منطق البحث وفلسفات المعرفة
بين المنطق والنسقات الفلسفية علاقة ذات وجهين؛ فتاريخ الفلسفة يبين — من جهة — أن كل نمط أساسي من أنماط النسقات الفلسفية قد طور طريقته الخاصة في تفسير الصور والعلاقات المنطقية؛ بل إنه يوشك أن يكون من العرف المتفق عليه أي تُقْسَم الفلسفة بصفة عامة، ونسقاتها الجزئية بصفة خاصة، إلى فلسفة كونية أو ميتافيزيقا من ناحية، وما يقابلها من إبستمولوجيا أو نظرية في المعرفة من ناحية أخرى؛ غير أن وجهة أخرى للنظر تجعل المنطق وعلم الجمال والأخلاق في الفروع التقليدية الرئيسية للفلسفة؛ ولم يكن من قبيل المصادفات أن تكون الفلسفات الروحية والمادية، الواحدية والثنائية والتعددية، المثالية والواقعية، قد أبرزت ميولًا نحو هذا النمط أو ذاك من أنماط النظرية المنطقية؛ فكانت إذا ما تبينت العلاقات القائمة بين مبادئها الأولى ومناهجها، طوَّرَت نمطًا من النظرية المنطقية يتسق مع نظرياتها عن الطبيعة والإنسان؛ فمن حسنات كلٍّ من الأنماط الرئيسية في الفلسفة، أن كل نمط منها قد حاول أن يُخْرِج إلى العلن ما ينطوي عليه من منطق.
لكن الوجه الثاني من العلاقة (التي تربط المنطق بالنسقات الفلسفية) هو الذي يعنينا في هذا الفصل، فلكي يكسب النسق المعين من نسقات الفلسفة أتباعًا، ولكي يدوم بقاؤه، يتحتم عليه ألا يقتصر على الأخذ بدرجة معقولة من الاتساق الجدلي بين أجزائه الداخلية، بل لا بد له كذلك من مواءمة نفسه مع بعض أوجه المناهج وشروطها؛ المناهج التي وصل عن طريقها إلى من يذهب إليه من اعتقادات عن العالم؛ فلا يكفي أن يكون للنسق الفلسفي منطق متسق في مراحل تفكيره النظري، بل لا بد أن يكون له كذلك مقدار كبير من الوجاهة عند تطبيقه على أشياء العالم، إذا أراد أن يكسب لنفسه الأتباع وأن يحتفظ بهؤلاء الأتباع؛ ويلزم عن ذلك أن كل نظرية فلسفية رئيسية عن المعرفة، لا ينبغي لها أن تقتصر على مجرد اجتنابها للأغلاط من وجهة نظرها الخاصة وحدها، بل لا بد لها كذلك أن تستعير مبادئها الرئيسية من هذا الجانب أو ذاك من جوانب النمط المنطقي للبحث، لكي تجيء نتائجها وكأنها في ظاهرها قد اجتنبت الأغلاط المادية كذلك؛ فلكي ننشئ ونحافظ على ضروب فلسفات المعرفة التي لا تفتأ تعاود الظهور، لا مندوحة لنا عن شيء أكثر من اتساق مراحل التفكير النظري الاستنباطي اتساقًا يبلغ من الدقة غايتها؛ فكون تلك الضروب (من فلسفات المعرفة) محدودة العدد وتعاود الظهور آنًا بعد آنٍ في التاريخ (مع تعديلات تطرأ على مادة الحديث تلائم ثقافة العصر الذي تظهر فيه) قد يدل في ذاته على أن تلك الضروب قد وضعت أيديها على بعض معالم المنطق المتبع في البحث المنتج، وجعلتها أساسًا تُغري به الناس؛ نعم قد يتدخل التمني في اختيار المعالم الخاصة؛ إذ قد تُختار هذه المعالم لتؤيد مقدمًا نتائج معينة دون غيرها، إلا أن المعالم المنطقية نفسها لا يمكن أن تُنتحل انتحالًا حسب الظروف؛ ولو كانت كذلك لأصبحت النظريات بناءات من أوهام المرضى.
وإذن فالغاية من هذا الفصل هي النظر في طائفة من الأنماط الرئيسية في نظرية المعرفة، التي تبرز معالم السير في تاريخ الفلسفة، بغية أن نبين بأن كل نمط منها يمثل جانبًا يُختار لتجريده وحده من بين الظروف والعوامل التي من مجموعها يتكون النمط الحقيقي للبحث الموجه؛ وسنبين أن استعارة تلك الأنماط لهذه الجوانب التي تختارها دون سواها من مجموعة جوانب نمط البحث الموجه، هي التي تكسبها ما قد يكون لها من حسنات وقبول، على حين أن مصدر ما فيها من فساد هو انتزاعها التعسفي للعناصر المختارة من بين سياق البحث الذي كانت تلك العناصر المختارة تؤدي عملها فيه؛ وعلى ذلك فلن نوجه النقد إلى تلك الأنماط على أساس أنها تعتدي على كافة شروط البحث التي هي الوسيلة لبلوغ المعرفة، بل على أساس أن اختيارها لما تختاره من العناصر فيه من ضيق النظر ما يجعلها تتجاهل — وبتجاهلها فهي في الحقيقة تنكر — سائر الشروط التي تخلع على الجوانب المختارة قوتها المعرفية، والتي تضع أيضًا الحدود التي في نطاقها يمكن للعناصر المختارة أن تنطبق انطباقًا سليمًا.
فإذا تصدينا لعرض كامل للخصائص المنطقية المختارة، التي تجعل كل نظرية نمطية من نظريات المعرفة هي ما هي، تطلب ذلك منا كتابًا بأسره، لا فصلًا من كتاب؛ غير أن نمط البحث الذي تنشأ المعرفة فيه وبفضله، يوجه انتباهنا إلى الشروط المنطقية التي يتحتم للمعرفة أن تستوفيها، وبهذا فهو يزودنا بمفتاح نهتدي به في سيرنا خلال متاهة النظريات المختلفة؛ فإذا لم تكن هذه النظريات اعتسافًا كلها، بل كانت اهتمامات جزئية بهذا الجانب أو ذلك تختاره كل منها من سياق النمط الصحيح في مجموعه، إذن فهذا النمط يعرض علينا مجموعة الشروط المنطقية كلها، التي جاءت النظريات المختلفة فانتزعت منها هذا الجانب أو ذاك، ثم راحت تعارض بينها؛ فليس اختيار جانب دون سائر الجوانب مقتصرًا على أنه ممكن الحدوث، بل إنه قد حدث بالفعل، وكانت نتيجة حدوثه قيام الأنماط المتعددة من نظرية المعرفة، وهي الأنماط التي تتبين منها معالم تاريخ الفكر؛ وعلى ذلك فلو كانت مادة المناقشة الآتية نقدية بالضرورة وموضعًا لاختلاف الرأي، فليست غايتها موضعًا لاختلاف الرأي؛ إذ إن غايتها هي إلقاء الضوء على الدافع المنطقي الموجِّه لكل نسق على حدة، كما أن غايتها كذلك أن تسوق تأييدًا غير مباشر للنتائج التي قد عرضناها فيما أسلفناه.
-
(١)
إن نمط البحث يتضمن أن يكون هنالك تقسيم للعمل بين مواد الإدراك الحسي ومواد التفكير العقلي، تقسيمًا يقوم على أساس التعاون الفعال بين الجانبين؛ فإذا زدنا من اهتمامنا بأحد هذين الطرفين على حساب الطرف الآخر، نتج عن ذلك بالضرورة نظريات متضاربة عن معرفة؛ فأولئك الذين يجعلون أحد العاملين سيِّدًا ونهائيًّا، سيحاولون بالضرورة أن يفسروا العامل الآخر برده إلى حدود العامل الأول، فإن لم يستطيعوا حذفوه من حسابهم؛ هذا فضلًا عن أن نقص كل من هاتين النظرتين على حدة سينفخ بالضرورة كذلك روحًا جديدة وقوة جديدة في النظرية المضادة لها؛ وتاريخ الفكر منذ عصر اليونان فصاعدًا، يبدي من العلائم ما يدل على خلاف متصلٍ بين التجريبية الحسية والعقلية المجردة.
-
(٢)
هذا إلى أن نمط البحث متميز أولًا بوجود العناصر الكيفية المباشرة التي تحدد مشكلة البحث، وهذه بدورها تحدد المادة التي تكون ماسة بالمشكلة، والتي تختبر صلاحية أي حل مقترح، ومتميز ثانيًا بوجود العوامل الاستدلالية؛ وها هنا أيضًا نرى أن الاختيار الذي يقتصر على جانب دون جانب أمر مستطاع.
