البحث الاجتماعي
مادة المشكلات الاجتماعية وجودية؛ ولهذا فالعلوم الاجتماعية فروع من العلم الطبيعي بالمعنى الواسع لكلمة «طبيعي»؛ غير أن البحث الاجتماعي هو نسبيًّا في حالة من التأخر بالقياس إلى البحث الفيزيائي والبيولوجي بحيث يوحي بالحاجة إلى مناقشة خاصة به؛ وليست المسألة هي ما إذا كانت مادة العلاقات الإنسانية علمًا — أو يمكن إطلاقًا أن تصبح علمًا — بالمعنى الذي تعد به الفيزياء اليوم علمًا؛ بل المسألة هي مادة العلاقات الإنسانية أمن طبيعتها أن تسمح بتطور المناهج التي تستوفي — قدر مستطاعها — الشروط المنطقية التي لا بد من استيفائها في سائر فروع البحث؟ وإن حالة التأخر التي عليها البحث الاجتماعي لتشهد بأن ثمة صعابًا خطيرة في طريقه؛ فمصدر واضح من مصادر هذه الصعاب هو أن مادة البحث الاجتماعي لها من «تركيب» عناصرها ومن تداخل تلك العناصر بعضها في بعض تداخلًا معقدًا، ما يزيد من صعوبة إيجاد نسق مغلق نسبيًّا (وهي صعوبة موجودة في العلم الفيزيائي)؛ وإذن فتأخر البحث الاجتماعي في حد ذاته قد يفيدنا في اختبار الأفكار المنطقية العامة التي انتهينا إليها؛ وذلك لأن نتائج مناقشتنا للموضوع قد تبين أن قصورنا عن العمل وفق الشروط المنطقية التي أشرنا إليها، هو الذي يلقي الضوء على حالته التي أعاقته دون التقدم.
(١) تمهيد
إن نتائج معينة مما قد انتهينا إليه فعلًا، لَتمهد لنا طريق المناقشة.
-
(١)
يسير البحث بأنواعه كافة داخل مصدر ثقافي تحدده آخر الأمر طبيعة العلاقات الاجتماعية؛ فمادة البحث الفيزيائي في أي عصر إنما تقع داخل مجال اجتماعي أشمل؛ والتقنيات التي في متناول أيدينا في أي عصر معين تعتمد على حالة الثقافة القائمة بجانبيها المادي والفكري؛ فإذا عدنا بأبصارنا إلى الوراء لننظر إلى عصور ماضية، تبين في جلاء أن ثمة مشكلات معينة لم تكن قبل لتنشأ في وسط النظم الاجتماعية والعادات وضروب المهن والاهتمامات التي كانت قائمة عندئذٍ؛ وحتى لو سلمنا بما هو مستحيل الحدوث فقلنا إن تلك المشكلات كان يمكن عندئذٍ تصيدها وصياغتها، فلم تكن هنالك الوسائل الممكنة لحلها؛ فإذا كنا لا نرى أن هذا القيد الشارط — بجانبيه السلبي والإيجابي — قائم اليوم، فعجزنا عن رؤيته إنما يرجع إلى خداع النظر عند رؤية المنظور؛ إذ إنه ما دامت المدركات المعيارية في الثقافة الماضية هي التي تهيئ الوسائل الفكرية التي يستخدمها الباحثون في صياغة المشكلات وتناولها بالعلاج، فحتى لو كان الناس في عصر معين قد أحسوا بمشكلات معينة (سواء أكان ذلك العصر ماضيًا أم حاضرًا) فما كانوا ليجدوا الفروض النظرية المطلوبة للإيحاء بطرائق حل تلك المشكلات وللهداية إبَّان السير في طريق حلها؛ «فثمة إطار من المدركات التي يستحيل علينا التخلص منها كما يستحيل علينا محوها، لأنها مدركات ليست من صنع عقولنا نحن، بل الجماعة هي التي تقدمها إلينا معدة جاهزة، فهو جهاز كامل من المدركات العقلية والمقولات، لا يسع التفكير الفردي — مهما يكن تفكيرًا جريئًا وأصيلًا — إلا أن يتحرك داخل نطاقه، ومسيرًا به».١
-
(أ)
وتأثير الظروف الثقافية على البحث الاجتماعي واضح؛ فكل متعقب لما يدور في مجال هذا البحث، في وسعه أن يرى تأثير تحيزات الجنس والقومية والطبقة والمذهب، لما تلعبه هذه الأمور من دور خطير؛ وما علينا سوى أن نذكر قصة علم الفلك، وقصة الأحداث الأقرب عهدًا والتي حدثت لنظرية التطور، لنعلم أن المصالح الخاصة لبعض النظم القائمة — في الماضي — قد كان لها أثر في تطور العلم الفيزيائي والبيولوجي؛ فإذا كانت لا تؤثر في العصر الحاضر بما يمتد إلى ما يشبه النطاق التي امتدت إليه فيما مضى، فما ذلك — إلى حد كبير — إلا لأن الفيزياء قد طورت اليوم مواد وتقنيات لها طابع التخصص؛ فكانت نتيجة ذلك أن «الفيزيائي» قد أخذ يبدو لكثير من الناس مستقلًّا بذاته عن الجوانب الاجتماعية (وهو حق) ثم لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الفيزيائي قد أخذ يبدو لهم كذلك أنه منفصل بحكم طبيعته الأصيلة عن كل سياق اجتماعي؛ وترتب على هذا العزل — إلى حد ما — ما يبدو في الظاهر من امتناع الصراع بين الجانبين؛ لكن الذي حدث حقيقة، هو أن تأثير الظروف الثقافية قد أصبح تأثيرًا غير مباشر؛ فالنمط العام لأهم المشكلات الفيزيائية، هو الذي يحدد مجموعة المدركات التي ما تزال سائدة؛ وأما الاتجاهات الاجتماعية وما يحيط بها من مشكلات، فتستثير اهتمامًا خاصًّا ببعض مجموعات من المشكلات الفيزيائية دون بعض؛ فمحال أن نفصل — مثلًا — بين انصراف القرن التاسع عشر إلى المدركات الآلية وحدها، وبين حاجات الصناعة في ذلك العصر؛ على أن الأفكار «التطورية» — من جهة أخرى — قد نشطت في تناولها للموضوعات الثقافية الاجتماعية قبل أن تطبق تلك الأفكار على البيولوجيا ففكرة الفصل التام بين العلم والبيئة الاجتماعية مغالطة تشجع استهتار العلماء بما يترتب على عملهم من عواقب اجتماعية.
-
(ب)
ولا حاجة بنا إلى إقامة الحجة على أن العلم الفيزيائي ونتائجه تؤثر — في حقيقة الأمر الواقع — تأثيرًا جسيمًا في الظروف الاجتماعية؛ فالتطورات التقنيَّة إن هي إلا النتيجة المباشرة لتطبيق العلم الفيزيائي؛ ولهذه التطبيقات التقنية نتائج عميقة وواسعة المدى في العلاقات الإنسانية؛ فتغير طرائق الإنتاج والتوزيع ووسائل الاتصال، هو العامل الرئيسي الذي يعمل على تحديد العلائق الاجتماعية، كما يعمل — إلى حد كبير — على تحديد القيم الثقافية الحقيقية لدى كل شعب صناعي راقٍ؛ على حين أن هذه الأمور قد كان لها رد فعل عنيف في حياة الشعوب «المتأخرة» جميعًا؛ وفضلًا عن ذلك فإن وجهة النظر المتعسفة وحدها، وإن لم تكن متعسفة فهي وجهة نظر اتفاقية صرف، (وهي في ذاتها تراث ثقافي هبط إلينا من أعصر ماضية) أقول إن مثل هذه الوجهة من النظر هي وحدها التي تعزل مثل هذه النتائج المذكورة عن مجال العلم نفسه؛ فالنظرة التقليدية المشار إليها تفصل فصلًا حاسمًا بين العلم «البحت» والعلم «التطبيقي»٢ مع أن الأساس النهائي الذي تنبني عليه كل قضية صادقة وكل حكم مقبول، يتألف من إعادة تنظيم الموجودات الخارجية تنظيمًا من شأنه أن يحدث فعلًا — آخر الأمر — في عالم الواقع؛ فإذا ما ووجه المنطقي أو الفيلسوف بهذه التغيرات التي طرأت على العالم الخارجي، نتيجة لاستكشاف الفيزياء، لم يكن في وسعه أن يقول كما قال «كانوت» للمد: «إلى هنا وقف».
-
(أ)
-
(٢)
كانت إحدى النقط التي ناقشناها في فصل سابق تدور حول المتصل الخبري واتصال البحث؛ وقد عبرنا بها عن المبدأ الخاص بجانب «المدى البعيد» في تحصيل المعرفة، وهو الجانب المتصل بطبيعة البحث العلمي من حيث إنه ينمي نفسه بنفسه ويصحح نفسه بنفسه؛ فكما أن صدق القضية في مجرى التفكير النظري الاستنباطي، أعني في مادة التصورات العقلية عمومًا، لا يمكن القطع به قبل أن نصل إلى النتائج التي تستحدثها تلك القضية عند قيامها بمهمتها الأدائية؛ فكذلك الحكم الذي ننتهي إليه، لا يمكن قبوله قبولًا مُرْضيًّا — من حيث هو حكم حقيق بأن يكون جزءًا من المعرفة (بمعناها المحدود) — بغض النظر عن علاقته بالنتائج التي تأخذ دائرتها في الاتساع؛ فالباحث في مجال معين خاص يلجأ إلى خبرات جماعة الزملاء الذين يعملون فيما يعمل فيه هو، ابتغاء أن يظفر منهم بتأييد نتائجه أو بتصحيحها؛ فما لم يوصل إلى اتفاق على النتائج بين الذين يراجعون موضوعاتها، فإن النتائج التي يعلنها باحث فرد يكون لها صفة الفرض النظري، خصوصًا إذا لم تكن دعاواها تتفق مع الاتجاه العام الذي تتخذه النتائج التي تكون عندئذٍ موضع القبول؛٣ فلئن كان الاتفاق بين أوجه النشاط ونتائجها التي تنجم عنها لدى الجمهور الأوسع دائرة (أي الجمهور اللاعلمي بلغة الاصطلاح) أقول لئن كان الاتفاق في هذه الحالة ينزل منزلة مختلفة عن منزلة الاتفاق الذي يتم بين العلماء، إلا أن مثل هذا الاتفاق جزء لا يتجزأ من الاختبار الكامل لنتائج العلم الفيزيائي، حيثما كانت آثار تلك النتائج على جمهور الناس أمرًا ذا شأن بموضوع البحث؛٤ وإن النقطة المتضمنة هنا لتبرز بروزًا واضحًا حين تستثير العواقب الاجتماعية للنتائج العلمية توترًا في المنازعات الاجتماعية، إذ إن هذه المنازعات هي بمثابة الشاهد الذي يرجح نقص النتائج العلمية كما هي عليه، أو قل إنه شاهد يرجح كونها نتائج مقصورة على جانب واحد، وأنها لم تكتمل بناءً.
