة الممكنة التحقيق، والتي نستعين بها على رؤية الجانب الاستنباطي من المنهج العلمي؛ وهكذا تتضح المقابلة الأدائية بين جانبي الاستنباط والاستقراء في المنهج العلمي، ومع ذلك فقد يجدر بنا أن نقول — مرة أخرى — إن معنى «المنهج العلمي» هو أن تتحقق الشروط المنطقية التي يفرضها توجيهنا للبحث تحققًا كافيًا.
لقد كانت مشكلة التعميم المتضمنة في المثل الذي حللناه الآن توضيحًا للمنهج العلمي خاصة قبل كل شيء بالحالة التي نكون فيها قضية جامعة (قضية تصف نوعًا من الأنواع)؛ فالمشكلة الرئيسية هنا هي أن نتثبت من النوع الخاص الذي تنتمي إليه ظاهرة الندى، لكن كان قد دخل في الأمر تعميمات من طراز القضية الكلية الشرطية، كقوانين الحرارة والضغط؛ ولو أنها دخلت باعتبارها أمورًا قد تقررت من قبل، حتى لقد أصبحت المشكلة الرئيسية هي أن نقرر إن كانت ظاهرة الندى من النوع الذي ينطوي تحت هذه القوانين، باعتباره حالة خاصة من حالات تطبيقها؛ وننتقل الآن إلى مثل توضيحي آخر، نصب فيه اهتمامنا الرئيسي على الطريقة التي نحدد بها تعميمًا بالمعنى الذي يكون به التعميم قانونًا من القوانين، على أن يتخذ تحديد نوع الظاهرة (التي ينطبق عليها هذا القانون) موضعًا ثانويًّا؛ والمثل الذي نريد عرضه الآن هو الملاريا؛ فلقد قررت لنا الأبحاث أن الملاريا نوع، يتميز مما عداه بخصائص تفصله عن سائر الأنواع التي تندرج معه في نوع أشمل نطاقًا، وهو نوع الأمراض الطفيلية، إلا أن الأهمية العلمية (متميزة من الأهمية العملية) للنتيجة، إنما تكون في الإثبات الذي تؤيد به — بوساطة هذه النتيجة — نظرية عامة عن مقولة الأمراض بأسرها.
لقد لبث الناس أمدًا طويلًا يتصورون سبب الملاريا تصورًا عبروا عنه بالمعنى الحرفي للكلمة الإنجليزية الدالة على الملاريا، وهي Malaria ومعناها الحرفي: هواء فاسد؛ وكان لهذا التصور قيمة عملية معينة، وذلك لما ترتب عليه من عواقب، كإغلاق النوافذ ليلًا، مما كان له بعض التأثير في حدوث المرض حدوثًا فعليًّا، لكن قيمته العلمية كانت في الحقيقة معدومة؛ إذ إنه تصور لم يؤدِّ إلى المضي في البحث للتحقق من طبيعة المرض، ولم يكن في وسعه أن يرتب الظواهر التي تعرض للمشاهدة خلال مراحل المرض؛ وكل ما فعله هو أنه صنف تلك الظواهر بأن وضعها — جملة — تحت هذه الفكرة عنها؛ فبينما كانت فكرة السببية التي اعتنقها أصحاب ذلك التصور، ذات، صورة منطقية يبدو عليها في الظاهر أنها مما يكوِّن فرضًا علميًّا، إلا أنها من حيث المضمون كانت عاجزة عن أداء العمليات الإجرائية التي منها يتكون تعريفنا للفرض العلمي؛ نعم إن ظواهر معاودة الحمى والرعشة إلى المريض كانت أمورًا معلومة إلى الحد الذي لا يسوغ لنا أن نقول إن قصورنا عن فهم طبيعة المرض كثيرًا ما أدى إلى عجزنا عن تشخيصه في حالاته التي يقع فيها؛ ومع ذلك فقد كان هذا التعرف على ظواهر المرض لا يجدي شيئًا بالنسبة إلى ما يبتغيه العلم من أغراض؛ هذا فضلًا عن أن هذا القصور إنما هو طابع يميز شتى المحاولات التي نحاول بها أن نصل إلى قانون، بجمعنا للحالات الفردية كما تقع، ومقارنتنا لها بعضها ببعض، ثم «تجريدنا» لما يسمونه خصائص مشتركة بينها؛ فكانت نتيجة مثل هذا الإجراء، لا تزيد على كوننا نكرر — باستخدامنا «للفظ» واحد — ما هو معلوم لنا بالفعل عن الظواهر الفردية، فكنا بمثابة من يخلع قوة تفسيرية على ذلك اللفظ.