فلئن كنا قد ناقشنا نظرية المعرفة المباشرة ورفضناها، إلا أن مناقشتنا لها لا تستوعب النقط كافة التي تمس الموضوع الذي نحن الآن بصدده؛ وذلك لأن ثمة نظريات تسلِّم بأن عمليات الاستدلال شرط مبدئي للحصول على المعرفة، لكنها هي نفسها ليست جزءًا من المنطق؛ مثال ذلك النظريات التي تذهب إلى أن الاستقراء والاستدلال ليسا سوى خطوات تمهيدية نوائم بها نفسيًّا (بيننا وبين ما نريد إدراكه)، لكن ثمة — من جهة أخرى — نظريات أخرى تعترف بضرورة التفكير الاستدلالي، اعترافًا ينتهي بها إلى نتيجة هي أن في موضوع المعرفة الذي نخْلُص إليه آخر الأمر، يكون كل شيء ذا علاقة استدلالية بكل شيء آخر؛ ومن هذه الوجهة للنظر، يكون موضوع المعرفة الذي لا موضوع سواه هو الكون، من حيث هو كلٌّ واحد مطلق، حتى لتصبح الأشياء التي يظن بعادة أنها معرفة، بما في ذلك العلم، لا تزيد على كونها من «الظواهر» أو مما يبدو في الظاهر، إذ هي نتَفٌ مجزأة ناقصة من «الحقيقة الكونية الموضوعية» التي ينتهي الفكر إليها؛ وعلى الرغم من أن النتيجة النهائية ميتافيزيقية، إلا أن هذه النتيجة الميتافيزيقية في العصور الحديثة إنما يوصل إليها بما يستهدف أن يكون تمحيصًا نقديًّا للشروط التي لا بد من توافرها لتصبح المعرفة ممكنة؛ فالفرق بين نظريات المعرفة المثالية والواقعية يعتمد أخيرًا على وجهة النظر التي نقف بها حيال العناصر المباشرة والعناصر المستدلة في المعرفة.
-
(٣)
وهناك مسألة العلاقة بين الصورة والمادة؛ ولقد ناقشنا فيما سبق جانبًا واحدًا من جوانب هذه المسألة، وهو الجانب الذي يذهب إلى أن المنطق معنيٌّ بالصور. ولا شأن له بالمادة؛ لكن هذه النظرة أيضًا لا تستوعب جوانب الموضوع كلها؛ فثمة نظريات، كالمذهب العقلي التقليدي، تذهب إلى أن الصور هي التي تحدد تحديدًا كاملًا مادة المعرفة النهائية؛ على أن ثمة نظريات أخرى تعتقد بأنه إذا كانت الصور — من حيث هي ماهيات — مستقلة تمام الاستقلال عن الوجود المادي، فبعضها — مع ذلك — يهبط آنًا بعد آن ليسيطر على الوجود الفعلي باعتبار هذا الوجود الفعلي مجرد تيار دافق من متغيرات، سيطرة تجعله معرفة — إلى الحد الذي تسيطر به الصور — وهنالك نمط من المذهب العقلي التقليدي، وأعني به المثالية المطلقة، يذهب إلى أن الصور المنطقية لا تميز إلا المعرفة الإنسانية، وأنها مستوعبة كلها داخل مادة المعرفة المطلقة.
وهذا الوجه من وجوه الموضوع يسترعي انتباهنا إلى أن هنالك بالفعل تغيرات وتكوينات منوعة لمختلف العناصر التي يأتلف منها نمط البحث في جملته، حتى ليمكن القول (بغض النظر عن الرأي القائل بأن الصور طابع يميز عالم الإمكانات المجردة) بأن موضوع الصورة والمادة قد فعل فعله على مر التاريخ من حيث هو عامل مميز للنظريات الأخرى، أكثر مما فعل فعله على أنه أساس للنظريات قائم بذاته؛ مثال ذلك أن إنكار الضرورة على الصور المنطقية طابع يميز المذهب التجريبي التقليدي والمذهب المادي التقليدي كليهما؛ وإن الآراء المختلفة عن طبيعة الصور لتلعب دورًا هامًّا في إيجاد الاختلاف بين النظريات الواحدية والثنائية والتعددية.
(١) المذهب التجريبي والمذهب العقلي التقليديان
هاتان النظريان في المعرفة يمكن عرضهما معًا، إذ إن كلًّا منهما يسوق لنا مثلًا نموذجيًّا كيف يقع الاختيار على جانب نصبُّ عليه اهتمامنا دون جانب من جانبي المواد اللذَيْن نراهما معًا داخلين — من الناحية الصورية — في أية عملية كاملة من عمليات البحث؛ فالمذهب التجريبي بشتى صوره قد أصرَّ على ضرورة المادة المدركة بالحس في تحصيل المعرفة؛ على حين أن المذهب العقلي كما عرفناه في التاريخ، قد ذهب إلى أن المادة العقلية وحدها هي التي يمكن لها أن تزودنا بالمعرفة بمعناها الكامل؛ وليس بنا حاجة إلى أن نعيد هنا ما قد أسلفناه من تحليلات بَيَّنَتْ أن الفصل ثم العلاقة بين معطيات المشاهدة من جهة والأفكار الموجهة لها من جهة أخرى، إنما يمثل تقسيمًا للعمل داخل عملية البحث، له مهمته التي يؤديها، لكي يجيء البحث مستوفيًا للشروط المنطقية التي لا بد من توافرها حتى نظفر بنتيجة يجوز قبولها؛ وإنه لمن أجل هذا السبب يستحيل على اختلاف الرأي في هذا الصدد أن ينحسم؛ فكل نمط من نمطي نظرية المعرفة قد ازدهر بفضل ما في النمط الآخر من ضعف؛ فالطابع الخاص المميز للمذهب التجريبي التقليدي هو تطرفه في القول بالإدراك المباشر؛ فقد انصرف انصرافًا كاملًا إلى اختيار جانب واحد، وهو جانب المادة المدركة بالحس؛ لكنه كذلك فسَّر هذه المادة تفسيرًا يجزِّئها تجزئة مطلقة؛ وذلك أنه اعتقد أن المادة المعطاة عطاءً مباشرًا، تتألف من ذرات منفصلة انفصالًا كيفيًّا، وليس في طبائعها الداخلية ما يستوجب ارتباطها بعضها ببعض لكننا قد بيَّنَّا في مناقشة أسلفناها في موضع سابق، أن المادة المعطاة لنا عطاءً مباشرًا هي موقف كيفيٌّ فسيح الرقعة؛ وإنه إذا نتأت صفات منفصلة في ذلك الموقف، فما ذلك إلا نتيجة عمليات المشاهدة التي من شأنها أن تميز العناصر بعضها من بعض، لكي تكون هذه العناصر وسيلة صالحة لتحديد المشكلة الخاصة المتضمنة في الموقف، ووسيلة أيضًا لتزويدنا بما نختبر به صدق الحلول المقترحة؛ وبعبارة أخرى (فهذه الصفات المنفصلة التي تظهر لنا في الموقف الموحَّد) تمييزات أدائية يخلقها البحث داخل مجال واحد في جملته بغية التحكم في النتائج؛ وهكذا نرى المذهب التجريبي التقليدي يعرض أمامنا عرضًا يستوقف أنظارنا يحدث حين نعزل العناصر الحقيقية في نمط البحث الموجَّه، عزلًا يخرجها عن سياقها، فنفسرها — نتيجة لذلك — تفسيرًا على غير أساس مهمتها الأدائية.
لقد كان لدى «كانت» أول الأمر ميول نحو الجانب العقلي، لكنه أخذ ينحرف عن هذا الجانب حين استيقن من أن الإدراك العقلي بغير إدراك حسي يكون خواءً، وأن الإدراك الحسي بغير إدراك عقلي يكون أعمى، حتى لتستوجب أية معرفة بالطبيعة اتحاد الإدراكين معًا؛ غير أنه يعتقد بمذهبه هذا أن مواد الإدراك العقلي ومواد الإدراك الحسي يصدران عن أصلين مختلفين مستقل أحدهما عن الآخر؛ وفاته أن المادتين تظهران على صورة عمليات متعاونة مكمل بعضها البعض، في إجراءات البحث التي نحلل بها المواقف المشكلة تحليلًا ينحو نحو تحويل تلك المواقف إلى مواقف موحدة؛ وقد ترتب على مذهب «كانت» أنه لم يكن مضطرًّا فقط إلى اللجوء إلى جهاز مصطنع يستعين به على ربط نوعين من المادة مختلفين كل الاختلاف، أحدهما بالآخر، بل اضطر كذلك إلى الوصول إلى هذه النتيجة (ما دام قد سلم بمقدماته) وهي أن مادة الإدراك الحسي — على ضرورتها — إنما تقف حائلًا منيعًا دون معرفة الأشياء كما هي على «حقيقتها» حتى ليقتصر كل جزء مما يصح أن نطلق عليه اسم «معرفة» على مجرد الظواهر كما تبدو من خارج.