-
(٣)
إن النتيجة التي انتهينا إليها، وهي أن اتفاق أوجه النشاط مع ما يترتب عليها من نتائج، هو اختبار للتقدم العلمي، وهو قوة دافعة لذلك التقدم، أقول إن هذه النتيجة متسقة مع وجهة النظر القائلة بأن الغاية والمحك النهائيين لكل بحث هما تحويل موقف مشكل (وإشكاله يتضمن خلطًا وتعارضًا) ليصير موقفًا موحدًا؛ وأما أن تحقيق هذه الغاية هو أصعب جدًّا في العلوم الاجتماعية منه في مجال العلوم الفيزيائية بمعناها الضيق، فهذه حقيقة واقعة؛ لكنها ليست حقيقة من شأنها أن تخلق اختلافًا نظريًّا أو اختلافًا منطقيًّا أصيلًا بين هذين النوعين من البحث؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إن قيام الصعاب العملية ينبغي أن يكون — كما هي الحال داخل نطاق البحث الفيزيائي نفسه — بمثابة حافز فكري وتحدٍّ لنا بأن نتابع التطبيق في مجال جديد.
-
(٤)
إن مطالبتنا البحث الاجتماعي بأن يستوفي الشرطين المتلازمين، وهما شرط أن نستوثق بالمشاهدة من صدق الوقائع، وأن نستوثق كذلك من أن مدركاتنا العقلية ذات توجيه إجرائي مناسب، هذه المطالبة قد تبدو أوضح من أن تتطلب بسطها في قول صريح؛ لأن هذين الشرطين هما بالبداهة شرطان لكل عمل علمي ينصرف به صاحبه إلى مادة الوجود الواقعي؛ غير أن العجز عن تحقيق الشرط الذي يقتضي أن نجعل مادة الواقع ومادة الفكر في تقابل متبادل إحداهما مع الأخرى، هو طابع ملحوظ في العلوم الاجتماعية كما هي اليوم قائمة (كما سنبين ببعض التفصيل فيما بعد) حتى لنرى لزامًا علينا أن نعرض هذه النقطة عرضًا صريحًا؛ فمن الناحية الإيجابية، تدل ضرورة قيام هذه الصلة المتبادلة (بين الوقائع من جهة وأفكارنا النظرية من جهة أخرى) على أهم السبل التي يمكن بها للعلم الفيزيائي أن يتخذ نموذجًا يحتذيه البحث الاجتماعي؛ لأنه لو كان هنالك درس أولى من أي درس سواه بأن نتعلمه من مناهج العلوم الفيزيائية، فذلك هو ما فيها من التضايف الدقيق بين الواقع من جهة والأفكار من جهة أخرى؛ فإلى أن يوفق البحث الاجتماعي في تثبيت مناهجه في مشاهدة المعطيات الأولية والتمييز بينها وترتيبها، أعني تلك المعطيات التي تستثير في الذهن ما يقابلها من أفكار نظرية، ثم تختبر هذه الأفكار، وإلى أن تكون الأفكار — من جهة أخرى — التي نكونها ونستعملها (١) مستخدمة باعتبارها فروضًا وتكون (٢) ذات صورة من شأنها أن توجه وترسم خطة العمليات الإجرائية التي نحدد بها الوقائع على وجه تحليلي تركيبي، فلا أمل للبحث الاجتماعي في أن يستوفي الشروط المنطقية التي يقتضيها بلوغه منزلة العلم.
-
(٥)
وسنذكر نقطة واحدة أخرى قبل أن نأخذ في مناقشة البحث الاجتماعي في مجاله الخاص؛ فكون الظواهر الاجتماعية مجالها فسيح وتكوينها معقد — بالقياس إلى الظواهر الطبيعية — هو أكثر من أن يكون مجرد مصدر تنشأ عنه الصعاب العملية في معالجتها بطريقة علمية؛ بل إن لهذه الحقيقة مغزًى نظريًّا معلومًا، وذلك أن ظروف الوجود الواقعي التي منها تتألف البيئة الطبيعية، تدخل عند كل خطوة في بناء الظواهر الاجتماعية الثقافية؛ فمحال على أي فرد من الناس، وعلى أية جماعة منهم، أن تفعل شيئًا إلا إذا كان ذلك عن طريق التفاعل مع الظروف الطبيعية؛ وليس هنالك من العواقب ما يحدث قط، ولا من الحوادث الاجتماعية، ما نرجعه إلى العامل الإنساني وحده دون سواه؛ فقل ما شئت عن رغبات الإنسان ومهاراته وأغراضه واعتقاداته فالذي يحدث هو نتيجة تدخل الظروف الطبيعية تدخلًا تتفاعل به (مع تلك الأمور الإنسانية) كالتربة، والبحر، والجبل، والمناخ، والعدد والآلات — بما لها من تنوع فسيح المدى — فهذه كلها تتفاعل مع العامل الإنساني؛٥ والنتيجة النظرية لهذه الحقيقة هي أن الظواهر الاجتماعية يستحيل فهمها إلا لأنها مسبوقة بفهم للظروف الطبيعية ولقوانين تفاعلها؛ فلسنا نستطيع تناول الظواهر الاجتماعية — من حيث هي اجتماعية — تناولًا مباشرًا؛ بل إن البحث فيها من ناحية المعطيات التي لها بها شأن، وكذلك من ناحية العلاقات القائمة بين تلك المعطيات، أي من ناحية ترتيبها ترتيبًا ملائمًا، مشروط بما يكون قد سبق ذلك البحث من معرفة واسعة المدى بالظواهر الطبيعية وقوانينها؛ وإن هذه الحقيقة لتفسر لنا — إلى حد ما — حالة التأخر وعدم النضج التي نرى موضوعات الدراسة الاجتماعية عليها؛ ولم يحدث إلا منذ عهد قريب أن توافر لنا العلم الكافي بالعلاقات الطبيعية (بما في ذلك العلاقات البيولوجية) الذي يهيئ لنا الأدوات العقلية الضرورية لتناول الظواهر الاجتماعية تناولًا عقليًّا منتجًا؛ فبغير العلم بالطبيعة لا تكون لدينا الوسيلة التي نحلل بها الظواهر الاجتماعية تحليلًا يرد مركباتها وكياناتها الجسيمة الشاملة إلى عناصرها البسيطة؛ وننتقل الآن إلى مناقشة الصلة التي تربط مبادئ البحث المنطقية بموضوع الدراسة الاجتماعية بما له من خصائص مميزة.
(٢) البحث الاجتماعي وأحكام الحياة العملية
لقد بينا خلال المناقشات السابقة أن ثمة أحكامًا تُصاغ لقصد واضح وهو أن تدخل لتكون جزءًا لا يتجزأ من العملية التي يُعاد بها تأليف مادة الوجود الخارجي نفسها، التي تنصب عليها أو تعنى بها تلك الأحكام في نهاية الأمر؛ كما بينا كذلك أن الأحكام التي يكون فيها هذا الجانب واضحًا — وأعني بها أحكام الحياة العملية والأحكام التاريخية — إن هي إلا حالات خاصة من عملية التحويل التي يُراد بها إعادة تأليف المادة، والتي تنصب على موضوع مشكل سابق، يجعله الباحث غايته القريبة المنشودة، والنهاية الموضوعية المقصودة من البحث كله؛ ولهذه الملاحظات علاقة خاصة بالبحث الاجتماعي كما هو في حالته الراهنة؛ وذلك لأن ثمة فكرة سائدة بأن البحث الاجتماعي لا يكون بحثًا علميًّا بالمعنى الصحيح إلا بمقدار ما يكفُّ نفسه عمدًا وبطريقة مدبرة عن كل صلة تربطه بشئون الحياة الاجتماعية العملية؛ فالدرس الخاص الذي يستطيع منطق مناهج البحث الفيزيائي أن يعلمه للبحث الاجتماعي هو — بناءً على ما ذكرنا — أن البحث الاجتماعي — من حيث هو بحث — يتضمن ضرورة قيامنا بعمليات إجرائية من شأنها أن تعدل فعلًا في الظروف القائمة التي هي — على الصورة التي هي قائمة بها — مناسبات مواتية لإجراء البحث بمعناه الصحيح، والتي تهيئ لهذا البحث موضوع دراسته؛ فهذا الدرس — كما قد رأينا — هو المغزى المنطقي للمنهج التجريبي.
لقد وصل البحث الفيزيائي اليوم — إلى حد كبير، كما وصلت الرياضة، إلى حد أكبر مما قد وصل إليه البحث الفيزيائي — إلى مرحلة تقام فيها المشكلات أساسًا على مادة قد هيأتها فيما سبق نتائج البحوث التي فرغ الباحثون منها، حتى لتجيء البحوث الجديدة فتجد أمامها ذخيرة من المعطيات والمدركات والمناهج العلمية قد ظفر بها الباحثون فعلًا؛ لكن ما هكذا الحال في مادة البحث الاجتماعي؛ إذ إن هذه المادة إنما تكون على الأغلب في حالة كيفية أولية؛ وإذن فمسألة إقامة المناهج التي يمكن بها لمادة المواقف الوجودية أن تتحول إلى مواد معدة تيسر البحث وتوجهه، هي المسألة الأولى والعاجلة فيما يختص بالبحث الاجتماعي؛ وهذا من سنوجه مناقشتنا الآتية بصفة خاصة إلى هذا الجانب من منطق البحث الاجتماعي.
-
(١)
معظم البحث الاجتماعي السائد اليوم مطبوع — كما سيظهر لنا من التمحيص التحليلي فيما بعد — بطابع يميزه، وهو غلبة إحدى صورتين من صور الإجراء المنهجي، وهما صورتان تباين إحداهما الأخرى مباينة توضح انفصال الجانب العملي عن الجانب النظري؛ ففي الجانب العملي، أو عند من يشتغلون مباشرة بإدارة الشئون العملية، يسود الزعم بأن المشكلات القائمة قد تحددت قسماتها الرئيسية بالفعل؛ وإذا ما قام هذا الزعم، لزم عنه أن تكون مهمة البحث مقصورة على التيقن من خير منهج يُصطنع لعلاجها؛ ونتيجة هذا الزعم هي إغفال — إلى حد كبير — لعمل التفرقة التحليلية التي لا بد منها لتحويل موقف مشكل إلى مجموعة من ظروف تؤلف مشكلة بعينها؛ ويتبع هذا حتمًا أن تقترح مناهج لحل المواقف المشكلة دون أن يكون هنالك أية فكرة واضحة عن المادة التي يُراد للخطط والمشروعات أن تطبق عليها وأن تحدث فيها آثارها؛ ثم تتولد عن هذا نتيجة أخرى وهي أن الصعاب في معظم الحالات تزداد حِدَّة، لما ينشأ أمام العقل وفعله من حوائل جديدة؛ وحتى إذا تخففنا من بعض تلك الظواهر، تولدت لنا عن ذلك مشكلات جديدة؛ ولك أن تستعرض المشكلات السياسية ومناهجها التي تعالج بها — سواء كان ذلك في مجالات السياسة الداخلية أو السياسة الدولية — لتكشف عن أي عدد شئت من الأمثلة الجيدة التي توضح لك ما نقول.