وأما الفهم العلمي لظاهرة الملاريا، فكاد ألا يبدأ إلى أن عرف الناس من بعض الأمراض أنها من أصل طفيلي، وهو أحد الأمثلة التي تبين قيمة الفرض العلمي وقيمة استنباط النتائج من الفرض في البحث العلمي؛ غير أن الفرض في هذه الحالة كان ذا مضمون مادي، استمده الإنسان من معرفته لما كان قد حدث قبل ذلك من حالات واقعية، أعني أنه لم يكن مجرد أمر صوري؛ أضف إلى ذلك أنه فرض لم ينتج لنا نتيجة، لو أننا نظرنا إليه من حيث هو تعميم يجوز أن ينتقل بنا من حالات معروفة إلى حالات لم تكن قد عرفت بعد؛ بل كان فرضًا نستخدمه في توجيه ما عسانا أن نقوم به بعدئذٍ من مشاهدات وتجارب؛ فلم يكن بادئ ذي بدء (أي قبل أن نستخدمه استخدامًا عمليًّا على النحو المذكور) إلا إيحاء، أي إنه لم يكن إلا مجرد فكرة نعبر بها عن احتمال لم تتعين حدوده؛ ثم اقتضى الأمر بعد ذلك أن نستنبط من الفرض نتائجه، لكي نضعه في صورة تزيد من قابليته للتطبيق العملي؛ لكنه لم يكن في وسعه أن يحدد في ذاته وبذاته نتيجة عن طبيعة الملاريا؛ بل إن اكتشاف «لافران Laveran» نفسه (بفحص الدم فحصًا مجهريًّا) للطفيليات الموجودة في دم مريض بالملاريا لم يكن كافيًّا، لأنه لم يستطع أن يكشف عن أصل الطفيليات، كما لم يستطع أن يبين إن كانت تلك الطفيليات عوامل سببية أو هي مجرد مصاحبات للمرض أو ناشئات عن المرض.أضف إلى ذلك أنه قد حدث في تلك الفترة أن اكتشف أيضًا أن بعض الأمراض ينشأ من أصل عضوي؛ فكان هذا الرأي من قابلية التطبيق — فيما يبدو — على حالة الملاريا، بحيث نقصت قوة الرأي الذي أوحى به اكتشاف «لافران»؛ فمن الناحية النظرية الصورية الصرف، لم يكن ثمة ما يسوغ المفاضلة بين فرض وفرض، وهو مثل آخر يوضح لنا قصور الاستنباط الخالص عن أن يحسم مشكلة بعينها؛ ومهما يكن من أمر، ففكرة الأصل الطفيلي للملاريا، أخذت تزداد قوة شيئًا فشيئًا، حتى تمكنت من توجيه المشاهدات المنظمة للسير الحقيقي الذي يسير به المرض، مصحوبة تلك المشاهدات بالبحث المتكرر عن الطفيليات في الدم أثناء ذلك السير؛ فتبين من هذا أن التغيرات التي تطرأ على تقدم المرض في سيره، تساير مسايرة وثيقة العرى ما يطرأ على تطور حياة الطفيلي من تغيرات؛ وأن أنواعًا مختلفة من الطفيليات تظهر في المراحل المختلفة التي يجتازها المرض؛ فكانت هذه الكشوف كافية إلى الحد المعقول لأن تنشئ لدينا اعتقادًا بأن المرض ذو طبيعة طفيلية؛ إلا أنها لم تكفِ لبيان المصدر الذي ينشأ عنه الطفيلي، ولهذا فلم تحل