وإنه لجدير بالذكر أن الاستطراد في النزعة نحو التجزئة التي كان ينزعها المذهب التجريبي التقليدي، قد أدى — عند تطبيق تلك النزعة نحو التجزئة على المجال الاجتماعي — إلى «فردية» ذرية فككت كل الروابط الداخلية التي تربط الأفراد في مجتمع واحد، ولم تترك سوى المصالحة الشخصية تسير الأمور الاقتصادية، والقسر يسير الشئون السياسية، لكي يتماسك أفراد الناس في جماعة واحدة؛ وإننا لنرى في المجال الاجتماعي بوضوح كيف أن المذهب التجريبي المقتصر على جانب واحد من الحقيقة، يستثير قيام مذهب عقلي يقتصر هو الآخر على جانب واحد من الحقيقة، ويزوده بحججه الرئيسية؛ ذلك أن رد الفعل المنطقي للفردية الذرية هو قيام نظريات «عضوية» في الدولة، تطوي العلاقات الإنسانية كافة تحت محور السياسية؛ ولقد هيأت هذه الفلسفة أساسًا يقوم عليه إحياء السلطة المستبدة، وخلقت الأسس النظرية التي تستند إليها الدول المستبدة الحديثة؛ على أن اشتباك النظريات الديمقراطية في الدولة، كما قد عرفت تلك النظريات في التاريخ، بالذرية «الفردية» القديمة، قد كان — من جهة أخرى — مصدرًا رئيسيًّا لما أخذ يتزايد من ضعف المجتمعات «الحرة»، قومية كانت تلك المجتمعات أو محلية.
ويتضح اقتصار الوضعية الشائعة على جانب واحد فقط من جوانب منهج البحث، حين نلاحظ أن تاريخ العلم يدلنا على أن فروضًا كثيرة قد لعبت دورًا هامًّا في تقدم العلم، على أنها فروض كانت عند نشأتها الأولى تأملية خالصة، وكانت الوضعية — إذا التزمت مبادئها — لتنبذها باعتبارها «ميتافيزيقية» لا أكثر؛ ومن أمثلة هذه الفروض فكرة بقاء الطاقة بغير زيادة أو نقصان، وفكرة الارتقاء التطوري؛ فتاريخ العالم — من حيث هو توضيح للطريقة التي يكون عليها منهج البحث — يبين بأن إمكان التحقق (كما تفهمه الوضعية)، بالنسبة للفروض لا يدنو في أهميته من أهمية هذه الفروض من حيث هي قوة توجه الباحث؛ فعلى سبيل الإجمال الذي يغفل الاستثناء نقول إنه لم يحدث لفرض علمي هام أن تحقق بالصورة التي كان عليها أول أمره، كلا ولا حدث لفرض علمي هام أن تحقق دون أن تطرأ عليه مراجعات وتعديلات كثيرة؛ والذي يسوغ هذه الفروض كونها ذات قوة في توجيه النظر إلى ميادين جديدة من المشاهدة التجريبية، وفي خلق مشكلات جديدة ومجالات جديدة للدراسة؛ وهي بأدائها لهذه الأشياء، لم تقتصر على تزويدنا بحقائق جديدة، بل زادت على ذلك أنها كانت كثيرًا ما تغير تغييرًا جوهريًّا ما كان يظن قبل ذلك أنه هو حقائق الواقع؛ فعلى الرغم من أن الوضعية الشائعة تزعم لنفسها أنها علمية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إلا أنها قد كانت من بعض نواحيها وارثة لمذهب ميتافيزيقي سابق، كان يعزو للأفكار خصائص الصدق والكذب بحكم طبائع تلك الأفكار نفسها؛ وأما إذا ألممنا بنمط البحث على حقيقته، ألفينا الأفكار — من حيث هي أفكار — لا تتصف بحكم طبيعتها الداخلية إلا بكونها أدائية، يمكن استخدامها وسائل في إجراءاتنا العملية؛ وعلى هذا الأساس وحده. نرى النظرية الوضعية في المعرفة قاصرة؛ وإن هذا النقد ليصدق كذلك على أي ضرب من ضروب النظرية الوضعية، ما دام يقصر نطاق المنطق على تحويل مواد كانت موجودة بالفعل فيما سبق، دون أن يهيئ السبيل إلى إنشاء فروض جديدة، من شأنها — إذا استخدمناها عمليًّا — أن تزودنا بمواد جديدة تعيد بناء المواد التي هي بالفعل بين أيدينا؛ وهو نقد يصدق على «الوضعية المنطقية» بمقدار ما تقصر هذه النظرية المنطق على تحويل القضايا معزولة عن العمليات التي هي الوسيلة لتكوين تلك القضايا.
(٢) النظريات الواقعية في المعرفة
مثل هذه الأشياء — الوجودي منها والفكري على السواء — لا تنفك تستخدم في مواصلة البحوث الجديدة؛ بل إن استمرار البحث متوقف على تناولنا إياها واستخدامنا لها وسائل في بحوث تالية؛ فما نكون قد بلغناه فيما مضى من أشياء، ربما تعرض للتعديل خلال الاختبارات التي نصبها عليها في المشكلات الجديدة، على غرار ما قد تغيرت به مجموعة الفوارق المميزة للأشياء، والتي كان يظن بها يومًا ما — ظنًّا لا يقبل الشك — أنها الأشياء، وإنما جاء هذا التغير بالنسبة لها مع تقدم المعرفة العلمية؛ على أننا نقبل الأشياء التي كنا قد أنشأناها خلال البحوث المتصلة السابقة، عند تناولنا لبحث جديد، كما لو كانت هي حقائق الواقع كما هو قائم بالفعل، تمامًا كما نستخدم العُدَد التي قد ثبت مرارًا أنها أدوات فعالة، فنستخدمها من جديد فيما نهم به من عمل جديد؛ فإذا نظرنا إلى هذا الأخذ وهذا الاستخدام المباشرين كما لو كانا حالة من حالات المعرفة، كان الحاصل المنطقي لهذه النظرة هو الفلسفة «الواقعية» في المعرفة؛ نعم إن الأشياء التي نستخدمها هي بالفعل أشياء معروفة لنا؛ لكننا إذا غضضنا النظر عن عمليات البحث التي كانت وسيلتنا إلى جعل تلك الأشياء أشياء معروفة لنا، كذا بذلك نركز اهتمامنا على جانب نختاره دون غيره من جوانب نمط البحث كما يقع في الحقيقة؛ فإن كان الاهتمام بهذا الجانب الواحد سليمًا بقدر ما تسمح به ظروفه، إلا أنه مع ذلك يكون من التميز بحيث يتمخض لنا عن نظرية فاسدة، لأنها نظرية تجعل فعل الإشارة إلى شيء معلوم، رغم أنه لم يصبح معروفًا لنا إلا بفضل عمليات لا شأن لها قط بفعل الإشارة، أقول إنها تجعل فعل الإشارة هنا كما لو كان هو نفسه حالة تتمثل فيها معرفة تصور الواقع، لتخدم بذلك أغراض نظرية معينة في المعرفة.
إن ضرورة قيام أشياء بعينها لا نفتأ نستخدمها، ونستخدمها استخدام من يألفها، فنجعلها وسائل تؤدي بنا إلى معرفة جديدة، هي التي تخلع على النظرية الواقعية جاذبيتها، وهي جاذبية تبلغ من القوة بحيث تبدو أية نظرية سواها كما لو كانت انحرافًا عما يرضى عنه الذوق الفطري، لم تنحرفه إلا لتحقق ما تقتضيه نظرية معينة اعتنقها أصحابها مقدمًا؛ أما أن الأحجار والنجوم والأشجار والقطط والكلاب … إلخ، قائمة في الوجود الفعلي مستقلة عن العمليات التي يؤديها الشخص العارف بوجودها في أية لحظة معينة فحقيقة من حقائق المعرفة لها من متانة الأساس ما يمكن أن يكون لأي شيء كائنًا ما كان؛ لأنها من حيث هي مجموعات من فوارق مميزة مرتبط بعضها ببعض وكائنة في الوجود الخارجي، قد ظهرت واختبرت مرارًا في الأبحاث التي قام بها الأفراد وقام بها الجنس البشري؛ وإنه — في معظم الحالات — لمن ضياع الجهد ضياعًا بغير مقابل، أن نكرر العمليات التي كانت هذه الأشياء قد تكونت بها وتأيدت؛ فإذا ظن العارف الفرد أنه قد كونها بعملياته هو العقلية المباشرة كان ظنه من السخف كما لو ظن أنه هو الذي خلق الشوارع والمنازل التي يراها أثناء سيره خلال المدينة؛ ومع ذلك فالشوارع والمنازل قد صنعت، ولو أنها قد صنعت بعمليات وجودية انصبت على مواد فعلية مستقلة بوجودها، ولم يكن صنعها بعمليات «عقلية»؛ والأشياء — كالشوارع والمنازل — إذا ما تم تكوينها، فإنها تستخدم استخدامًا مباشرًا في مشروعات جديدة.
