القوانين العلمية
(١) كلمة تمهيدية: طبيعة القوانين
كانت وجهة النظر التي تجعل القوانين العلمية صياغات لتتابعات الأحداث تتابعًا مطردًا ومطلقًا، هي الوجهة المقبولة بصفة عامة منذ عهد «مل»؛ وكذلك أخذوا برأي «مل» في تعريفه للسببية على أساس هذه التتابعات في الأحداث؛ غير أن الأخذ بهذين الجانبين، لا يستلزم القبول الشامل لموقف «مل» الذي يتميز به؛ بل الأمر على نقيض ذلك. إذ إن مَن وجهوا النقد لوجهة نظره، لم يجدوا عسرًا في أن يبينوا أن فكرة التتابع المطلق أو الضروري نفسها، لا تتسق من حيث الأساس مع الفكرة القائلة بأن المفردات — من حيث هي مفردات — هي الدعامة وهي المضمون للقضايا العامة كافة، أو بتعبير أعم، إن الضرورة أو الرابطة المحتومة التي يسلم بقيامها (بين الحوادث المتتابعة) لا تتسق مع العلاقة التي تصل المفردات بعضها ببعض؛ ولما كان «مل» نفسه قد اعترف بأن تحديدنا للاطراد الدقيق في تتابع الأحداث، إنما يعتمد آخر الأمر على تحديدنا لطبيعة ذلك التتابع من حيث هو أمر مطلق، بل إن ذلك الاطراد في التتابع هو نفسه هذه الصفة المطلقة في طبيعته، كان من الواضح أن الفكرة القائلة بأن القوانين سببية، وبأن السببية تتابع غير مشروط، إنما هي فكرة تتطلب — إذا ما قبلناها — أساسًا منطقيًّا يختلف كل الاختلاف عن الأساس الذي يقدمه «مل» إلينا.
لقد بُذلت جهود بارعة في محاولات قصد بها أصحابها أن يبينوا كيف أن فكرة اطراد تتابع الأحداث يجوز أن تندمج مع فكرة الضرورة المطلقة، على أساس من مدركات منطقية تختلف عن المدركات التي يأخذ بها «مل»؛ لكن سداد النقد الموجه إلى مذهب «مل» لا يستلزم أن يكون المذهب الذي يعرضونه ليحل محل مذهب «مل» هو المذهب السليم، كما لا يستلزم أن يكون هذا المذهب المعروض نفسه خلوًا من التناقض؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إننا لا نحتاج إلى أكثر من تحليل يسير لنتبين أن فكرة تتابع الأحداث الواقعة في الوجود — الخارجي — تتابعًا ضروريًّا (أو تتابعًا غير مشروط) — وكل تتابع لأحداث تقع في الزمن إنما يتسم بكونه أمرًا واقعًا في الوجود الخارجي، بحكم تعريفه نفسه، إنما هي فكرة تتناقض مع مبادئ منطقية أساسية أخرى تقع لدينا في العادة موقع القبول؛ وذلك لأن أحدًا منا لا يتردد في التسليم بأن القضايا الكلية المجردة وحدها — أعني القضايا التي لا تشير إلى الوجود الخارجي بمضمونها — هي القضايا الضرورية؛ وأن أية قضية ذات مضمونات تشير إلى الوجود الخارجي إشارة مباشرة، إن هي إلا قضايا موجبة جزئية أو سالبة جزئية، وليست هي بالقضايا الضرورية، كلا ولا هي بالقضايا الكلية المجردة.
ومع ذلك فمن الواضح أن بعض جوانب الرأي الذي نتناوله بالنقد سليمة إذا ما أخذناها فرادى؛ فصحيح أن القضايا الكلية المجردة الضرورية لا غناء عنها في المنهج العلمي؛ وليس بمنكور أن تحديدنا لحالة من حالات التتابع في الأحداث الواقعة في الوجود الخارجي، أمر لا محيص لنا عنه في بحوث كثيرة، كما هي الحال في مثلَي الملاريا والندى اللذَين ناقشناهما في الفصل السابق؛ وصحيح أيضًا أن ثمة علاقة منطقية معينة بين القضية الكلية المجردة من ناحية، وهي القضية التي تتألف من مفاهيم مجردة مرتبط بعضها ببعض، وبين تحديدنا — من ناحية أخرى — لتتابع تجيء فيه الأحداث على ترتيب معين تحديدًا سليمًا غير أنه لا يقل عن ذلك وضوحًا أن ثمة فرقًا منطقيًّا بين هذين النوعين من القضية فالثانية منهما وجودية، ولذلك فهي — كما سيتبين فيما يلي — آخر الأمر تشير إلى مفردات، على حين أن الأولى مجردة؛ وهكذا نرى المذهب الذي نتناوله بالنقد متضمنًا لتناقض داخل بنائه نفسه؛ فهو يخطئ حين ينسب القوة الأدائية التي تتسم بها القضايا ذوات المضمونات المرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضروريًّا (وأعني أنها أدائية في تحديدها لما هو واقع في الوجود الخارجي من تتابع)، أقول إن المذهب المنقود ينسب — خطأً — هذه القوة الأدائية للتتابع نفسه الذي كان من شأن تلك القوة الأدائية أن تحدده، كما لو كانت تلك القوة الأدائية هي مضمون القانون العلمي؛ كما أنه كذلك ينسب — بالتالي — إلى هذا التتابع في الأحداث الواقعة تلك الخاصة العلاقية الضرورية التي لا تخص إلا القضية الكلية المجردة الشرطية التي صورتها «إذا – إذن» والتي من شأنها أن تعين لنا ما بين الأحداث الواقعة من تتابع.
ولقد عاودنا مرارًا ذكر مصدر هذا الخلط المنطقي؛ فهو خلط يقع فيه من يجعل التعميمات ذات الصورة الجامعة (التي تصف الحقائق الواقعة كما تقع) والتعميمات ذات الصورة الكلية المجردة، يجعلهما وكأنما لا تختلف إحداهما عن الأخرى؛ ولنضرب لذلك مثلًا علميًّا نموذجيًّا؛ في الفيزياء قضايا أساسية يرد فيها الزمن والمسافة والكتلة مرتبطًا بعضها ببعض؛ والقضايا التي تصوغ هذه الارتباطات المتبادلة بينها، إنما هي معادلات ودالات رياضية أخرى؛ فهي قضايا يُراد بها أن تقرر علاقات ضرورية قائمة بين مفاهيم مجردة، وعلى ذلك فليست هي بالوجودية من حيث مضمونها؛ فمعاني «الزمن» و«المسافة» و«الكتلة» تتحدد في التعريف وبالتعريف، وما دامت تتحدد على هذا النحو فهي خلو من السمات المادية التي تعين تاريخًا بعينه ومكانًا بعينه وكتلة بعينها؛ وأما البحوث التي نصبها على التغيرات الفعلية وما بينها من ارتباطات، فهي — من جهة أخرى — ذوات مضمون يشير إشارة مباشرة إلى مادة الوجود الخارجي فهي أبحاث معنية بمجرى الأحداث كما تقع فعلًا في ظروف متعينة من مكان وزمان؛ فصميم البحث العلمي — إذن — هو أن يبقي على هذه التفرقة بين النمطين المنطقيين المتمثلين في نوعي القضية المذكورين، ويبقي في الوقت نفسه على الصلة الأدائية (أي التقابل) التي تصل النوعين أحدهما بالآخر، وإنما قصدنا بقولنا في الوقت نفسه هنا أن تجيء التفرقة بين نوعي القضية المذكورين، والصلة بينهما، في عملية واحدة تدمجهما معًا؛ وتنشأ المغالطة التي تفسد وجهة النظر القائلة بأن القوانين العلمية صياغات لتتابعات التغير تتابعًا مطردًا وغير مشروط بقيد، أقول إن هذه المغالطة تنشأ من الظن بأن مهمة القضية الكلية المجردة جزء يدخل في بناء المحتوى الذي يتألف منه مضمون القضايا الوجودية.
