المنهج العلمي والمادة العلمية
لما كانت النتائج التي ننتهي إليها تكون مجموعة من مادة تناولها التنظيم، ثم لما كانت هذه المجموعة المنظمة من مواد البحث لا تبلغ المرتبة العلمية إلا بفضل المناهج التي استخدمت لبلوغها، تحتم على مجموعات الحقائق والمبادئ التي منها تتألف مادة العلم، أن تكشف في نفسها عن خصائص تساير الشروط التي تفرضها تلك المناهج؛ وعلى ذلك فليس بد من أن نجد في تمحيصنا لبعض الملامح الرئيسية التي تميز العلم الطبيعي، محكًّا نلجأ إليه في اختبارنا لصدق ما قد عرضناه من حقيقة منطق المناهج؛ وقبل أن أستعرض مادة الموضوع، سألخص بعض النتائج البارزة التي تخص المنهج، مما يكون له أثر مباشر على فهمنا للموضوع الذي يصلح أن يكون مادة علمية.
(١) موازنة بين المنطقي والمعرفي (الإبستمولوجي)
(١-١) دلالة التجربة
إن جانب التجربة من جوانب المنهج، ليعبر تعبيرًا صريحًا عن كون البحث يستحدث تحولًا وجوديًّا في مادة الوجود الخارجي التي كانت باعثًا على القيام بذلك البحث؛ وليس إجراؤنا للتجارب مجرد وسيلة نلجأ إليها ابتغاء النفع العملي المريح، كلا ولا هو مجرد وسيلة نعدل بها حالات عقلية في رءوسنا، بل إنه ليس ثمة أمامنا من أساس آخر غير تحويلنا للموقف المشكل تحويلًا يجعله موقفًا محلول الإشكال، لنسوغ به المهمة الضرورية التي تؤديها التجربة في عملية البحث.
-
(١)
فالتجربة مطلوبة لنوجد بها المعطيات التي تجيز لنا قبول ما نستدله من قضايا؛ فبغير أن نتعمد إحداث تغيرات في الظروف الوجودية الماثلة أمامنا، فهذه الظروف — كما هي ماثلة — لا تقيم لنا حدودًا للمشكلة المراد حلها بوساطة البحث، كلا ولا هي تصف لنا تلك المشكلة، بل ولا تزودنا بالمادة التي من شأنها أن تختبر صدق الحل المقترح اختبارًا كافيًا؛ ولهذا نستطيع أن نسارع إلى القول — حتى قبل أن نتناول بالبحث المفصل خصائص المادة العلمية كما هي قائمة في واقع الأمر — بأن المادة التي نختبر بها صدق الحل المقترح، لا بد لها أن تتميز بنفس الخصائص التي تتميز بها المعطيات الأولية التي بدأنا بإعدادها لنتخذها أساسًا نبني عليه استدلالاتنا المنظمة الجائزة القبول؛ وبعبارة أخرى فإن المادة العلمية لا بد لها — بالضرورة — أن تتميز بفوارق هامة تختلف بها عن المادة كما تقع لنا في مجال الإدراك الحسي المباشر، كائنًا ما كان هذا المجال.
-
(٢)
وما دامت التصورات العقلية هي التي توجهنا، باعتبارها وسائل إجرائية ترسم لنا خطة العمليات التي نجريها حين نجري تجاربنا العلمية؛ فلا بد أن تشتمل مجموعة أفكارنا ومدركاتنا ومقولاتنا، وهي المجموعة التي تتسق معًا لتقيم لنا مادة البحث العلمي، أقول إنه لا بد لها أن تشتمل على المفاهيم التي من شأنها أن تمكنها من رسم خطة السير في العمليات الإجرائية التي تعيننا على اختيار ما نختاره من مادة، ثم تنظم ما نختاره منها؛ ومن هنا كان لا بد للقوانين والمبادئ التي منها تتألف المادة العلمية، أن تكون ذات طابع مميز، أو طابع يفرق بينها وبين ما عداها.
-
(٣)
إننا نحاول بما نجريه من تجارب أن نبعد عن المادة التي كانت قد مثلت لنا بادئ ذي بدء، كل عنصر وأي عنصر لا يكون ذا صلة بتحديد المشكلة المعينة المتضمنة في الموقف، والذي لو بقي لكان عائقًا يحول دون وصولنا إلى الحل المطلوب؛ فضلًا عن هذا الإبعاد للعناصر التي لا تمس المشكلة الراهنة، فإن التجارب تهيئ لنا أيضًا مواد وجودية جديدة، شأنها أن تحقق لنا هذه الشروط؛ وهكذا لا يكون لنا مناص في المنهج العلمي من العمليات التي ننفي بها هذا ونثبت ذلك، ونعزل هذا وندرج ذلك، ونفصل الشيء عما عداه لنستوضح حقيقته الذاتية؛ ولهذا فإننا نعيد القول مرة أخرى، بأننا نستطيع أن نسارع إلى القول — حتى قبل المضي في البحث — بأن المادة العلمية سيكون لها من الطابع المميز ما يحقق فيها شروط عمليتي النفي والإثبات اللتين تسيران جنبًا إلى جنب.
(١-٢) المشكلة المعرفية المزعومة للمادة العلمية
قبل أن أتناول تناولًا مباشرًا مادة العلم الطبيعي، لأبين كيف تحقق تلك المادة هذه الشروط المنطقية التي لا بد من توافرها في منهج البحث، سأناقش موضوعًا كان ليكون غير ذي صلة بما نحن الآن بصدد الحديث عنه، لو أن وجهة النظر التي بسطناها كانت مقبولة بصفة عامة، لكن أما والرأي الفلسفي على ما هو عليه اليوم، فمناقشة ذلك الموضوع هنا أمر يتصل بصميم ما نحن الآن بصدده؛ فبناءً على وجهة النظر التي أخذنا بها في هذا المؤلف، ليس ثمة إشكال — بصفة عامة — ينشأ عن كون مضمون المادة العلمية (سواء كان مضمونًا ماديًّا أو إجرائيًّا) مختلفًا جد الاختلاف عن مضمون مجالات الإدراك الحسي المباشر والإدراك الفطري؛ فلا بد لمضمون المادة العلمية أن يختلف عن مضمون هذه المجالات في نواحٍ متعينة، لو أردنا له أن يحقق شروط البحث الموجه في فض المواقف المشكلة؛ فلئن كان البحث الموجه ينصب على مشكلات قائمة، إلا أنها مشكلات خاصة ذات طابع متميز؛ فهي مشكلات تعنى بالتحويلات المعينة التي يتحتم استحداثها بالنسبة إلى مادة المشكلات الجزئية الخاصة؛ أما لو أخذنا بأية وجهة للنظر غير الوجهة التي بسطناها في هذا الكتاب، كانت أمامنا مشكلة عامة هي التي يطلقون عليها عادة اسم المشكلة المعرفية (الإبستمولوجية)؛ ولهذا فإني سأذكر بعض الأسباب التي تسوغ لي الاعتقاد بأن المشكلات الفلسفية التي يطلقون عليها اسم المشكلات المعرفية (حين تعد مشكلة المعرفة شيئًا آخر غير مجرد اسم مرادف لكلمة منطق) هي مشكلات يتبرعون بها، وهي مشكلات مصطعنة؛ وأن مثل هذه «المشكلات» يزول حين نفهم الخصائص المميزة للمادة العلمية من وجهة نظر تجعلها عبارة عن استيفاء للشروط المنطقية التي تقتضيها عملية البحث الموجه؛ وسأسوق لتوضيح ذلك مثلين؛ أحدهما خاص بالفرق بين مادة الإدراك الحسي العادي وبين ما للمادة العلمية من مضمونات وجودية؛ والآخر خاص بالمادة الفكرية في علاقتها بموجودات العالم الخارجي.
-
(١)
ففي مجال الإدراك الحسي المباشر هنالك نقط من الضوء تشاهد في السماء، ثم تكشف لنا المناظير المقربة نقطًا أخرى من الضوء لا ندركها بالحس المجرد؛ وفي كلتا الحالتين تنشأ لنا مشكلة خاصة، هي مشكلات انتزاعنا لنتائج نستدلها من هذا الذي ندركه بالحس المباشر، لكي يتسنى لنا تعليل ما قد شاهدناه بوضعه في متصل زماني مكاني واسع النطاق؛ فإحدى نتائج البحث تدلنا على أن هذه النقط الضوئية إنما هي في النهاية شموس في مجموعات تبعد عن المشاهد من فوق هذه الأرض عدة سنوات ضوئية؛ بيد أن نقطة الضوء في ذاتها، أو كما تقع لنا في إدراكنا المباشر، ليست سوى الخاصة الكيفية التي ندركها بها؛ وها هنا تنشأ المشكلة المعرفية المزعومة، حين نضاد بين الصفة الكيفية كما تقع لنا في إدراكنا المباشر، حين تجيء إلينا معطًى حسيًّا مباشرًا، وبين الشيء (أو موضوع الإدراك) الذي هو الشمس البعيدة نفسها التي هي قوام النتيجة العلمية؛ فتراهم يقولون — مثلًا — إن نقطة الضوء قائمة هنا والآن، على حين أن الشيء المدرك نفسه، أي الشمس، ربما يكون قد زال من الوجود إبَّان الفترة الزمنية التي انقضت منذ غادر الضوء مصدره حتى «وصل» إلى من يشاهده؛ ومن هنا تنشأ «مشكلة» عن المفارقة الجوهرية التي تقع بين مادة الوجود الخارجي كما هي واقعة، وبين المادة التي يتخذها العلم موضوعًا له، وهم يتخذون من هذه الحالة بالذات مثلًا يسترعي الانتباه في توضيحه للفرق الذي يرونه قائمًا بين الطرفين، مستندين إلى كل ما يضطلعون به من أبحاث علمية.