مشكلة طبيعة الطفيلي أو خاصته المميزة إلا حلًّا جزئيًّا؛ ثم جاء الكشف بأن مرضًا آخر — هو داء الفيل — يرجع إلى عضة البعوض، فكان موحيًا بأن البعوض هو العامل الفعال في إدخال الطفيلي في جسم المريض بالملاريا؛ فاستخدم هذا الإيحاء على أنه فرض يمكن استغلاله في مشاهداتنا للبعوض بعدئذٍ؛ حتى اكتشف «رُس Ross» أن البعوضة حين تمتص دم مريض بالملاريا، تنشأ في جسمها صور جديدة من الطفيلي، تصبح آخر الأمر صورًا قائمة بذاتها؛ ثم اكتشف بعدئذٍ أن بعوضًا من بعوض الملاريا، إذا ما تغذى من دم المريض بالملاريا، أنشأ بذلك خلايا ملونة هي نفسها طفيليات الدم التي كانت في جسم الإنسان المريض، عندما كان في مرحلة أولى من مراحل مرضه.ومع كل هذا فلم تكن الشروط المنطقية لتحديد القانون أو القضية الكلية تحديدًا علميًّا، قد تحققت كلها تحققًا كاملًا؛ إذ بقي علينا أن نستوفي شروطًا معينة أخرى لعزل شتى الحالات الممكنة فلا نستبقي منها إلا واحدة؛ فمثلًا كان لا بد لنا أن نبين أن الأنواع الأخرى من البعوض لا تحمل الطفيلي ولا تدخله في جسم المريض، وأن عضة بعوض الملاريا لا تحدث الخصائص المميزة التي تميز المرض، إذا ما كانت قد تغذت قبل ذلك على دم الأصحاء وحدهم؛ وحتى بعد هذا كله، بعد أن نكون قد حذفنا هذه الاحتمالات، فالعمل العلمي لا يكون قد كمل بعد؛ فأجريت بعد ذلك تجارب على كائنات بشرية، تبين منها أن بعوضة الملاريا لو عضت مريضًا بالملاريا، ثم عضت سليمًا بعد ذلك بفترة محدودة من الزمن (هي نفسها الفترة الزمنية التي تبين ببحث قائم بذاته أنها الفترة المطلوبة لتطوير الطفيلي في جسم البعوضة) فإن هذا الشخص السليم يطوِّر السمات المميزة لهذا المرض نفسه؛ ومن الناحية السلبية أجريت تجارب تُبين أن الأشخاص الذين يقون أنفسهم وقاية تامة ضد لذعة بعوض الملاريا، لا يطورون المرض، حتى في المناطق التي تكثر فيها الملاريا؛ ثم اتخذت إجراءات سلبية أخرى، تبين منها أن سبل الوقاية التي من شأنها أن تحول بعض الملاريا دون التكاثر، كصب الزيت في الماء الذي يتكاثر فيه البعوض، وكتجفيف المستنقعات … إلخ، قد أدت إلى اختفاء المرض؛ وأخيرًا، فإنه مما كانت قد دلت عليه التجربة منذ أمد طويل، أن شراب الكينا يكسب الإنسان حصانة معينة من الملاريا، وأن ذلك الشراب كان علاجًا خاصًّا لمن أصيب بالمرض؛ ثم ثبت الفرض الخاص بقيام علاقة جوهرية بين تطور المرض وتطور الطفيلي الذي تحمله البعوضة إلى الدم، أقول إن هذا الفرض ثبت ثبوتًا تامًّا، حين تبين بالتجارب أن هذه الحقيقة التي دلت عليها الخبرة عن الكينا إنما هي نتيجة العلاقة بين الخصائص الكيموية للكينا، وشرط قيام الحياة في الطفيلي؛ وهكذا تم الأساس الذي تقوم عليه قضية كلية تقول: «إذا حدث كذا، وفي هذه الحالة وحدها التي يحدث فيها كذا، ينتج كيت وكيت» أقول إن أساس قضية كلية كهذه قد تم وضعه، بمقدار ما يمكن لقضية من هذا القبيل أن تقوم على أساس قاطع.