فلا تعميم الوقائع في قانون، ولا التعميم الكلي المجرد الشرطي باعتباره قانونًا، يأتلف مضمونه من تتابع للأحداث؛ فالقانون حين يكون تعميمًا واقعيًّا، مضمونه مجموعة من تفاعلات متبادلة؛ ويتم اختيارنا لسُبُل هذا التفاعل — إيجابًا وسلبًا — في أية حالة معينة معروضة أمامنا، على نحو يجعل النتائج الكامنة لسبل التفاعل هذه، هي السمات التي من شأنها أن تقيم العلاقة التي تصل الأنواع بعضها ببعض، بجمعها لسمات الفرع الواحد معًا، ومنعها للسمات التي لا تدخل في ذلك الفرع؛ فهي سمات — من ناحية المنطق الصرف — يتسع مدى انطباقها مجتمعة إلى نطاق يمكننا من أن نقول عن أية حادثة مفردة — عند حدوثها — إنها تنتمي إلى هذا النوع المعين أو ذلك؛ وفي الوقت نفسه تكون العلاقة بين هذا النوع المشار إليه وغيره من الأنواع، مما يمكننا من استدلال حادثة واقعة من حادثة واقعة أخرى؛ فمثلًا ترانا نحدد أفكارنا عن الكثافة والوزن النوعي ودرجة السيولة أو التحول إلى الصورة الغازية أو التحول إلى الصلابة … إلخ إلخ، نحدد هذه الأفكار واحدة واحدة لكل معدن من المعادن كافة، تحديدًا ينبني على تفاعل معلوم بين ظروف معينة؛ ثم نتناول هذه الصنوف المختلفة من طرائق الفعل، فنصلها إحداها بالأخرى، وصلًا من شأنه أن يحدد لنا مجموعة الخصائص المقترنة التي نميز بها على التوالي أنواع: الصفيح والرصاص والفضة والحديد وغيرها؛ وأما القانون المجرد، أي القانون الكلي الذي يتخذ صورة «إذا – إذن»، فمادته — من جهة أخرى — هي العلاقة المتبادلة بين مفاهيم معنوية تتصف بكونها أعضاءً داخلة في تكوين نسق شامل من مفاهيم معنوية مرتبط بعضها ببعض بعلاقات متبادلة بينها؛ وفي هذه الحالة يكون التفكير النظري المرتب، أو «الاستنباط» أمرًا مستطاعًا.
إنك في الوقت الذي ترى فيه إجماعًا على الاعتراف — عند مناقشة موضوعات بعينها — بأن العلاقة بين المقدم والتالي في القضية الكلية المجردة علاقة صورية بحت، لا ترى مثل هذا الإجماع — على الأقل بالقول الصريح — على أنه بالنسبة للقضايا الكلية المجردة في العلوم الطبيعية — كما هي الحال في الفيزياء الرياضية — تكون مضمونات كلٍّ من هذه القضايا متوقفة على إمكان قيامها وعلى قوتها من حيث هي عضو من نسق مشتمل على مجموعة قضايا متصل بعضها ببعض؛ ولهذا فكل من هذه القضايا يتسم — من الوجهة النظرية الصرف — بخاصة تجعلها تتعدَّى إلى سواها من قضايا النسق الواحد؛ بحيث نستطيع أن نستنبط من القضايا الأكثر شمولًا (مثل القضايا الخاصة بعلاقة الزمن والمسافة والكتلة) قضايا أقل سعة في نطاق تطبيقها؛ فتكون هذه القضايا المستنبطة عندئذٍ ممكنة التطبيق على المشكلات التي تقيمها لنا التغيرات الوجودية المتعينة الظروف، تطبيقًا لا نستطيعه ونحن إزاء القضايا الكلية المجردة ذوات النطاق الأشمل.
(٢) «القوانين السببية»
بناءً على ذلك تكون عبارة «القوانين السببية» — على الرغم من شيوع استعمالها — عبارة مجازية؛ فهي مجاز ندل به على قانون ما، لا عن طريق المضمون الخاص لذلك القانون، بل عن طريق العواقب التي تترتب على تنفيذنا لمهمتها الأدائية؛ فباستخدامنا لمثل هذه العبارة المجازية، نسمى القضيب المعدني رافعة، ونسمي التركيبة الخاصة التي نصل فيها بين قطعة من الخشب وقطعة من المعدن مطرقة، ونسمي ظاهرة مادية مرئية بيضاء اللون سكرًا، وهكذا؛ وكما قد ذكرنا فيما سبق، حتى الأشياء التي تقع لنا في خبرات الإدراك الفطري، يُشار إليها — عادة — بما يدل على النتائج المتوقعة التي تنجم عن تفاعلاتها المألوفة مع غيرها من الأشياء؛ على الرغم من أن الإدراك الفطري يميل إلى نسبة هذه النتائج إلى «قوة» ما، كامنة في الأشياء نفسها (وهو جانب من الجوانب التي تتألف منها الفكرة الشائعة عن الجوهر)، كما يميل إلى تجاهل تفاعل الشيء مع سواه من الأشياء تفاعلًا يكون هو العامل الذي يحدد طبيعته، ولما كانت القوانين تُصاغ صياغة صريحة تجعلها وسائل مؤدية إلى نتائج (وسائل مادية ووسائل إجرائية على التوالي). فلا يتحتم أن نضار بوصفنا إياها وصفًا نبنيه على ما يقع في الوجود الواقعي من تلازمات زمانية مكانية لحوادث تتعاقب أو تتعاصر في الوقوع؛ وهي التلازمات التي يخلقها تطبيق القوانين تطبيقًا عمليًّا؛ إلا أنه قد نشأ خلط جوهري — وكان لا بد له أن ينشأ — في النظرية المنطقية، حين ينظر إلى هذه التلازمات في وقوع الحوادث — التي خلقت على الصورة التي بيناها — على أنها هي نفسها مكونات القوانين ذاتها — وهو ما نقع فيه حين لا نكتفي بتسميتها قوانين سببية، بل نجاوز ذلك إلى الظن بأنها صياغات نصف بها اطراد التتابع في وقوع الأحداث.
(٣) مغزى ربطنا للتغيرات في سلسلة متعاقبة الحلقات
إننا إذ نقرر قيام رابطة «سببية» بين أية حادثتين فلسنا بذلك نقرر أمرًا نهائيًّا ولا كاملًا منطقيًّا؛ بل هو وسيلة نستعين بها — فيما يتصل بما نقرره إزاء ارتباطات أخرى — على إيجاد تاريخ متصل واحد فريد؛ فالحوادث التي كانت فيما مضى قد عرضت لنا في الخبرة منفصلًا ومستقلًّا بعضها عن بعض، تصبح — نتيجة للبحث العلمي — مكونات متكاملة لحادثة متصلة واحدة بعينها، وعندها نبلغ هذا التوحيد لما قد كان يبدو منفصلًا، نكون قد بلغنا مرحلة ينفضُّ عندها ما كان قد أشكل علينا، بأن نجدنا إزاء موقف متماسك الأجزاء ذي طابع كيفي واحد، وهي مرحلة تكون لنا بمثابة النتيجة النهائية أو الختامية؛ حتى إذا ما تحقق لنا قيام مثل هذا الموقف المتماسك الأجزاء، الذي تتصل أحداثه بعضها ببعض في وحدة زمنية يتعاصر فيها وقوعها، تكون فكرة السببية قد حققت أغراضها، ثم تزول؛ ولا نعود إلى السببية بعد ذلك إلا حين ينشأ لنا ما يسوغ الشك فيما إذا كان الرباط الزماني المكاني بين مجموعة معينة من الأحداث، يؤدي حقًّا إلى موقف وجوديٍّ متصل.
هذا بناء قد احترق، فاحتراقه يكون في الخبرة المباشرة — الخبرة كما نتلقاها في مكان الحادث وزمانه — حادثًا معزولًا وحده؛ فتكون المشكلة عندئذٍ هي أن نربطه مع غيره من الحوادث ربطًا يجعله جزءًا لا يتجزأ من تاريخ أشمل نطاقًا؛ وإنها لمشكلة تنحلُّ عند الإدراك الفطري إذا ما وقعنا على حادثة «سابقة»، كأن نرجعها — مثلًا — إلى فعل فاعل أشعل النار في البناء بغية الانتقام، أو ابتغاء الحصول على أموال التأمين، أو إلى عود ثقاب قذف به قاذفه إهمالًا، أو ما شابه ذلك؛ وأما العلم فيرد الحوادث في جملتها الكيفية، وهي الحوادث التي كان الإدراك الفطري قد ظنها كافية للتفسير، يردها إلى مجموعة متصلة من تفاعلات، كل واحد منها يبلغ من الصغر حدًّا يجعله قادرًا على الاتحاد بسواه ليكون معه كلًّا متصلًا متعاصر الحدوث أو متعاقبه، دون أن يكون بين أجزاء المجموعة فجوات أو ثغرات؛ فبالنسبة إلى التعميم، لا يبلغ البحث حد الرضا إلا إذا حدد ضروبًا معينة من التفاعل، وحدد الصيغة الكلية التي بوساطتها يمكن وصل تلك الضروب بعضها ببعض؛ فمثلًا ترانا نصل إلى التعميمات الخاصة بالوزن النوعي، والكثافة ودرجة انصهار المعدن، عندما نصل إلى أمثال هذه التعميمات التي نراها في الوصف العلمي لكل من هذه الأنواع؛ وعندئذٍ نستخدم هذه التعميمات — كلما احتجنا إلى استخدامها — في تمييز عنصر معين تمييزًا يبين ذاتيته ويفصله عما عداه من العناصر، فنعلم أنه معدن من النوع المعين الفلاني؛ فمن ناحية القضايا الكلية المجردة، يعرف الوزن النوعي والحرارة والضوء على أساس مضمونات من شأنها أن يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا يمكننا من استنباط إحداها من الأخرى.