والموازنة — عند هذه النقطة — بمناهج البحث الفيزيائي تسترعي النظر؛ ففي البحث الفيزيائي ينصرف جانب كبير من التقنيات المستخدمة، إلى تحديد طبيعة المشكلة، بمناهج تشمل نطاقًا واسعًا من المعطيات، وتقضي برأي في قيمة هذه المعطيات من حيث هي شواهد يركن إليها، وتستوثق من دقة تلك المعطيات بطرائق القياس الكمي، وترتبها بالترتيب الذي قد أظهر البحث فيما مضى أنه — على الأرجح — هو الترتيب الذي يشير إلى طرائق ملائمة في منهج البحث؛ على ذلك فالمشاهدة التحليلية الموجهة، بما يدخل فيها من عمليات المقارنة والمباينة المنظمة، أمر مفروغ منه في الموضوعات التي حققت بنفسها مكانة علمية؛ فمن المسلَّم به أنه من العبث أن نحاول حل مشكلة لم تتحدد ظروفها.
وإن التماثل بين ما يقوم به العاملون في المجال الاجتماعي، وما قد كان يقوم به العاملون في مجال الطب قبل نشأة التقنيات والمدونات المستخدمة في المشاهدة التجريبية العملية، لتماثل فيه من شدة التشابه ما يرشد إلى الصواب؛ ففي كلتا الحالتين يقوم زعم بأن مشاهدة الحالات في جملتها كافية للتأكد من طبيعة المشكلة؛ فلو استثنينا حالات غامضة غموضًا يشذ عن المألوف، كانت ظواهر المرض التي يكون لها من كبر الحجم ومن غلظ التكوين ما يجعلها ممكنة المشاهدة للنظرة الأولى، كانت هذه الظواهر تكفي عند القائمين بالعلاج الطبي لتزويدهم بالمعطيات التي يقيمون عليها تشخيصهم للأمراض؛ وأما اليوم فمن المعترف به أن اختيار ما يتبع من إجراءات علاجية بغية استرداد المريض لصحته إنما تظل جزافية إلى أن تتحدد العوامل التي تكوِّن العلة أو المرض، تحديدًا كاملًا ودقيقًا بقدر المستطاع؛ وإذن فالمشكلة الأولى هي أن نخلق التقنيات التي نستخدمها في المشاهدة والتدوين، بحيث تزودنا بالمعطيات التي نراها صالحة للاستشهاد واختبار صحة ما ننتهي إليه؛ فالدرس الذي نتعلمه فيما يتعلق بمنهج البحث الاجتماعي، هو الضرورة الأولية التي تحتم علينا تطوير تقنيات المشاهدة والمقارنة التحليليتين، تطويرًا يمكننا من حل المواقف الاجتماعية المشكلة إلى مشكلات صبت في صياغة محددة.
وينبغي لنا أن نعنى عناية خاصة بأحد العوائق الكثيرة التي تقف في سبيل تحقيق الشروط المنطقية التي يتطلبها المنهج العلمي، وذلك أن العلل الاجتماعية الخطيرة كثيرًا ما تفسَّر تفسيرًا خلقيًّا؛ ولا حاجة بنا إلى الإنكار بأن المواقف نفسها هي في أعماقها خلقية من حيث أسبابها ونتائجها، وذلك بالمعنى الحقيقي لكلمة «خلقي»؛ غير أن تحويل المواقف التي هي موضع البحث، إلى مشكلات محددة يمكن تناولها تناولًا عقليًّا، إنما يتطلب صياغة موضوعية عقلية للظروف (التي تتألف منها تلك المواقف)؛ ومثل هذه الصياغة يتطلب بدوره تجريدًا تامًّا للمواقف من نعوت الخطيئة والتقوى، ومن الدوافع التي توصف بالفضيلة أو بالرذيلة؛ وهي نعوت سرعان ما ينعت بها الأفراد والجماعات والطبقات والأمم؛ فقد مرَّ زمن كانت تنسب فيه الظواهر الطبيعية المحببة والكريهة؛ إلى ما للقوى العليا المسيطرة من خير ومن شر؛ وكذلك مر زمن كانت تُعزَى فيه الأمراض إلى ما يدبره الأعداء الشخصيون من حيل السحر؛ وإننا لنجد ما يبرر الفكرة التي عرضها ودافع عنها «سبينوزا» من أن حدوث الشرور الخلقية لا بد أن يعالج على نفس الأساس وفي نفس المستوى الذي يعالج به حدوث الصواعق، أقول إننا نجد لهذه الفكرة ما يسوغها من وجهة نظر المنهج العلمي وما يقتضيه، على أن نغض النظر عن السياق الذي أورد فيه «سبينوزا» فكرته هذه من نسقه الفلسفي الخاص؛ وذلك لأن مثل هذا المنهج هو الخطة الوحيدة التي يمكن بها أن تُصاغ الشرور الخلقية صياغة موضوعية، أي أن تُصاغ على أساس العناصر التي نختارها ونرتبها (من بين عناصر الموقف القائم)؛ فمثل هذه الصياغة هو الطريقة التي لا طريقة سواها لتناول موضوعنا تناولًا يمكن به أن نسوق إجراءات الخطة العلاجية في صورة موضوعية؛ فلربما كان تناول الباحثين للمشكلات الإنسانية من ناحية اللوم الخلقي والاستحسان الخلقي، ومن ناحية الخبث والطهر، هو أكبر عقبة مفردة بين العقبات التي تقف اليوم في طريق تطوير المناهج السديدة في مجال الدراسة الاجتماعية.
-
(٢)
وحين ننتقل من النظر إلى مناهج البحث السائد استخدامها في الشئون السياسية وفي كثير من الشئون الإدارية، إلى المناهج المستخدمة فيما يسمونه بالعلم الاجتماعي، نجد الأمر على نقيض الصورة التي وصفناها؛ فها هنا نصادف زعمًا لو أنه سيق في عبارة صريحة أو لو أنه صِيغ في صياغة تبرزه، لاتخذ صورة كهذه: «إن الوقائع قائمة بالفعل في الوجود الخارجي، ولا تحتاج إلا إلى مشاهدة وتجميع وترتيب، لكي تنشئ أحكامًا عامة ملائمة وقائمة على أساس سليم»؛ نعم إن الباحثين في الظواهر الطبيعية كثيرًا ما يتحدثون ويكتبون على نحو شبيه بهذا؛ لكن تحليل ما يفعلونه، متميزًا عما يقولونه، ينتهي بنا إلى نتيجة جد مختلفة؛ غير أني — قبل أن أتناول هذه النقطة — سأناقش زعمًا آخر وثيق الصلة بهذا، وأعني به الزعم الذي يدعي أننا قبل أن نبني النتائج على الوقائع، وعلى الوقائع وحدها، ينبغي أن نستبعد كافة الإجراءات التقديرية استبعادًا لا يدع منها شيئًا.
وهذا الزعم من ناحية أولئك المشتغلين — باسم العلم — بالبحث الاجتماعي، إنما هو مستمد — في أذهان أولئك الذين يأخذون به — من مبدأ سليم؛ إذ هو نتيجة ترتبت — إلى حد كبير على الأقل — على تبين الضرر الذي أحاق بالأمر حين كنا نصوغ الأحكام الاجتماعية على أساس تحيزاتنا الخلقية؛ أعني على أساس تصوراتنا لما هو صواب وما هو خطأ، أي تصوراتنا لما هو من الرذيلة وما هو من الفضيلة؛ فكما قد قلنا منذ قليل، إن هذا المنهج لا بد بالضرورة أن يميل بنا مقدمًا نحو ما نختاره من المعطيات الدالة التي نراها ذات شأن بموضوعنا ونحو الطريقة التي نسوق بها المشكلات المراد حلها، ونحو الطرائق التي قد تؤدي إلى حلها؛ غير أن سلامة المبدأ القائل بوجوب استبعاد الاستهجان والاستحسان الخلقيين من العمليات التي نجريها لتكوين مدركات عقلية نعالج بها المعطيات، كثيرًا ما يتحول إلى ظن بأن كل تقدير قيمي لا بد من حذفه؛ لكن هذا التحول لا يقع إلا حين تتدخل في الأمر فكرة موغلة في الخطأ، وأعني بها الفكرة القائلة بأن الاستهجانات والاستحسانات الخلقية المشار إليها، هي من قبيل التقدير القيمي، وأنها تستوعب كل عناصر ذلك التقدير؛ مع أنها ليست قيمية بأي معنًى منطقي من معاني التقويم؛ بل إنها ليست أحكامًا بالمعنى المنطقي للحكم؛ إذ إنها ترتكز على فكرة ما سابقة لدينا عن الغايات التي لا بد أو ينبغي أن يوصل إليها؛ وهذه الفكرة السابقة من شأنها أن تستبعد الغايات (أو النتائج) من مجال البحث، وترد البحث في أحسن حالاته إلى شيء مبتور شائه، هو التماس الوسائل التي تحقق لنا أهدافًا سبق لنا أن قررناها؛ على حين أن الحكم الذي يكون حكمًا بالمعنى الحقيقي (وهو الذي يستوفي الشروط المنطقية للحكم) ينشئ الوسائل ونتائجها (أي غاياتها) متصلة إحداهما بالأخرى بعلاقة متبادلة بالمعنى الدقيق لهذه العبارة؛ فلا مندوحة لنا عن تقدير الغايات (أي تقويمها) على أساس الوسائل التي هي في متناول أيدينا والتي يمكن بها أن تتحقق تلك الغايات؛ تمامًا كما أنه لا مندوحة لنا عن تقدير مواد الوجود الواقعي (أي تقويمها) من ناحية مهمتها التي تؤديها باعتبارها وسائل مادية تؤدي إلى فض موقف مشكل؛ وذلك لأن الغاية التي نضعها نصب أعيننا هي في ذاتها وسيلة، أعني أنها وسيلة إجرائية.
