جذور البحث تنبت في الوجود الفعلي
ليست البيئة التي يحيا فيها بنو الإنسان ويعملون ويبحثون، مادية فحسب، بل هي ثقافية كذلك؛ فالمشكلات التي تَبعث على البحث إنما تنشأ من علاقات الناس بعضهم ببعض؛ وليست تقتصر الأعضاء التي تختص بهذه العلاقات على العين والأذن؛ بل إن من أدواتها كذلك تلك المعاني التي تطورت على مر الحياة، مضافًا إليها طرائق تكوين الثقافة ونقلها، الثقافة بكل مقوماتها من عدد وصناعات ونظم اجتماعية وتقاليد ومعتقدات سائدة.
-
(١)
فالأساليب التي يرد بها بنو الإنسان على ظروفهم الطبيعية نفسها، هي إلى حد كبير جدًّا متأثرة ببيئتهم الثقافية؛ فالنور والنار حقائق طبيعية؛ لكن المواقف التي يستجيب فيها الناس للأشياء على أساس كونها طبيعية صرفًا، فيستجيبون لها بأساليب طبيعية خالصة، نادرة الحدوث بالقياس إلى سواها؛ ومن أمثال هذه المواقف أن يقفز الإنسان إذا ما سمع صوتًا مفاجئًا، وأن يسحب يده إذا ما مست جسمًا ساخنًا، وأن يغمض الجفن حين يزداد الضوء زيادة مفاجئة، واصطلاء أشعة الشمس الدافئة بصورة تشبه ما يستلقي بها الحيوان … إلخ؛ وكل هذه ردود أفعال على المستوى البيولوجي، لكن هذه الأمثلة وأشباهها لا تصور حالات السلوك الإنساني بمعناه الدقيق؛ وإنما يمثل النشاط الإنساني المتميز بإنسانيته «استخدام» الصوت في الكلام وفي الإنصات للكلام، وتأليف الموسيقى والاستمتاع بها، وإشعال النار ورعاية لهبها لنطهو أو لنصطلي دفئها، وإحداث الضوء للقيام بأعمالنا ولهونا الاجتماعي، ثم لتنظيم تلك الأعمال وهذا اللهو.
ولكي تتبين المدى الكامل الذي تعمل العوامل الثقافية في حدوده لتشق لمسالك الحياة مجراها، فعليك أن تتعقب سلوك فرد واحد خلال يوم واحد على الأقل، سواء كان ذلك اليوم يومًا في حياة عامل أجير أم رجل من أرباب المهن، أم فنان أم عالم، ثم يستوي الأمر كذلك إن كان الفرد المختار وليدًا ناشئًا أو والدًا؛ فالنتيجة في كل هذه الحالات هي أن ترى كيف يجيء السلوك مشبعًا من أوله إلى آخره بظروف وعوامل ثقافية في منشئها وفي مضمونها؛ ولك أن تقول عن السلوك المتميز بإنسانيته إن البيئة الطبيعية بأضيق معانيها إنما تتداخل في البيئة الثقافية تداخلًا يجعل تفاعلنا مع البيئة الطبيعية ومشكلاتنا التي تنشأ متعلقة بها وأساليبنا في تناول تلك المشكلات، متأثرة كلها تأثرًا عميقًا بتداخل هذه البيئة الطبيعية في البيئة الثقافية.
إن الإنسان — كما لاحظ أرسطو — حيوان «اجتماعي»، وهذه الحقيقة تُدخله في مواقف وتُحدث له من المشكلات ومن وسائل حلها ما ليس له نظير سابق في الحياة العضوية على مستواها البيولوجي؛ وذلك لأن الإنسان اجتماعي بمعنًى آخر غير الذي نراه في النحل والنمل؛ إذ تُحاط مناشطه ببيئة يمكن نقلها بأدوات ثقافية، حتى لتصبح أفعال الإنسان وكيفية أدائه لها غير متأثرة بتكوينه العضوي وتراثه الجسدي فحسب، بل تتأثر كذلك بمؤثرات تراثه الثقافي المنبث في التقاليد والنظم الاجتماعية والعادات والغايات والمعتقدات التي تحملها هذه الوسائل في طيها أو توحي بها؛ حتى الأجهزة العصبية العضلية عند الأفراد يصيبها التحوير بسبب تأثير البيئة الثقافية على ما تؤديه تلك الأجهزة من أوجه النشاط؛ فتحصيل اللغة وفهمها والمهارة في الفنون الصناعية (التي لا يعرفها غير الإنسان من صنوف الحيوان) يمثلان كيف تتدخل آثار الظروف الثقافية خلال البناء الجثماني للكائنات البشرية، تدخلًا يبلغ من العمق حدًّا يجعل أوجه النشاط المترتبة عليه مباشرة و«طبيعية» في ظاهرها كأنما هي في ذلك شبيهة بردود الأفعال التي يقوم بها طفل رضيع؛ وما القراءة والكلام وممارسة أي فن من الفنون — صناعيًّا كان أو سياسيًّا أو فنيًّا من الفنون الجميلة — إلا أمثلة لصور التحوير التي تتم «داخل» الكائن العضوي في نشاطه البيولوجي، بسبب البيئة الثقافية.