ليست بنا حاجة إلى أن نكرر هنا النتيجة النظرية التي تولدت من تمحيصنا للمثل السابق؛ غير أن النقطة التي أثرناها عندئذٍ عن عدم صلاحية الصيغة التي تقول عن الاستقراء إنه انتقال «من بعض إلى كل»، يحسن أن نزيدها شرحًا؛ فالقضية العامة من حيث مضمونها وسلامتها تتوقف توقفًا تامًّا على مضمونات القضايا المفردة الموضوع التي هي الأساس الذي تنبني عليه تلك القضية العامة؛ وإقامتها على هذا الأساس يتوقف بدوره على طبيعة الإجراءات التي نجريها لنوجد تلك المضمونات؛ فحين يُقال إن الاستدلال الاستقرائي يبدأ سيره مما يحدث في بعض الحالات إلى ما يصادق على جميع الحالات، فالمقصود من عبارة «جميع الحالات» هو بطبيعة الحال، الحالات المقصورة على نوع معين أما إذا كان النوع قد تم تحديده بالفعل «ببعض» الحالات، الذي منه يبدأ الاستدلال سيره فيما يُقال، كان الاستدلال المزعوم تحصيل حاصل ليس إلا، لأن النوع من الأنواع إنما هو النوع الذي يكون هو هو بذاته؛٦ فإذا وضعنا هذا المعنى في عبارة إيجابية، قلنا إن كل شيء يتوقف على ما قد تقرر لنا أنه حدث في «بعض» الحالات؛ فإذا كان ثمة ما يسوغ لنا الاعتقاد بأن ما قد وجدناه عندئذٍ هو ممثل لسواه، تم لنا التعميم بذلك بحكم الأمر الواقع، وأما إذا لم يكن البعض الذي وجدناه ممثلًا لبقية النوع، كان الاستدلال غير قائم على أساس مقبول على أي حال.وها نحن أولاء قد وصلنا مرة أخرى إلى النتيجة القائلة بأن كلمة «الاستقراء» اسم يطلق على مجموعة طرائق نقرر بها عن حالة معينة أنها تمثل غيرها؛ وهي عملية يعبر عنها كون تلك الحالة المذكورة نموذجًا أو عينة؛٧ فمشكلة البحث الاستقرائي، والتحوطات التي لا بد من اتخاذها في سيرنا بذلك البحث الاستقرائي كلها تدور حول التثبت من أن الحالة التي بين أيدينا ممثلة لسواها، أو أنها نموذج أو عينة لغيرها؛ فليس من شك في أن بعض الحالات — قليلة العدد أو كثيرته — ينبغي أن تفحص إبَّان قيامنا بالبحث: فهذا أمر متضمن بالضرورة في أدائنا لعمليات المقارنة والمباينة التي نجريها داخل إطار البحث؛ إلا أن سلامة النتيجة المستدلة لا تتوقف على عدد تلك الحالات المذكورة؛ بل الأمر على نقيض ذلك إذ إن استعراضنا وموازنتنا العملية لمختلف الحالات المبحوثة، هو أمر وسلي بمعنى هذه الكلمة الدقيق، أعني أنه وسيلة تؤدي إلى تحديدنا لما يحدث فعلًا في أية واحدة من هذه الحالات؛ وفي اللحظة التي نقرر فيها