إن الفكرة القائلة إن «الغاية تبرر الوسيلة» لها من سوء السمعة في النظرية الخلقية قدر ما هي مأخوذ بها في الشئون السياسية العملية أخذًا مألوفًا؛ ونستطيع أن نسوق هذا المذهب صياغة منطقية دقيقة، حتى إذا ما تمت لنا صياغته على هذا النحو، تبين في جلاء عيبه المتأصل فيه؛ فهو من وجهة النظر المنطقية يرتكز على فرض أولي بأن غاية ما قد حددت بالفعل تحديدًا يخرجها من مجال البحث، حتى لتصبح المشكلة الوحيدة أمام البحث هي التثبت من المواد ثم استخدام هذه المواد التي يمكن بها أن تتحقق تلك الغاية؛ وبهذا يفوتنا أن ندرك المهمة الافتراضية وهي المهمة الموجهة التي تؤديها الغايات المنشودة، من حيث هي وسائل إجرائية، وبالتالي فنحن بهذا نعتدي على شرط منطقي أساسي للبحث؛ فليس يمكن للغاية المنشودة إطلاقًا — من الناحية المنطقية — أن تحدد لنا مواد الواقع التي نتخذها وسائل، إلا إذا نظرنا إلى تلك الغاية على أنها فرض (يتمكن بوساطته أن نميز بين مواد الواقع وأن نرتبها، تمييزًا وترتيبًا إجرائيين)؛ ففي كل الميادين — ما عدا الميدان الاجتماعي — قد بلغ من استنكار الفكرة التي تجعل الحل الصحيح قائمًا مقدمًا، بحيث لا يبقى إلا أن نلتمس الوقائع التي تبرهن على صحته، أقول إنه قد بلغ من استنكار هذه الفكرة استنكارًا تامًّا، أن عُدَّ السالكون على أساسها أدعياء علم أو علماء مزيفين يحاولون أن يفرضوا فكرة مدللة عندهم على الوقائع؛ أما في الأمور الاجتماعية فأولئك الذين يدعون أن لديهم الحل الوحيد الأكيد للمشكلات الاجتماعية، كثيرًا ما يجعلون من أنفسهم علماء يتسمون بالطابع العلمي الذي يميزهم، وأما سواهم فيتخبطون في فوضى «التجربة»؛ ولا يمكن أن نغير العادات السائدة في تناول المشكلات الاجتماعية، إلا إذا تبينا — في الجانبين النظري والعملي على السواء — أن الغاية المراد بلوغها (أي الغايات التي نضعها نصب أنظارنا) هي من طبيعة الفروض، وأن الفروض يجب أن تكوَّن وتختبر مع مراعاة دقيقة لارتباطها بظروف الوجود الواقعي، باعتبار هذه الظروف هي الوسائل المؤدية إلى تلك الغايات.
وهذا الذي قلناه يشير إلى المعنى الصحيح للتقدير القيمي في البحث بصفة عامة، ويبين أيضًا ضرورة الأحكام القيمية في البحث الاجتماعي؛ فحاجتنا إلى تمييز قائم على اختيار بعض العناصر دون بعضها الآخر، من بين مواد الوجود الخارجي أو الوجود الواقعي. لكي نتخذ من تلك العناصر المختارة معطياتنا هي دليل على أن عامل التقدير القيمي قائم فعال؛ وأما الرأي القائل بأن التقدير القيمي معنيٌّ فقط بالغايات، وأنه بحذف الغايات الخلقية من حسابنا — نحذف أيضًا أحكام التقدير القيمي، أقول إن هذا الرأي يرتكز — إذن — على خطأ عميق في فهم طبيعة الشروط المنطقية وطبيعة مكونات البحث العلمي كله؛ فكل بحث قويم وسديد يتطلب منا أن نختار من خضم المواد الكثيرة القائمة في عالم الواقع، والتي هي كذلك قابلة لأن تقع في مجال المشاهدة والتدوين، مواد بعينها، نزنها من حيث هي معطيات، أي من حيث هي «وقائع الحال»؛ وما هذه العملية إلا عملية تقدير وتقويم؛ وأما من الناحية الأخرى، فليس هنالك — كما قد قلنا منذ قليل — تقدير قيمي على الإطلاق إذا ما أخذنا الغايات على أنها أمور قد تحددت مقدمًا؛ فلا غناء لنا منطقيًّا عن فكرة وجود غاية يُراد بلوغها، أي وجود غاية تكون نصب أنظارنا، لا غناء لنا منطقيًّا عن هذه الفكرة في تمييز مادة الوجود الواقعي، من حيث هي وقائع الحال التي نتخذ منها شواهدنا ومحك اختبارنا لما ننتهي إليه؛ فبغير هذه الفكرة لا يكون لمشاهدتنا من هادٍ، وبغيرها يستحيل على الباحث أن يكون على علم بما ينبغي له أن يبحث عنه، بل إنه لا يكون على علم بما هو باحث عنه؛ إذ إن أية «واقعة» تكون عندئذٍ مساوية في قيمتها لأية واقعة أخرى، أي إنها تكون غير صالحة لشيء قط في توجيه البحث، وفي تكوين المشكلة وفضها.
-
(٣)
وهذا الذي قلناه الآن توًّا له مساس مباشر بزعم آخر ينطوي عليه جزء كبير مما يزعمون له أنه بحث اجتماعي علمي؛ وأعني به الفكرة القائلة إن الوقائع قائمة في العالم الخارجي ولا تحتاج إلا إلى من يشاهدها مشاهدة دقيقة ويجمعها بكمية تكفي لتبرير الأقوال العامة (التي نعمم بها الحكم على تلك الوقائع)؛ مع أن التعميم حين يكون في صورة فرض هو شرط لا بد من توافره مقدمًا لكي نختار على أساسه ثم نرتب المادة باعتبارها وقائع (لها شأن بموضوع البحث)؛ وإذن فالتعميم سابق على مشاهدة الوقائع وتجميعها كما أنه نتيجة لاحقة لمشاهدتها وتجميعها على السواء؛ أو بعبارة أصح، يستحيل على تعميم أن يتولد لنا من حيث هو نتيجة مقبولة، ما لم يكن هناك تعميم على صورة فرض قد سبق له أن وجه العمليات التي فرزنا بها الوقائع لنختار منها ما نختاره، والتي رتبنا بها المادة (ترتيبًا تركيبيًّا) لنكوِّن منها الوقائع التي تصير عناصر مشكلة معينة كما تصير عناصر لحلها؛ ونعود إلى النقطة التي لوحنا بها في موضع سابق: إن ما تفعله البحوث العلمية، متميزًا مما تقوله تلك البحوث هو أنها تُجرى عمليات معينة على سبيل التجارب — وهي عمليات أداء وعمل — من شأنها أن تعدل الظروف الوجودية التي كانت من قبل قائمة حيالنا، بحيث ينتج عن هذا التعديل من الوقائع ما له قيمة ووزن في حل مشكلة بعينها؛ فعمليات التجارب هي حالات لمحاولات عمياء نصيب فيها أحيانًا ونخطئ أحيانًا، ولا تؤدي وهي في أحسن حالاتها إلا إلى أن توحي لنا بفرض نخضعه فيما بعد للاختبار، وذلك فيما عدا الحالات التي تكون فيها تلك العمليات التجريبية نفسها موجهة بفرض لدينا عن حل معين.
وهكذا نرى زعم الزاعمين بأن البحث الاجتماعي يصبح علميًّا إذا استخدمت فيه التقنيات الملائمة في المشاهدة والتدوين (والتفضيل هنا للتدوين الإحصائي) (على أن يكون معيار الملاءمة هو أن تكون تلك التقنيات مستعارة من التقنيات المستعملة في العلم الطبيعي)، أقول إن هذا الزعم إنما يفوته أن يراعي الشروط المنطقية التي تخلع — في العلم الطبيعي — على تقنيات المشاهدة والقياس الكمي منزلتها وقوتها؛ وسنوفي الحديث عن هذه النقطة حين نتناول الفكرة السائدة اليوم، والتي مؤداها أن البحث الاجتماعي لا يصير علميًّا إلا إذا تنكرنا تنكرًا تامًّا لكل إشارة إلى الأمور العملية، وجعلنا هذا المبدأ شرطًا لا بد من توافره قبل البدء في البحث الاجتماعي؛ وسنبدأ مناقشة هذه المغالطة (وهي مغالطة من وجهة النظر المنطقية البحتة) من النظر إلى طبيعة مشكلات البحث الاجتماعي.
(٣) تكوين المشكلات
المشكلة بمعناها الصحيح هي تلك التي تقيمها مواقفُ مشكلة في العالم الخارجي الواقع؛ فالمشكلات بمعناها الصحيح في البحث الاجتماعي، لا تنشأ إلا عن مواقف اجتماعية فعلية تكون هي نفسها متضاربة العناصر مختلطتها؛ فحالات التضارب والخلط الاجتماعية تقوم في الواقع قبل أن تقوم مشكلات للبحث؛ فمشكلات البحث هذه هي تصويرات عقلية خلال عملية البحث نصور بها تلك المتاعب والصعاب «العملية» التي سبقت؛ وما ننتهي إليه من قرارات عقلية لا يمكن اختباره وقبوله إلا بأدائنا لفعل ما ينصب على المواقف الوجودية المشكلة التي كانت هي المصدر الذي نشأت عنه قراراتنا العقلية تلك، على أن يكون من جراء الفعل الذي نصبه على الموقف الخارجي المشكل أن يحوله نحو أن يكون موقفًا مرتب العناصر؛ فالعلاقة بين البحث الاجتماعي — من ناحية معطياته الاجتماعية وتعميماته الفكرية — وبين الجانب العملي، هي علاقة نابعة من طبيعة الحالة نفسها وليست هي بالعلاقة الملفقة تلفيقًا؛ فكل مشكلة من مشكلات البحث لا تنشأ عن ظروف اجتماعية حقيقية (أي «عملية») هي مشكلة مصطنعة، إذ تكون مشكلة أثارها الباحث اعتسافًا بدل أن تكون مشكلة أنشأتها ووجهتها عوامل خارجية؛ فلربما التزم الباحث تقنيات المشاهدة كافة المستخدمة في العلوم المتقدمة، بما في ذلك استعمال أفضل الطرق الإحصائية لحساب الأخطاء المحتملة … إلخ، ومع ذلك تظل المادة الحقيقة «ميتة» من الوجهة العلمية، أعني أنها تظل غير ذات صلة بمشكلة حقيقية، حتى لتكاد العناية بها ألا تزيد على كونها صورة من صور التسلية العقلية؛ فالذي نجعله موضوعًا لمشاهداتنا، مهما بلغت دقتنا في مشاهدته، وفي تدوينه، لا يكون قابلًا لأن يصبح أمرًا مفهومًا إلا على أساس ما نعتزم القيام به من ألوان النشاط، نتيجة لما شاهدناه ودوناه؛ وصفوة القول إن المشكلات التي يعنى بها البحث في الموضوعات الاجتماعية — لو أُريدَ لها أن تستوفي شروط المنهج العلمي — فلا بد لها أن:
(١) تنشأ عما يقع فعلًا من توترات اجتماعية وحاجات اجتماعية و«متاعب» اجتماعية. (٢) تتحدد مادتها بالظروف التي هي الوسائل المادية المؤدية إلى موقف موحد. (٣) تتعلق بفرض يكون بمثابة خطة وسياسة لحل فعلي نحل به الموقف الاجتماعي ذا العناصر المتضاربة.
(٤) تحديد الوقائع في البحث الاجتماعي
قد حتمت الضرورة أن يسبق ذكر هذا الموضوع خلال المناقشة السالفة التي بينت أن الوقائع لا تكون وقائع بالمعنى المنطقي لهذه الكلمة إلا بمقدار ما تؤدي إلى تحديد إطار مشكلة معينة تحديدًا يمكن من الوصول إلى حلول مقترحة ثم من اختبارها؛ غير أننا مع ذلك سنتناول نقطتين متضمنتين في هذا القول فنعرضهما عرضًا صريحًا.