لكن المشكلة المزعومة لا يكون لها وجود إذا ما صغنا نظرية المعرفة على أساس تحليل منهج البحث المستخدم فعلًا في العمل العلمي، أو على أسس منطقية؛ فعندئذٍ نأخذ الضوء المرئي على أنه معلومات أولية هي بمثابة الشواهد التي — إذا ضممناها إلى غيرها من الشواهد — تمكننا من انتزاع قضية نستدلها على أساس سليم؛ فالضوء كما نراه الآن لا يزعم أنه شمس أو أنه «يمثل» شمسًا، بل هو يقيم لنا مشكلة؛ فحين نستعين بمجموعة دقيقة من تقنيات المشاهدة التجريبية، مهتدين في ذلك بمجموعة تماثلها دقة من تصوراتنا العقلية، فإننا ننتهي إلى خلق متصل زماني مكاني فسيح الرقعة، إذا ما وضعنا فيه الضوء المرئي في موضع معين، انحل لنا الإشكال الذي كان هذا المعطى الضوئي الراهن قد أقامه لنا؛ ففي هذا المتصل الذي انتهينا إليه استدلالًا، تكون الشمس التي تبعد عنا بمسافة تقدر بعدة سنوات ضوئية هي الحلقة الأولى في المتصل الذي أنشأناه، ويكون الضوء كما هو مرئي الآن وهنا هو الحلقة الختامية؛ وفي غضون تحديدنا لهذا المتصل تنشأ لنا مشكلات خاصة كثيرة، وتنشأ لنا أبحاث بعينها كثيرة أيضًا، لكننا لا نلاقي مشكلة عامة من الطراز المعرفي المزعوم؛ فمن وجهة نظر البحث ومنهجه، تكون المشكلة وطريقة حلها من طراز واحد، كما هي الحال مثلًا حين يستدل جيولوجي، على أساس سمات يشاهدها في الصخر القائم أمامه هنا والآن، والذي يدركه بحسه هنا والآن، يستدل وجود حيوان من نوع معين كان يعيش منذ عدة مئات من ألوف السنين؛ فلو أخذنا الصخرة المشاهدة بمعزل، استحال أن نستدل منها ما قد استدللناه، أما إذا سلكناها — مستعينين بمجموعة ما لدينا من مدركات عقلية كثيرة العناصر — مع غيرها من المعلومات الأولية الكثيرة المستقل بعضها عن بعض في وجودها المادي، في نظام واحد يشملها جميعها في ترتيب واحد، فعندئذٍ تصبح القضية المستدلة جائزة القبول؛ ففي المثلين المذكورين كليهما، نرى الفرق في مادة الموضوع بين ما نشاهده هنا والآن، وبين ما نجعله موضوعًا للبحث العلمي، كائنًا أساسًا في استيفاء الشروط التي يستوجبها البحث الموجه؛ فلا تنشأ ولا يمكن أن تنشأ مشكلة فلسفية عامة من الطراز «المعرفي» (الإبستمولوجي) إلا إذا لم تكن مادة الموضوع مختلفة في الحالتين.
-
(٢)
لقد ذكرنا في الحالة التي فرغنا لتونا من مناقشتها ضرورة أن يكون لدينا مجموعة متسقة من تصورات عقلية متعلق بعضها ببعض (نسوقها على صورة قضايا) لكي نستعين بها على إيجاد المعلومات الأولية التي نختارها من بين ما يعرض لنا في مجال الإدراك، بحيث تكون ذات شأن بموضوعنا، كما نستعين بها أيضًا على ترتيب تلك المعلومات الأولية التي وقع عليها اختيارنا؛ وأما المثل الذي سنأخذ الآن في مناقشته فيتضمن تفسيرًا لهذه التصورات العقلية على أساس منطق البحث، موازنين بينه وبين التفسير القائم على أساس الفلسفة المعرفية (الإبستمولوجية) «فالمشكلة» التي تؤدي بنا إلى التفسير المعرفي، تنشأ حين نفترض ولأننا نفترض أن التصورات العقلية — في عمومها وفي خصوصها — لا بد أن تكون وصفية تصف مادة الوجود الخارجي بوجه من الوجوه؛ وذلك أننا إذا تجاهلنا ما للتصورات العقلية من مهمة وسلية تؤديها في المراحل الوسطى من سيرنا بالبحث، وهي مهمة تتحقق بما نجريه من إجراءات، أقول إننا إذا ما تجاهلنا هذه المهمة الوسلية للتصورات العقلية، لم يعد أمامنا وجهة للنظر ممكنة سوى الفكرة القائلة إن تلك التصورات لا بد لها أن تجيء واصفة للعالم الخارجي؛ والفقرة التالية التي نقتبسها من «بلانك» Planek توضح الفرق بين مادة الوجود الخارجي وبين مادة التصورات العقلية التي هي موضوع العلم، وهي: «إن التعريفات الفيزيائية للصوت واللون والحرارة. لا شأن لها البتة بالإدراكات الحسية المباشرة التي ندركها بالحواس الخاصة بتلك الأشياء؛ بل إن اللون والصوت يعرفان — على التوالي — بتردد أطوال الموجات في الذبذبة؛ وتقاس الحرارة نظريًّا بالنسبة إلى مقياس مطلق لدرجة الحرارة، يقابل القانون الثاني للديناميكا الحرارية، أو تقاس، حسب النظرية الحركية للغازات على أنها الطاقة الحركية للحركة الذرية … لكنها لا توصف بأية حال من الأحوال بأنها شعورنا بالدفء».١
وما هو مذكور هنا يصدق بصفة شاملة على مادة التصورات العلمية في تميزها من مادة العالم الخارجي الواقع؛ والحق أنه ما لم نفسر مادة التصورات العقلية تفسيرًا يشملها كلها ولا يردها إلا إلى أساس واحد هو المهمة التي تؤديها تلك التصورات العقلية في السير بالبحث، فإن هذا الفرق في الأبعاد بين ما هو تصوري وما هو وجودي خارجي يثير لنا مشكلة فلسفية أساسية؛ لأن التفسيرات الممكنة الوحيدة بعد ذلك تكون إما النظرة (التي هي أبعد ما تكون عن الإقناع) والتي تقول إن تصوراتنا العقلية ما هي إلا حيل نلتمسها للنفع العملي؛ وإما النظرة القائلة بأن تلك التصورات وصفية — بوجه من الوجوه — لشيء قائم بالفعل في مادة الوجود الخارجي التي نتناولها بالبحث؛ وأما من وجهة النظر التي تفسر التصورات العقلية من ناحية المهمة التي تؤديها فعلًا في عملية البحث، فالمشكلة لا تحتاج عندئذٍ إلى «حل»، لأنها عندئذٍ لا يكون لها وجود على الإطلاق.
وسنتناول بالنظر مثلًا توضيحيًّا آخر، وهو مثل خاص بطبيعة النقط (واللحظات) باعتبارها مدركات عقلية في الفيزياء الرياضية؛ وهي مشكلة قد سبق لنا أن ناقشناها هي الأخرى؛ فلمدركاتنا العقلية عن النقط واللحظات من الأهمية ما هو ظاهر ظهورًا لا يجعلنا بحاجة إلى إثباتها بالحجة؛ غير أنه ما من شيء يمكن ملاحظته في الوجود الخارجي، إلا وفي الإمكان مده زمانًا ومكانًا، مهما يكن هذا الامتداد بالغًا في الصغر؛ ولو أننا اخترنا أي أساس آخر سوى أن المادة العقلية التي نطلق عليها اسم نقط ولحظات إن هي إلا أداة وسلية أدائية، لنشأت لنا «المشكلة» الخاصة بانتزاع تلك النقط واللحظات من مادة الوجود الخارجي؛ ولقد كانت طريقة هذا الانتزاع التي لبثت زمنًا طويلًا وهي موضع القبول، (وأعني الانتزاع بوساطة اختيار جانب من الشيء الخارجي دون غيره من الجوانب) مؤداها أننا نصل إلى النقطة بتجريدنا لحد نختاره، وهو الحد الذي يتحدد بتقاطع خطين؛ ولما كانت الفكرة الرياضية عن الخط باعتباره امتدادًا بغير كثافة. أقول إنه لما كانت تلك الفكرة الرياضية عن الخط مأخوذًا بها من قبل ذلك، جعل هذا الحد الذي يحدده تقاطع الخطين ممثلًا للنقطة الرياضية، ثم جعلت النقطة الرياضية وصفًا عقليًّا لحقيقة واقعة في الوجود الخارجي؛ فلما اتضحت المشكلات المنبثقة من هذا التصور، لجئوا إلى مصدر وجودي آخر تصدر عنه فكرة النقطة الرياضية، وذلك أنهم تصوروا ذلك المصدر في صورة علاقات تربط مجموعة متسلسلة الحلقات، كمجموعة من صناديق — مثلًا — تسلسل حجمًا بحيث يدخل كل صندوق منها فيما يليه كبرًا، وهكذا حتى نصل إلى أصغرها في التصور وهو النقطة الرياضية؛ ونحن لا ننكر أن صلة الشامل بالمشمول ربما تتخذ تعريفًا للنقطة، غير أن موضع الإشكال الذي نحن بصدده، هو أن تلك الصلة تختلف في أبعادها المنطقية عن العلاقات التي ترتبط بها الأشياء الشاملة بالأشياء المشمولة؛ فالصلة المذكورة هي تجريد خالص؛ وربما كانت «مستمدة» عن طريق الإيحاء الذي توحي به المواد المذكورة، لكنه ليس بذي أهمية منطقية على الإطلاق أنها صلة مستمدة من سواها؛ فالطريقة الخاصة التي أوحى إلينا بها — من الوجهة المنطقية — بتلك الصلة المجردة، أمر آخر؛ والمسألة التي نتعرض لمناقشتها إنما تختص بالمهمة التي تؤديها فكرتنا عن النقطة في عملية البحث وإنا لنجد ما يبرر هذه الفكرة، في النتائج المترتبة على استخدامها استخدامًا عمليًّا؛ فإذا كانت النظريات الخاصة بطريقة حصولنا على فكرة النقطة من الأصل الذي نشأت عنه، ذات أهمية سيكولوجية، فهي غير ذات موضوع من الناحية المنطقية — اللهم إلا إذا زعمنا بأن مادة التصورات العقلية لا بد لها، بوجه من الوجوه، أن تجيء ممثلة بطريقة وصفية لمادة الوجود الخارجي — وهي فكرة ترتد في النهاية إلى المنطق الأرسطي، وإلى حالة العلم التي في ظلها صِيغ ذلك المنطق.