وتظل هذه التعميمات تنتظر التطبيق كلما نشأت ظروف تستدعي منا أن نحدد ظاهرة خاصة قامت في الوجود الخارجي؛ نعم إن الأحكام العامة قد أنشئت بمناسبة وقوع ظروف فعلية تستوجب منا أن نعمم الحكم بمقدار ما لدينا من وسائل في التعميم؛ لكننا نضيف إلى هذا القول الآن إننا حين نطبق تلك الأحكام العامة على موقف بذاته، فإنها تحدد لنا مفردات الواقع تحديدًا دقيقًا مقيسًا، بحيث نستطيع بعدئذٍ أن نربط هذه المفردات بعضها ببعض لنكوِّن منها متصلًا يكون وحدة كيفية واحدة تتسع لتشمل في نطاقها رقعة من مكان وفترة من زمان؛ وكون التعميمات بصورتيها (الكلية المجردة من ناحية والجامعة لسمات الأنواع الواقعة من ناحية أخرى) تتقرر تقريرًا صريحًا بالاستناد إلى قدرتها على أداء هذه المهمة، أقول إن كون التعميمات تتقرر على هذا الأساس، هو نفسه العلة التي تجعل مهمتها الأدائية هذه تندمج اندماجًا في مضمونها، حتى لنسلم بوجود تلك المهمة الأدائية تسليمًا ينتهي بنا إلى إنكار وجودها، ثم ينتهي الأمر بنا آخر الأمر إلى فصل تام بين «النظر» و«العمل».
وسنضرب مثلًا يجعل هذه الملاحظة الصورية أكثر تعينًا؛ رجل وجد ميتًا في ظروف شاذة إلى الحد الذي يثير الريبة والشك والبحث؛ أكانت حالة اغتيال أم حادثًا عارضًا أم انتحارًا؟ فالمسألة هنا مسألة تحديد السمات التي تجيز للظاهرة المذكورة أن تندرج تحت نوع محدد اندراجًا سليمًا؛ والطريقة الوحيدة التي نكشف بها عن السمات التي نقرر عنها أنها تكفي للتفرقة التي تضع لنا الظاهرة في نوعها الصحيح، هي — كما نقول عادة — أن نبحث عن «السبب» الذي سبب الوفاة في الحالة التي بين أيدينا؛ فمهما يكن ما تعنيه وما لا تعنيه كلمة «سبب» في هذا السياق، فهي على الأقل تتضمن إخراجنا للحادثة من عزلتها التي وجدناها عليها أول الأمر، لنربطها بغيرها من الحوادث؛ حتى إذا ما حولناها إلى صورة أخرى بتحليلنا لعناصرها، فإنها تصبح بهذا التحويل أحد المقومات التي يأتلف منها امتداد من الحوادث أوسع نطاقًا؛ وبهذا الربط بينها وبين سواها، يتبدد «السر» الذي كان بادئ ذي بدء يكتنفها بغموضه؛ فماذا يتضمنه البحث الذي نجريه لننشئ به هذه الروابط المطلوبة؟
-
(١)
فأولًا يتم فحص الجثة وما يحيط بها من ظروف فحصًا دقيقًا؛ وهو فحص — إن كان قائمًا على المشاهدة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — إلا أنه موجه بما يكون علم العصر وفنونه قد زودانا به من مدركات وتقنيات؛ وأما أن هذه المشاهدات توجه إلى ما تتجه إليه بقصد الكشف عن السمات المميزة التي نميز بها أنواع الميتات الممكن وقوعها؛ كأن يكون موتًا طبيعيًّا مفاجئًا، أو موتًا بالانتحار أو بالاغتيال، أو بحادث عارض، فأمر يصبح من الوجهة العملية شيئًا مألوفًا معادًا؛ لكنه من الوجهة المنطقية يتضمن مجموعة من قضايا انفصالية (نقول بها إما كذا أو كيت) تستوعب شتى الاحتمالات الممكنة نظريًّا؛ على أننا عند صياغتنا لكل من هذه القضايا الانفصالية، نصوغها في صورة فرض نقول به «إذا – إذن»؛ وبعدئذٍ نبسط مكنونات كل من هذه الفروض في سلسلة مرتبة من التفكير الاستنباطي؛ كأن نقول — مثلًا — «إذا كان الموت طبيعيًّا، إذن لنتج كذا وكذا من النتائج التي ترتبط بالموت الطبيعي» وها هنا نأخذ في فحص الظروف القائمة لنستوثق إن كانت هذه النتائج المستنبطة نظريًّا هي النتائج الواقعة فعلًا أم أن الأمر ليس كذلك.
-
(٢)
غير أن القضية الناتجة عن نوع الميتة التي نحن بصددها، لا تحل الإشكال بحيث نهتدي إلى أي البحوث نتناول؛ فكل ما تفعله تلك القضية الناتجة هو أنها تصوغ الإشكال في صورة توحي وتحدد طريق السير في بحث جديد؛ فافرض أن القضية هي هذه: «هذه حالة موت نتج عن ضرب عنيف أنزله بالقتيل شخص آخر»؛ فهذه قضية بدل أن تكون هي النتيجة الختامية الكاملة، نراها نقطة ابتداء لبحوث يُراد بها الكشف عن مقترف الجريمة من هو وعن الظروف التي اقترف فيها جريمته؛ وهذا الشق الأخير هو الذي نسميه عادة ﺑ «الدافع»، وهو الذي يزودنا بالسمات الفاصلة التي نقرر على أساسها من أي نوع يكون هذا القتل الذي نحن بصدده: أهو قتل للدفاع عن النفس؟ أم هو قتل في ثورة من غضب؟ أم هو عن قصد سبقه إصرار؟ وهكذا؛ وتحديد نوع القتل في هذه الحالة الخاصة، يحدد بدوره عواقب وجودية أخرى، تجيء وفق النظام القائم من حيث المدركات القانونية، فتكون هذه هي القواعد التي نسلك على أساسها، فالموت للقاتل، أو الحبس، أو إطلاق السراح … إلخ.
وغايتنا من ذكر هذه القائمة من وجوه البحث المختلفة، هي أن نبرز القوة المنطقية للحقيقة الجلية التي هي أن البحث الذي تضطلع به يمد من نطاقه حتى يجاوز — إلى حد بعيد — مجرد فحص الجثة وما يحيط بها من ظروف إحاطة مباشرة؛ فالضرورة التي تلزمنا بالقيام بأبحاث نستوثق بها من الحالة الصحية التي كان عليها الميت قبل موته، ومن تحركاته خلال الفترة السابقة على اللحظة التي تقرر أن الموت قد حدث فيها، ومن علاقاته بالأشخاص الآخرين كأعدائه أو الأشخاص الذين يُنتظر لهم أن يستفيدوا من موته؛ ونستوثق من أوجه النشاط التي قام بها أشخاص آخرون تحوم حولهم الشبهات، وهكذا؛ أقول إن الضرورة التي تلزمنا بأن نستوثق من هذا كله هي نفسها الضرورة التي تبرهن لنا على أن القضايا التي نستدلها عن نوع الميتة التي وقعت، إنما هي قضايا ناقصة وغير كاملة من الناحية المنطقية؛ وإذا أردنا أن نضع هذا المعنى في عبارة إيجابية، قلنا إن القضية التي نحدد بها نوع الميتة إن هي إلا شرط لا بد من توافره لكي نواصل بحوثنا التي نربط بها الوقائع التي نكون قد استوثقنا منها بمجموعة من وقائع أخرى مرتبط بعضها ببعض، بحيث ينتج لنا مركب من حوادث موصول بعضها ببعض، يتكون منه مجرى واحد متصل الأجزاء مكانًا وزمانًا.
وبقي علينا أن نذكر علاقة هذه الملاحظات التي أبديناها بفكرة «السببية» كما تعمل عملها في البحث العلمي؛ فالفكرة الشائعة المستمدة من اعتقادات الإدراك الفطري غير الدقيقة، هي أن في مستطاعنا أن ننتقي حادثة نجعلها هي السابقة على الحادثة التي نحن إزاء بحثها، ثم نعد هذه الحادثة السابقة سببًا لتاليتها؛ مثال ذلك أن يُقال إن ما قد سبق موت القتيل رصاصة أطلقها شخص آخر بمسدسه؛ لكن نظرة فاحصة تبين أن هذه الحادثة الأخيرة ليست سابقة أسبقية زمنية، ودع عنك أن نقول إنها هي الحادثة السابقة (التي لا سابق غيرها) وذلك لأن مجرد إطلاق الرصاصة ليس لصيقًا في التعاقب الزمني بما يكفي أن نجعله «سببًا» للموت؛ فربما كانت الرصاصة قد أخطأت الرجل فلم تصبه بشيء؛ فلا تكون الرصاصة مرتبطة «سببيًّا» بوقوع الموت، إلا إذا دخلت فعلًا في جزء حيوي من الكيان العضوي، دخولًا يوقف العمليات العضوية عن أداء مهماتها؛ ومثل هذه الحادثة لا تكون سابقة على حادثة الموت، لأنها مقوم من مقومات حادثة الموت نفسها.