وهذا التحوير الذي يطرأ على السلوك العضوي في البيئة الثقافية وبسببها، يفسر لنا، بل قل إنه هو نفسه تحويل السلوك العضوي إلى سلوك متميز بخصائص عقلية هي التي نُعنى بها في هذا البحث؛ فالسلوك الذي هو بيولوجي في نوعه يَرسم سلفًا طريقة إجراءاتنا الفكرية، وهو الذي يمهد لها الطريق؛ لكن رسم الطريقة سلفًا ليس معناه أنه النموذج الذي يُحتذى، وتمهيد الطريق ليس معناه أنه هو الذي يقوم بالأداء؛ فعلى أية نظرية مرتكزة على مصادرة مفروضة من المذهب الطبيعي، أن تواجه المشكلة الناشئة من قيام فروق بعيدة تميز مناشط الكائنات البشرية وروائع أعمالهم من المناشط والأعمال الأخرى التي تتخذ الصورة البيولوجية الخالصة؛ وإن هذه الفروق لهي التي أوحت بفكرة أن الإنسان منفصل انفصالًا تامًّا عن بقية أنواع الحيوان، بما له من خصائص جاءته من مصدر غير مصادر الطبيعة؛ والفكرة التي سنتناولها بالإيضاح المفصل في هذا الفصل هي أن نشأة اللغة (بأوسع معانيها) عن مناشط بيولوجية سابقة — وفي صحبتها عوامل ثقافية أوسع منها مدًى — هي مفتاح هذا التحول في طبيعة الإنسان؛ فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية، لم تعد مسألة قوامها انتقال السلوك العضوي إلى شيء آخر لا يتصل به بأي وجه من الوجوه كما يفعل — مثلًا — أولئك الذين يلجئُون إلى «عقل» أو إلى «حدس» أو إلى ملكة «قبلية أولية» ليفسروا بها اختلاف الإنسان عن الحيوان؛ بل تُصبح المسألة مسألة فرعية لمشكلة عامة، وهي مشكلة استمرار التغير ونشوء ضروب جديدة من النشاط، أو هي مشكلة التطور في كل درجاته.
إذا نظرنا إلى المشكلة من هذه الزاوية، أمكن أن نرد عناصرها إلى رءوس معينة، سنذكر منها ثلاثة، أولها أن السلوك العضوي متمركز في كائنات عضوية «جزئية» (أي فردية)، وهذه حقيقة تَصدق على عمليات الاستدلال والتدليل العقلي باعتبارهما ضربين من النشاط القائم في الوجود الفعلي؛ لكن إذا أُريدَ لهذه الاستدلالات التي يستدلها الأفراد، والنتائج التي ينتهون إليها، أن تكون سليمة، وجب أن تكون مادة الموضوع المبحوث والعمليات المستخدمة في بحثه، من نوع يُنتج نتائج بعينها لا تتغير بتغير الأفراد الذين يستدلون أو يدللون؛ أما إذا كان شاهد معين مؤديًا بشخصين إلى نتيجتين مختلفتين، فإما أن يكون الشاهد ليس واحدًا في كلتا الحالتين إلا بمظهره المضلل، أو أن تكون النتيجة التي انتهى إليها أحدهما (أو كلاهما) باطلة؛ ذلك أن البنية «الخاصة» للكيان العضوي عند فرد معين، إن كان لها خطرها في السلوك البيولوجي، فهي ليست بذات شأن في عملية البحث الخاضعة للضوابط، حتى لينبغي إسقاطها من الحساب والإمساك بزمامها.