إلى هذا قد ناقشت النظريات الواقعية التي هي من الصنف المباشر، أو من الصنف «الواحدي» كما تسمى أحيانًا؛ فقد أدى الخلط بين شيئين مختلفين الذي أشرنا إليه لتونا، والذي ينشأ من مزجهما في مزيج واحد يزعمون له بعدئذٍ أنه فعل بسيط ومفرد في تحصيل المعرفة، أقول إن هذا الخليط قد أدى إلى مشكلات معينة، يدل عليها ما يكتنفها من أغلاط وأخطاء وأوهام وظنون؛ فالواقعي المتسق مع مبدئه إذا كان من طراز الواقعيين الذي وجهنا إليه النقد منذ قليل، مضطر — منطقيًّا — أن يعزو الوجود الضمني — إن لم نقل الوجود الفعلي — إلى مواد المعرفة الباطلة كلها، كما يعزوه إلى مواد المعرفة الصحيحة سواءً بسواء، وبهذا فهو، يمحو المعنى المنطقي المميز للمعرفة؛ ذلك لأنه بناءً على هذه النظرية، تكون المعرفة الباطلة هي الأخرى حالة من الحالات التي يشير بها الشخص العارف — إشارة مباشرة — إلى المواد التي إنما هي ما هي على حقيقتها بغض النظر عن عمليات تحصيل المعرفة بها؛ ولن أوغل في هذه النقطة إيغال من يريد أن يوجه إليها نقدًا فوق ما وجهناه إليها؛ إذ إنها النتيجة المنطقية التي تترتب على المزج الذي يخلط بين أمرين، كما قد أشرنا؛ وإنما أذكر هذه النقطة لعلاقتها بنمط آخر من النظرية الواقعية، وهو ما يسمونه بالواقعية الثنائية، أو «الممثلة» لما هو واقع.
فبناءً على هذه النظرية، يكون موضوع المعرفة المباشرة أو المعطى، حالة عقلية دائمًا؛ سواء أكانت هذه الحالة «إحساسًا» أم «فكرة»؛ وإنما يعرف الشيء المادي الوجودي عن طريق حالة عقلية يُفترض فيها أنها تصوير لذلك الشيء الخارجي؛ وكما هي الحال بالنسبة إلى النظريات الأخرى المطروحة للبحث، سننصرف بالمناقشة الحاضرة إلى هذه النظرية من ناحية واحدة فقط، وهي الناحية التي تجعل لها أساسًا في نمط البحث كما يقع في الحقيقة؛ فهي نظرية تنشأ عن تجريد الجانب الاستدلالي من جوانب البحث، ثم يؤدي عزل هذا الجانب عن سياق البحث في مجموعه، إلى تحويل القيم الأدائية إلى نوع من الوجود الفعلي ذي الكيان القائم بذاته، وبعدئذٍ يصفون هذا الوجود بأنه عقلي؛ ففي عملية البحث، تتميز الصفات المباشرة مما عداها على أساس مهمتها من حيث هي علاقات أو إشارات تدل على نتيجة يمكن استدلالها؛ مثال ذلك أن تحس ألمًا إحساسًا مباشرًا، فتفسره بأنه ألم في الأسنان، وعلى ذلك تحكم عليه بأنه أحد الأفراد التي تنضوي تحت نوع معين؛ فيُقال عن الألم — ومعه مجموعة صفات أخرى تقع للمشاهدة — إنه يؤلف شيئًا، ويكون الألم علامة دالة على وجود ذلك الشيء؛ وتكون الصفة التي هي الألم — بوصفها هذا — ممثلة لشيء ما؛ فإذا نحن غضضنا النظر عن المهمة الخاصة التي تؤديها تلك الصفة في عملية البحث، جَسَّدنَا هذا الجانب الأدائي الذي هو ممثل لما عداه؛ وهكذا نفهم الألم لا على حقيقته كما هي، وأعني بها أنه صفة تدل أول الأمر دلالة مشكلة أو مبهمة، بل نفهمه على أنه كائن عقلي يمثل — على وجه ما — شيئًا ماديًّا؛ فبهذا المجاز تتحول مهمته الأدائية من حيث هو ممثل لشيء سواه، وهي المهمة التي نستعين بها على حل المشكلة قائمة، إلى مجرد فكرة التمثيل.
ويصدق هذا القول نفسه على الأفكار باعتبارها شيئًا متميزًا من الصفات المباشرة؛ فالفكرة من الأفكار كما تؤدي عملها في البحث، هي الدلالة التي يمكن أن ننسبها إلى الصفات الماثلة في إدراكنا حين تكون دلالتها غير واضحة؛ وبوصفها هذا، يكون للفكرة جانب تمثيلي، لأنها تقوم مقام حل ممكن؛ ولكونها مقتصرة على مجرد الإمكان، فليست هي مما يقبل قبولًا مباشرًا إذا ما كنا بصدد بحث بمعناه الصحيح، بل إنها لتستخدم على أنها إرشاد توجيهي لما عسى أن نقوم به من عمليات أخرى في مجال المشاهدة، من شأنها أن تعطينا معطيات جديدة؛ أما إذا أغفلنا مهمتها الأدائية هذه، كانت الفكرة — كالصفة المباشرة — في ظننا تمثيلًا عقليًّا لشيء ما، بحكم طبيعتها نفسها؛ ففي المثال الذي ذكرناه منذ قليل، يكون الألم موحيًا بوجع الأسنان؛ ويجيء الحكم المبتسر (وهو مبتسر إلى الحد الذي لا يجعله حكمًا على الإطلاق بالمعنى المنطقي للحكم) فيقبل الإيحاء ويؤيده؛ لكن البحث يستخدمه ليبدأ ويوجه عملية جديدة في مجال المشاهدة، لنقرر بها ما إذا كانت — أو لم تكن — هناك صفات أخرى موجودة، مما يعد خصائص مميزة للنوع الذي نطلق عليه اسم وجع الأسنان؛ فالإيحاء بوجع في الأسنان — من هذه الناحية — هو فكرة، أي أنه معنًى افتراضي ممكن؛ فهو ممثل لشيء سواه، ولكنه ليس تمثيلًا مجردًا، وصفته الافتراضية هي ما نعنيه حين نسميه فكرة؛ غير أن هذه الصفة خاصة منطقية وليست هي بالخاصة الوجودية التي كان أن نعارض بها الشيء باعتباره كائنًا عقليًّا.
فالغلطة الأساسية في الواقعية التي تجعل المعرفة صورة ممثلة للواقع، هي أنها في الوقت الذي تعتمد فيه فعلًا على الجانب الاستدلالي (كما عرفناه) من جوانب البحث، يفوتها أن تفسر الصفة المدركة إدراكًا مباشرًا، والفكرة المتعلقة بها، تفسيرًا ينظر إليهما من ناحية المهمة التي تؤديانها في البحث، بل تراها على نقيض ذلك تجعل القوة التمثيلية خصيصة كامنة في طبيعة الإحساسات والأفكار من حيث هي إحساسات وأفكار، إذ تنظر إليها على أنها «تمثيلات» في ذاتها وبذاتها؛ والنتيجة الضرورية لذلك هي تثنية الوجود العقلي والوجود المادي، أي الفصل بينهما، لكن هذا المذهب الواقعي لا يعرض هذه التثنية على أنها نتيجة لزمت عن طريقته في النظر، بل يعرضها على أنها حقيقة واقعة نتلقاها على هذا الوجه؛ فعدم وضع القوة التمثيلية للصفات المباشرة وضعًا يجعلها علامات، وعدم وضع المعاني وضعًا يجعلها دلالات ممكنة، وهو وضعهما كما يرد في سياق البحث، يؤدي بنا إلى الافتراض أنها كائنات مادية أو عقلية ثم ترانا بعدئذٍ نخلع عليها قوة سحرية، هي قوتها في أن تنوب عن، وأن تشير إلى، كائنات ذات طبيعة مختلفة عن طبيعتها.