ونستطيع أن نصف العمليات العقلية التي تؤدي بالإدراك الفطري إلى فكرته عن سبب حادثة ما (إذ يجعل السبب حادثة سابقة يختارها) كما يلي: نقطة البدء هي واقعة الموت؛ ثم تثير هذه الظاهرة بعزلتها التي تدركها عليها المشاهدة الحسية مشكلة الكشف عما يربطها بغيرها من الحوادث ربطًا مكانيًّا وزمانيًّا؛ لكن هذه مشكلة تختص بحالة مفردة من حالات الوجود الخارجي، وليست هي بمشكلة خاصة بتكوين حكم عام، على الرغم من أنها مستحيلة الحل بغير التوسل إلى ذلك بأحكام عامة نستخدمها؛ والخطوة الأولى في تحديدنا للروابط التي تربط حادثة الموت بغيرها، هي استكشافنا بأن رصاصة دخلت جزءًا حيويًّا من الكيان العضوي، وأن الرصاصة قد أطلقها شخص آخر؛ إلى هنا لا إشكال في الأمر؛ لكن التحليل يبدأ في الحيدة عن جادة الصواب حين يفوتنا أن تحديدات كهذه تكوِّن مضمون حادثة ما، تحل عندئذٍ من البحث محل الحادثة كما وقعت لنا في مشاهدتنا بادئ ذي بدء؛ فالحادثة كما شوهدت أول الأمر، قد تحول أمرها الآن بحيث أصبحت توصف بمجموعة من تفاعلات رددنا إليها بالتحليل حادثة الموت في صورتها التي شوهدت بها بادئ الأمر.
وتحليل الحادثة في صورتها الأصلية تحليلًا يردها إلى هذه المجموعة من التفاعلات، يتم بتطبيقات لطائفة معلومة من مدركات عامة، هي نتائج كنا قد وصلنا إليها من بحوث سابقة، كمدركاتنا — من جهة — عن القوانين الفيزيائية الخاصة بالسرعة وما إلى ذلك، وذلك من ناحية الرصاصة، وكمدركاتنا — من جهة أخرى — التي كوناها عن العمليات الفسيولوجية؛ فهذه تعميمات تعمم أحكامًا عن مضمونات سمات مشاهدة ومفاهيم عقلية، يرتبط بعضها ببعض منطقيًّا؛ لكنها ليست تعميمات عن التتابعات الزمنية؛ فحادثة دخول الرصاصة في القلب — مثلًا — إنما هي مقوم من المقومات التي تتألف منها حادثة مفردة، هي حادثة الموت التي نتناولها بالبحث، وليست هي بالحادثة التي سبقت حادثة الموت.
فالمذهب القائل بأن السببية قوامها علاقة بين حادثة سابقة وحادثة لاحقة، هو إذن مذهب نشأ عن خلط مهوش لفكرتين من طرازين مختلفين؛ فهنالك الفكرة السليمة التي تقول إن الحادثة كما كانت على صورتها الأولية التي أدركناها بالمشاهدة إدراكًا مباشرًا، لا يمكن فهمها إلا إذا رددناها إلى حوادث أصغر (تفاعلات) بحيث يصبح بعض هذه الحوادث الأصغر عناصر من مقومات مجرى متصل مكانًا وزمانًا؛ لكن القائلين بهذه الفكرة السليمة تراهم مع ذلك ينظرون في الوقت نفسه إلى الموت كما لو كان حادثة أولية ترتبت على حادثة أولية أخرى، هي إطلاق الرصاصة من المسدس؛ فالجمع بين هاتين الفكرتين المتباينتين، هو الذي يولد فكرة العلاقة بين حادثة تعد السابقة وحادثة أخرى تعد اللاحقة.
ثم يكمل الخلط بعد ذلك بالفكرة القائلة إن التعميمات — التي بوساطتها نستوثق من صحة الحادثة الفذة المتصلة — هي صياغات نصوغ بها تتابعًا للأحداث مطردًا؛ وهكذا يتمثل في هذا الخلط بين الوسائل الإجرائية التي نصطنعها في منهج البحث، ونتائج تطبيقها على وقائع الوجود الخارجي، أقول إن في هذا الخلط يتمثل خلط آخر بين فكرة الإدراك الفطري عن السببية باعتبارها علاقة بين حادثتين مستقلتين، والطريقة العلمية في حل ما يحدث حلًّا يرده إلى حادثة مفردة مستمرة؛ نعم إنه خلط يتبين فيه كيف أصاب فكرة الإدراك الفطري شيء من التهذيب، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ في دخيلته بما في تلك الفكرة من متناقضات، وذلك لأنه لا وجود لما يسمونه تتابعات مطردة للأحداث، إذ إننا إذا ما أحللنا التعميم الذي نعمم به اقتران السمات أو اقتران المفاهيم العقلية، محل «الأحداث»، زالت صفة التتابع.
وقبل أن نمضي في مناقشة هذه النقطة، يجمل بنا أن نقول شيئًا عن الأصل التاريخي لهذه الفكرة؛ فلقد أدت حقيقة كون الأشياء وهي على حالتها الكيفية الأولية (وهي الأشياء كما تقع لنا في الإدراك الحسي المباشر) منفصلًا بعضها عن بعض بحكم تفرد طبائعها الكيفية تفردًا يميز الواحدة من الأخرى، أقول إن هذه الحقيقة قد أدت — حين تدخل التأمل الفلسفي في الأمر — إلى الشعور بأنه لا بد لنا من شيء ما يملأ الفجوة بين تلك الأشياء المنفصلة؛ فإشعال عود الثقاب — مثلًا — ينتهي قبل أن نمس بالثقاب المشتعل قطعة من الورق مسًّا تأخذ به الورقة في الاحتراق؛ فالثقاب المحترق والورقة المحترقة شيئان كيفيان متميزان؛ ولهذا لجأ من لجأ إلى فكرة «قوة ما» ليعالج بها ما قد أحدثته هذه الفجوة الكيفية من إشكال؛ ففرضوا بأن للثقاب قوة إحراقية معينة؛ وهكذا أيضًا قيل عن الجسم الحي إنه يموت حين تفارقه الشرارة الحيوية، أو القوة التي تمد الجسم الحي بحياته؛ ثم عمموا هذه القوى آخر الأمر، فقالوا إن قوة الجاذبية هي التي تجعل الأشياء تسقط إلى أسفل، وقوة الخفة هي التي تجعلها تتحرك إلى أعلى، وقوة الكهربا هي التي تجعل قطع الكهرمان — إذا ما حكت — تجذب إليها قطع الورق، وقوة المغناطيس هي التي تجعل المغناطيس يجذب الحديد، وهكذا؛ فالحق أن فكرة القوى منبثة في الاعتقادات الثقافية الشعبية انبثاثًا يبلغ منها أعماقها، فليس بنا حاجة إلى ضرب الأمثلة.
وأما المصدر العقلي لهذه الفكرة فقد سبق أن ذكرناه، فالأحداث تشاهد أول ما تشاهد متعاقبة؛ والتعاقب بحكم طبيعته الكيفية نفسها يتضمن فاصلًا زمنيًّا أو فجوة؛ وعلى ذلك فلا غناء لنا عن شيء ما خارج الحوادث لنفسر به كون الحوادث مرتبطًا بعضها ببعض رغم استقلال كل منها عن الأخرى؛ وقد مرَّ بنا زمن رأينا فيه أن القوى بحكم تعريفها غير قابلة لأن تكون موضع مشاهدة تجريبية ولهذا استبعدت القوى من مجال العلم، واستبعد معها سواها من الصفات والصور «الغيبية»، ولربما كانت القوى أبرزها مثالًا في هذا السبيل؛ ونشأت بعد ذلك فكرة هجين، أخذت من الإدراك الفطري فكرة التتابع، وأخذت من العالم فكرة اقتران (السمات أو المفاهيم العقلية) اقترانًا لا يتخلف؛ وإن ظواهر الأمر كلها لتدل على أن طمأنينة النفس التي ظفرنا بها نتيجة لتخلصنا من فكرة القوى غير المحببة وغير العلمية، قد كانت كافية لحماية الأفكار الجديدة التي جاءت لتقول إن القوانين هي تتابعات لا تتخلف، حمايتها من النقد الذي كان ليكون واضحًا جليًّا لولا تلك الطمأنينة، وهو النقد الذي مؤداه أن المضمونات التي يتعلق بعضها ببعض في القانون العلمي تعلقًا يطَّرد ولا يتخلَّف، ليست أحداثًا؛ وأن العلاقة بين تلك المضمونات ليست علاقة التتابع؛ بيد أنه ما كادت الفكرة تجد لنفسها صياغة تصوغها (صياغة دالة على تشكك عند هيوم، وصياغة قاصدة إلى البناء عند مل) حتى صادفت قبولًا، كما لو كانت أمرًا محتومًا قبوله، إن لم يكن صادقًا صدقًا واضحًا بذاته، فهو أقرب شيء إلى الصدق الواضح بذاته.