(١-٣) مادة (البحث العلمي) بالنسبة إلى متصل البحث
إنه لمن الحقائق المألوفة الشائعة أن مادة العلم تتعرض للمراجعة من زمن إلى زمن، بل تكاد تتعرض لهذه المراجعة يومًا بعد يوم، وذلك بالنسبة إلى تفصيلاتها وبالنسبة إلى الفترات الحاسمة في مجرى التاريخ، مراجعة تتناول من تلك المادة أصولها؛ وإن من المدارس المنطقية مدرسة تفسر هذه الحقيقة على أنها تشهد بأن العامل الوحيد المأمون العواقب، والمنطقي بالمعنى الصحيح، هو العامل الصوري؛ وتقول هذه المدرسة إن هذا الجانب الصوري يتأيد صدقه من ناحية أخرى، بإشارته إلى حقيقة قبلية ثابتة نهائية، مأخوذة على أنها المقدمة التي لا مقدمة وراءها؛ وحتى «مل» — على الرغم من اعتقاده بأن فكرة «اطراد الطبيعة» يوصل إليها بالاستقراء — قد ذهب إلى أن ذلك الاطراد في الطبيعة مبدأ كان لا بد من اتخاذه مقدمة نهائية ترتد إليها كل العمليات الاستقرائية؛ ومع ذلك فهو — من الوجهة الرسمية — ينتمي إلى المدرسة التي تأخذ بأن القيمة التجريبية تكمن في المادة الوجودية وحدها.
ولو نظرنا إلى ما تنطوي عليه هذه الفقرات، مقرونًا بنظرية «بيرس» عن المبادئ التي تهدي أو التي ترشد إبَّان السير في البحث؛ ألفيناها تنطوي على أن العنصر الصوري إنما يتولد عن المنهج؛ فالعلاقة بين الصورة والمادة هي العلاقة الرابطة بين المناهج من جهة والمادة الوجودية من جهة أخرى، أعني المادة التي نستخدم المناهج في إيجادها وفي ترتيبها؛ هذا فضلًا عن أن مسألة العلاقة بين المنهج وبين المادة التي ينصب عليها المنهج، هي أمر ينشأ في المدى البعيد؛ فالمناهج — فيما قد أسميناه بالمتصل الخبري للبحث — تصحح نفسها بنفسها بحيث تتحدد النتائج التي تحصل عليها من تلك المناهج تحددًا يزداد بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ ويلزم عن هذا أن صدق القضايا الوجودية مرهون بدرجة الاحتمال، وأن درجة الاحتمال المتحققة فيها هي بمثابة قدرة تلك القضايا على الاستمرار في البحث؛ وإن هذه الملاحظات التي ذكرناها لتهيئ لنا أساسًا للانتقال إلى أول الموضوعات التي نريد مناقشتها، مما يتصل بالمادة العلمية بمعناها الصحيح.
(٢) الاحتمال وعلاقته بتكرار الحدوث
لقد بينا فيما سبق أن القضايا الجامعة التي تتحدث عن الوجود الخارجي ليست بالقضايا الضرورية، لأنها منبنية على مادة تقع لنا في مجال المشاهدة؛ والعمليات التجريبية التي نختار بها ونرتب هذه المادة، إنما يتألف أساسها ومضمونها المنطقيان من الوفاء بما تقتضيه عمليات جمع المتشابهات في أنواعها، ومنع ما ليس منها من الدخول معها في نوع واحد، جمعًا ومنعًا شاملين، يتمان في إطار من قضايا معطوف بعضها على بعض، وأخرى مفصول بعضها عن بعض؛ غير أن ما تستلزمه هذه العمليات من شروط منطقية، هو من قبيل المبادئ والمثل العليا التي نهتدي بها في طريق السير؛ إذ إنها ترشدنا في أداء العمليات التجريبية التي نحدد بها مادة الموجودات الخارجية؛ لكن طبيعة هذه المادة تقتضي ألا يكون تحديدنا لها إلا على سبيل التقريب، لا على سبيل الحسم القاطع؛ ومن ثَم كانت هذه القضايا كلها «التي تتحدث عن موجودات العالم الخارجي» احتمالية الصدق مع تفاوتها في درجة هذا الاحتمال؛ وسنخصص هذا القسم من أقسام مناقشتنا للمادة العامية، لمناقشة خاصة الاحتمال في القضايا الوجودية، بالنسبة إلى علاقة خاصة الاحتمال هذه بكون عملية البحث تدنو شيئًا فشيئًا من الصدق على مدًى طويل؛ ولو وضعنا وجهة نظرنا في صورة سلبية، قلنا إنها مضادة لأية نظرية تفسر الاحتمال على أساس جهلنا بما هو حق، أو على أساس أي عامل «ذاتي» آخر؛ لأننا نعتقد أن الاحتمال مظهر تتبدى فيه طبيعة المادة الوجودية نفسها التي نتناولها بالنظر؛ وبعبارة إيجابية نقول إن مقولة الاحتمال في رأينا لا تفسر تفسيرًا منطقيًّا إلا على أساس تكرار الحدوث وحده؛ وذلك لأننا إذا سلمنا بأن الظروف الوجودية الجائزة القبول تحدد لنا في غضون البحث المتصل، الذي بوساطته تميل الأخطاء — التي تقع في حالات خاصة — نحو أن يصحح بعضها بعضًا؛ إذن فقد سلمنا بتفسير الاحتمال على أساس تكرار الحدوث بوجه من الوجوه؛ فلسنا نوجه مناقشتنا التالية — إذن — نحو أن نبسط بها — في صورة اصطلاحية — فكرتي الاحتمال وتكرار الحدوث، بل هي مناقشة نريد بها أن نبين علاقة هاتين الفكرتين — بحكم طبيعتيهما الأصيلتين — بالموقف الذي وقفناه فيما مضى حين بسطنا الرأي في مناهج العلم الطبيعي؛ ولهذا فسنسير بالمناقشة على أساس ضربنا لعدد من الأمثلة الموضحة للقضايا الاحتمالية.
-
(١)
خذ قضية كهذه: «من المحتمل أن يكون يوليوس قيصر قد زار بريطانيا العظمى»؛ فلا شك أن الجهل «بحقيقة ما قد حدث» يدخل في طائفة القضايا التي سقنا هذه القضية نموذجًا لها؛ ولست أعني الجهل بصفة عامة، بل أعني بالجهل هنا كلمة تطلق على نقص المعلومات الأولية التي بين أيدينا نقصًا يمكن تعيينه؛ إذ لا تتوافر لدينا مدونات مما يتعلق بصفة خاصة بالقضية المستدلة المذكورة؛ لكن على الرغم من عدم وجود هذه المعلومات الأولية المعينة، فللقضية قسط معلوم من الصفة المنطقية، قائم على ما فيها من احتمال الصدق؛ فليس يتطلب المنطق منا أن نمتنع امتناعًا تامًّا عن استدلال أية قضية على الإطلاق؛ لكن على أي أساس نبرر أمثال هذه القضايا الاحتمالية؟ هنالك رأي يقول إنها ترتكز في النهاية على «الحدس» الذي ندرك به صورة الاحتمال من حيث هو كذلك.