والواقعية التمثيلية تفسر الأخطاء والاعتقادات الباطلة والأوهام، تفسيرًا يتناولها بصفة عامة، دون أن تضطر إلى إسكان عالم «الوجود الخالص» بشتى أنواع الموجودات التصورية، التي يُقال إنها هي الموجودات التي يشير إليها الشخص العارف (في حالة الخطأ والاعتقاد الباطل والوهم)، تمامًا كما يشير إلى الأشياء الحقيقية عندها يحدث له أن يتحدث عنها؛ فبناءً على النظرية التمثيلية، يكون إمكان الخطأ أمرًا منبثقًا من طبيعة الإحساسات والأفكار نفسها، من حيث تكون هذه الإحساسات والأفكار تمثيلات لسواها؛ ولأنها ذات طبيعة في الوجود مختلفة عن الأشياء الخارجية التي تمثلها، فليس هنالك ما يضمن لنا أن تجيء الإحساسات والأفكار تمثيلات للأشياء الخارجية كما هي في الواقع، التي جاءت تلك الإحساسات والأفكار صورًا لها؛ فلئن كانت هذه النظرية تفسر لنا مجرد إمكان وقوع الخطأ والأباطيل بصفة مجردة، فهي تعجز عن أن تفسر الفرق بين الاعتقادات الصادقة والاعتقادات الباطلة في أية حالة جزئية معينة؛ فلكي نقرر — مثلًا — ما إذا كانت فكرة معينة تمثيلًا لثعبان البحر أو للحوت، وما إذا كانت فكرة معينة تمثيلًا لعفريت أو لشخص ملفع بملاءة، ترى النظرية مضطرة إلى الخروج عن حدود الفكرة نفسها، وعن حدود أي شيء مما قد يكشف عنه تمحيصنا للفكرة في ذاتها؛ إذ هي مضطرة إلى الارتداد إلى عمليات البحث المنتجة المألوفة، وهي عمليات مستقلة تمام الاستقلال عن الطبيعة المزعومة للفكرة باعتبارها تمثيلًا عقليًّا؛ فالشيء الهام دائمًا هو صواب أو خطأ التفسير الخاص المعين الذي نفسر به صفة مدركة إدراكًا مباشرًا، أو نفسر به معنًى أوحى به إلينا؛ وما دامت الواقعية التمثيلية — لكي تحسم الأمر في هذه المسألة — مضطرة إلى الارتداد إلى العمليات المألوفة في البحث، فهي إذن نظرية عديمة النفع وغير ذات شأن، في الجانب الوحيد ذي الأهمية المنطقية؛ فأقل ما نقوله هنا هو أنه أيسر علينا وأقصر طريقًا، أن نبدأ وأن نمضي في طريقنا، غير ناظرين إلا إلى عمليات البحث، وهي العمليات التي يعتمد عليها آخر الأمر؛ ولو فعلنا هذا، لسقطت من تلقاء نفسها فكرة الصفات والأفكار بأسرها، أعني الفكرة التي تعد الصفات والأفكار ضروبًا من الوجود العقلي.
ولو أنعمنا النظر في الأمر إنعامًا يتناوله بتفصيل أكثر، لتأيدت النقطة التي أثرناها أكثر من مرة، وهي أن ما يسمونه بنظرية المعرفة «الإبستمولوجيا» ليس سوى مزيج من مدركات منطقية استقيناها من تحليل البحث المنتج، ومدركات نفسية وميتافيزيقية سبق لها أن تكونت في أذهاننا دون أن يكون لها مساس بالموضوع؛ نعم لو أنعمنا النظر في الأمر لتأيدت لنا صحة النظرية القائلة بأن العنصر الأصيل في كل نظرية «إبستمولوجية» نموذجية. إنما هو عنصر منطقي؛ ولنا أن نضيف بأنه لو أراد أحد تفسير الجانب «العقلي» بأنه مادة الخبرة، حين تتميز تلك المادة بأنها — خدمة لعملية البحث وفي سبيل السير به إلى غايته — حالة شرطية فرضية بأدق المعاني لهاتين الكلمتين (وهي حالة تكون عليها الصفات «الخارجية» والمعاني «الداخلية» حين يكون البحث الذي نحن بصدده ما يزال في طريق سيره)؛ أقول إذا أراد أحد تفسير الجانب «العقلي» بمثل هذا التفسير، فلا اعتراض لنا على ذلك؛ لكن هذا التفسير «العقلي» يختلف اختلافًا جوهريًّا عن المذهب القائل بأن في المعرفة جانبًا متضمنًا فيها، وهو طبقة من الوجود تتسم بكونها نفسية أو عقلية في ذاتها وبذاتها؛ فلو قلنا إن هنالك صفات وجودية معينة، كالانفعالات، نردها إلى ذوات الأشخاص من حيث تكون هذه الذوات ضربًا من الوجود قائمًا بذاته (بنفس المعنى الذي تكون به الأحجار والنجوم والمحار والقردة أنواعًا من الوجود لها صفاتها الخاصة المميزة) كان قولنا هذا قضية صادقة؛ لكن هذه الدلالة الموضوعية التي تتميز بها الصفات الذاتية، لا شأن لها إطلاقًا بما يزعمونه من الخصائص الذاتية للصفات والأفكار حين تؤدي هذه الصفات والأفكار دورها في المعرفة؛ فالذات الشخصية شيء من الأشياء، وليست هي «بالعقل» ولا هي بالوعي، حتى إذا جاز لنا أن نقول عن شخص إن له عقلًا، استنادًا إلى ما له من قدرة على البحث.
فكلمة «ذاتي» — في حالة انفعال ما — لا تزيد على كونها كلمة مرادفة لكلمة شخصي؛ وأما هل الصفات التي تميز حالات كالأمل والخوف والغضب والحب، صفات تحدد نوعًا من الأشياء التي تتميز بطابع يجعلها أشياء شخصية فمسألة تتصل بأمور الواقع، ونجد حلها بنفس الطرائق التي نقرر بها أي السمات يميز لنا أسماك اللزيق من أسماك المحار؛ فالخصائص التي تميز البحث هي نفسها الخصائص التي تجعل المعرفة حالة مختلفة عن الجهل وعن مجرد الظن وعن الوهم؛ فالشخص — أو إن شئت تعبيرًا أقرب صلة بالنشوء، فقل الكائن العضوي — إنما يصبح ذاتًا عارفة بفضل اشتغاله في عمليات البحث الموجه؛ وأما النظرية التي نوجه إليها النقد، فتزعم أن ثمة ذاتًا عرفانية سابقة على، ومستقلة عن البحث، أي إن هناك ذاتًا هي بحكم طبيعتها نفسها كائن عارف؛ ولا كان محالًا علينا أن نحقق هذا الزعم بأية وسيلة تجريبية، كان تصورًا ميتافيزيقيًّا سبق له أن تكون في أذهاننا، ثم امتزج بعدئذٍ بالشروط المنطقية امتزاجًا نشأ عنه هذا الضرب أو ذاك من «نظرية المعرفة» (الإبستمولوجيا).
(٣) النظريات المثالية في المعرفة
هنالك ثلاثة أنماط من نظرية المعرفة، مما يطلق عليه اليوم كلمة «مثالي» ونستطيع أن نفرق بينها بأن أحدها هو النمط المستند إلى الإدراك الحسي، وتمثله نظرية باركلي، وثانيها هو النمط العقلي، وثالثها هو النمط المطلقي؛ والفرق بين الأول والثاني إنما ينشأ عن إقحام فلسفات كونية مثالية، إقحامًا يؤدي إلى الفصل — الذي ناقشناه فيما سبق — بين ما يدرك في التجربة إدراكًا حسيًّا، وبين ما تتكون فكرته العقلية في التصور الذهني؛ وأما النظرية الثالثة فتمثل محاولة للتغلب على هذا الانقسام، وذلك بالرجوع إلى نوع من الخبرة يندمج فيه ما يدرك بالحس وما يدرك بالعقل اندماجًا تامًّا، وأعني بها الخبرة المطلقة.
(٣-١) مثالية الإدراك الحسي
وهكذا أصبح العقل الذي إليه تنتمي الأفكار، والذي خصائصه هي هذه الأفكار، أصبح العقل (في رأي باركلي) هو الجوهر الوحيد؛ على أن «باركلي» قد قبل نظرية «لك» بأن موضوع المعرفة هو العلاقة بين الأفكار؛ وموضع الأصالة عنده هو في تفسيره لهذه العلاقة تفسيرًا يجعلها علاقة دالة أو علاقة إشارية، كما تشير صفات الدخان إلى صفات النار؛ فالطبيعة من حيث هي موضوع للمعرفة هي كتاب أو لغة، على حين أن المعرفة في فهم المرقوم في هذا الكتاب؛ هذا فضلًا عن أن طائفة معينة من الأفكار تفرض علينا فرضًا، والعلاقة القائمة بين هذه الأفكار — وهي علاقة دلالتها على ما تدل عليه أو إشارتها إلى ما تشير إليه — دائمة وثابتة؛ وإن كون الأفكار الأولية والعلاقات الثابتة القائمة بينها، تجاوز حدود سيطرتنا، ليدل على أنها لا تنشأ أصلًا في عقولنا، بل هي مظاهر يتبدى فيها «العقل الإلهي» أو «الإرادة الإلهية».