ولدينا من المسوغات ما يجعلنا نفترض بأن الفكرة القائلة إن القوانين العلمية صياغات لتتابعات تطرد ولا تتخلف، قد جاءت — إلى حد كبير — نتيجة لمحاولة من حاول أن يراجع — من نواحٍ هامة — طريقة الإدراك الفطري في استخدامه لفكرة السببية دون أن ينبذ — رغم ذلك — الفكرة التي تنطوي عليها تلك الطريقة؛ فالإدراك الفطري مترع باعتقادات من قبيل: «المطر الغزير يعمل على نمو البذور التي تكون قد بذرت» و«الماء يطفئ الظمأ» و«تسخين الحديد يجعله أكثر قابلية للطرق» وهكذا إلى ما لا نهاية له من الاعتقادات؛ ولقد أحيل بعض هذه الاعتقادات الشعبية الآن إلى مقولة الخرافات، كالاعتقاد بأن التغيرات في أوجه القمر تسبب تغيرات في نمو النبات؛ لكن هنالك اعتقادات كثيرة أخرى ما ينفك الناس يعتمدون عليها في أوجه نشاطهم العملي؛ وفي هذه الحالات تكون «التعميمات» من طبيعة تجعلها صياغات لما نتوقعه بحكم ما قد تعودناه؛ فهي من القبيل الذي رد إليه «هيوم» فكرة السببية بأسرها؛ ولما كانت صياغات لتوقعات، فهي تنصب على علاقة التعاقب بين السابق واللاحق من الحوادث؛ غير أن الصياغة التي نصوغ بها ما نتوقع حدوثه — مهما كانت نافعة عمليًّا، ومهما كثرت حالات إثباتها — فليست هي من قبيل القانون؛ فمن وجهة نظر البحث العلمي، لا تزيد هذه التوقعات على كونها مادة لمشكلات؛ فمثلًا لماذا وكيف أمكن للإنسان أن يعتمد عليها في حياته العملية؟ والجواب عن هذا السؤال لا يكون إلا على أسس موضوعية تسوغ لنا أن نتوقع ما نتوقعه؛ وهكذا ينبغي أن نحول العبارة التي نعبر بها عن (كون السببية) عادة اعتدناها في الجانب العملي من حياتنا، لتصبح عبارة نعبر بها عن علاقة قائمة بين مواد موضوعية.
خذ اعتقادًا غير علمي كالذي نعبر عنه بالقضية الآتية: «إدخال الزرنيخ في الكيان العضوي يسبب موته»؛ فالقول تعميم في صورته اللغوية، وهو قول عن تتابع يؤخذ على أنه مطرد اطرادًا معقولًا على أقل تقدير؛ لكن البحث العلمي يبدأ سيره بإضافة شروط مقيِّدة؛ فلا بد من تخصيص مقدار الزرنيخ المجترع، إذ يتحتم لجرعة الزرنيخ أن تكون ذات مقدار كمي يكفي (لإحداث الموت) وكذلك لا بد من تحديد لحالة الكيان العضوي الذي يجترع الزرنيخ؛ لأن بعض الأشخاص يعاودون اجتراع جرعات صغيرة من الزرنيخ، تزداد تدريجًا فيصبحون ذوي حصانة من الجرعات التي تكفي لإحداث الموت عند غيرهم؛ ولا بد من الأخذ في اعتبارنا حضور أو غياب «الظروف المضادة» إذ إن الموت قد لا ينشأ نتيجة للزرنيخ إذا ما شرب مجترعُه ترياقًا يُبطل فعله مثلًا.
فالقضية التي ننتهي إليها بعد أن نسير بالبحث حتى هذه النقطة، ليست قضية عن تتابع مطرد، بل هي قضية ذات صورة من هذا القبيل: «إدخال الزرنيخ في كيان عضوي تحت ظروف معينة، يميل نحو إحداث الموت»؛ فالأمر هنا ما يزال تقريرًا لمشكلة أكثر منه نتيجة علمية ختامية؛ ومهمة البحث العلمي في حل المشكلة هي الكشف عن أسس أو مسوغات من الوجود الواقعي، تجيز لنا قبول القضايا التي فرغنا حتى الآن من تكوينها؛ فإذا ما حددنا تلك الأسس أو المسوغات، ألفيناها ذات أثر فعال ينشأ عنه تغير جوهري في مضمون القضايا وصورتها، أعني القضايا التي كنا قد سقنا المشكلة في عباراتها؛ فليس التغير الذي ننتقل به من الاعتقاد الشعبي ومن القضية الناقصة علميًّا، إلى التعميم العلمي المحدد، مقصورًا على مجرد حذف بعض العناصر وإضافة غيرها؛ بل هو تغير يقتضي إقامة مادة وجودية من طراز جديد؛ ففي هذا التغير تتحول الأحداث الكيفية الأولية، والصفات التي تقع لنا في الإدراك الحسي المباشر، وهي الأحداث والصفات التي يأتلف منها مضمون فكرتي الزرنيخ والموت، تتحول هذه لتصبح مجموعة متعينة من تفاعلات؛ وحاصل ذلك قانون، فالقانون يقرر لنا علاقة قائمة بين سمات من شأنها أن تقيم الحدود الفواصل لنوع معين، وهي سمات — من الناحية المنطقية — تقترن معًا لتجمع خصائص النوع كما أنها تستوعب الحالات الممكنة التي إن صدقت إحداها كذبت الأخرى؛ فليس عنصر التتابع قائمًا في علاقاتها إحداها بالأخرى وعلى ذلك فالفكرة القائلة إن القانون هو صياغة للتتابع المطرد (أو الذي لا يتخلف) هي — فيما يظهر — محاولة للاحتفاظ ببعض عناصر الفكرة الشعبية بالإضافة إلى بعض عناصر الفكرة العلمية، بغض النظر عن التحول الجوهري الذي تحدثه الصياغة العلمية في مادة الاعتقاد الشعبي.
أضف إلى ذلك أن تحديد التفاعلات التي نحصل منها على السمات التي تقترن اقترانًا غير مقيد بزمن معين، مكونة بذلك الفكرة العلمية، إنما يتحقق بما نجريه من تجارب؛ وإن الأمر ليقتضينا عدة صفحات في رسالة تؤلف عن الكيميا، لكي نبسط التجارب — بما تتضمنه من أجهزة وتقنيات — التي لا بد منها حتى يتاح لنا قبول مجموعة السمات التي تقترن معًا، والتي تستوعب شتى الحالات الممكنة في قضايا انفصالية، والتي منها يتكون مضمون التعميم العلمي؛ أما والتجارب التي نكون بها المجموعة المطلوبة من السمات المتعلق بعضها ببعض، تعتمد على فروض تُصاغ في قضايا على صورة «إذا – إذن»، فإن الأمر ليقتضينا فصلًا أو فصولًا من رسالة كيماوية، لكي نبسط في عبارة صريحة تلك الأفكار والعلاقات المتبادلة بين الأفكار، المتضمنة بطريق مباشر وبطريق غير مباشر في سيرنا بالتجارب التي تنتهي بنا إلى القانون أو إلى التعميم المذكور، بحيث يكون فيه ما يبرر لنا قبوله؛ ولا أحسبني بحاجة إلى أن أضيف أن مضمون هذه القضايا الشرطية (الفروض) — التي تتخذ صورة القوانين الفيزيائية — لا يشتمل على أية إشارة إلى تتابعات؛ لأنها قضايا تقرر علاقة بين مفاهيم عقلية، ويحسن أن يجيء تقريرها هذا في معادلات رياضية؛ فبينما تكون هذه المعادلات الرياضية ذات إشارة — آخر الأمر — إلى ما هو موجود في الواقع، عن طريق الإجراءات الممكنة التي تتم بتوجيهها، فهي في الوقت نفسه لا وجودية في مضمونها (ومن ثَم فهي غير مقيدة بزمن معين).