يقينًا ليس لنا أن نستند في ذلك إلى أن صورة الاحتمال المذكورة إنما ترتكز على ما في هذه الحالة المعينة من أسس مادية تحققت، لأن هذه الأسس المادية — بحكم تعريف الحالة — ممتنعة؛ وواضح أيضًا أن القضية السالفة تختلف منطقيًّا عن قضية كهذه: «من المحتمل أن يكون يوليوس قيصر قد زار بريطانيا العظمى كذا من المرات خلال حملاته المختلفة»، وذلك لأن في القضية الأخيرة نسبة معينة من تكرار الوقوع، متضمنة في القول بصورة صريحة، على حين أن القضية في الحالة الأولى لا تشتمل في معطياتها على معامل لتكرار الحدوث؛ كيف نفسر أمثال هذه القضايا منطقيًّا؟
والتفسير الذي أتقدم به هنا هو أن الموقف في هذه الحالة يكون من نوع شأنه أن يضمن لنا — في غضون متصل البحث — قضية احتمالية؛ فالاحتمال المذكور هو احتمال كيفي صرف، لا نستطيع أن نحدده بدرجة عددية مقيسة حتى ولا على سبيل التقريب؛ إذ إن قياسه كيفي، ولذلك فنحن نعبر عنه طبيعيًّا بصورة من هذا القبيل: «إذا أخذنا كل شيء مأخذ الاعتبار، فوقوع الأمر أكثر احتمالًا من عدم وقوعه»؛ فليس في معطيات هذه الحالة المعينة عامل تكرار الحدوث، أكثر مما نجد هذا العامل في القضية نفسها؛ وإنما يكمن هذا العامل في التشابه الكيفي بين الموقف في جملته وبين مواقف كيفية أخرى (وهي كيفية لأنها لم تحلل، أو لأنها غير قابلة للتحليل إلى معطيات مادية محددة) وجدنا على مدى شوط بعيد أنها (في معظم الحالات) تنتج لنا من النتائج ما يمكن الركون إليه؛ وعلى هذا فعامل تكرار الحدوث يمكن أن يُساق في صورة كهذه: «قد حدث في معظم الحالات أن الاستدلالات المنتزعة من نوع المواقف الذي يجيء هذا الموقف الراهن نموذجًا له، قد تبين فيما بعد أنها استدلالات مثمرة على الرغم من عدم وجود المعطيات المادية الكاملة» واختصارًا فإن عامل تكرار الحدوث أمر يتعلق بالمنهج الذي نستخدمه في حالة من هذا الطراز.
هذه الطريقة في التفسير تقدم لنا شرحًا بسيطًا ﻟ «الحدس» الذي يُقال إنه متضمن في مثل هذه الحالة؛ فثمة شيء يمكن تسميته بالحدس بالمعنى السيكولوجي لهذه الكلمة؛ ذلك أن المنهج المتبع متجسد في عادة اعتدنا بها أن نتصرف عمليًّا في حالة تلك المواقف الكيفية التي نشبه بعضها ببعضها الآخر من ناحية الاستدلالات التي ننتزعها منها؛ والعادة — في هذه الحالة كما هي في حالات العادات الأخرى — هي مما نركن إليه حتى تجيء ظروف فتسد عليها الطريق بصورة لا شك فيها؛ وإذن فلنا أن نقول إما أن «الحدس» هو في إدراكنا المباشر للكيفية المتضمنة في هذا الصدد، وللتشابه الكيفي بين هذا الموقف وبين غيره من المواقف التي كنا فيما سبق قد استدللنا منها النتائج أو أن نقول — بصورة أكثر مباشرة — إن الحدس هو ما نعنيه بالعادة التي تفعل فعلها عندئذٍ؛ إلا أن المنهج — لا الحدس — هو الذي يخلع على أمثال هذه القضايا ما قد يكون لها من صفة منطقية.
-
(٢)
وأنتقل الآن إلى نوع آخر من القضية، يشبه النوع الذي ناقشناه لتونا، في كونه ينصب على مفرد واحد، لكنه يختلف عنه في أنه (١) مؤسس على معطيات محددة جاءت بها المشاهدة، وهي معطيات — فضلًا عن ذلك — قد جمعت ورتبت بقصد خاص، وهو أن نكون قضية عن احتمال وقوع حادثة معينة؛ وفي أن (٢) المعطيات ترتب وتفسر بوساطة قضايا تصورية المكونات بشكل صريح، أي إنها قضايا نظرية؛ ومن الأمثلة التي توضح هذا، تنبؤنا باحتمال أن يجيء الجو غدًا من نوع معين؛ فالمعطيات في هذه الحالة إنما نستمدها من مشاهدة الظروف القائمة المتعلقة بأمور معينة كدرجة الحرارة، واتجاه الرياح وسرعتها، والمطر والسحب، على نطاق فسيح من الأرض، ولمدة فترة طويلة من الزمن؛ ومع ذلك فليست دلالة هذه المعطيات التي نحصل عليها، وأعني بدلالتها ما تشير إليه من العواقب، أقول إن دلالتها ليست كائنة في مجرد هذه الوقائع المذكورة مأخوذة وهي بمعزل، بل إنها لترتب بالنسبة بعضها إلى بعض ترتيبًا يجيء وفق بناء عقلي متسق في تصوراته (ومن أمثلة هذه التصورات العقلية فكرتنا عن الأصقاع ذوات الضغط العالي وذوات الضغط المنخفض)؛ على أن تتحدد القوة الدلالية التي للمعطيات المرتبة على هذا النحو السالف، تبعًا لقوانين فيزيائية معينة، ومن أمثلتها القوانين التي نصوغ بها العلاقات التي تربط الحرارة بالضغط والحركة.
وهذه القوانين الفيزيائية تتخذ صورة القضايا الكلية المجردة، إذ إن مضمونها عبارة عن علاقة متبادلة بين مفاهيم مجردة؛ فليس يطوف لأحد ببال أن يفترض بأن هذه القوانين الفيزيائية من حيث هي قضايا مجردة المضمون، «تستلزم» حالة الجو الذي يحتمل أن نجده غدًا في رقعة معينة من الأرض؛ وذلك لأن تلك القوانين وسلية وليست هي بالوصفية؛ فهي تطبق تطبيقًا إجرائيًّا — قبل كل شيء — في أن تقرر لنا ما نوع المعطيات الخاص الذي علينا أن نحصل عليه بالمشاهدة، أي ما هي الحوادث المعينة التي علينا أن ننتقيها من مجمل الحوادث التي تضطرب معًا في خضم واحد يقع كله في محيطنا الفعلي؛ وهي تطبق — ثانيًا — في تفسير ما تدل عليه الحوادث التي نكون قد دوناها؛ وليس في وسعنا أن نطبق القوانين الفيزيائية على صورة من هاتين الصورتين إذا اقتصرنا على المعطيات التي تجيء بها مشاهداتنا إبَّان يوم واحد؛ فهذه المشاهدات لها دلالتها بالنسبة إلى ما قد أثبتناه عندنا من مشاهدات شبيهة بها وقعت لنا في الماضي، لأن التنبؤات الجوية تتفاوت درجة الركون إلى صدقها بتفاوت مقدار ما لدينا من معلومات مدونة عما قد حدث في أصقاع فسيحة من الأرض، إبَّان فترات طويلة من الزمن؛ فإذا كانت القضية الاحتمالية المراد قولها تنصب على مفرد واحد، كان العامل الحاسم في هذا هو إحصاء تكرار حالات الحدوث إحصاء يبين مدى اقتران العناصر التي شوهدت فيما مضى، لنتخذه أساسًا نحدد عليه انطباق ما لدينا من مادة عقلية على الحالة الخاصة التي نحن بصددها.
وإذن فالحالة المذكورة لا تقتصر على أن توضح لنا المهمة الأدائية للجانب النظري، وللحساب النظري وللتفكير النظري، مما نستمده من تصوراتنا العقلية النظرية؛ لكنها حالة ذات دلالة محددة على طبيعة مقولة الاحتمال؛ فهي — من جهة — تبين أن الاحتمال في المثل المذكور قائم على معرفة ما قد حدث بالفعل فيما مضى بالنسبة إلى نسبة تكرار الحدوث، وليس هو قائمًا على جهلنا بحقيقة ما قد حدث؛ ومن الناحية الإيجابية — وهذه هي النقطة الحاسمة — يدل المثل المذكور لماذا وكيف تتأثر قضية كهذه بمعامل الاحتمال؛ إذ إن ذلك راجع إلى كون المعطيات (في هذه الحالة وفي كل حالة) حوادث وصفات مما يقع في الوجود الخارجي، انتقيناها انتقاءً متعمدًا من مجمل مجالنا الإدراكي في الخارج؛ ولقد اخترناها على أساس قيمتها من حيث هي شواهد تهدينا بالنسبة إلى مشكلة خاصة، هي تحديد ما عساه أن يحدث في زمان ومكان معينين.
وإنه لأيسر علينا أن نتنبأ بوقوع حادثة تتعلق بظاهرة فلكية، كحدوث خسوف للقمر، من أن نتنبأ بالجو غدًا في سان فرانسسكو مثلًا؛ لأنه أيسر في الحالة الأولى أن نختار ظروفًا معينة نراها ذات شأن بالقضية المستدلة وأن نحذف غيرها من حسابنا لكونه غير ذي شأن بهذه القضية؛ وبعبارة أخرى، ففي مستطاعنا أن نقترب اقترابًا أكثر مما هو نسق مغلق «من مجموعة ما لدينا من أفكار نظرية» بحيث تعلو درجة الاحتمال في حالة التنبؤ بخسوف القمر؛ ومع ذلك فثمة عنصر من الاعتساف الجزافي، أو عنصر من العرضية بالنسبة إلى القضية التي نقولها عن زمان ومكان خسوف معين؛ وذلك لأنه ليس ثمة مبرر نظري — ونحن هنا نسوق مثلًا متطرفًا — يسند القضية القائلة بأن القمر سيكون موجودًا مجرد الوجود في اللحظة الزمنية التي يشير إليها التنبؤ؛ نعم إن درجة احتمال وجوده عندئذٍ عالية جدًّا، لكن ليس ثمة ضرورة منطقية في الأمر؛ لأن القضية على كل حال معتمدة على أساس ما كنا قد وصلنا إليه في أبحاث ماضية من اقترانات مكانية زمانية واقعة في الوجود الخارجي؛ وإذن فالأمر هنا خاضع لظرف هو من صميم طبيعة ظروف الوجود الخارجي؛ ذلك أن ظروف الوجود الخارجي من طبيعتها أن تجيز أن يحدث اقترانها في المستقبل على صورة تختلف عما اقترنت به في الماضي وكان أساسنا في التنبؤ المذكور؛ وبعبارة أخرى فإن معامل الاحتمال ضارب بجذوره في طبيعة الظروف الوجودية، لا في موقف الباحث إزاء تلك الظروف.