-
(١)
إنه لما كان تحويل موقف مشكل (أعني موقفًا مضطربًا تتضارب مقوماته بعضها مع بعض) إنما يتحقق بتفاعل عوامل وجودية انتقيناها نحن انتقاءً مقصودًا، كان لا بد للوقائع أن تتحدد على أساس مهمتها ذات الجانبين: مهمتها من حيث هي عوائق، ومهمتها من حيث هي عوامل مساعدة؛ أي إنها تتحدد على أساس عمليات النفي (أو الحذف) والإثبات؛ وما الإثبات إلا تحديد للمواد من ناحية كونها متفقة أو مؤيدة بعضها لبعض اتفاقًا أو تأييدًا إيجابيًّا؛ فيستحيل على موقف قائم في الوجود الخارجي أن يتحور بغير عوامل مضادة معوقة تنحرف بالموقف عن صورته القائمة، وتجعل الموقف المعين مضطرب العناصر متعارضها؛ وها هنا لا يكون لنا غناء عن عمليات الحذف؛ وكذلك يستحيل علينا إقامة موقف موحد في العالم الخارجي، إلا إذا أطلقنا ورتبنا العوامل الإيجابية القائمة في الظروف الراهنة. بحيث تسير نحو النتيجة الموضوعية المنشودة؛ وإلا لكانت الغايات المقصودة أحلامًا و«مثلًا عليا» بالمعنى العاطفي لهذه الكلمة الأخيرة.
إن التفكير الاجتماعي الواقعي هو على وجه الدقة طريقة المشاهدة التي تميز الظروف المعاكسة والظروف المساعدة في موقف قائم؛ وإنما نفهم «المعاكسة» و«المساعدة» بالقياس إلى الغاية المقترحة؛ فليس معنى «الواقعية» إدراكًا للموقف القائم في جملته؛ بل معناها تمييز في اختيار ما نختاره من الظروف من حيث هي معاكسة أو مساعدة، أعني من حيث هي سالبة أو موجبة؛ فحين يُقال: «إنه ينبغي لنا أن نأخذ الظروف كما هي» فإن هذا القول إما أن يكون بداهة منطقية «تخلو من المضمون»، أو أن يكون مغالطة، وفي هذه الحالة تفعل فعلها فينا إذ تكون لنا ذريعة للامتناع عن العمل؛ فالقول بداهة منطقية إذا فهم على أن يكون معناه هو أن الظروف القائمة هي المادة — التي لا مادة سواها — التي نتناولها بالمشاهدة التحليلية؛ أما إذا فهمناه على أنه قول يعني أن «الظروف كما هي» نهائية بالنسبة إلى الحكم الذي نقرر به ما يمكن فعله أو ما ينبغي فعله، نتج عن فهمنا هذا إنكار تام لأي توجيه سديد يمكن أن توجهنا به المشاهدة والفعل؛ وذلك لأن ظروف الموقف حين يكون موقفًا مثيرًا للشك وغير مرغوب فيه، يستحيل أن تكون كلها سواءً — وإلا لما كان فيه تضارب أو اضطراب — فضلًا عن أنها يستحيل أن تكون من الثبات بحيث يتعذر إحداث تغيير فيها؛ فحقيقة ما يحدث في الواقع، هي أن تلك الظروف نفسها ما تنفك متغيرة في اتجاه ما، حتى لتصبح مشكلتنا هي أن نخلق طرائق للتفاعل بينها، من شأنها أن تميل بتلك التغيرات في الاتجاه المؤدي إلى النتيجة الموضوعية المقترحة.
-
(٢)
إن كون الظروف لا تثبت ثباتًا كاملًا أبدًا، معناه أنها في حالة من السير، أي إنها — على كل حال — تتحرك نحو أن تخلق وضعًا من الأوضاع سيكون مختلفًا عن الوضع الراهن على وجه ما؛ فالغرض من عمليات المشاهدة التي نفرق بها بين العوامل المعاكسة والمساعدات الإيجابية، هو على وجه الدقة أن تدلنا على أوجه النشاط التي نتدخل بها في مجرى الأمور تدخلًا يخلع على حركتها صورة مختلفة (وبالتالي نغير من نتيجتها) عن صورتها التي كانت لتتخذها لو أنها تركت وشأنها، أعني أن نجعلها تسير نحو موقف وجودي موحد مقترح.
لقد ذكرنا لتونا أن الظواهر الاجتماعية تاريخية؛ أي إنها في طبيعتها تتابعات زمنية فريدة؛ وإنه لمن تحصيل الحاصل أن نقيم الحجة على صحة هذا الزعم، لو أننا فهمنا «التاريخ» على أنه يشمل الحاضر؛ فما من أحد يطوف بباله قط أن يجادل في أن الظواهر الاجتماعية التي تؤلف نشأة البابوية، والثورة الصناعية، وقيام القومية الثقافية والسياسية، هي من الأمور التاريخية؛ وليس في مستطاع أحد أن ينكر بأن ما هو حادث الآن في بلاد العالم، سواء أكان ذلك في نظمها الداخلية أم في علاقاتها الخارجية، سيكون مادة التاريخ في المستقبل؛ فمن السخف أن نزعم بأن التاريخ يشمل الحوادث التي وقعت حتى أمس، لكنه لا يشتمل على الحوادث التي تقع اليوم؛ فكما أنه لا وجود لفجوات زمنية في تتابع تحددت حلقاته تاريخيًّا، فكذلك لا وجود لفجوات زمنية في الظواهر الاجتماعية التي يحددها البحث؛ إذ إن الظواهر الاجتماعية هي التي تكون مجرى الحوادث المتغير؛ ولهذا فعلى الرغم من أن مشاهدة المواد وتجميعها، معزولة عن حركتها في تتابع الحوادث، قد يتمخض لنا عن «وقائع» من نوع ما، إلا أن هذه الوقائع لن تكون كذلك بأي معنًى اجتماعي لهذه الكلمة، لأنها لن تكون عندئذٍ وقائع تاريخية.
وهذه النقطة تؤيد النتيجة التي كنا قد انتهينا إليها، وهي: أن البحث في الظواهر الاجتماعية يتضمن أحكامًا تقويمية؛ لأنها أحكام لا يمكن فهمها إلا على أساس كونها نهايات لسير الحوادث ويمكن لتلك الحوادث أن تنحو نحو تحقيقها؛ ولهذا كان لتلك الأحكام من التأويلات — من الناحية المجردة — بقدر ما هنالك من صنوف النتائج الممكنة بالنسبة إلى اتجاه الحوادث؛ ولا يستتبع هذا القول أن ننقل الغائية إلى الظواهر الاجتماعية، بعد أن ذهب زمانها بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية؛ أي إنه لا يستتبع أن تكون ثمة غاية معينة تسيطر على الحوادث الاجتماعية، أو أن هذه الحوادث الاجتماعية تنحو في سيرها نحو هدف محتوم عليها قبل وقوعها؛ بل معنى هذا القول هو أن أي موقف مشكل، إذا ما حللناه، يعرض أمامنا — فيما يمس فكرة العمليات الإجرائية الواجب أداؤها — عدة غايات ممكنة، بالمعنى الذي تكون به الغايات هي النتائج التي ينتهي عندها البحث؛ بل إن ما يشاهده الباحث في العلوم الطبيعية نفسها، وما يأخذ به من أفكار، إنما يسيره الغرض الموضوعي المقصود، وذلك هو بلوغ موقف حُلَّ إشكاله؛ فليس الفرق بين البحث الطبيعي والبحث الاجتماعي كائنًا في وجود أو غياب هدف يضعه الباحث نصب عينه، ويصوغه على أساس النتائج الممكنة؛ بل الفرق بينهما هو في المادة التي تكون في كل من الحالتين قوام الغرض المقصود؛ وهو فرق ذو تأثير عملي جسيم في خطة السير بالبحث لأنه فرق في نوع العمليات الإجرائية التي ينبغي أداؤها لإقامة المواد التي بتفاعلها بعضها مع بعض ينحل الموقف؛ في حالة البحث الاجتماعي نرى أوجه النشاط الاجتماعي داخلة دخولًا مباشرًا في العمليات الإجرائية التي تؤدى، وهي تدخل في فكرتنا عن أي حل يُقترح لحل الإشكال القائم؛ وإنها لجسيمة تلك الصعاب العملية التي تعترض سبيلنا إلى تحقيق صنوف من الاتفاق بين الناس في اجتماعهم الفعلي الذي لا مندوحة لهم عنه لأداء نوع النشاط المطلوب؛ فالباحث في الأمور الطبيعية يستطيع أن يصل إلى نتيجته في معمله أو في مرصده؛ غير أن انتفاعه بنتائج الآخرين أمر لا محيص له عنه، وكذلك لا بد للآخرين من القدرة على الوصول إلى نتائج شبيهة بنتائجه، باستخدامهم لمواد ومناهج شبيهة بما استخدمه الباحث المفرد، وهكذا يكون نشاطه مشروطًا بعوامل اجتماعية في بدايته وفي نهايته؛ لكن هذه العوامل الاجتماعية الشارطة في البحث الطبيعي غير مباشرة نسبيًّا، على حين أنها متضمنة تضمنًا مباشرًا في حل المشكلات الاجتماعية؛ فيتحتم على أي فرض نظري متصل بغاية اجتماعية أن يشمل بين مقوماته نفسها فكرة اجتماع منظم ينعقد بين أولئك الذين يُنتظر لهم أن يقوموا على تنفيذ العمليات الإجرائية التي يصوغها ذلك الفرض ويوجهها.
فلا مندوحة لنا عن أحكام تقويمية، وهي أحكام نصف بها الوسائل المستخدمة، المادي منها والإجرائي على السواء، بأنها أحسن أو أردأ؛ وأما مساوئ أحكامنا الاجتماعية كما في قائمة اليوم حين نصبها على ما نستهدفه من غايات وما نتبعه من خطط، فمنشؤها — كما سبق أن ذكرنا — أننا نقحم على البحث الاجتماعي أحكامًا قيمية من خارج نطاق البحث نفسه؛ أي إن تلك المساوئ تنشأ عن كون القيم المستخدمة لا تتقرر في عملية البحث نفسها وبما تقضي به تلك العملية وذلك لأنهم يزعمون أن ثمة غايات معينة لها قيمة بحكم طبيعتها نفسها، وأن قيمتها تلك مما لا يجوز فيه الجدل، حتى ليصح أن تتخذ معيارًا للوسائل المستخدمة من حيث طريقة سيرها وصوابها؛ وذلك بدل أن يجعلوا الغايات هي التي تتقرر على أساس الظروف القائمة، من حيث هي عوامل معاكسة أو مساعدة؛ فلكي يستوفي البحث الاجتماعي شروط المنهج العلمي، لا بد أن يقرر أولًا أن نتائج موضوعية معينة هي الغاية التي تستحق أن نبلغها في الظروف القائمة فعلًا؛ لكني أعود فأكرر أن هذا القول لا يعني ما يظن عادة أنه يعينه، وهو: أن الغايات والقيم يمكن افتراضها خارج نطاق البحث العلمي، بحيث يجيء البحث العلمي فيحصر نفسه في تحديد الوسائل التي يرى أنها هي أفضل الوسائل للوصول إلى نهاية تتحقق بها تلك القيم؛ فالأمر على خلاف ذلك؛ إذ إن معنى العبارة المذكورة هو أن الغايات — من حيث هي أساس للقيم — لا يمكن تحديدها تحديدًا سليمًا إلا على أساس ما هو قائم فعلًا من توترات وعقبات وإمكانات إيجابية؛ والمشاهدة الموجهة هي التي تدلنا على قيام هذه الأمور في الموقف الفعلي.