وعلى الرغم من هذا الذي أسلفناه، فالأرجح للفكرة القائلة إن القانون العلمي دالٌّ على تتابع، أن تظل راسخة في عقول كثير من القراء؛ فقد يُعترض — مثلًا — بأن النظرية التي أعرضها، مضادة لحقيقة الواقع، إذ إننا نرى التتابعات السببية بالفعل قائمة في القضايا العلمية التي تُقال عن الأحداث الطبيعية؛ مثال ذلك (وسأمضي في شرح الاعتراض) حالة نشتبه أنها حالة تسمم فإننا عندئذٍ نلتمس السمات الدالة على الظاهرة المشتبه فيها، والتي تنبئ بفعل مادة سامة كالزرنيخ مثلًا؛ فإذا وجدنا هذه السمات، مضينا في بحوث أخرى لكي نقرر به ترتيبًا متتابعًا في الأحداث محدد المراحل، كأن نعين حادثة شراء للزرنيخ قد سبق وقوعها، وفرصة سنحت فيما سبق لشخص ما أن يدبر اجتراع جرعة منه؛ وإنه ليُقال إن النتيجة الختامية تبلغ من الصحة بمقدار ما استطعنا أن نجد ترتيبًا متتابعًا جاءت فيه الأحداث وثيقة العرى واحدة بعد واحدة.
لكن ما قد أسلفناه من قول لا يناقض في شيء هذه الوقائع كما بسطناها هنا؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إن ما قلناه هو الرأي الوحيد الذي يزودنا بتفسير منطقي متسق لها، كما أنه هو الرأي الوحيد القادر على بيان دقيق لموضع التحديدات التي تجيء متتابعة: أين تدخل وتعمل عملها، وكيف يتم لها ذلك الدخول والعمل؛ فالمثل الذي ذكرناه ينصب على حادثة مفردة، والحادثة فذة في تفردها، لا تقع إلا في لحظة زمنية واحدة وإلا في موضع مكاني واحد، مما يستحيل معه — على أية حال — أن تعاود الحادثة حدوثها في تفردها؛ هذا إلى أن الأمر لا يقتصر على استحالة حدوث ميتتين بتسمم الزرنيخ بحيث تكونان متحدتين تمام الاتحاد في زمان الحدوث ومكانه، بل إن هنالك دائمًا من الصفات المتعينة الأخرى ما تختلفان فيه؛ فلئن كانت القوانين (للطرازين معًا) وسائل نتوسل بها لتحديد التتابعات التي تكوِّن — بصورتها التي أيدها البحث — مضمون التفسير العلمي لما قد حدث في الحالة المفردة، إلا أن هذه القوانين — وإن تكن وسيلة ضرورية لتحديد التتابعات في الحالات المقررة المطلوب تفسيرها — فليست هي نفسها بذات مضمونات فيها تتابع، كلا ولا الحوادث المفردة التي يتحدد أمرها بتلك القوانين مما يعاود الحدوث.
لقد قصدنا بعبارتنا التي أسلفناها عن التتابعات، أن القوانين، سواء أكانت خاصة بالسمات التي تحدد نوعًا ما من الأنواع، أم كانت خاصة بالمفاهيم العقلية التي تنصب في صيغة تقول «إذا – إذن» — هي أدوات وسلية لتحديد تتابعات مرتبة — بوساطة العمليات الإجرائية التي تقررها وتوجهها، تتابعات ترتد إليها الحوادث الكيفية الأولية (التي نصادفها في إدراكنا الحسي المباشر)، وكذلك أشرنا فيما سبق إلى أن رد الحوادث الكيفية الأولية إلى تتابعات مرتبة على هذا النحو، يفسر المكانة والمهمة الفعليتين لما يسمونه تتابعات سببية؛ وقبل أن أتناول هذه النقطة بالنظر، سأوضح الشروط المنطقية المتضمنة في صياغة قانون من القوانين، بأن أسوق حالة أخرى على سبيل المثال، وهي حالة التتابع المشاهد بين النهار والليل؛ فتتابعهما يقرب من الاطراد الذي لا يتخلف قربًا ليس في الإمكان ما هو أقرب منه في محيط الحوادث الأولية؛ ومع ذلك فإن كانت إحدى الحادثتين تؤخذ — عند أعضاء إحدى القبائل الهمجية — على أنها سبب للأخرى، فإن المحاولات العلمية لم تكد تبدأ في تفسير التتابع بينهما، حتى وضع هذا التتابع موضع المشكلة التي تتطلب حلًّا، ولم يُنظر إليه على أنه يزودنا بما يكون مضمونًا لقانون، فقامت النظرية البطليموسية على أساس أن ما نشاهده من ثبات الأرض، وحركة الشمس، يمكن اتخاذه أساسًا للاستدلال؛ فكان تفسير تتابع النهار والليل عند هذه النظرية قائمًا على أساس ما بين المفهومين العامين: مفهوم الدوران ومفهوم الثبات في موضع بعينه من علاقات تربط أحدهما بالآخر؛ فإذا كانت هذه النظرية قانونًا للحوادث المتتابعة، فما ذلك إلا بالمعنى الذي يجعلها قانونًا يفسر تلك الحوادث المتتابعة، لا بالمعنى الذي يجعل التابع نفسه قوامًا لمضمون القانون؛ وكذلك جاءت نظرية كوبرنيق فنظرت إلى تتابع النهار والليل على أنه مشكلة تتطلب الحل (وأدخلوا في المشكلة أنواعًا كثيرة من التتابع إلى جانب تتابع النهار والليل ومواضع الشمس المتتابعة خلال السنة الشمسية وغير ذلك) أعني أنها جعلت ذلك التتابع هو مادة الموضوع المشكل الذي يتطلب البحث؛ وراحت تبحث عن تعميم يشمل الكواكب كافة والأوضاع المتعاقبة التي تأخذها توابعها، كما يشمل أنواعًا أخرى من تتابعات مشاهدة؛ فنتج عن ذلك قوانين فلكية تصدق على أنواع كثيرة جدًّا متباينة من التتابعات، منها كثير مما لم يقع في مجال المشاهدة إلا بسبب مجموعة الأفكار الجديدة؛ ولقد صِيغت هذه القوانين — من ناحية القضايا الشرطية، كما فعل نيوتن — في صورة معادلات خالية من أية عناصر تتابع تتابعًا زمنيًّا؛ وأما من ناحية القضايا الجامعة أو قضايا الأمور الواقعة، فقد كانت تلك القوانين مؤلفة من اقتران سمات تشغل في العالم الخارجي زمانًا ومكانًا؛ وهذه السمات نفسها لم ينظر إليها — لا على أنها تغيرات واقعة — بل على أنها وسيلة لتحديد العالقات القائمة بين التغيرات الفعلية؛ فالصيغة التي صاغ بها نيوتن الجاذبية، شملت أفكار كوبرنيق وقوانين كبلر في نظرية أشمل منها.
وثمة وجهة أخرى للنظر يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة، وهي وجهة النظر التي تقول «بتعدد الأسباب»؛ فحالات الموت، من حيث هي أحداث كيفية أولية (نصادفها في مجال المشاهدة المباشرة) تسبقها سوابق كثيرة أو «أسباب» كثيرة؛ لكنه ليس ثمة حالة واحدة لموت معين متعين الظروف، يمكن أن يكون له من الأسباب الممكنة أكثر من سبب واحد؛ ولو أننا في حالة عدم التيقن، نستعين بكثرة من فروض لنحدد مجرى الحوادث المتتابعة المتصل الفريد، الذي كانت تلك الميتة جزءًا منه؛ ولسنا بهذا نقول إن القوانين التي تصف النوع «موت» والتي تعرف — بوساطة علاقة متبادلة بين مفاهيم عقلية مجردة — ماذا يكون الموت بالمعنى المجرد، أقول إننا لا نزعم أن هذه القوانين تختلف — ما دامت قوانين صحيحة — من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان؛ نعم إن السمات المقترنة التي اتخذناها علامة نصف بها الموت وأنواعه الفرعية، قد تغيرت على مر التاريخ؛ وقد نتوقع لها أن تتغير في المستقبل مع تقدم العلم؛ لكن هذا التغير إنما نحدثه ابتغاء الحصول على مجموعة من معانٍ عقلية تصبح ممكنة التطبيق بغير تغير؛ وهذا القول نفسه يصدق على تعريف الموت بمعناه المجرد.