إن علاقة الاحتمال بتحديد نسبة تكرار حدوث الاقترانات في موجودات العالم الخارجي واضحة، وذلك لأنه حتى لو تيقنا يقينًا لا يشوبه الخطأ من أن المعطيات التي استخدمناها هي أولًا وقائع وجودية لا شبهة فيها، وأنها ثانيًا مستوعبة لكل ما قد حدث في الماضي، فتأثيرها — من حيث هي شواهد — على حالة جديدة لا يكون مضمون الصدق ضمانًا كاملًا؛ نعم إنه إذا لبثت الظروف كما هي تمامًا، إذن تكون النتيجة المتنبأ بها شبيهة بالنتيجة التي كانت قد وقعت فيما مضى — وهو تحصيل حاصل — لكن مضمون الجملة الشرطية البادئة بكلمة إذا عرضي من ناحية الوقوع الفعلي، وليس له القوة المنطقية لجملة إذا حين تجيء جزءًا من قضية كلية شرطية مجردة.
فافرض أن معترضًا قد اعترض بقوله إننا سنرتد رغم هذا كله إلى جهلنا بحقيقة الواقع، لأننا إذا فرضنا — وهو فرض مستحيل من الوجهة العملية — أننا على علم بحالة الكون في مجموعه فالعرضية والاحتمالية ستزولان عندئذٍ؛ فهذا الاعتراض الافتراضي الصرف يتضمن عاملين، لو أننا أبرزناهما علنًا لألقيا ضوءًا على المشكلة التي نحن بصددها؛ فأولًا ينطوي الاعتراض على زعم بأن الكون هو في حقيقته كلٌّ مغلق وكامل؛ وهذه قضية ميتافيزيقية خالصة لا تستند إلى دليل تجريبي؛ فهي مقحمة على المنطق من خارجه، ثم تستخدم بعد ذلك لتبرير مذهب منطقي معين؛ وثانيًا، فحتى لو زعمنا هذا الزعيم الميتافيزيقي لما صدق على ما يحدث في مكان جزئي معين في رقعة مكانية معينة، وفي لحظة زمنية بذاتها؛ فحتى لو كان الكون كلًّا مطلقًا مغلقًا كاملًا، وحتى لو كان معلومًا لنا علمًا كاملًا — وهو افتراض لما يستحيل حدوثه من الوجهة العملية — لكانت القضية الوحيدة التي تلزم عن ذلك قضية تنبئ عن حالة الكون — باعتباره كلًّا — في لحظات تالية من الزمن؛ لكن المشكلة هي مشكلة التحقق مما يحتمل حدوثه في مكان معلوم وفي لحظة زمنية معلومة، وتحديد أمر كهذا إنما يعتمد على علمنا بما هو حادث في الأمكنة الأخرى وفي اللحظات الزمنية الأخرى التي تمر بها تلك الأمكنة؛ وترتيب هذه المعرفة وتفسيرها يعتمدان على مدونات مستفيضة ندون فيها مشاهداتنا للاقترانات التي حدثت فعلًا في عدد كبير من الأصقاع المكانية الأخرى، وفي عدد كبير من اللحظات الزمنية، وهو أمر يعيدنا إلى الاحتمال المستند بجذوره إلى الموجودات الفعلية، وإلى تفسير الاحتمال على أساس تكرار الحدوث.
والمغزى المنطقي الإيجابي لهذه الاعتبارات هو أن كل حالة نقوم فيها بتحديد لمعطيات، هي حالة نقوم فيها بعملية اختيار موجه بقصد أن تكون المعطيات المختارة ذات مهمة تؤديها من حيث هي شواهد تهدينا إزاء مشكلة معينة الحدود؛ فيكون المعطيات — من حيث هي معطيات — قد اختيرت عمدًا دون سواها، هو عنصر أصيل في طبيعة البحوث نفسها، التي نتناول بها كائنات الوجود الخارجي؛ وليس هو بالعنصر الذي ينشأ عن أي مصدر آخر خارج منطق الحالة نفسها، كأن ينشأ مثلًا عن موقف سيكولوجي إبستمولوجي نعزوه إلى قصور في ملكات الباحث ومعرفته؛ فما دامت طبيعة الحالة نفسها تقضي بضرورة أن يختار الباحث المواد التي تزوده بالمعطيات التي تصلح أن تكون شواهد في بحثه، فالقضايا المستدلة إذن تخضع للشروط الوجودية التي تفرضها عملية الاختيار هذه؛ ومن هنا تنشأ صفة الاحتمالية كما ينفسح المجال للقضايا التي تنبئ عن نسبة تكرار الحدوث، فتصبح هي العامل الحاسم في تحديد درجة الاحتمال التي ننسبها إلى قضية بعينها؛ لأن تحققنا من وقوع اقترانات للحوادث الماضية على صورة بعينها، هو الذي يهيئ لنا الأساس الأخير في اختيارنا لبعض الكائنات والصفات الواقعة دون سواها، لنتخذها معطيات.
-
(٣)
وننتقل الآن إلى الحالات التي ترد فيها قضايا متحدثة بشكل صريح عن نسبة تكرار الحدوث لتعيين درجة احتمالها؛ والمثل الذي سنتناوله بالتمحيص هو قذفنا بقطعة نقدية أو لزهرة من زهرات اللعب بقصد معرفة احتمال ظهور وجه قطعة النقد أو ظهرها أو احتمال ظهور وجه معين من أوجه الزهرة، فكم مرة يظهر في سلسلة من الرميات؟ فمادة الموضوع هنا تختلف عنها في الحالات التي سبق لنا أن بحثناها، في أنها (١) المعطيات الوجودية في هذه الحالة محددة وكاملة نسبيًّا، وفي أن (٢) الاستنباط من تصوراتنا العقلية يلعب دورًا أهم من الدور الذي يلعبه في الحالات السابق ذكرها؛ ففي حالة سلسلة الرميات التي نقذف بها زهرة اللعب، تتحدد الظروف الوجودية على نحو يستوفي — بدرجة غير مألوفة — الشروط المنطقية التي تقتضيها عملية الجمع والمنع؛ فقطعة النقود لها وجهان فقط، والزهرة لها ستة أوجه فقط؛ وظروف الحال تقتضي ألا يظهر إلا جانب واحد فقط — دون سائر الجوانب — في كل مرة نقذف فيها بقطعة النقد أو بالزهرة؛ فإذا فرضنا قيام هذه الظروف، ثم فرضنا بالإضافة إلى ذلك أن قطعة النقد أو الزهرة متجانسة التكوين، (أي إن جانبًا منها لا يستدعي بحكم تكوينه أن يظهر أكثر من سواه) وأن المرات المتتابعة التي نرمي فيها قطعة النقد أو الزهرة من شأنها أنه إذا كانت إحدى الرميات متميزة بخصائص شاذة، فإن الرميات الأخرى — في المدى البعيد — سيكون لها أيضًا من الخصائص الشاذة ما ينتهي بالأمر إلى توازن الأثر (أي إن طريقة الرمي ستطرد على وجه الإجمال فلا تنحرف في موضع دون سواه) فعندئذٍ تتدخل في الأمر النظرية الرياضية «في قياس درجة الاحتمال» بحيث يمكن — من الوجهة النظرية — حساب نسبة تكرار الحدوث في سلسلة متتابعة من الرميات.