أن أية واحدة من هذه الحالات، هي في حقيقتها ممثلة نموذجية لأخواتها، تنحل المشكلة القائمة بين أيدينا من فورها؛ ولقد ألفنا أن نستدل من أمثلة ومن نماذج موضحة، أي أن نستدل مما قد أسماه «بيرس» بالرسوم الموضحة أو «الأيقونات»؛ وكثيرًا ما نهجنا هذا النهج خلال مناقشاتنا السابقة؛ إلا أنه ينبغي أن نتبين في جلاء، وبغير حاجة إلى جدل، أن قيمة هذا الضرب من الاستدلال تتوقف بأسرها على ما إذا كانت الحالة المبحوثة — أو لم تكن — ممثلة لغيرها وموضحة له بالمعنى الحقيقي للتمثيل والتوضيح؛ فلو كنا قد عدنا ها هنا إلى إبراز هذه النقطة، فما ذلك إلا لأن ما تنطوي عليه يحسم الأمر بالنسبة إلى طبيعة المنهج الاستقرائي. -
(٣)
إلى هذا الموضع من سياق الحديث، قد سلمنا تسليمًا بالرأي السائد الذي يذهب إلى أن هدف البحث العلمي هو تكوين مبادئ وقوانين عامة، واقعية كانت أو تصورية؛ إذ ليس من شك في أن إقامة أمثال هذه التعميمات، هي جزء لا يتجزأ من عمل العلوم الطبيعية؛ إلا أنه كثيرًا ما يضيف أصحاب هذا الرأي زعمًا يضمرونه أو يفصحون عنه، وهو أن إقامة التعميمات أمر يستنفد مهمة العلم كلها؛ وفي قولهم هذا إنكار على العلم قيامه بأي دور كائنًا ما كان في تحديد القضايا التي تشير إلى المفردات من حيث هي مفردات؛ نعم إنهم بالطبع يسلمون بأن القضايا التي تتحدث عن مفردات باعتبار هذه المفردات منتمية إلى هذا النوع أو ذلك، أمر لا بد منه للوصول إلى تعميم، كما يسلمون أيضًا بأن أي تعميم يُساق على سبيل الاقتراح، لا بد من اختباره بأن نتثبت مما إذا كانت ملاحظة الأحداث المفردة — أو لم تكن — تؤدي بنا إلى نتائج متفقة مع ما يقتضيه ذلك التعميم؛ إلا أنهم يرون أننا إذا ما وصلنا إلى التعميم، فإن القضايا التي تتحدث عن مفردات تكون عندئذٍ قد فرغت مهمتها المنطقية كلها؛ وهو زعم مساوٍ لإنكارهم بأن يكون استعمالنا للتعميم في تحديد المفردات ذا دلالة علمية على الإطلاق؛ نعم إنهم بالطبع يعترفون بأن التعميمات تستعمل فعلًا هذا الاستعمال، كما يستعملها — مثلًا — المهندسون والأطباء؛ غير أنهم يعدون هذا الاستعمال لها أمرًا خارجًا عن نطاق العلم، أي إنه أمر «عملي» صرف؛ وإن هذا الضرب من ضروب التصور ليعكس ويؤيد — في آنٍ معًا — تلك التفرقة الخبيثة بين النظر والعمل؛ فترى هذه التفرقة المزعومة معبرًا عنها في فرق منطقي ثابت يجعلونه بين العلوم «البحتة» والعلوم «التطبيقية».