إن قول «مل» بأنه «ليس من الصواب أن الأثر الواحد يتحتم أن يكون مرتبطًا بشرط واحد فقط، أو بمجموعة واحدة من شروط» إن قول «مل» هذا لا يصدق إلا في حالة واحدة فقط، وتلك حين نفهم «الموت» بمعناه الواسع الذي يجعل من هذه الكلمة كلمة تسع كل الحالات؛ غير أنه ليس هنالك حالة فعلية لموت حقيقي تكون ذات طبيعة غامضة على هذا النحو؛ فمن ناحية تفكيرنا النظري، نرى أن هدف المنهج العلمي هو أن يصل إلى مجموعة متسقة من أنواع متعلق بعضها ببعض، بحيث تكون تلك المجموعة شاملة الأنواع كافة شمولًا نستطيع معه أن نذكرها واحدًا واحدًا، أو أن نستوعبها بقائمة من قضايا منفصلة تقول إن الحالة إما أن تكون كذا أو كذا أو … ومثل هذه المجموعة المتسقة للأنواع كافة إنما تؤلف كثرة من فروض، يكون كل فرض منها قاعدة تهدينا في القيام بمشاهدات تجريبية من نوع خاص؛ على أن نتائجها جميعًا، لو أخذت جملة واحدة، تقدم لنا السمات المنطقية التي تصف النوع والتي تحدد لنا أن الحالة المعينة إما أن تكون كذا أو كيت؛ أي إنها تقدم لنا السمات التي تصف لنا نوعًا ما بما يتسم به، وتمنع عنه ما ليس منه؛ فالدلالة التي تستفيدها النظرية المنطقية من فكرة «تعدد الأسباب» هي — إذن — بيانها بأن السمات التي نستخدمها بإدراكنا الفطري لنحدد بها نوعًا ما من أنواع الأشياء التي تقع لنا في حياتنا العملية، هي سمات غير محددة، ما دامت قد نشأت عن عمليات ليس من شأنها — نسبيًّا — أن تقيم الحدود الفواصل بين مختلف الأنواع؛ فسمات مثل وقوف التنفس ودرجة حرارة الجسد، قد تكفي للدلالة على أن موتًا قد حدث، لكنها لا تلقي ضوءًا على نوع الميتة التي وقعت.
إن البحث العلمي ليبدأ سيره بنظرة إلى التغير المذكور على أنه مجموعة مركبة من تفاعلات يمكن التيقن منها — فرادى ومجتعمة — بوساطة عمليات إجرائية نحلل بها ونقيم التجارب؛ والنتائج التي تترتب على هذه العمليات الإجرائية، والتي تفرِّق لنا بين نوع ونوع، هي التي تقرر نوع الميتة التي وقعت؛ فمجموعة التفاعلات المتضمنة هنا، والتي تجمع كل ما ينتمي إلى النوع الذي نحن بصدده كما تمنع كل ما ليس ينتمي إليه، إنما تتعلق تعلقًا نسقيًّا بضروب أخرى من التفاعلات، ويكون هذا التعلق بوساطة قضايا كلية مجردة تصل بينهما؛ فلو كانت هذه الميتة المعينة — مثلًا — قد تبين بالاستدلال أنها نشأت عن حمى التيفود، فإن الكشف عن جرثومة معينة تكون عنصرًا من عناصر التفاعل في الموقف، يمكننا من استدلال شيء عن الحوادث السابقة على حدوث الموت؛ بحيث يجيء استدلالنا هذا موجهًا للبحث في طريق يلتمس فيه من المعطيات ما يؤيد الاستدلال؛ ولقد كان الاستدلال مستطاعًا بسبب أن ثمة تعميمًا يقرن حضور هذه الجرثومة في الجسم البشري بحضورها في ماء الشرب وفي اللبن وما إليهما؛ وأما التصور بأن هذا الاقتران في الحضور هو حالة يظهر فيها تتابع الأحداث، فإنه ينشأ — كما ذكرنا — من الخلط بين مضمون التعميم من جهة ومضمون الأحداث المتسلسلة التي تقع فعلًا في الوجود الخارجي من جهة أخرى، مع أن هذه الأحداث الواقعة تتحدد بطريقة استخدامنا إياها استخدامًا عمليًّا؛ فالمادة الماثلة في الوجود الخارجي، والتي نطبق عليها التعميم النظري، إنما تصبح بهذا التطبيق متصلًا تاريخيًّا تتسلسل حلقاته تسلسلًا زمنيًّا؛ على أن كل حالة من حالات هذا التسلسل الزمني للحوادث لا تكون غير الحالة المفردة التي هي ما هي عليه.
(٤) قضايا التتابعات المرتبة
وأعود الآن إلى مسألة الوضع الحقيقي والمهمة الفعلية التي توضع فيه وتقوم بها القضايا التي تُقال عن التتابعات المرتبة؛ فإذا لم يكن التتابع المرتب مضمونًا لقانون أو لتعميم، فأي نوع من أنواع القضايا يكون هذا التتابع مضمونه؛ لقد عرضنا — بالطبع — عناصر الإجابة عن هذا السؤال في غضون مناقشتنا السالفة، ولم يبقَ علينا سوى أن نجمعها معًا؛ فالتتابعات المرتبة هي مادة للقضايا التي ينحل فيها تعاقب الحوادث الكيفية الأولية، بحيث ترتد هذه الحوادث إلى مقومات لحادثة متصلة مفردة واحدة؛ ولم يفت من كتبوا في مناهج البحث الفيزيائي، أن يلاحظوا بأن البحث التجريبي يحل التغيرات الكيفية الأولية، التي تقع لنا في مجال المشاهدة وقوعًا مباشرًا، إلى مجموعات من تغيرات بالغة في الصغر لكن التفسير النظري لهذه الحقيقة المذكورة قد أفسدته الفكرة القائلة بأن الأثر المترتب على ذلك التحليل لا يعدو أن يكون مجرد إحلالنا لتعميم أكمل وأدق بكثير — بالنسبة إلى ترتيب تتابعي معين — محل تعميمات غير محكمة كان قد أخذ بها الإدراك الفطري بالنسبة للترتيب التتابعي المذكور؛ مع أن التفسير الصحيح — على خلاف ذلك — هو أنه بفضل التطبيق الإجرائي الوسلي لتعميمات تتألف من علاقات بين الحوادث غير مقيدة بزمن معين، تصبح التغيرات الصغيرة المذكورة بحيث تمكن الحوادث المتباينة كيفًا أن تصير مكونات لحادثة متصلة واحدة.
إن التباين الكيفي الذي نراه بين الحوادث الأولية المشاهدة يحدث — كما قد ذكرنا في موضع سابق — فجوة ظاهرة بينها؛ ثم تجيء التعميمات التي نعمم بها القول عن السمات تعميمًا نتقيد فيه بما نراه بينها من تفاعل، فتسد لنا تلك الفجوات وكلما كانت ضروب التفاعل التي نتحقق منها أشد صغرًا، أي كلما كانت أكثر «بساطة»، جاء زوال تلك الفجوات على صورة أكمل، وجاءت المتصلات المفردة التي ينتهي بها الأمر إلى أن تكون متصلات متماسكة الأجزاء كأنما كل متصل منها فرد واحد لا يتجزأ في الوجود الواقعي مكانًا ولا زمانًا، جاءت تلك المتصلات الفردية أيسر اتصالًا؛ وما تلك المتصلات إلا الحواصل الختامية التي تؤدي إليها معرفتنا بالحوادث معرفة علمية.
وهذه الملاحظات تؤيد النتيجة النظرية بأن السببية — من حيث هي تتابع مرتب — مقولة منطقية، بالمعنى الذي يجعلها فكرة مجردة عن التتابعات التي لا حصر لعددها في الوجود الواقعي، والتي يؤكدها البحث العلمي، يؤكدها باستخدامه لقضايا معممة هي بمثابة القوانين؛ وذلك لأننا لو نظرنا إلى الحوادث من حيث هي وقائع وقعت في الوجود الخارجي، بالمعنى الدقيق لهذه العبارة، لما كان منها حادثة تعد سابقة أو «سببًا» أكثر مما تعد هي نفسها لاحقة أو «مسببًا»؛ أضف إلى ذلك أنه حتى إذا أخذنا حادثة ما على أنها سابقة أو لاحقة (وهو تأويل لها تعسفي صرف، إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر وجودها الواقعي معزولًا عن إجراءات البحث) وجدنا لها عددًا لا نهاية له من السوابق ومن اللواحق التي ترتبط بها، ما دامت كل حادثة مرتبطة في الوجود الواقعي بحادثة غيرها، وهكذا إلى غير نهاية؛ وبناءً على ذلك، فالنتيجة الممكنة الوحيدة التي نرتبها على أساس تأويلنا للسببية تأويلًا واقعيًّا أو وجوديًّا، هي أن كل شيء في الكون سبب ومسبب لكل شيء آخر، وهي نتيجة تجعل مقولة السببية معدومة النفع إطلاقًا بالنسبة للأغراض العلمية.