(٥) المادة الفكرية في البحث الاجتماعي
قد اضطررنا أن نمس هذا الموضوع في مناقشتنا للنقطة الأولى الخاصة بطبيعة المشكلات؛ وكذلك تناولناه في القسم السابق الخاص «بالكشف عن الوقائع» كشفًا يسير في طريقه بمعزل عن تصورات الإنسان بالنسبة إلى الغاية المراد بلوغها؛ إذ أشرنا عندئذٍ إلى أن هذه التصورات — بينما تدعو بها الحاجة إلى أن تختبر وأن تراجع على محك الوقائع المشاهدة — إلا أنها بدورها أمر لا غناء عنه لنوجه بها اختيارنا للوقائع ثم ترتيبها وتفسيرها؛ ولهذا فسنقصر النظر في تناولنا لموضوع هذا القسم — في معظمه — على إبراز الغلطة المنطقية التي تقع فيها المناهج التي تنظر إلى المادة الفكرية كما لو كانت تتألف من حقائق أو مبادئ أو معايير أولى لا سبيل إلى تغييرها، تحكم بنفسها على صدق نفسها، وكما هي الحال في معظم الحالات التي تتعارض فيها وجهات النظر التي تنظر إلى الأمور من جانب واحد، ترى عيوب المدرسة التي تتخذ الواقع مدارها، وهي التي يسمونها بالمدرسة «الوضعية»، وعيوب المدرسة التي تجعل الأفكار العقلية مدارها، ترى هذه العيوب تهيئ الحجج التي تقدمها كل من المدرستين تيسيرًا وتأييدًا لآراء المدرسة الأخرى؛ فلا يستطيع قائل أن يقول إن المدرسة الفكرية أو «العقلية» لا تأبه إطلاقًا بحقائق الواقع؛ لكن الذي في وسعنا أن نقرره هو أنها تضع كل اهتمامها على الأفكار العقلية، حتى لتجيء الوقائع فتندرج مباشرة تحت «المبادئ»؛ إذ تنظر هذه المدرسة إلى المبادئ على أنها معايير ثابتة تقرر إن كانت الظواهر القائمة مشروعة أو غير مشروعة، كما تقرر مقدمًا أي الغايات التي ينبغي أن نوجه مجهودنا نحو تحقيقها.
ولا سبيل إلى الشك في أن التاريخ الماضي للتفكير الاجتماعي قد سيطرت عليه — على نحو ما — الطريقة العقلية في تناول الموضوع؛ فقد قام أول ما قام (وسنكتفي هنا بذكر بعض الجوانب البارزة فحسب) — في النظرية الكلاسية عن الأخلاق والسياسة — فكرة الغايات التي هي غايات في ذاتها، والتي هي ثابتة في «الطبيعة» وبحكم تلك «الطبيعة» (ومن ثَم فهي غايات كائنة بالفعل في الحقيقة الكونية وبمقتضى النواميس الكونية)؛ ثم قام — ثانيًا — مذهب «القوانين الطبيعية» الذي كان ينطوي على فرض هو أن أنواعًا متباينة من الصور قد تعاقبت مع تعاقب العصور؛ ثم قامت — ثالثًا — نظرية تقول بأن الإنسان يدرك بحدسه حقائق ضرورية قبلية؛ وأخيرًا قام — كما هي الحال في الفكر المعاصر — مذهب يأخذ بوجود سلم متدرج من القيم الثابتة يستمد صفته المتدرجة من طبيعته الداخلية نفسها؛ ولسنا نعتزم أن نجعل مهمتنا في هذا الكتاب تتناول فيما تتناوله تمحيص هذه الألوان التاريخية المختلفة التي ظهرت بها الفكرة التي توحد بين الغايات من حيث إنها تحتل مكانًا في الحقيقة الموضوعية، وبين قيام مادة عقلية أولية (يدركها الإنسان بغير الاستعانة بتجاربه)؛ وسنسوق مثلًا موضحًا، وهو مثل ينصب على المنطق المتضمن في هذا كله، وإن لم يكن مثلًا ينصب على المادة التي يطبق عليها ذلك المنطق.
كان الاقتصاد السياسي الكلاسي يدعى — من حيث صورته المنطقية — أنه علم، وذلك، أولًا، على أساس حقائق أولى معينة ينتمي إليها التحليل، وثانيًا، على أساس إمكان الوصول عن طريق «الاستنباط» الصارم من تلك الحقائق إلى الظواهر الاقتصادية كما تقع فعلًا؛ فلزم عن هاتين «المقدمتين»، ثالثًا، أن تكون تلك الحقائق الأولى قد أمدتنا بمعايير النشاط العملي في مجال الظواهر الاقتصادية؛ أي إن الإجراءات الفعلية التي نجريها تكون صوابًا أو خطأً، والظواهر الاقتصادية الفعلية تكون سوية أو شاذة بمقدار تطابقها مع النتائج الاستنباطية التي ننتزعها من مجموعة الأفكار العقلية التي منها تتألف المقدمات؛ ولقد اختلف أعضاء هذه المدرسة — بالطبع — من «آدم سمث» إلى آل «مل» وأتباعهم المعاصرين لهم، اختلفوا عن المدرسة «العقلية» التقليدية، وذلك لأنهم ذهبوا إلى أن المبادئ الأولى نفسها مستمدة بطريقة استقرائية، وليست هي بالمبادئ التي تقوم على أساس الحدس القبلي؛ لكننا لا نكاد نصل إلى تلك المبادئ، حتى نعدها — في رأيهم — حقائق لا تحتمل الجدل، أو نعدها بديهيات بالقياس إلى غيرها من الحقائق الأخرى كائنة ما كانت؛ إذ إن هذه الحقائق الأخرى ستكون مشتقة منها بالطريقة الاستنباطية؛ وقد حسبوا أن قوام المضمون الحقيقي لتلك المقدمات الثابتة؛ هو حقائق معينة عن الطبيعة البشرية، كالرغبة العامة التي يحسها كل فرد من الناس في تحسين حالته والرغبة عند كل فرد بأن يحقق لنفسه هذا التحسين بأقل جهد (إذ إن الجهد له تكاليفه من الألم الذي لا بد من تقليله إلى الحد الأدنى)، وكالحافز الذي يحفز الناس إلى أن يتبادلوا السلع والخدمات تبادلًا يحقق لهم الحد الأقصى من إشباع الحاجات بالحد الأدنى من التكاليف، وما إلى ذلك.
وليس يعنينا مضمون هذه المقدمات أصحيح أم غير صحيح؛ بل إن المشكلة التي نحن الآن بصددها هي مشكلة خاصة بفحوى منطق المنهج المتبع في هذه الحالة؛ فصفوة النتيجة التي تترتب على طريقة علم الاقتصاد الكلاسي، هي أنه قد جاء مؤيدًا للفكرة التي كانت سائدة من قبل عن «القوانين الطبيعية». وإنما استند هذا التأييد على تفسير تلك القوانين الطبيعية تفسيرًا جديدًا؛ وذلك لأن (علم الاقتصاد) كان قد انتهى إلى نتيجة هي أن «قوانين» النشاط البشري في المجال الاقتصادي، وهي القوانين التي يمكن من الوجهة النظرية استنباطها، هي معايير النشاط البشري السليم أو الصحيح في ذلك المجال؛ وكان مفروضًا في القوانين أنها «تحكم» الظواهر، بالمعنى الذي يجعل الظواهر كافة التي لا تساير تلك القوانين، ظواهر شاذة أو «غير طبيعية»، أي إنها ظواهر بمثابة المحاولات الخبيثة التي تسعى إلى تعطيل القوانين الطبيعية عن عملها، أو تسعى إلى الإفلات من النتائج المحتومة لتلك القوانين؛ ولهذا كانت كل محاولة لتنظيم الظواهر الاقتصادية بفرض الرقابة على الأحوال الاجتماعية التي في ظلها يحدث إنتاج السلع وتوزيعها، تعد كسرًا للقوانين الطبيعية، أو «تدخلًا» في المجرى السوي للأمور، حتى ليتحتم على النتائج الناجمة عن ذلك أن تكون مفجعة، شأنها في ذلك شأن نتائج المحاولة التي نحاول بها أن نعطل أو أن نتدخل في عمل أي قانون طبيعي، كقانون الجاذبية مثلًا.
وتقتصر مناقشتنا لهذه الوجهة من النظر عن المنطق الذي تنطوي عليه، لا على أنها وجهة قد أدت عمليًّا إلى نظام «الفردية» القائمة على أساس التجارة الحرة، كما أدت إلى إنكار الصواب في أية محاولة يُراد بها الرقابة الاجتماعية على الظواهر الاجتماعية؛ فمن ناحية المنهج المنطقي لم تكن تعد المدركات العقلية المتضمنة فروضًا يُراد استخدامها في توجيه المشاهدة وفي ترتيب الظواهر، إذن فهي مدركات يختبر صدقها بالنتائج الناجمة عن تصرفنا على أساسها؛ بل كانت تلك المدركات تعد حقائق عقلية تقرر صدقها بالفعل، ولهذا فهي ليست موضعًا للشك؛ أضف إلى ذلك أنه من الواضح أن تلك المدركات لم تكن تُصاغ على أساس ما هو قائم فعلًا من حاجات وتوترات في زمن معين ومكان معين، أو تُصاغ لتكون طرائق تلتمس في حل ما هو قائم فعلًا من العلل في تلك اللحظة المعينة من الزمن وفي تلك النقطة المعينة من المكان، بل كانت تُصاغ على أنها مبادئ كلية مجردة قابلة للتطبيق في كل مكان وفي أي مكان؛ نعم في مستطاعنا أن نجد الجوانب المؤيدة لوجهة النظر التي تقول إن تلك المدركات العقلية لو كانت قد صِيغت وفُسرت على أساس قابليتها للتطبيق في ظروف قامت بالفعل في ظل عوامل معينة ذات مكان وزمان معلومين، كأن تكون قد قامت — مثلًا — في النصف الأول من القرن التاسع عشر في بريطانيا العظمى، فقد كانت — إلى حد كبير — بمثابة الفروض التي توجه إجراءاتنا العملية فيما يمس تلك الظروف التاريخية؛ إلا أن المنهج الذي كان متبعًا كان يحرم أي تأويل لتلك المدركات على أساس مكان وزمان معينين.
- (١)
صفة المدركات النظرية من حيث هي فروض.
- (٢)
أن لهذه الفروض مهمة توجيهية في رسم طريق المشاهدة، وفي التحويل العملي الذي نحول به آخر الأمر ما قد كان قائمًا أول الأمر من ظواهر.