وفيما يختص بالزعم الأساسي الذي يزعمون به «للأفكار» طبيعة عقلية أصيلة، فالنقد الذي وجهناه إلى الواقعية التمثيلية يصدق أيضًا على هذه النظرية؛ فالعنصر المنطقي المميز للمذهب المثالي المستند إلى الإدراك الحسي هو أن ذلك المذهب يجعل العلاقة التي منها تتألف المعرفة هي نفسها علاقة دلالة الشيء على معناه؛ وواضح أن هذا الجانب من النظرية يدل على فهم صحيح لشرط ضروري من شروط البحث الموجه: وهو الشرط الذي نشترط به أن تكون الصفات المدركة إدراكًا مباشرًا علامات لنا نستشهد بها على شيء ما خارج تلك العلاقات نفسها؛ فإذا ما وجهنا اهتمامنا إلى جانب واحد دون سائر الجوانب، تجاهلنا حقيقة كون الصفات المذكورة قد اختيرت من بين مجال يشملها ويشمل غيرها معها، وإنما وقع عليها الاختيار دون سواها لتؤدي مهمة خاصة في عملية البحث، ألا وهي تحديد المشكلة المطلوب حلها؛ ويترتب على ذلك أن ننظر إلى الجانب الأدائي الصرف من الصفات المدركة بالحس، على أنه شيء أصيل في تكوينها، بحكم طبيعتها الداخلية؛ وعلى ذلك فهذه النظرية تقدم لنا شرحًا لما يحدث في نظرية المعرفة حين تُعزل عناصر منطقية معينة عن سياق البحث.
- (١)
كون الصفات — من حيث هي أشياء تشير أو تدل على سواها — تختار عمدًا، تحقيقًا للغرض من البحث، من بين مركب العناصر التي نتلقاها في الخبرة تلقيًا مباشرًا.
- (٢)
كون قيام الموقف المشكل المراد حله هو الذي يضبط عملية الاختيار التي نميز بها ما نختاره من الصفات الدالة المنتجة ذات المساس بما نكون بصدد بحثه، اختيارًا يكون لنا بمثابة الوسيلة؛ فإذا أخذنا في اعتبارنا هاتين الملاحظتين، تبين لنا على الفور أن كون الصفات الطبيعية ذات خاصة دلالية، ليس أمرًا منبثقًا من طبيعتها، بل هو أمر يطرأ عليها بفضل المهمة الخاصة التي تؤديها في البحث.
- (١)
لا غناء لنا عن أبحاث مميزة الأشياء في مجال المشاهدة، لنقرر بها أن الصفات المشاهدة هي صفات الدخان؛ إذ قد تكون — مثلًا — صفات البخار؛ أضف إلى ذلك.
- (٢)
أن النار المشار إليها ليست مجرد النار بصفة عامة، بل هي نار جزئية معينة؛ والنيران الجزئية قد تتباين إحداها مع الأخرى تباين النار تشتعل في غابة مع نار سيجار مشتعل، ومع النشوة الخاصة المقترنة بالدخان آتيًا في الغسق من مدخنة أحد المنازل؛ فالبحث مطلوب ليحدد نوع الشيء الذي يدل عليه ما قد تبين بالمشاهدات الموجهة أنه دخان؛ وعلى أية حال.
- (٣)
فليس الدخان هو العلامة المضمونة على وجود النار؛ فمثلًا خذ الفكرة العلمية عن النار من حيث هي احتراق، ففي هذه الحالة التي فرغنا من قبولها لا يظهر الدخان على الإطلاق؛ فالخصائص المميزة التي تصف أنواع النار من وجهة النظر العلمية، من شأنها أن تقيم الدليل على العلاقة القائمة بين ما للأشياء من أداء ذي دلالة، وبين عملية البحث؛ وأما الفكرة القائلة بأن هذا الأداء هو علاقة كافية في بنية الطبيعة (أي إنها علاقة بنائية لا أدائية) فقد تولدت عن كون العادات الماضية — في الأمور التي ألفناها في حياة النفع والمتعة — قد أنشأت علاقة يمكن الاستناد إليها استنادًا مباشرًا؛ غير أن هذه الأشياء نفسها، إذا ما جاوزنا بها مجالًا محدودًا من الجوانب العملية في نطاق الإدراك الفطري، تدل دلالات مختلفة في الثقافات المختلفة، وهي حقيقة تكفي للبيان بأن العلاقة ليست كامنة في بنية الأشياء، وفي مستطاعنا إدراكها إدراكًا مباشرًا؛ فالقول بأن دلالة الشيء كامنة في طبيعته، هو قول تخلف من المذهب المثالي.
(٣-٢) المذهب المثالي العقلي
كانت فلسفات الوجود وما وراء الطبيعة اليونانية الكلاسية واقعيتين في نظرياتهما عن المعرفة؛ غير أن العنصر «الحقيقي الواقعي» في «الطبيعة» كان في رأي تلك الفلسفات هو الجانب العقلي أو الفكري؛ وأما الصفات الحسية التي تتميز بها الأشياء المتغيرة، ويتميز بها التغير نفسه، فقد كانت علامة تدل على حضور عنصر اللاوجود، أي عنصر «الوجود» وهو في حالة النقص وعدم الكمال؛ ثم جاء تطور العلم الفيزيائي الحديث، فأبعد الصور الفكرية والغايات العقلية من «الطبيعة» كما نعرفها؛ وحاول فلاسفة المدرسة — تمشيًا مع الاتجاه الذاتي في الفلسفة الحديثة — أن يؤيدوا ما في الكون من معقولية كامنة في طبيعته، متبعين في تأييدهم هذا سبيل تمحيص الظروف التي في ظلها تصبح المعرفة أمرًا مستطاعًا؛ فلم يجد هؤلاء الفلاسفة صعوبة في أن يبينوا أن المعرفة غير ممكنة بغير قيام المدركات العقلية، وأن هذه المدركات العقلية لا يمكن استخراجها من الصفات الحسية، لا على أنها هي الصور الباهتة لتلك الصفات، ولا على أنها مركبات منها؛ فكان الحاصل من هذا هو المذهب المثالي العقلي، الذي يرى أن العالم الحقيقي مؤلف من نسق من علاقات، وأن طبيعة هذه العلاقات هي أنها «عقل» أو «روح» موضوعي شامل؛ وعندئذٍ تكون عملية تحصيل المعرفة بالنسبة إلى الذوات الإنسانية، مؤلفة من حالات جزئية تتبدى فيها طبيعة هذا «العقل» الموضوعي.
فهذه النظرية — شأنها شأن المذهب العقلي التقليدي الذي تفرعت عنه — تمثل الانصراف باهتمام أصحابها إلى جانب واحد اختاروه، وهو بجانب المهمة الأدائية التي تقوم بها المادة الفكرية في عملية البحث الموجَّه، وذلك حين تُعزل تلك المهمة الأدائية عن السياق الإجرائي الذي تستخدم فيه وسيلة لتحويل المواقف المشكلة؛ فلا حاجة بنا إلى أن نضيف شيئًا إلى ما قد أسلفناه عن هذا الجانب من جوانب النظرية؛ إذ الناحية التي تهمنا في مناقشتنا هذه الآن، من بين نواحي هذه النظرية، هي أنها نظرية تصل إلى فلسفتها الكونية المثالية الأخيرة، عن طريق نظرية منطقية خاصة بعملية المعرفة؛ وهذا هو الجانب من جوانبها، الذي سنتناوله بالتمحيص.
- (١)
العمليات الوجودية التي نجريها في مجال المشاهدة.
- (٢)
المهمة التجريبية التي تؤديها المادة العقلية في توجيه البحث؛ فلأن النظرية لا تقوم على أساس من فحص العمليات الفعلية التي يتم بها تحصيل المعرفة، تراها قد اضطرت إلى تجسيد «الفكر»؛ الذي تصبح فاعليته «العقلية» بمعناها الدقيق — بناءً على طبيعة تكوينه الداخلي نفسه — هي في رأي أصحاب هذه النظرية مصدرًا لبنية الكون ولبنية المعرفة كلتيهما، فبدل أن يفسروا «الفكر» على أساس تمحيص العمليات الفعلية التي يؤديها الباحث في قيامه بالبحث، تمحيصًا يتناولها كما تتحقق في التجربة، تراهم يفرضون بادئ ذي بدء شيئًا يسمونه فكرًا، ويزعمون منذ فاتحة الأمر أنه فاعلية أو قوة شاملة أصيلة قائمة بذاتها؛ فالنظرية نفسها، بإصرارها على أن يكون الفكر أوليًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تعترف بما لهذا الزعم من جانب ميتافيزيقي خالص، أي من جانب ذي طبيعة يستحيل التحقق منها تحققًا تجريبيًّا.