ولن أطيل الوقوف هنا عند حقيقة كون هذه التفرقة الخبيثة المذكورة، لا تجاوز أن تكون إرثًا ورثناه من تصور للمنهج المنطقي وللصور المنطقية، كان ملائمًا للنواميس الكونية كما تصورها الأقدمون، ولكنها نبذت اليوم عند ممارسة العلماء لعلومهم؛ كلا، فلن أزيد هنا على مجرد التلويح بما يتسم به ذلك التصور القديم من اعتساف؛ إذ إن الإجراءات المنهجية التي يستخدمها المهندس القدير أو الطبيب البارع في حل المشكلات الخاصة بحسم الرأي في الحالات المفردة، لا تختلف قط في شيء عن الإجراءات المنهجية التي يستخدمها فريق آخر من الناس في تكوين الأحكام العامة؛٨ والنقطة التي يجدر بنا الإشارة إليها هنا، هي أن ذلك التصور القديم يستبعد من نطاق العلم موضوعات كثيرة تندرج عادة في زمرة العلوم؛ فالتاريخ — مثلًا — معنيٌّ إلى حدٍّ كبير جدًّا بتحقيق ما قد حدث في زمان ومكان معينين؛ وليست المسألة هنا هي إن كان التاريخ بمعناه الواسع — أو لم يكن — علمًا؛ بل ليست المسألة هي إن كان التاريخ قابلًا — أو غير قابل — لأن يكون علمًا؛ بل المسألة هي هل الإجراءات المنهجية التي يستخدمها المؤرخون خلو من خصائص البحث العلمي؛ فأقل ما يُقال عن كون المذهب الذي نوجه إليه النقد يتضمن منطقيًّا هذا الإنكار، أقل ما يُقال في ذلك هو أنه رأي نعلق به على ذلك المذهب، ويستحق أن يوضع موضع النظر؛ فإذا كانت منزلة التأريخ العلمية موضعًا لكثير من اختلاف الرأي، بحيث لا يكفي أن نسوقه مثلًا لتأييد الرأي الذي نحن بصدد عرضه، فماذا يقولون — إذن — عن الجيولوجيا والعلوم البيولوجية؟ ولسنا نقصد فيما نقصده بهذا السؤال أن نغض النظر عن أهمية الحكم العام في هذه العلوم، بل إننا لنسترعي الانتباه — بهذا السؤال — إلى حقيقة كون هذه العلوم منصرفة إلى حد كبير نحو أحكام تقرر بها مفردات؛ وأن التعميمات فيها لا تنشأ مجرد نشوء عن الأحكام المنصبة على المفردات، بل إنها لا تنفك تؤدي مهمتها في تفسير مفردات جديدة.فحقيقة الأمر — فيما يبدو — هي أن التشبث تشبثًا غير نقدي بالتصورات الأرسطية، قد تآلف مع مكانة الفيزياء، وبخاصة الفيزياء الرياضية، فتولد عن تآلفهما الرأي الذي لا يكتفي بأن تكون الفيزياء أكثر صور البحث العلمي تقدمًا (وإنها لكذلك بغير شك) بل يجعلها كذلك وحدها دون سواها ذات طبيعة علمية؛ نعم إن تطبيق التعميمات الفيزيائية — من وجهة النظر الشعبية — كما هي الحال مثلًا في تقنيات المهندس الكهربي، أو الكيموي، وفي الطرائق التي يستخدمها «علم الطب» (إذا جاز لنا هذا التعبير)، أقول إن تطبيق التعميمات الفيزيائية تقع عند الناس موقعًا حسنًا، لما ينجم عنها من عواقب عملية بصفة خاصة لكننا لو نظرنا إلى الأمر نظرة منطقية، ألفينا هذه التطبيقات أجزاءً لا تتجزأ من عمليات التحقق من صدق التعميمات نفسها؛ فتجفيف المستنقعات التي يتكاثر فيها بعوض الملاريا، أمر محمود لأنه يعين على التخلص من الملاريا؛ لكنه من وجهة النظر العلمية تجربة تقام لتثبت نظرية؛ وبصفة عامة فإن التطبيق الاجتماعي لنتائج الفيزياء والكيميا، يزودنا باختبار يضاف إلى غيره من الاختبارات، وبضمان جديد يضاف إلى غيره من الضمانات التي نختبر بها ونضمن بها نتائج كنا قد حصلنا عليها.