- (٣)
أن تلك الفروض إنما تختبر وتراجع مراجعة متصلة على أساس النتائج التي تتمخض عنها تلك الفروض عند تطبيقها على الوجود الفعلي.
ونستطيع أن نسوق مثلًا توضيحيًّا آخر لمقتضيات الطريقة المنطقية، نجده في النظريات الأخرى السائدة اليوم عن الظواهر الاجتماعية، كالمشكلة التي يزعمونها عن تعارض «الفردية» مع «الجماعة» أو «الاشتراكية»، أو كالنظرية التي تقول إن الظواهر الاجتماعية كافة لا بد أن ينظر إليها على ضوء التنازع الطبقي بين البورجوازية وطبقة الأجراء، فمن ناحية المنهج، أمثال هذه التعميمات النظرية — ولا عبرة هنا بماذا تكون المدركات العقلية التي نأخذ بها دون ما يقابلها — هي التي تقضي مقدمًا بالسمات المميزة وبالأنواع التي نجدها في الظواهر الحقيقية التي يُراد لنا أن نعالجها بما قد رسمناه لأنفسنا من خطط؛ ولهذا فنحن منذ البداية نغضي عن العمل الذي تقوم به المشاهدات التحليلية التي من شأنها أن ترد الظواهر الحقيقية إلى مشكلات متعينة الحدود يمكن معالجتها بعمليات خاصة محددة، إذ إن هذا الإغضاء محتوم بطبيعة موقفنا الذي نقضي به مقدمًا كيف نتجه بمشاهداتنا حسب أفكارنا السابقة؛ وذلك لأن «التعميمات» (التي من القبيل المذكور) هي من النوع الذي يجعل «الحقائق العقلية» جامعة أو مانعة؛ فهي كسائر ما يماثلها من الحقائق الكلية التي تعمم بغض النظر عما قد يكون هنالك من استثناءات، لا تقيم الحدود التي تحدد ميدان البحث تحديدًا يبلور المشكلات التي يمكن تناولها واحدة فواحدة؛ بل تراها من النوع الذي يحتم — من الناحية النظرية — أن تكون نظرية واحدة هي المقبولة، وأن يرفض كل ما عداها رفضًا شاملًا.
ومن أبسط الوسائل التي تمكننا من إدراك الفرق المنطقي بين البحث الاجتماعي المرتكز على مبادئ عقلية ثابتة، وبين البحث الفيزيائي، أن نلاحظ بأن ما هو قائم من الخلافات النظرية — في البحث الفيزيائي — إنما ينصب على الكفاية العملية لتصوراتنا المختلفة عن المنهج، بينما الخلافات النظرية القائمة في البحث الاجتماعي تدور حول ما يزعمه كل فريق من حق أو من بطلان للمدركات العقلية بحكم طبيعتها نفسها؛ ومثل هذه الوقفة من شأنها أن تولد نزاعًا في الرأي، وصدامًا في الفعل، بدل أن تعين البحوث بأن تحيلها إلى وقائع ممكنة المشاهدة والتحقيق، وإذا نظرت إلى أولى المراحل التي اجتازتها مجموعة الحقائق والأفكار التي بين أيدينا اليوم، والتي منها تتألف علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والطب وجدت الخلاف حول هذه العلوم في فترة من الزمن غابرة، إنما كان خلافًا يدور أساسًا حول ما يصفون به مدركات عقلية معينة بالحق أو بالبطلان بحكم طبيعة تلك المدركات نفسها؛ أما وقد تقدمت هذه العلوم في خاصتها العلمية الحقيقية، فقد انصب الشك والبحث على الكفاية العملية التي تكون لمناهج البحث المختلفة؛ فنتج عن ذلك أن زالت الحالة التي كانت البدائل الجامدة تعرض فيها ليتحتم علينا أن نقبل أحدها ونرفض بقيتها، وحلت محلها حالة نرحب فيها بتعدد الفروض ترحيبًا مقصودًا؛ وذلك لأن تعدد البدائل الممكنة هو الوسيلة الفعالة التي نجعل بها البحث أوسع نطاقًا (أي نجعله أوفى) وأكثر مرونة وأكثر قابلية للاعتراف بشتى الوقائع التي تنكشف لنا.
وصفوة القول أنه لا مندوحة لنا عن الإجراءات التي نجريها لنكشف بها عن حقائق الواقع، وذلك:
-
(١)
لتحديد المشكلات.
-
(٢)
لتزويدنا بالمعطيات التي نهتدي بها إلى الفروض والتي نختبر بها تلك الفروض، هذا إلى أنه لا مندوحة لنا كذلك عن البناءات والأطر الفكرية لنهتدي بها في توجيه المشاهدة توجيهًا نميز به المعطيات ونرتبها؛ وهكذا نستطيع أن نقيس الحالة المتأخرة التي نرى البحث الاجتماعي فيها، بمقدار ما نجده من قيام هاتين العمليتين؛ عملية الكشف عن حقائق الواقع وعملية إقامة غايات نظرية، أقول إننا نقيس تأخر البحث الاجتماعي بمقدار ما بين هاتين العمليتين من انفصال في السير إحداهما عن الأخرى انفصالًا ينتهي بنا إلى اعتبار كل من قضايا الواقع من جهة، والبناءات الفكرية أو النظرية من جهة أخرى، شيئًا نهائيًّا وكاملًا في ذاته، على اختلاف المدارس في أيهما يكون هو النهائي والكامل؛ ونريد أن نضيف بعض الملاحظات فيما يختص بالإطار الفكري.
-
(أ)
إننا لنميل إلى الظن بأن مدركاتنا العقلية التي توجهنا (في عملية المشاهدة) أمر مفروغ منه، وذلك بمجرد أن تصبح تلك المدركات جارية الاستعمال عند الجميع؛ ونتيجة هذا الظن هي إما أن تظل تلك المدركات مضمرة، أي أنها تظل غير معبر عنها، وإما أن نعبر عنها في قضايا، لكننا نصوغ تلك القضايا على صورة سكونية بدل أن نصوغها على صورة أدائية؛ وتقصيرنا دون تمحيص البناءات والأطر الفكرية التي تنطوي عليها — على غير وعي منا — الأبحاث الواقعية كلها، حتى ما يبدو منها أنه أكثر سذاجة، أقول إن تقصيرنا ذاك هو أكبر عيب — إذا أخذت العيوب واحدًا فواحدًا — نصادفه في أي مجال من مجالات البحث؛ وحتى في الموضوعات الفيزيائية نفسها، لا يلبث إطار فكري معين أن يصبح أمرًا مألوفًا، حتى تراه قد اتجه نحو أن يكون آخر الأمر عقبة تعوق السير بالنسبة إلى الاتجاهات الجديدة في البحث؛ والخطر يكون أشد حدة وأفجع كارثة في البيولوجيا وفي الدراسات الاجتماعية كالقانون والسياسية والاقتصاد والأخلاق؛ فقصورنا دون تشجيع الخصوبة والمرونة في تكوين الفروض — باعتبارها أطرًا فكرية يرجع إليها — هو أقرب الأشياء إلى أن يكون إنذارًا بالموت لعلم من العلوم.
-
(ب)
وبالنسبة إلى مادة الدراسة الاجتماعية بصفة خاصة، يكون تقصيرنا في ترجمة المدركات العقلية ذات الأثر إلى قضايا نصوغها فيها، ضارًا بشكل ملحوظ؛ لأن صياغة المدركات صياغة صريحة هي وحدها التي تحفزنا إلى تمحيص معانيها تمحيصًا على أساس العواقب التي تؤدي إليها تلك المدركات؛ وهذه الصياغة الصريحة هي وحدها كذلك التي تفيدنا في موازنة الفروض المختلة موازنة نقدية؛ وبغير صياغة الأفكار الرئيسية صياغة نسقية يظل البحث عند مرحلة الرأي، ويظل الفعل موضعًا للتنازع؛ لأننا إذا لم نضع أفكارنا في قضايا صريحة ومكشوفة، نسوق بها ما استطعنا أن نسوقه من مختلف الفروض النظرية، فإنه لا يبقى أمامنا في النهاية — من الناحية المنطقية — إلا أن نقيم أفكارنا الرئيسية إما على أساس العادة والتقليد، أو على أساس المصلحة الخاصة؛ وتكون نتيجة ذلك انشعاب المجال الاجتماعي إلى شعبتين: محافظين وتقدميين؛ «رجعيين» و«ثائرين» … إلخ.
-
(جـ)
ومن بين العقبات العملية الرئيسية التي تعوق البحث الاجتماعي، هذا الذي نراه قائمًا من تقسيم للظواهر الاجتماعية إلى مجالات منفصل بعضها عن بعض، ومستقل بعضها عن بعض كما يزعمون؛ بحيث لا يتفاعل بعضها مع بعض؛ كما في الحال بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية المختلفة، كالاقتصاد والسياسة والتشريع والأخلاق وعلم الأجناس البشرية وغيرها؛ وليس من مهمة نظرية منطقية عامة أن تذكر الطرق والوسائل الخاصة التي يمكن بها أن نزيل الحواجز القائمة بين تلك العلوم؛ فتلك مهمة البحوث التي تجرى في مجالاتها المختلفة؛ إلا أن استعراضًا — من وجهة النظر المنطقية — للكيفية التي تطورت بها الدراسات الاجتماعية على مر العصور التاريخية، يفيدنا إذ يكشف لنا عن الأسباب التي عملت على تفتيت الظواهر الاجتماعية إلى عدد من الحظائر المغلقة نسبيًّا بعضها دون بعض، وما أدى إليه هذا التقسيم من آثار ضارة؛ فيحق لنا أن نقول بأن الحاجة ماسة لإزالة هذه الحواجز الفكرية، لكي يتسنى لنا أن تزيد من إخصاب الأفكار بعضها لبعض، وأن نوسع من نطاق الفروض وتنوعها ومرونتها.
-
(د)
ولا حاجة بنا إلى الإسهاب في عرض الصعاب العملية التي تعوق سير المنهج التجريبي بالنسبة إلى الظواهر الاجتماعية، إذا قيست إلى البحوث الفيزيائية ومع ذلك فكل إجراء تخطيطي طبق تطبيقًا عمليًّا، ذو طبيعة تسلكه في زمرة التجارب منطقيًّا، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه من الوجهة العملية أيضًا، لأن مثل هذا الإجراء التخطيطي:
- (١)
هو بمثابة اختيارنا لإحدى الأفكار النظرية دون سائرها، وهي كلها خطط ممكنة للعمل على مقتضاها.