فلو سلمنا بقيام الظروف المذكورة قيامًا لا شبهة فيه، كان في حدود الإمكان للنظرية الرياضية — بوساطة تفكير استنباطي مرتب الخطوات — أن تنتهي إلى قضايا معينة تدلنا على ما سيحدث بالضرورة، بحكم نسبة الوقوع في تكرار الحدوث، في سلسلة من الرميات غير محدودة العدد؛ لكن أحدًا لا يذهب اليوم إلى أن هذه القضايا «تستلزم» حدوث ما يحدث فعلًا في الوجود الواقعي، أو أن النظرية الرياضية تضمن قيام الظروف — المفروض قيامها — قيامًا فعليًّا؛ فالقضايا هنا هي من قبيل القضايا التي صورتها «إذا – إذن» والتي يتعلق بعضها ببعض بحكم الضرورة، لكنها لا تضمن أن تتحقق — في الوجود الفعلي — الظروف الواردة في الجملة البادئة بكلمة «إذا»؛ إذ إن هذا التحقق الفعلي لا يمكن تقريره إلا بعمليات مستقلة نقوم فيها بمشاهدة تجريبية؛ ونستطيع أن نصوغ هذه النقطة صياغة اصطلاحية كما يلي: إن احتمال (أ) أو (ب) بالنسبة إلى ج يساوي احتمال أ بالنسبة إلى ج، مضافًا إلى احتمال ب بالنسبة إلى ج، مطروحًا منه احتمال أ وب معًا بالنسبة إلى ج؛ فهذه قضية واردة في حساب الاحتمال؛ لكننا لو نظرنا إليها على أساس تفسير الاحتمال بتكرار الحدوث، وجدنا مضموناتها متعلقًا بعضها ببعض تعلقًا ضروريًّا؛ مع أن القضية القائلة إن احتمال أ أو ب بالنسبة إلى ج هو ٣ / ٤ والقضية الأخرى القائلة إن احتمال أ أو ب بالنسبة إلى ج هو ١ / ٢، قضيتان ذاتا طبيعة واقعية، ومن ثَم فهما معتمدان على معلومات واقعية تؤلف مضمونيهما.٦والنقطة المنطقية الهامة هنا، هي أنه من وجهة النظر الرياضية، تكون نسب تكرار الحدوث كما تحسب رياضيًّا، ممثلة للحد الأقصى لسلسلة رياضية لانهائية، على حين أن نسبة التكرار كما يقع في الواقع الفعلي مردها إلى سلسلة محدودة تبلغ غايتها في المدى البعيد؛ فافرض مثلًا أننا عند الحلقة الختامية من رميات عددها ن (ن هنا تمثل عددًا ذا نهاية معلومة) نصل إلى نتائج فعلية تتفق مائة في المائة مع النتائج التي كنا لنبلغها لو حسبنا الأمر حسابًا نظريًّا؛ فعندئذٍ تكون المغالطة واضحة إذا نحن وقفنا عند هذه الحلقة الختامية قائلين إن النتيجة النظرية قد تحققت الآن تحققًا كاملًا بالأمر الواقع؛ وذلك لأن الرمية التالية نفسها ستنقض هذا «التحقق» القائم على الاتفاق التام بين ما هو نظري وما هو فعلي، نقضًا يتفاوت مداه حسب عدد الرميات السابقة؛ وعلى ذلك فمحال أن ننسب إلى التصورات والقضايا الرياضية قيمة وصفية، فمنزلة هذه التصورات والقضايا الرياضية كائنة في أنها وسلية وأدائية؛ فما يصدق على الظروف في حالتها هذه، أعني الظروف التي نعدها مقدمًا إعدادًا يقر بها بقدر الإمكان من حالة النسق المغلق، يصدق بالتالي وبنفس الدرجة على الحالات الأخرى التي يستحيل فيها أن نعد الظروف الوجودية مقدمًا «قبل مشاهدة ما عساه أن يقع بالفعل في عالم الواقع».
-
(٤)
وأنتقل الآن إلى الحالات التي هي من الطراز الذي يتمثل في قوائم طول الأعمار المتوقع، التي تستخدمها شركات التأمين، فننظر إليها من ناحية المهمة التي تؤديها؛ فليست مادة الموضوع هنا أيضًا هي احتمال حدوث حادثة مفردة معينة، بل هي احتمال نسبة تكرار معينة في وقوع حوادث من أنماط معلومة، منسوبة إلى الحوادث التي هي من النوع الذي يشمل تلك الأنماط باعتبارها أنواعًا فرعية تندرج فيه؛ فالنوع الشامل هنا قوامه سمات مقترنة نصف بها نوع «الميتات»؛ والأنواع المشمولة هي الميتات التي يتميز بعضها من بعض داخل ذلك النوع الشامل، تميزًا أساسه السن — داخل حدود مقررة معينة — التي يحدث فيها الموت؛ فإذا فحص طبيب زيدًا من الناس، فقد يكون قضية ينبئ فيها بطول الزمن المحتمل لزيد أن يحياه؛ أما عند الشركة التي يؤمن فيها زيد على نفسه، فزيد لا يزيد على كونه فردًا من مجموعة أفراد يتميزون من سواهم بكونهم متساوين في السن؛ فباعتباره فردًا من نوع من حيث هو نوع، لا باعتباره فردًا من حيث هو فرد معين، يكون لزيد عمر متوقع بدرجة احتمالية معينة؛ فالقضايا عندئذٍ تكون كما يأتي: إنه من الأشخاص ذوي سن معينة، تموت نسبة معينة في العام التالي، وعدد نسبي آخر معين يموت خلال العامين التاليين، وهكذا.
فالمعطيات التي نبني عليها استدلالاتنا، والقضايا التي نستدلها من تلك المعطيات، كلتاهما مرهونتان بنسبة تكرار الحدوث؛ فسلامة المعطيات متوقفة على سعة نطاق مشاهداتنا الماضية وعلى اكتمال مدوناتنا ودقتها؛ والذي يؤكد لنا سلامة هذه المعطيات تأكيدًا ماديًّا هو أن شركات التأمين على الحياة قد بنت أعمالها على أساسها أمدًا طويلًا، ولهذا كان لدى هذه الشركات مجموعة من المعطيات المختارة المعدة تعتمد عليها في استدلالاتها، أكثر مما تهيئه لنا قوائم الوفيات بصفة عامة؛ نعم إنه لا خلاف في أن عملية التأمين كما يتناولها محاسبو شركات التأمين هي عملية رياضية في خصائصها، لكن أيسر تحليل يكفي لبيان أن الرياضة في هذه الحالة المذكورة إنما تؤدي مهمتها أداءً وسليًّا، وليست هي بالتي تصف حالات الواقع كما يقع؛ فمن وجهة نظر أصحاب النظرية الذاتية في حساب الاحتمال، يكون من الواضح أنه كلما ازدادت معرفة الإنسان بالمعطيات المتصلة بالموضوع سعة ودقة، ازدادت دقة قضايا الاحتمال التي يكونها.
-
(٥)
وقد يجمل بنا أن نقول شيئًا عن مسألة تتناولها المناقشة كثيرًا أو قليلًا، ألا وهي الاحتمال بأن نظرية معينة أو قانونًا معينًا «صحيح»؛ فبناءً على وجهة النظر التي أخذنا بها في هذا الكتاب، لا معنى لذكر درجة احتمال قانون معين أو نظرية معينة، اللهم إلا إذا أردنا لهذه العبارة أن تضمر أو أن توجز (وعندئذٍ تكون عبارة مرذولة) ما نريد أن نشير بها إليه، وهو معاملات الاحتمال الخاصة بالمواد التي جاءت القوانين فمكنت — باعتبارها وسائل انتقال — من قيام علاقات بينها؛ فبعض القوانين أشمل من بعض، إذ تصدق على نطاق من الحالات أوسع مجالًا؛ فلو كان لدرجة احتمال قانون من القوانين أي معنى حرفي، كان هذا المعنى — فيما يظهر — لا يصدق إلا على تكرار الحدوث النسبي للتطبيق الصحيح الذي تنطبق به القوانين الأقل شمولًا، داخل مجموعة القوانين التي تنخرط فيها؛ وإنه لمن العسير أن نجد حالة واحدة يكون فيها لهذا التحديد أية قيمة؛ ولو كان للعبارة السالفة معنًى، فذلك أنها تمثل المبدأ الذي سبق لنا أن ذكرناه، وهو: أن احتمال نظرية معينة يقاس بالعلاقات التي تقوم بين نتائج تلك النظرية وبين نتائج غيرها من النظريات في سيرنا المتصل بعملية البحث.
جدير بنا، في ختام هذا الجانب من جوانب مناقشتنا للمادة «العلمية» أن نعود إلى الغاية التي نستهدفها من هذا الفصل؛ فغايته هي بيان العلاقة بين الملامح المميزة لمجموعة القضايا التي تأتلف منها مادة العلم الخاص بالوجود الخارجي وما سبق أن بسطناه من شرح لمنطق المناهج؛ فلقد أردت بمناقشتي للاحتمال أن أقتصر على أن أبين أن طابع الاحتمال في القضايا العلمية التي تُقال عن المفردات، ومجموعات الموجودات وأنواعها، إنما يؤيد النتائج التي كنت قد انتهيت إليها عن المنهج، كما أبين كيف يكون ذلك؛ لا أن أقدم مناقشة اصطلاحية للموضوع بأسره؛ وإذن فهو أشد ما يكون صلة بمناقشتنا للقضايا ذات الدلالة الوجودية، التي تراها في الفصل الخامس عشر.
(٣) حالات الواقع من حيث هي ممثلة لغيرها
عند هذا الموضع من الحديث، يجدر بنا أن نفرق بين الحالات التي هي عينات والحالات التي هي نماذج؛ فالحالة تكون نموذجًا إذا ما تألف مضمونها على نحو يجعل نوعها يتيح لنا أن نستدل منها استدلالًا مأمونًا وجود سمات وأشياء ليست واقعة عندئذٍ في مجال المشاهدة؛ فنقول — مثلًا — عن هذا الشيء المعين إنه نموذج للشعير أو القمح أو الشوفان، حين نستوثق من أنه متصف بمجموعة معينة من السمات المقترنة التي تميزه؛ وصفاته من حيث هو نموذج لا تجيز لنا أن نستدل منه أشياء وخصائص خارج النوع، كأن نستدل منه مثلًا أشياء متجاورة في زمان الوقوع أو في مكان الحدوث؛ لكننا إذا ما حددنا المادة المذكورة على أنها عينة مقبولة، فعندئذٍ تصبح المادة شيئًا أكثر من مجرد كونها حالة مثلى، أو نموذجًا لنوعها؛ فلا يكون الشيء المعين عينه إلا إذا تقرر أنه عنصر من عناصر متصل متجانس؛ فسؤالنا عما إذا كانت حفنة من الغلال مختارة من صومعة الغلال هي أو ليست هي عينة لمحتويات الصومعة، أمر يختلف عن سؤالنا عما إذا كانت أو لم تكن تلك الحفنة المختارة نموذجًا كاملًا للنوع «قمح» أو لأحد الأنواع الفرعية التي تندرج تحت القمح؛ فهي لا تكون عينة مقبولة إلا إذا حققنا التجانس لمحتويات الصومعة، كأن نمزج تلك المحتويات مزجًا شاملًا كاملًا، بحيث تكون أية حفنة منه ممثلة — في توزيع صحيح النسبة — كافة عناصر الغلال التي يتألف منها محتوى الصومعة؛ فعندئذٍ تصبح هذه الحفنة ممثلة لسائر أجزاء المحتوى، بالمعنى الذي يجيز لنا أن نستدل منها خصائص أية حفنة أخرى، بغض النظر عن النوع أو الأنواع التي تنتمي إليها هذه الحفنة، وبغض النظر عن الجزء من الصومعة الذي أخذناها منه.