وتنطوي النقطة المتضمنة في هذا على نتائج بعيدة المدى؛ فما قد جرى عليه التقليد من قصر العلم على التعميمات، يضطرنا اضطرارًا إلى إنكار السمات العلمية والقيمة العلمية على أي ضرب من ضروب العمل؛ إذ إنه يمحو — منطقيًّا — الاختلاف الفسيح الكائن بين أوجه النشاط التي نكررها بغير تفكير، وأوجه النشاط الأخرى التي تنم عن ذكاء، بين الفعل الذي تمليه الأهواء والفعل الذي نسير فيه بالفنون الصناعية التي تتجسد فيها مهارات فنية وتقنيات تعبر عن أفكار مختبرة الصدق اختبارًا محكمًا؛ بل إنه لأمسُّ بموضوعنا أن نقول إن ما قد جرى به التقليد من قصر العلم على التعميمات وحدها هو أنه يتضمن — منطقيًّا — انتحار العلوم حتى من ناحية التعميمات نفسها؛ وذلك لأنه ليس ثمة قط ما يسوغ الفصل المنطقي بين الإجراءات وتقنيات التجارب في العلوم الطبيعية، وبين نفس الإجراءات وتقنيات التجارب المستخدمة في تحقيق الأغراض العملية بأدق معناها؛ فيستحيل على الخيال أن يتصور ما هو أشد فتكًا للعلم من استبعاد التجارب، وما التجارب إلا صورة من صور الأداء والفعل؛ فتطبيق التصورات الذهنية والفروض على المواد الكائنة في الوجود الخارجي بوساطة الأداء والفعل، هو مقوم أصيل من مقومات المنهج العلمي؛ فليس هنالك الخط الحاسم الفاصل بين أمثال هذه الضروب من النشاط «العملي»، وتلك الضروب التي تصدق نتائجها على أغراض إنسانية اجتماعية، ولو فصلناهما على هذا النحو لاستتبع ذلك نتائج خطيرة بالنسبة إلى العلم بمعناه الضيق.
-
(٤)
ربما بدا بعض الموضوعات التي ناقشناها في هذا الفصل بعيدًا بعض الشيء عن موضوع الاستقراء؛ ولو كان الأمر كذلك لكان هذا أمرًا ظاهريًّا فحسب؛ وذلك لأن النظرية المنطقية على حالتها الراهنة اليوم، تتجاهل مشكلات الاستقراء في جوانب رئيسية منها، مستندة في ذلك إلى تصورات خاطئة تنبثق من مصدرين؛ فمن جهة هنالك تأثير منطق صِيغ قبل نشأة العلم الحديث؛ ومن جهة أخرى، هنالك تأثير المنطق التجريبي الذي حاول أن يقسر النظرية المنطقية على مطابقة الإجراءات المنهجية في العلم الحديث؛ فكلا هذين التأثيرين تآلفا على تأييد الفكرة القائلة بأن الاستقراء عملية نستدل بها مما يحدث في بعض الحالات المشاهدة على نتائج تحدث في الحالات كافة، المشاهد منها وغير المشاهد؛ فإذا ما حللنا هذه النظريات تحليلًا نقديًّا، وجدنا عنصر الحقيقة الوحيد فيها هو أن كل استدلال يتضمن توسعة نجاوز بها نطاق الأشياء التي قد شوهدت فعلًا؛ وتفسير هذه الحقيقة غير المنكورة عند كلتا النظريتين يتجاهل الجانب البارز من جوانب الاستدلال العلمي الاستقرائي، وهو: إعادة تكوين المفردات إعادة موجهة، أعني المفردات التي هي أساس التعميمات؛ وإن هذه الإعادة لتكوين المفردات لتتم على نحو يتيح لنا أن نقرر ماذا يحدث خلال التفاعل الذي يقع في الحالة المفردة الواحدة؛ فالاستدلال الذي نسير به «من إحدى الحالات إلى الحالات كافة»، إنما يتحدد تحددًا تامًّا كاملًا بما قد جرى فيما سبق من إجراءات تجريبية، كانت قد قررت لنا عن الحالة الواحدة بأنها عينة نموذجية لمجموعة من التفاعلات، أو لمجموعة من الارتباطات في الأداء بين متغيرات؛ وهذه المجموعة — إذا ما ثبتت لنا — كانت هي نفسها التعميم؛ ولما كانت مجموعة المتغيرات من شأنها أن تندرج تحت مجموعة أخرى من التغيرات أوسع نطاقًا، كانت النتيجة هي تعميم نعمم به علاقة تربط أنواعًا بعضها ببعض؛ ما دامت التفاعلات المذكورة هي التي تقرر ماذا تكون السمات المشاهدة التي إن اقترنت معًا حددت نوعًا معينًا؛ وأما إذا جردنا مجموعة التفاعلات، فإنها إلى الحد الذي نجردها به تصبح ممكنة الإدراك للعقل، وذلك عن طريق تطويرنا للرموز التي ننشئ بها قضية كلية من طراز «إذا – إذن» تطويرًا يتم خلال خطوات من التفكير النظري؛ فيكون الحاصل عن ذلك تعميمًا يتخذ صورة قانون أو مبدأ غير ذي إشارة إلى الوجود الخارجي، لكنه ينظم المادة الوجودية حين نُجري الإجراءات التي تنطوي عليها صيغته النظرية.