- (٢)
ويعقب تنفيذه عواقب — إذا لم تكن في قابليتها للتمايز المحدد المعالم، أو التمايز الذي يعزل المختلفات بعضها عن بعض، مساوية لنظائرها في التجارب الفيزيائية — فهي عواقب تراعى مع ذلك في حدود معلومة، لكي تتخذ محكات تقاس بها سلامة الفكرة العقلية التي تصرفنا على أساسها؛ فالفكرة القائلة بأنه ما دامت الظواهر الاجتماعية لا تسمح لنا بإحداث التغيير الموجه في مجموعات الظروف بسلسلة من الإجراءات العملية التي نجريها واحدة في إثر واحدة إذن فلا مجال على الإطلاق لتطبيق المنهج التجريبي على تلك الظواهر، أقول إن هذه الفكرة إنما تحول دون أن ننتفع بالمنهج التجريبي إلى الحد الذي يمكننا أن نبلغه في الانتفاع به؛ فافرض مثلًا أن المسألة المطروحة خاصة برسم خطة تشريعية معينة؛ فاعترافنا بأنها ذات طبيعة تجريبية، يقتضينا — من ناحية مضموناتها — أن نجعل تلك المضمونات محددة بقدر المستطاع، وذلك على أساس ما نبسطه من مختلف الاحتمالات التي ننتهي إليها بعد تفكير طويل، أعني أن نبسط تلك الاحتمالات المختلفة في قائمة من قضايا نقول بها إما كذا أو كذا أو … حتى نستوعب الاحتمالات كافة؛ أريد أن أقول إن قصورنا عن الاعتراف بهذا الجانب التجريبي من المسألة، يشجعنا على تناول أية خطة من الخطط وكأنما هي إجراء مستقل بذاته منفصل عما عداه؛ وهذا العزل النسبي من شأنه أن يؤدي إلى تكوين خططنا على صورة مرتجلة نسبيًّا، نتأثر فيها بالعوامل والضغوط المباشرة، أكثر مما نتأثر باستعراض وافٍ للظروف والنتائج في جملتها؛ ومن ناحية أخرى، فإغفالنا للجانب التجريبي من الخطاط التي نقوم بتنفيذها، يشجع التهاون وعدم التمسك بالمشاهدة التي نفحص بها النتائج التي نجمت عن تنفيذها فحصًا يميز بين دقائقها؛ وعندئذٍ ترانا نقول عنها إجمالًا إنها خطط ناجحة أو غير ناجحة، ثم ننتقل إلى خطة جديدة نرتجلها؛ فالتقصير في مشاهدة الظروف المحيطة مشاهدة دقيقة متصلة تختار هذا وتترك ذاك، يزيد من مدى الغموض في تكوين الخطط، ثم يعود هذا الغموض بدوره فيحول دون الدقة في المشاهدات المطلوبة لاختبار تلك الخطة ومراجعتها.
- (١)
ولنا — أخيرًا — أن نذكر أن الحالة الراهنة للبحث الاجتماعي تقدم لنا اختبارًا نختبر به كفاية النظرية المنطقية العامة، وتزودنا في هذا الصدد بما يؤيد صدق النظرية العامة التي قد بسطناها؛ غير أننا إذا أردنا أن نستعرض — بالتفصيل — قيمتها من حيث هي محك لصدق النظريات المنطقية التي أخذنا بها فيما يتصل بالوقائع من جهة وبالمدركات العقلية من جهة أخرى، وعلاقة إحداهما بالأخرى، كان معنى ذلك أن نعيد كل ما قلناه فيما سبق، لكننا نستطيع أن نضيف هنا كلمة عن قيمتها من حيث هي اختبار نختبر به النظريات المنطقية الصورية؛ فالمنطق الذي يعنى بالصور وهي بمعزل عن المادة، يحصر نفسه في — البحث الاجتماعي — في المهمة التي تؤديها الصور في الكشف عن مواضع المغالطات الصورية التي تقع خلال التفكير النظري الاستنباطي، وفي التحذير — بصفة خاصة — من خلط الكلمات ذات الأثر العملي العاطفي المباشر (وهي ما يسمونه «بالجمل التعبيرية») والكلمات ذات المعنى الموضوعي نعم إن تطهير التفكير الاستدلالي على هذا النحو من المغالطات الصورية خدمة قيمة؛ غير أن هذا الكشف عن المغالطات يوشك ألا يكون بحاجة إلى إطار صوري تفصيلي؛ إذ إن المغالطات الهامة في المغالطات التي تقع في المضمون المادي، وهذه الأخيرة تنشأ من نقص في الطرائق السديدة للمشاهدة من جهة، ومن نقص في الطرائق التي نصطنعها في تكوين الفروض واختبارها من جهة أخرى؛ لكن المنطق الصوري — بالضرورة — لا يقول شيئًا عن هذه الأمور المتعلقة بالجانب المادي؛ وأصحابه يدافعون عن سكوته هذا أحيانًا، على أساس أن القضايا الخاصة بالأمور الاجتماعية، وبما ينبغي عمله بالنسبة إلى تلك القضايا تقتضي تقويمات (وهو صحيح) ثم يقولون إن القضايا التي تُقال عن القيم هي أشباه قضايا، تقتصر على أن تعبر عن قرارات يتخذها الإنسان للتصرف بطرائق معينة؛ ولسنا ننكر أن عنصر القرار العملي قائم؛ بل إن هذا العنصر قائم أيضًا في كل فكرة نتصورها عن كيفية الإجراء العملي الذي نؤديه في العلم الفيزيائي؛ لكن النقطة الهامة هي أن المنطق الصوري لا يزودنا بالأساس الذي يمكن لنا به أن نختار خطة عملية دون أخرى، ولا بالأساس الذي نستطيع به أن نتعقب نتائج خطة معينة إذا ما أجريناها عمليًّا، لتكون تلك النتائج اختبارًا لصدقها؛ والنتيجة النهائية لهذا كله هي أن نقذف بنفس المجال الذي يكون الضابط العقلي فيه أقصى ما يكون أهمية، نقذف بهذا المجال بأسره خارج حظيرة المنهج العلمي، وهنالك من ينظر إلى هذه النتيجة على أنها تناقض نشأ عن أخذنا بالنظرية التي نحن الآن بصددها؛ وعلى كل حال فالأرجح جدًّا أن يخلق موقف الصوريين رد فعل من شأنه أن يساعد على تقوية النظرية القائلة بوجود نظم للقيم ثابتة أولية، تعرف عن طريق الحارس العقلي المباشر؛ وذلك لأن أي إنكار لإمكان تطبيق المنهج العلمي، من شأنه حتمًا أن يحثنا على اللجوء — في أمر له هذه الأهمية كلها — إلى استخدام الطرائق اللاعلمية بل إلى استخدام الطرائق المعادية للعلم.
وأختم مناقشتي لموضوع منطق البحث الاجتماعي، بالإشارة مرة أخرى إلى النقطة التي هي نقطة رئيسية في المناقشة السالفة، وأعني بها استناد ذلك المنطق إلى الجانب العملي استنادًا نابعًا من طبيعته نفسها، ولقد بينا أن هذا الاستناد إلى الجانب العملي متضمن في تحديدنا للمشكلات الحقيقية، وفي تمييزنا للوقائع من حيث هي شواهد، ثم تقدير قيمتها وترتيبها، وفي تكويننا للفروض التي نأخذ بها ثم اختبارها؛ وأضيف هنا كلمات قليلة عن الموضوع الخاص بفهم الوقائع؛ فالفهم أو التفسير هو عبارة عن ترتيب المواد التي نتحقق من كونها وقائع، أعني أن نحدد ما بينها من علاقات؛ فمهما تكن المادة التي بين أيدينا للدراسة، فهي مشتملة على علاقات كثيرة متعددة الأنواع؛ فعلينا أن نحدد ماذا عسى أن تكون مجموعة العلاقات ذات المساس بمشكلتنا القائمة؛ وذلك لأن المدركات العقلية النظرية التي تمس ما نحن إزاءه، لا تقوم بدورها إلا إذا اتضحت وتحددت المشكلة التي بين أيدينا؛ وأعني بذلك أن التفكير النظري وحده لا يكفي لأن يقرر أي مجموعة من العلاقات ينبغي استحداثها، ولا أن يقرر الكيفية التي نفهم بها مجموعة معينة من الوقائع؛ فالميكانيكي — مثلًا — يفهم مختلف أجزاء المكنة — كالسيارة مثلًا — حين يعرف، ولا يفهمها إلا حين يعرف كيف تعمل الأجزاء معًا؛ فالطريقة التي تعمل بها الأجزاء معًا، هي التي تزودنا بمبدأ الترتيب الذي على أساسه وبفضله تتعلق تلك الأجزاء بعضها ببعض؛ وفكرة «العمل معًا» تتضمن فكرة النتائج: أي إن دلالة الأشياء هي في النتائج التي تنتج عنها حين تتفاعل مع أشياء معينة أخرى؛ وما صميم المنهج التجريبي إلا تحديد ما للأشياء المشاهدة من دلالة، عن طريق ما نتعمد إقامته من ضروب التفاعل بينها.
ويلزم عن هذا أن «الوقائع» في البحث الاجتماعي، قد تلقى كل عناية في التحقق منها وفي تجميعها، دون أن تكون مفهومة؛ فلا تكون تلك الوقائع قابلة للترتيب أو للاتصال بعضها ببعض على النحو الذي يتيح لنا فهمها، إلا إذا رأينا أثرها، و«الأثر» مسألة متعلقة بالنتائج؛ ولما كانت الظواهر الاجتماعية متدخلة بعضها في بعض، استحال علينا أن نعزو نتائج معينة (وبالتالي نعين الأثر والدلالة) إلى أية مجموعة من الوقائع، ما لم نكن قبل ميزنا النتائج الخاصة للوقائع التي تتصل بها؛ ولا يمكن أن نميزها على نحو يحددها إلا بما نجريه من عمليات سلوكية أو «عملية» نؤديها وفق فكرة معينة، وهذه الفكرة هي بمثابة الخطة؛ فلا تنفرد الظواهر الاجتماعية بكونها متدخلة بعضها في بعض تدخلًا معقدًا، بل إن حوادث الوجود الخارجي كلها — من حيث هي حوادث قائمة في الوجود الفعلي — هي على مثل هذه الحالة؛ إلا أن مناهج التجريب، وما يوجهها من مدركات عقلية، قد بلغت اليوم من متانة البناء بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية، بحيث يبدو على مجموعات كبيرة من الوقائع أنها تحمل دلالتها معها حملًا يكاد يظهر عند مجرد النظر إليها، ما دمنا قد تحققنا من قيامها؛ وذلك لأن ما قد أجريناه فيما مضى من عمليات تجريبية، قد دل على أن نتائجها المحتملة ستتخذ أوضاعًا معلومة إلى درجة بعيدة من الدقة، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الظواهر والوقائع الاجتماعية؛ ولا يمكن أن يكون أمرها شبيهًا (بحالة الظواهر الطبيعة) ولو على سبيل التقريب، إلا إذا وصلنا الوقائع الاجتماعية بعضها ببعض، وَصْلًا يمكننا من فهمها؛ وذلك يكون على أساس ارتباطها بالنتائج المتميزة التي تتولد عن خطط محددة نتبعها في تناولنا للظواهر تناولًا عمليًّا: وأكرر القول بأن الخطط إن هي إلا فروض توجه الإجراءات العملية، وليست هي بالحقائق العقلية الثابتة، ولا هي بالمبادئ المقطوع صوابها.