ووجه ثانٍ من وجوه المشكلة يتبدى بالدور الذي تقوم به الانفعالات والأهواء في أحكام الإنسان؛ فهذه الجوانب «الشخصية» تُلفِّق الشواهد وتَصوغ النتائج التي تُستخلص من تلك الشواهد؛ أعني أن الفرد بما له من مميزات فردية سواء كانت تلك المميزات فطرية أم مكسوبة، هو — حين نكون عند مستوى العوامل العضوية (وهي العوامل التي تؤثر تأثيرًا فعَّالًا في أنواع الحالات التي ذكرناها) — شريك فعَّال في خلق الأفكار والمعتقدات، ومع ذلك فهذه الأفكار والمعتقدات لا يُقال عنها إنها قائمة على أسس منطقية إلا إذا حذفنا — عامدين — تلك الخصائص الفردية حتى نحول دون تأثيرها؛ إننا نُعيد في هذه النقطة ما قلناه عن النقطة السابقة، لكنها مع ذلك تُشير إلى وجه آخر من الموضوع؛ أو بعبارة أخرى نستخدم فيها المصطلحات الشائعة، نقول إنه إذا كان الاختلاف في الحالة الأولى هو اختلاف بين الجزئي والكلي، فهذه النقطة الثانية يجوز أن نعبر عنها بأنها الاختلاف بين الذاتي والموضوعي؛ فلأن تكون «موضوعيًّا» من الناحية الفكرية، معناه أن تُسقط وتَحذف العوامل الشخصية البحتة أثناء الإجراءات التي تُتخذ للوصول إلى نتيجة.
إنه إذا كان السلوك العضوي حدثًا يحدث في لحظة معينة من الزمن بالمعنى الدقيق لهذه العبارة، فهو إذ يُصاغ صياغة «عقلية» — سواء بالنسبة إلى الطرائق العامة للسلوك أو إلى الظروف البيئية الخاصة التي تعمل فيها تلك الطرائق العامة — أقول إن السلوك إذ يُصاغ صياغة عقلية فعندئذٍ تتكون القضايا ولا تظل لحدود القضية ما يربطها بعضها ببعض من علاقة زمنية؛ فحين نزل نازل بجزيرة روبنسن كروسو كان ذلك حدثًا متعين الزمن، وحين وَجد كروسو أثر القدم على الرمال كان ذلك كذلك حدثًا متعين الزمن؛ وحين استدل كروسو وجود غريب في الجزيرة قد يكون مصدرًا للخطر، كان ذلك أيضًا حدثًا متعين الزمن؛ لكن بينما كانت هذه القضية التي استدلها قائمة «عن» شيء متعين الزمن، فإن «العلاقة» التي تصل الواقعة المشاهدة التي هي بمثابة الدليل، بالنتيجة المستدلة منها، تخرج عن حدود الزمن، وقل ذلك نفسه عن كل علاقة منطقية تقوم داخل القضية أو تربط قضية بأخرى.
والرأي الذي نذهب إليه في مناقشتنا الآتية، هو أن حل المشكلة التي فرغنا لِتوِّنا من بسطها من بعض وجوهها، إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بالعناصر الثقافية؛ فالتحول من سلوك عضوي إلى سلوك عقلي تحوُّلًا يتسم بخصائص منطقية، هو نتيجة لحقيقة قائمة وهي أن الأفراد يعيشون في بيئة ثقافية، فيضطرهم هذا العيش إلى الأخذ في سلوكهم بوجهة النظر التي تقتضيها العادات والمعتقدات والنظم والمعاني والمشروعات التي هي — نسبيًّا على الأقل — متصفة بالشمول والموضوعية.١ -
(٢)
وفي مركب العناصر التي يتألف منها المحيط الثقافي، تحتل اللغة مكانًا ذا دلالة خاصة، وهي تؤدي وظيفة ذات دلالة خاصة كذلك؛ فهي في ذاتها نظام ثقافي، على أنها — منظورًا إليها من إحدى وجهات النظر — نظام بين كثير من نظم؛ ولكنها (١) هي الأداة التي «تنتقل» بها سائر النظم والعادات المكتسبة، وهي (٢) «تتغلغل» خلال الصور ومضموناتها في آنٍ معًا، أعني صور المناشط الثقافية الأخرى ومضموناتها، وفضلًا عن ذلك فهي (٣) تتميز بتركيب خاص بها له قابلية التجريد باعتبارها «صورة» من الصور؛ ولهذا التركيب — إذا ما تجرد في صورة — تأثير حاسم، من الوجهة التاريخية، في صياغة النظرية المنطقية؛ إذ لا تزال الرموز التي تُلائم صورة اللغة باعتبارها أداة للبحث (وهذا جانب منها يختلف عن وظيفتها الأصلية، وهي أن تكون وسيلة للتفاهم) لا تزال تلك الرموز متصلة بالنظرية المنطقية اتصالًا يَلفت النظر؛ ولهذا فإننا فيما يلي من البحث سنأخذ البيئة الثقافية بمعناها الواسع مأخذ التسليم، ثم نحصر أنفسنا في الوظيفة الخاصة التي تؤديها اللغة في إحداث التحول من المرحلة البيولوجية إلى المرحلة العقلية التي تحمل في طيها بذور المرحلة المنطقية.