إن التعميم بصورتيه الجامعة والكلية المجردة، لينبثق من مصدر واحد منطقي مشترك، وهذه حقيقة أخرى نسوقها مثلًا لما بين الصورتين من علاقة متبادلة؛ فالنقص الأساسي الذي يعيب المنطق التجريبي التقليدي، هو عجزه عن تبين ضرورة الفروض المجردة — بما تقتضيه من علاقات استنباطية بين القضايا — في توجيه الإجراءات التي نجريها لنوجد بها المفردات التي تحمل عبء هدايتنا بما فيها من شواهد، واختبارنا لصدق ما عسانا أن ننتهي إليه من نتائج؛ وأما النظرية التقليدية (النظرية العقلية الصورية) فعيوبها المتأصلة في طبيعتها هي: (١) عجزها عن أن تتبين أن الإجراءات المنهجية التي يقوم بها العلم التجريبي، من شأنها أن تحوِّل المفردات التي منها يبدأ السير نحو التعميم الاستقرائي، و(٢) عجزها عن أن تتبين العلاقة الوسلية — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — القائمة بين الفروض باعتبارها وسائل، وتحديد المفردات تحديدًا تجريبيًّا باعتباره الغاية المتحققة بتلك الوسائل.
وتحديدنا — خلال المنهج العلمي — لما هنالك من ضروب التفاعل، عملية لا غناء لنا عنها، وهي تتضمن عمليات هي التي نطلق عليها اسم «السببية»؛ وذلك لأن السمات المشاهدة المميزة التي نقرر بها قضية تقول إن هذا (الشيء المفرد المعين) هو أحد أفراد نوع بذاته، والتي نقرر بها أيضًا قضية تقول إن النوع المذكور يندرج مع غيره من الأنواع في نوع يشملها جميعًا، لم تكن لتهيئ لنا الأسس المقبولة التي نبني عليها هذه النتائج، إلا لأن العلامات المذكورة التي نتخذها شواهد (على أن فردًا ما ينتمي إلى نوع معين، وعلى أن نوعًا ما يدخل مع غيره في نوع أشمل) هي حالات يتحقق فيها بالفعل ما قد كان موجودًا بالقوة بحكم ضروب التفاعل كما هي قائمة في الفرض المجرد؛ فالذي يكون مضمون قضية كلية مجردة، أي يكون مضمون فرض من الفروض، هو طريقة التفاعل أو صورته من حيث هي طريقة أو صورة نأخذها مأخذ الإمكان مجرد الإمكان.
وموضوعنا في الفصل التالي هو أن نعرض هذه الفكرة بلغة «السببية»؛ فلسنا نتطلب إلا قليلًا جدًّا من الإلمام بموضوع الاستقراء، لكي نقدر الدور الأساسي الذي قامت به فكرة السببية في النظريات التي تصدت لتفسير الاستدلال الاستقرائي؛ غير أن مشكلة السببية وطبيعتها — منذ عهد «مل» وما قبله — قد ارتبطت بشتى ضروب المشكلات التقليدية في الميتافيزيقا والإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)؛ لكن الملاحظات التي أبديناها في هذا الفصل ستعيننا على اطراح الكثرة الغالية من هذه المشكلات؛ وذلك لأن اعترافنا بالمكانة الرئيسية التي تحتلها التفاعلات، يقصر مناقشتنا لمقولة السببية على المهمة المنطقية التي تؤديها فكرة التفاعلات هذه.