غير أنه لا بد من التنويه بفضل هذه النظرية في اعترافها بضرورة المراحل الاستدلالية الوسطى التي نجتازها لحصولنا على المعرفة؛ فجانب قوتها هو إصرارها على قيام التفكير النظري (ومعناه هو الجانب الاستدلالي الذي يتوسط طريق البحث) في شتى ضروب المعرفة، وما يصاحب ذلك التفكير النظري من نقد مضمر أو صريح لكافة نظريات المعرفة التي تقول بالإدراك المباشر؛ لكنها — للسبب الذي ذكرناه توًّا — تجعل التفكير النظري شيئًا يهبط على الوجود الفعلي من السماء، ويؤدي مهمته على نحو إجمالي؛ ذلك أن المقولات الأولية «القبْليَّة» أو الطرائق التركيبية للتصور الذهني، التي تؤلف — بناءً على النظرية نفسها — بنية «الفكر»، تعمل عملها على صورة إجمالية؛ فهي تنصبُّ على ما قد انتهينا في التحقيق منه إلى أنه معرفة صحيحة على نفس الصورة التي تنصب بها على ما هو معرفة ظاهرية فحسب، مما يتبين فيما بعد أنه باطل، تمامًا كما يسقط المطر من السماء على العادل وعلى الظالم على حد سواء؛ فتجسيد «الفكر» تجسيدًا يجعله كائنًا عنصريًّا، هو نتيجة ترتبت على تجاهل العمليات التي تؤدى عند القيام بالبحث، مع أنها العمليات التي يمكن بها وحدها أن نميز «الفكر» في عالم التجربة؛ وهذا التجسيد يحول دون أن تكون هذه النظرية قادرة (ما دمنا نسلم بمقدماتها) على تعليل الفرق بين الاعتقادات الصحيحة والاعتمادات الباطلة؛ إذ إن مقولات «الفكر» تفعل فعلها في الحالتين على حد سواء؛ فالمشكلة المنطقية الحقيقية هي في هذه النقطة بالذات، والمشكلة هي كيف نقيم ثم نختبر الاعتقادات المعينة الجزئية، بحيث نقرر جواز قبولها؛ فما دامت هذه النظرية المذكورة مضطرة إلى الخروج عن مجموعة مقدماتها، لكي تجد ما تفرق به بين الحق والباطل، وما دامت مضطرة إلى اللجوء في ذلك إلى العمليات الفعلية التي تؤدَّى في البحث، والتي في الوسيلة لإقامة المعتقدات واختبارها، فواضح أن مقدماتها لا تدعو إليها الحاجة، وأن على النظرية أن تبدأ بنفس الأمور التي ترى نفسها مضطرة إلى الانتهاء بها.
إن التأييد بالتجربة، وهو ما يبدو لنا أن النظرية المذكورة تلجأ إليه، مستمدٌّ من كون التفكير النظري أو التفكير الاستدلالي متضمن بالفعل في بلوغنا أي شيء يحق له أن يدَّعى بأنه معرفة، متميزًا من مجرد الظن، لكنه يتجاهل الاعتبارات الأساسية التي تتحدد بها عمليات الفكر النظري، وهي العمليات التي تؤلف قوته الحقيقية في البحث: ألا وهي قيام مواقف مشكلة في الوجود الخارجي، وحدوث إجراءات عملية تنصبُّ على الوجود الخارجي، وتوجهها أفكارٌ في ذهن الباحث، ثم تجيء نتائجها الفعلية اختبارًا لسلامة تلك الأفكار؛ وهكذا نرى النظرية تخطئ خطأً أساسيًّا في فهمها للتوحُّد الذي يتجه إليه البحث فعلًا، بما له من ناحية نظرية استدلالية تتوسط طريق سيره؛ نعم إن الحركة تجاه موقف مرتب موحد أمر موجود بالفعل في عملية البحث كما تحدث في الحقيقة، لكن التوحُّد دائمًا منصب على المادة التي يأتلف منها موقف مشكل مفرد؛ وليس هو بالتوحد على إطلاقه؛ لكنْ لأن عمليات التفكير النظري تُجسَّد بحيث تصبح كائنًا قائمًا بذاته ذا طبيعة إجمالية، يطلق عليها «الفكرة» أو «العقل»، تراهم يعممون جانب التوحد هذا تعميمًا يجاوزون به الحدود التي في نطاقها يحدث التوحد حدوثًا فعليًّا، وأعني بها حل مواقف مشكلة جزئية معينة؛ ولهذا تراهم يفرضون في المعرفة أنها عبارة عن بلوغ الإنسان «وحدة» نهائية شاملة لكل شيء، معادلة «للكون» باعتباره كلًّا مطلقًا، وهو فرض يعلل قيام المثالية المطلقة التي سنتناولها فيما بعد؛ نعم إنه من الحق أن المواقف المشكلة قد أصبحت كذلك بسبب قيام ظروف تتعارض دلالاتها، تعارضًا يخلق موقفًا مضطربًا، ومن ثَم كانت الخاصة العامة لأي بحث كائنًا ما كان، هي أنه يحول الموقف المضطرب إلى موقف موحَّد أو موقف متصل في دلالته؛ غير أن النظرية المطروحة الآن للتمحيص، تعمم اتجاه البحث نحو هذه الغاية تعميمًا يجاوز الحدود التي يمكن التحقق منها بالتجربة.
إن المثالية العقلية تدعي أن العالم عقلي في شتى نواحيه، ما دام العلم ليس إلا الكشف عن مجموعة قوانينه المطردة، وهي مطردة لأنها ضرورية؛ فلو غضضنا النظر عن القول بأن قوانين العلاقات المطردة، هي في النهاية أدوات وَسِليَّة نضبط بها المواقف الموحَّدة العناصر؛ لننظر في هذه الدعوى من وجهة نظرها هي، وجاءنا الناحية العقلية المزعومة للكون في جملته، مثلًا آخر للتعميم الذي يجاوز الحدود التي يتحتم على البحث المدعم أن يقف عندها؛ فكون المواقف المشكلة ممكنة الحل (على الرغم من أن الوسائل التي تؤدي بنا إلى الحلول قد لا تكون في متناول أيدينا فعلًا لحظة معينة من الزمن) هو بغير شك مصادرة منتجة نفرضها قبل القيام بالبحث؛ وإنه لمن الحق أن حل الموقف على هذا النحو يجعل ما قد كان أول الأمر غير مفهوم، مفهومًا؛ لكن ذلك لا يسوغ لنا أن نمط هذه المبادئ حتى نجاوز بها حدود المواقف المشكلة الفعلية في تعددها؛ فقيام المواقف المشكلة تحدٍّ يبعث على القيام بالبحث، أي إنه يبعث على أن يفعل الذكاء فعله في صورة عملية؛ أما الفكرة القائلة بأن المعقولية المترتبة على البحث العلمي أو البحث الموجه، دليل على أن عالمًا عقليًّا أوليًّا قد كان موجودًا قبل البدء في البحث نفسه، فهي فكرة تضع العربة أمام الحصان؛ أضف إلى ذلك أنها تجعل ظهور المواقف على هيئة عمياء مهوشة العناصر، مشكلة تستعصي على الحل، اللهم إلا إذا أقمنا فاصلًا ميتافيزيقيًّا حادًّا بين عالم الظواهر كما تبدو، وعالم الحقائق التي تكمن وراء تلك الظواهر؛ وأخيرًا فإن التحدي الذي يحفزنا إلى أن نجعل العالم شيئًا أقرب إلى المعقول، هو تحدٍّ ما ينفك يتجدد، لأنه يتحدانا أن نؤدي بالفعل عمليات متعينة في أمكنة وأزمنة معينة؛ فالإيمان العلمي المنتج هو الاعتقاد بأن العناية بالبحث الموضوعي المتصل، في دأب وشجاعة خلال القيام به، يمكن أن تصبح أمرًا مألوفًا لدى عدد من الناس يزداد على مر الأيام؛ وأما الفكرة التي تقول إن إيمان العلم هو اعتقاد بأن العالم هو بالفعل عقلي في ذاته إلى درجة الكمال، فهي فكرة تسوغ خنوع الرضا أكثر منها فكرة تحث على العمل.