(٥) القضايا السببية
إن فيما قد ذكرناه الآن لمفتاحًا لنوع القضايا التي يمكن أن يُقال عنها بحق إن لها مضمونًا سببيًّا، مميزين لها من الأحداث المتتابعة المرتبة ترتيبًا زمنيًّا أو تاريخيًّا، وذلك لأن ما قلناه يتضمن علاقة الوسائل بنتائجها؛ إذ إن القضايا التي تتناول تناولًا صريحًا مواد متعلقًا بعضها ببعض تعلق الوسائل بنتائجها يصح أن تسمى بالقضايا السببية بمعنًى مميز لهذه الكلمة؛ فكثيرًا ما يشير المشيرون إلى أن الإدراك الفطري يستخدم السببية بمعنًى عملي توقعي؛ فما من فعل بصير إلا ويتضمن اختيارًا لأشياء بعينها لتكون وسائل مؤدية إلى أشياء أخرى هي نتائج تلك الأشياء المختارة؛ فإذا أُريدَ للحديد أن يُطرَق ويُشكَّل فلا بد من تسخينه؛ وإذا أُريدَ لغرفة أن تُضاء فلا بد من إنارة مصباح أو من ضغط على زر الكهرباء، وإذا أُريدَ للمحموم أن يُشفى من مرضه فلا بد من معالجته على نحو معين، وهكذا نستطيع أن نذكر أمثلة إلى غير نهاية؛ فالنتيجة المنشودة هي المسبب الذي تكون الوسائل المؤدية إليه أسبابًا له؛ وبصفة عامة، يبدأ البحث العملي بغاية يُراد تحقيقها، ثم نمضي في البحث عن الوسائل التي يمكن بها لتلك الغاية أن تتحقق؛ أما فكرة المسبب فغائية في جوهرها، إذ إن المسبب هو النهاية التي نصل إليها؛ وأما الوسائل المنوعة التي نستخدمها لذلك فهي التي تؤلف السبب، وذلك حين نختار هذه الوسائل ونعمل على أن يتفاعل بعضها مع بعض.
إن النظرية الخاصة بالقوانين السببية — وهي التي تناولناها بالنقد — تذهب إلى أن القضايا العلمية عن السببية تختلف عن القضايا التي فرغنا لتونا من توضيحها، في أن لها دلالة راجعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ومن ثَم فهي قضايا «نظرية» صرف؛ مع أن الحقيقة القائلة إن إجراء التجارب يدخل في تحديد كل قضية جائزة القبول، تكفي وحدها للبرهنة على خطأ النظرية المذكورة؛ فالأداء والصنع متضمنان في الأمر؛ ونوع الأداء والصنع هو الذي يقرر الوسائل — المادية والإجرائية — التي بها تتحقق غاية متوقعة، أي يتحقق بها موقف موحد يكون هو نتيجة الأداء أو الصنع؛ فالموقف الموحد هو الهدف الأخير (وإن لم يكن الهدف القريب) من كل بحث؛ ومن ثَم كانت القضايا السببية (بالمعنى الذي تكون به هذه القضايا ذات مضمون يدل على علاقة الظروف التي هي وسائل بالظروف الأخرى التي هي نتائج) متضمنة في كل بحث سار فيه الباحثون بكفاية؛ فما إحداث النتيجة إلا خلقها أو إنتاجها أو صناعتها أو توليدها، والذي يعيننا على تحقيق هذه الغاية هو السبب بالمعنى الوجودي المشروع الوحيد لهذه الكلمة.
نعم إن استعراضنا للحوادث استعراضًا نرتد به من النتيجة سببها، هو أصح وأشمل نطاقًا في البحث العلمي منه في أبحاث الإدراك الفطري، إلا أن هذه النظرة الراجعة ماثلة أيضًا في بحوث الإدراك الفطري، لأنه يستحيل علينا أن نقدر وأن نحكم على الظروف التي نتخذ منها وسائل، إلا على أساس ما قد تم حدوثه في الماضي؛ وإنه لصحيح أيضًا أنه في حالة القضايا العلمية، تكون الدلالة التوقعية التي نستدل فيها من السبب على مسببه هي الأشمل نطاقًا وهي الأصرح ظهورًا — من الناحية المنطقية — من دلالة المسبب على سببه؛ وخذ مثلًا لذلك حالة قضية جامعة (نصف بها نوعًا من الأنواع بمجموع خصائصه)؛ فهي قضية لها صورة تمكنها من أن تنطبق على كل بحث نقوم به في المستقبل، إذا ما تحققنا من قيام ظروف معينة؛ بيد أن القضايا التي تنتج عن تطبيقها الإجرائي، تكون ذات فحوى منطقي أصيل، لأنها ستكون هي الوسائل التي نختبر بها صدق القضية الجامعة المذكورة، فإذا ما وجدناها ناقصة عدنا إليها بالمراجعة وبإعادة صياغتها في صورة أخرى.
واختصارًا فإن القضايا التي نقولها كافة عن أية خطط نريد اتباعها وعن أية غايات نريد أن نكدح لبلوغها، وأية نتائج نريد الوصول إليها، هي قضايا عن موضوعات ترتبط أجزاؤها بالعلاقة الصورية التي تربط الوسائل بنتائجها، فهي — بالمعنى الذي حددناه — قضايا سببية؛ وعلى هذا فالقضايا التي نهتدي بها إلى أي الأشياء يكون خيرًا لنا أن نلاحظها، وأي المدركات العقلية يكون خيرًا لنا أن نكونها وأن نستخدمها، هي قضايا تدخل في توجيهنا لأي بحث كائنًا ما كان، وإن يكن دخولها في البحث العلمي يتم على صورة أدق وأشمل منه في بحوث الإدراك الفطري؛ غير أنه رغم دخولها هذا، فهي لا تظهر ظهورًا صريحًا في النتائج الختامية؛ ومع ذلك فثمة قضايا تختص صراحة بهذه العلاقة ولو كانت عبارة «قضايا سببية» ذات دلالة صحيحة، فدلالتها هي أمثال هذه القضايا؛ فالسببية بأي معنًى وجودي وغير نظري، هي أمر عملي وغائي من أولها إلى آخرها.
خاتمة
ليست النظرة التي نقول بها إن مقولة السببية شيء منطقي وإنها وسيلة أدائية لتنظيم السير بالبحث في كائنات الوجود الخارجي، وإنها ليست بذاتها أمرًا قائمًا في ذلك الوجود؛ وإن الحالات كافة التي يجوز لنا أن نصفها بكونها حالات سببية، هي في حقيقتها أمور «عملية»، أقول إن هذه النظرة ليست بالنظرة التي ستصادف قبولًا من فورها؛ لكنه قد مر زمن كانت فيه مفاهيم الأنواع والجواهر هي الأخرى مفروضًا فيها أنها كائنة في الوجود الخارجي؛ وكذلك مرَّ زمن كان فيه الهدف أو الغاية مفروضًا فيها أنها خاصة موجودة وجودًا حقيقيًّا في «الطبيعة»؛ وأيضًا مر زمن كانت فيه صفة البساطة مفروضًا فيها أنها المبدأ المنظم ﻟ «الطبيعة»، ولم يحدث في العلم سوى تخلص البحث من كابوس كان يجثم عليه بسبب هذه الأفكار، وإنما جاءه هذا الخلاص حين تغيرت هذه الأفكار بحيث أصبحت تفهم على أنها مبادئ منهجية ترسم طريق السير في البحث، فهي مبادئ منطقية أكثر منها حقائق قائمة بالفعل في الوجود الخارجي فلسنا نخاطر بالرأي إذا ما تنبأنا بحدوث شيء شبيه بهذا لفكرة السببية؛ فلقد قامت بالفعل صعاب في المستكشفات العلمية الحقيقية، حملت بعض الناس على الاعتقاد بأن فكرة السببية كلها لا بد من القذف بها في البحر؛ لكن هذا خطأ منهم؛ والنتيجة الصحيحة التي يجوز لنا أن ننتزعها من الموقف هي ضرورة نبذ تفسيرنا للسببية تفسيرًا يجعلها حقيقة قائمة في الوجود الخارجي؛ وأما اعترافنا بما لمقولة السببية من قيمة، من حيث هي مبدأ يهدينا سواء السبيل في بحثنا الذي نصبه على كائنات الوجود الخارجي، فهو أمر قد تأيد في الحقيقة؛ إذ انسجمت نظرية السببية مع الممارسة العملية للبحث العلمي؛ فالهدف الذي يستهدفه كل بحث يتصل بالموجودات الواقعية، هو إقامة مواقف وجودية لها تفرد وتتسم بطابع كيفي؛ و«السببية» مقولة توجه عملياتنا الإجرائية التي بفضلها نبلغ ذلك الهدف كلما نشأت لنا مواقف يكتنفها إشكال.