وهكذا يكون لتحديدنا لحالات بعينها أنها عينات، مهمة منطقية مميزة؛ فمدى نطاق النتائج التي نستدلها مما قد أسميته بالحالات النموذجية، يخضع لقيد معين معلوم؛ وذلك أن تقريرنا بأن مفردات معينة تنتمي إلى نوع بعينه، يتوقف على اختيار الخصائص وترتيبها؛ فليست الخصائص — كما قد رأينا — مما يؤخذ بالحالة التي ندركها عليها إدراكًا مباشرًا، إذ إننا نختارها ونرتبها من حيث هي دلائل أو علامات تشير إلى ما هنالك من تفاعلات تكون تلك الخصائص نتائجها؛ ووثوقنا من قيام تفاعل معلوم الحدود، هو بمثابة تحدينا لما هنالك من ارتباط بين تغيرات أو تنوعات؛ وصياغتنا للتفاعل المعين في صورة قانون أو صورة قضية جامعة، ليست — من حيث مضمونها — صياغة نشير بها إلى الخصائص التي وقعت لنا في مجال المشاهدة: بيد أن الإشارة إلى الجانب الكيفي «جانب الخصائص المشاهدة» تظل بالضرورة قائمة؛ وليس من شأن هذه الإشارة إلى الخصائص المشاهدة أن تعوق قياس الظواهر قياسًا كميًّا، أو أن تعوق العمليات الحسابية التي ترتكز على ذلك القياس الكمي، إذ إن مضمون القانون نفسه من شأنه أن يدفع إلى الأمام وأن يوجه تلك المقاييس التي نقيس بها المادة المختارة، والتي تجعل تلك العمليات الحسابية في حدود المستطاع، لكن تلك الإشارة إلى الخصائص المشاهدة تحول دون استخدامنا للقضايا الكلية المجردة، أو للصيغ الرياضية — من حيث هي كذلك — استخدامًا تطبيقيًّا على الواقع؛ وذلك لأن الأنواع متباينة، ما دامت متميزة بعضها من بعض على أساس خصائصها المشاهدة؛ بل إن الأنواع الفرعية المندرجة تحت نوع واحد شامل لها، يتميز بعضها من بعض بمميزات تستند إلى فروق بين خصائصها المشاهدة؛ ومن هنا كان تطبيق العمليات الحسابية «المستمدة من المقاييس الكمية للظواهر» مقتصرًا على العلاقات القائمة داخل الأنواع؛ فإذا أوجدنا متصلًا مكانيًّا زمانيًّا يكون من صفاته أن أي جزء منه متجانس مع أي جزء آخر، كان ذلك معادلًا لإيجادنا نوعًا جديدًا من طراز جديد، له من الشمول في عالم الموجودات الخارجية ما يجعل مضموناته متصلًا بعضها ببعض، لا لأنها متميزة بعضها من بعض بما يفرقها من خصائص، بل لأنها حالات خاصة من التفاعلات داخل إطار مركب واحد من التفاعلات؛ وهذا الإطار المركب الواحد إنما يوصف بعبارة تخلو خلوًّا تامًّا من أية إشارة تدل على شيء سوى الخصائص المشتركة بين كافة التفاعلات الجزئية الداخلة في ذلك الإطار العام؛ وأثر هذا التغير على مادة العلم الطبيعي هو الموضوع الخاص الذي سنتناوله في القسم الآتي.
(٤) المدركات المعيارية في المادة العلمية
-
(١)
تتألف مادة العلم الطبيعي — بقدر المستطاع — على أساس أن تكون مكوناتها مما يمكن أن يقاس قياسًا كميًّا، بحيث تجيء هذه القياسات الكمية قابلة لأن يرتبط بعضها ببعض برابطة نسقية؛ أي أن تجيء بحيث تكون قابلة لإجراء موازنات تحدد ذاتيات الأشياء وتحدد الفروق الفاصلة بينها، تحديدًا يجعل تلك الذاتيات وتلك الفروق قابلة أيضًا للصياغة العددية؛ إنه لا يكفي أن نقيس ثم نقف عند هذا الحد؛ بل لا بد لهذه القياسات الكمية أن تكون — في المثل الأعلى العلمي — قابلة لأن تُساق في حدود يمكن مقارنة بعضها ببعض مقارنة نسقية، أي أن تكون مما يمكن تعلقه بعضه ببعض في العمليات الحسابية.
-
(٢)
وتتحقق هذه الغاية في البحث العلمي بوساطة مقولات المكان والزمان والكتلة، مرتبطًا بعضها ببعض على نحو يتيح للتغيرات التي تحدث (والتغيرات نفسها تقاس قياسًا عدديًّا) أن توصف بلغة مقولة شاملة، هي مقولة اختلافات الحركة؛ وذلك لأن تحديدنا للتغير على أنه حركة، معناه صياغة ذلك التغير على أساس الكتلة المقيسة قياسًا عدديًّا، مضافًا إليها الزمن والمسافة أو «البعد» مقيسين كذلك قياسًا عدديًّا؛ فالكتلة والزمن والبعد — ك، ز، م — هي الوسائل المقننة لتحديد الوحدات التي نقيس بها الظواهر الطبيعية، إذ إنها هي التي — باستخدامها — يصبح أي تغير قابلًا لأن يُصاغ على أساس سرعة الحركة وعجلتها اللتين تتسمان بخصائص الموجهات «بالمعنى الرياضي»؛ فهي الوسائل التي نوجد بها بين المعطيات تجانسًا يجعل أي جزء من المتصل المكان الزماني مهيأ لأن يتخذ عينة تمثل نسقًا من تفاعلات؛ فعندئذٍ يصبح تبادل المعطيات مستطاعًا، فيؤدي بعضها ما يؤديه بعضها الآخر من مهمة الاستدلال في عالم الموجودات الخارجية.
وهذا القول — من الناحية السلبية — يتضمن أن هذه التصورات العقلية ذات صفة منطقية، لا صفة وجودية؛ وأما ما يقع في الوجود الفعلي من تفاعلات فلا بد أن يكون فيه من الإمكانات ما يجعل تلك التفاعلات قابلة لأن تُصاغ بلغة الحركة التي نعرفها بتطبيقنا للمدركات ك، ز، م؛ ومع ذلك فقد كانت الصياغة الكلاسية التي تستخدم التغيرات الكيفية حدودًا لها، وأعني الصياغة التي لم يكن فيها لتغير الوضع المكاني، وللزمن الذي يستغرقه ذلك التغير، أية أهمية خاصة، أقول إن تلك الصياغة الكلاسية التي كانت تعتمد على التغيرات الكيفية، قد كانت من حيث وصفها لمجال الإدراك الحسي المباشر، أصدق حرفية من العلم الفيزيائي الحديث؛ وكذلك كان التفسير على أساس الأنواع التي كان كل عضو فيها نموذجًا كاملًا — أو يكاد يكون كاملًا — لنوعه، تفسيرًا ألصق — بكثير — بما ينبئنا به إدراكنا الفطري في ظاهر الأمر، من فكرة المتصل المكاني الزماني المتجانس؛ إلا أن «العلم» الذي بني على أساس تلك الصياغة وهذا التفسير القديمين لم يطوع نفسه لا إلى التطور النظري المثمر، ولا إلى التحكم في التغير الكيفي تحكمًا عمليًّا ينصب على الوجود الخارجي؛ وإنما حدث التطور الإيجابي للعلم بفضل تناول مادة العالم المحس من جانب الخصائص التي نخلعها على الأشياء الطبيعية على أساس ما تؤديه من مهام في عمليات البحث المنظم التي نرتقي بها ونمسك بزمام توجيهها، أي إنها خصائص منطقية أكثر منها وجودية مباشرة؛ فالكتلة والزمن والبعد — من حيث هي تصورات ذهنية — هي مقومات قضايا كلية مجردة، تطبيقها على الوجود الخارجي هو تطبيق إجرائي «لا انطباق وصفي».