(٣-٣) المثالية المطلقة
لاحظنا أن المذاهب المثالية التي هي من النمط الذي فرغنا لتونا من تناوله، تصادف صعوبة كبيرة في تفسيرها لوجود العناصر الكيفية المدركة إدراكًا مباشرًا؛ فكل نظرية مستمدة — ولو من بعيد — من «كانت»، مضطرة إلى القول بأن «مقولات» الفكر الأولي «القبلي» تفعل فعلها على مادة حسية معطاة، لا قبل لنا إزاءها سوى أن نقبلها على أنها هي المادة المعطاة لنا؛ فكانت الصعوبة التي نشأت عن هذا الوضع، هي المصدر الذي جاء منه النمط الثالث من أنماط النظرية المثالية في المعرفة؛ وهذا النمط الثالث يقف وقفة ازدراء تجاه العمليات المجردة، التصورية منها والنظرية الذهنية؛ وبناءً على هذه الوجهة من النظر، يكون «المطلق» وهو «الكل غير المشروط بأي شرط» وهو موضوع المعرفة بمعناها الصحيح بمعايير المنطق، وهو الهدف الذي يقصد إليه الإنسان في تحصيله للمعرفة؛ أقول إن «المطلق» بناءً على هذه النظرية يكون هو التفسير الكامل والاندماج التام لعناصر الإدراكات المباشرة والتصورية والذهنية على السواء وما دام نقدنا الذي أوردناه عن مغالطة التوحد الشامل للعناصر كافة في العالم كله، يصدق أيضًا على هذه النظرية، فسنحصر مناقشتنا في الفكرة القائلة بتداخل ما هو مباشر من الفكر (وهو الذي يمثله ما نشعر به كما تمثله الصفات المحسَّة) وما هو علاقي منه تداخلًا يؤلف حكمًا.
ولباب النقد الذي يوجهه هذا النمط من نظرية المعرفة المثالية إلى المثالية العقلية، إنما ينصب على الجانب العلاقي من جوانب الحكم باعتباره حكمًا؛ فبناءً على المثالية المطلقية، يكون كل تفكير نظري استنباطي، كما يكون كل حكم من حيث هو حكم، مشتملًا على عملية تنقض نفسها بنفسها؛ وذلك لأن الحكم يبدأ سيره على أساس العلاقات، مع أن كل علاقة تحدث تمييزًا بين الأشياء إلى جانب كونها تربط بينها؛ وعلى ذلك فالحكم — ما دام هو السبيل الوحيد الذي يستطيع أفراد الإنسان أن يسلكوه — فلا مندوحة عن وقوفه حائلًا يحول دون بلوغهم الهدف المنشود، وهو التوحد النهائي؛ وهكذا تراهم يقولون إن التفكير النظري الاستنباطي ينطوي على فرض سابق، وهو فرض خبرة تشمل كل ما في الوجود — خبرة مطلقة — لا يكون فيها من الفوارق ما يميز المدرك إدراكًا مباشرًا من المدرك بطريق الاستدلال؛ وهذه «الخبرة» لها طبيعة المشاعر الكيفية التي استوعبت استيعابًا كاملًا الخصائص العقلية والعلاقية في نفسها، حتى لتزول الأخيرة منهما فلا يصبح لها وجود؛ لكن المضمون المادي لهذا الكل النهائي (الذي هو «الحقيقة الكونية» دون سواه) هو فوق متناولنا بصورة حاسمة، ما دمنا نحن لا «نعرف» إلا عن طريق الحكم، والحكم نظري واستنباطي.
إن المناقشات والنتائج التي وردت في هذا الفصل، موجَّهةٌ بنظرية نمط البحث التي بسطناها، فلا يمكن فهم تلك المناقشات والنتائج بمعزل من هذه النظرية؛ ولقد أوردناها لكي تزودنا بتأييد غير مباشر لوجهة النظر التي أخذنا بها في هذا الكتاب؛ ولن أكرر هنا ما قلته بحيث انتهيت به إلى نتيجة، هي أن الاهتمامات التي صبها كل مذهب على جانب واحد اختاره لنفسه دون سائر الجوانب التي تتكامل كلها في نمط البحث كما يقع بالفعل، خاطئة لأن مادتها منزوعة عن سياقها، وبهذا أصبحت مادتها إطارًا ذا بناء خاص، ولم تعد أدائية؛ أي إن مادتها قد أصبحت كونية بدل أن تكون منطقية؛ وإنه ليحق لنا أن نختم بخاتمة نشير بها إلى الإهمال التام، بل وإلى الإنكار التام لما يتصف به البحث من ظروف إجرائية ومن نتائج عملية؛ فالإجراءات والتقنيات كافة التي تقع أثناء البحث مما يؤدي إلى اعتقادات مستقرة، في مجال الإدراك الفطري وفي المجال العلمي على السواء، هي إجراءات عملية تنفذ فعلًا في الوجود الخارجي؛ أما الإجراءات التي تتم في مجال الإدراك الفطري فمقيدة بنطاق محدود، بسبب اعتمادها على عدد محدود من الأدوات الوسلية، ألا وهي أعضاء البدن مزودة بأجهزة وسلية كانت قد اخترعت لتحقق منافع عملية ومتعًا عملية، أكثر مما اخترعت لتخدم البحث في سيره؛ وحاصل هذه العمليات في النهاية، أعني العمليات التي توجه نحو غاية عملية، هو أن تضفي سلطانًا على مجموعة من أفكار أصبحت مألوفة في ثقافة معينة؛ ولكن العلم المنتج يبدأ حين تتكيف وتُصاغ الأدوات الوسلية المستخدمة في إجراءات البحث، على نحو يجعلها تخدم غرض البحث من حيث هو بحث فقط، بما يقتضيه ذلك من تطور لغة خاصة أو مجموعة من رموز.
لقد نشأت نظريات المعرفة التي تؤلف ما يُسمَّى اليوم بمذاهب «الإبستمولوجيا»، لأن المعرفة وتحصيلها لم يفهما على أساس كونهما إجراءات عملية من شأنها — خلال متصل البحث الخِبْري — أن توصلنا إلى اعتقادات مستقرة تزداد مقدارًا واستعمالًا على مر الأيام؛ فلأن المعرفة وتحصيلها لم يُقاما على أساس الإجراءات العملية، ولم يُفهما على أساس ما يتبع فيهما من طرائق بحث فعلية وما يترتب عليهما من عواقب واقعية، فقد كان لا مندوحة لهما عن أن يُصاغا في صورة مدركات عقلية يسبق تكوينها قيام الإنسان بالبحث؛ وهي مدركات تُستمد من مصادر متعددة، أهمها عند النظرية القديمة هو مصدر النواميس الكونية، وأهمها عند النظرية الحديثة هو المصدر السيكولوجي (بمعنى مباشر أو غير مباشر)؛ وهكذا يفقد المنطق استقلاله الذاتي، وهي حقيقة يزيد معناها على مجرد أن يكون الكساح قد أصاب نظرية صورية؛ بل إن ما فقده المنطق معناه أن المنطق، باعتباره التفسير الذي يعمم الوسائل التي تؤدي بنا إلى الاعتقادات السليمة في أي موضوع كائنًا ما كان، كما أنها الوسائل التي تمكننا من اختبار سلامة تلك الاعتقادات، أقول إن ما فقده المنطق معناه أن المنطق قد انعزل عن العمليات الفعلية التي تؤدي بالناس في الواقع إلى أمثال هذه الاعتقادات السليمة وتأييدها؛ ولقد أدى قصورنا دون بناء منطق قائم — بصورة جامعة مانعة — على عمليات البحث الإجرائية، إلى نتائج ثقافية جسيمة، فهو يشجع القول الغامض، ويزيد من قبولنا للاعتقادات التي تكونت قبل أن تبلغ طرائق البحث ما قد بلغته في مرحلتها الراهنة، ويميل نحو أن يعهد بطرائق البحث العلمية (أعني الطرائق المنتجة) إلى مجال التخصص الفني؛ ولما كانت الطرائق العلمية لا تجاوز أن تكون هي الطرائق التي تعرض الذكاء الحر وهو يعمل عمله بأحسن صورة ممكنة في الزمن المعين، كان ما يصيب الثقافة من ضياع في الجهد ومن خلط وتشويه نتيجة قصورنا دون استخدام هذه الطرائق في شتى الميادين، وبالنسبة إلى شتى المشكلات، يفوق كل تقدير؛ وأن هذه الاعتبارات لتزيد من قوة الدعوى التي تنادي بها النظرية المنطقية، حين تكون هذه النظرية هي نظرية البحث، في أن تحتل ثم تحتفظ بمكانة لها الحظ الأول من الأهمية الإنسانية.