-
(٣)
إننا إذا أوردنا القول بلغة متصل مكاني زماني متجانس، أتاح لنا أن نرتب القضايا في مجرى التفكير النظري الاستنباطي ترتيبًا نسقيًّا على نطاق واسع، كما أتاح لنا إيجاد معطيات مقيمة في مجال الاستدلال الموضوعي «الذي نجريه بين أشياء العالم الخارجي»؛ فاستبعادنا للصفات الكيفية بحيث لا نجعلها أساس قضايانا العلمية، قد مكننا — كما سبق لنا القول — من القياسات الكمية ومن العمليات الحسابية المنبنية على أساس تلك القياسات؛ غير أن القياسات الكمية والعمليات الحسابية لا تزودنا من تلقاء نفسها بالوسيلة التي نفسر بها أو نرتب بها المعطيات التي قد ظفرنا بها، تفسيرًا أو ترتيبًا يبلغ حد الكمال في تنسيق أجزائه؛ لأن العلاقة المتبادلة بين المعطيات من جهة والمدركات الذهنية من جهة أخرى (وهي علاقة أشرنا إليها مرارًا فيما مضى) تتطلب — لكي ننظم المعطيات تنظيمًا كاملًا — نسقًا يقابل تلك المعطيات، يكون قوامه مدركات ذهنية مرتبط بعضها ببعض، وقابلة للتطبيق المانع الجامع؛ وهو شرط تستوفيه مدركات الكتلة والزمن والمسافة فيما يقوم بينها من علاقات متبادلة؛ وتحويل مضمونات هذه المدركات الدال عليها الألفاظ التي نستخدمها لترمز إليها، هو أمر ممكن في مجرى تفكيرنا النظري الاستنباطي، إمكانًا لا يقف عند حد؛ أو على الأقل فهذا هو المثل الأعلى المنطقي، إذ إن هذا المثل الأعلى يقضي بأن تكون المقولات النهائية للبحث الفيزيائي مما يتيح إمكان التحويل بين هذه المدركات إمكانًا لا يتقيد بقيد؛ فالظواهر الطبيعية التي تتباين من الوجهة الكيفية تباينًا بعيدًا، كما هي الحال في الحرارة والضوء والكهرباء، تصبح قابلة لأن تُساق في معادلات يمكن السير فيها سيرًا استنباطيًّا لا يقف عند نهاية معلومة.
-
(٤)
ومع ذلك فاختيارنا للكتلة والزمن والمسافة من حيث هي مدركات معيارية يتضمن اتفاقًا ذا وجهين، أما أحدهما — وهو وجه ثانوي من وجهة نظر الموضوع الذي نحن الآن بصدد مناقشته — فقد سبق أن تعرضنا للحديث عنه؛ فاختيارنا لقضيب بلاتيني محفوظ في مكان معين محاط بظروف معينة، لكي يكون هو وحدة قياس الأبعاد، أمر مرهون — بالبداهة — باتفاق الناس فيما بينهم؛ لكنه إذا كان المضمون المعين لهذا المعيار — كما قد أشرنا فيما سبق — مرهونًا باتفاق الناس عليه، فليست المهمة التي يؤديها بالأمر الاتفاقي، إذ إن لعملية القياس من الأهمية الأصيلة ما يستوجب أن تكون هنالك وسيلة فعالة للقيام بها.
وهنالك اتفاق آخر، هو هذه المرة اتفاق تصوري ذو فحوى منطقي مباشر؛ فكون الكتلة والزمن والمسافة أمورًا منطقية أكثر منها أمورًا وجودية في طبيعتها، يدل على أنه ليس ثمة من ضرورة وجودية لاختيارها؛ فمثلًا كان يجوز لنا أن نختار الكتلة والطاقة والكثافة؛ وفي مثل هذه الحالة كان البعد والزمن سيكونان أمرين متفرعين؛ وهنالك من الناس من يعتقد بأن تطور فيزياء الكوانتم سيترتب عليه أن تصبح الكتلة والشحنة الكهربية وقوة الدفع في مسار ينحرف على شكل الزوايا، هي المدركات المعيارية؛ فأساس اختيارنا للمدركات المعيارية هو سهولة البحث وضبطه، وهذه علامة أخرى تدل على أن المدركات المعيارية لها الخصائص التي تجعلها وسائل إجرائية، كما تدل على أن الاتفاق المتضمن في اختيارها ليس هو بالأمر الجزاف.
وسأختم مناقشتي لهذا الموضوع الذي نحن الآن بصدده، بالعودة إلى الارتباط القائم بين العمليات الاستقرائية والعمليات الاستنباطية في البحث العلمي؛ وذلك أن مادة العلم الفيزيائي تعرض لنا في صورة مكشوفة معنى هذا الارتباط؛ فالفوارق بين كائنات الوجود الخارجي — وهي استقرائية — إنما تحدد على نحو يمكن المدركات والعلاقات الرياضية من أداء مهمتها أداءً فعالًا في مجرى التفكير النظري المرتبة خطاه ترتيبًا استنباطيًّا؛ فالعالم الخارجي الواقع، في ذاته وبذاته، إنما هو ذو طبيعة تمكننا من تحديد الفوارق الفاصلة بين أشيائه تحديدًا لا يقيد اختيارنا لتنوعاته قيد؛ والذي يقرر لنا ما نختاره من أشياء — إذ نكون إزاء حالة بعينها — هو المشكلة «التي نكون بصدد حلها عندئذٍ»؛ فالمشكلة فيما يسمونه بمجال الإدراك الفطري تكون متصلة بنفع نبتغيه أو متعة نريدها؛ وأما في مجال العلم فالمشكلة المتصلة بما نحن إزاءه من وقائع هي كيف نخطو إلى الأمام بالبحث الموجه؛ ولما كانت سيطرتنا هذه المطلوبة على السير بالبحث لا يمكن بلوغها إلا بتدخل مدركات مجردة مرتبط بعضها ببعض، كان تمييزنا للأشياء الواقعية تمييزًا استقرائيًّا إنما يوجهه في كل خطواته ما نستهدفه من إمكان تطبيق المدركات العقلية التي يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا استنباطيًّا، على حين أن هذه المدركات العقلية يتم اختيارها وترتيبها بالقياس إلى ما نريد أن ننتهي إليه آخر الأمر من تطبيق على كائنات الوجود الخارجي.
فهذه الحقيقة من شأنها أن تحدد معنى الاستقراء والاستنباط في دلالتهما المنهجية؛ فلا فرق هناك بين الاستقراء والاستنباط من ناحية العمليات التي نصطنعها إبَّان السير في البحث؛ فسواء كانت مادة موضوعنا مشاهدات خارجية أو مدركات عقلية، فالأمر في كلتا الحالتين يتطلب حكمة في التقدير، وعناية دقيقة في الإدراك وتسجيل ما ندركه، وفي تقبل ما يعرض لنا من إيحاءات وتطويرها، وعينًا نافذة تلتقط أوجه الشبه التي لها مساس بموضوع البحث، وتجربة تتحسس الطريق، وتشكيلًا للمادة ينصب على الطبيعة الخارجية أو ينصب على تصوراتنا الذهنية، بحيث نستطيع أن نصور تلك المادة على هيئة رسوم تبينها؛ وإذا قلنا إن هذه الأمور كلها تتطلبها مادة الموضوع سواء أكانت واقعة في مجال المشاهدة أم في مجال المدركات العقلية، فقد قلنا إن هذه الأمور مطلوبة سواء أكانت المادة المذكورة تؤدي مهمة استقرائية أم استنباطية؛ وإذن فليست التفرقة بين الاستقراء والاستنباط كائنة في عمليات البحث، بل هي كائنة في الاتجاه الذي تتجه إليه تلك العمليات؛ فالأمر هنا يتوقف على ما إذا كان الهدف المنشود هو تحديد المعطيات الخارجية التي تتصل بموضوعنا وتؤثر فيه، أو هو المدركات العقلية المرتبط بعضها ببعض والتي تتصل بموضوعنا وتؤثر فيه؛ فالمسافر من نيويورك إلى شيكاغو، ومن شيكاغو إلى نيويورك قد يتبع نفس الطريق ونفس وسائل النقل في كلتا الرحلتين؛ وإنما الفرق هو في المكان المقصود وفي اتجاه السير؛ ولا يختلف الأمر عن هذا في حالة قيامنا بالعمليات التي يقتضيها الاستقراء والاستنباط.
فالفكرة القائلة بأن ثمة منطقًا للاستقراء وآخر للاستنباط، وأن المنطقين مستقل أحدهما عن الآخر، هي فكرة تعبر عن مرحلة معينة من مراحل التاريخ الفكري؛ إذ قد تطورت في زمن كان المنطق الكلاسي ما يزال مفروضًا فيه أنه يزودنا بمعيار التفكير النظري البرهاني، لكنه كان في الوقت نفسه يرى غير كافٍ لأغراض البحوث المنصبة على الوجود الخارجي؛ ولهذا احتفظوا به منطقًا يرونه سليمًا في مجال الاستنباط، ثم أضافوا إليه ضميمة تحتوي على منطق استقرائي، فرضوا فيه أنه يصوغ المناهج المستخدمة في البحوث الطبيعية؛ وكان من نتائج ذلك أن تأثر كلٌّ من المنطقين اللذين أطلقوا عليهما منطق الاستنباط ومنطق الاستقراء، أقول إن كلًّا من المنطقَين قد تأثر في مضموناته نفسها، وذلك أنَّ عزل أحدهما عن الآخر قد جعل محالًا علينا أن نبسط أيًّا منهما على أساس العمليات الأدائية التي يؤديها كلٌّ منهما على التوالي؛ بحيث أصبح مستحيلًا علينا أن نحاول الحصول على منطق كامل بإضافة منطقين شائهين ناقصين.