على أننا إذ نتناول اللغة — فيما يلي من البحث — فإنما نتناولها بأوسع معانيها، وهو معنًى أشمل من الكلام منطوقًا ومكتوبًا؛ فهي إذ تشمل هذا الكلام، تُضيف إليه كذلك لا مجرد الإشارات الجسدية، بل تُضيف أيضًا الشعائر والطقوس والنصب ومنتجات الفنون الصناعية والفنون الجميلة على السواء؛ فالعدة أو الآلة — مثلًا — ليست مجرد أداة بسيطة أو مركبة، لها خصائصها وآثارها المادية فحسب، بل هي كذلك ضرب من اللغة؛ ذلك لأنها «تقول» شيئًا — لمن يفهم قولها — عن إجراءات استعمالها وما يترتب على تلك الإجراءات من نتائج؛ فالمغزِل المُدار بالبخار أو بالكهرباء لا يقول شيئًا لأعضاء مجتمع بدائي، كأنما هو مؤلف من لغة أجنبية، وهكذا قل في معظم ما في الحضارة الحديثة من حِيَل آلية؛ أما بالنسبة إلى المحيط الثقافي القائم بيننا اليوم، فهذه الأشياء ترتبط بصوالحنا وشواغلنا وأهدافنا ارتباطًا وثيقًا حتى لَكأنها تتحدث إلينا بصوت بليغ.
إن أهمية اللغة باعتبارها شرطًا ضروريًّا، ويصبح آخر الأمر شرطًا كافيًا كذلك لا بد من توافره لقيام أوجه النشاط وما يترتب عليها، ثم لانتقال تلك المناشط ونتائجها، وهي المناشط التي لا تقتصر على كونها عضوية خالصة، أقول إن أهمية اللغة باعتبارها ذاك إنما تقع في كونها — من جهة — ضربًا من السلوك بيولوجي الخصائص بأدق المعاني، ناشئًا بتسلسل طبيعي من المناشط العضوية الأولى، وفي كونها في الوقت نفسه — من جهة أخرى — تضطر الفرد الواحد من أفراد الناس أن يلتزم بوجهة نظر سائر الأفراد، وأن ينظر إلى الأمور وأن يُجري عليها البحث من زاوية لا تقتصر على فرديته الذاتية وحدها، بل تكون مشتركة بينهم وبينه باعتبارهم شركاء أو «أطرافًا متعاقدة» في مشروع مشترك؛ نعم قد يكون أحد أجزاء الوجود الفعلي هو الموجه وهو الهدف لقيام اللغة، لكنها تهم أول ما تهم شخصًا آخر أو أشخاصًا آخرين؛ إذ تكون لهم وسيلة «تفاهم»، أي وسيلة تقيم بينهم شيئًا مشتركًا، ومِن ثَم فبمقدار ما يكون لها من هذا الاشتراك تصبح عامة و«موضوعية».
إن اللغة مؤلفة من كائنات مادية، هي الأصوات أو العلامات المخطوطة على ورق، أو هي معبد أو تمثال أو مغزل؛ غير أن هذه الأشياء لا «تعمل»، أي إنها لا تؤدي وظيفتها — حين تُتخذ وسائل للتفاهم — باعتبارها أشياء مادية وكفى؛ إنما هي تعمل عملها اللغوي بفضل قدرتها على «التمثيل» أي قدرتها على أن تكون ذات «معنًى»؛ ولئن كان العرف قد جرى على أن تكون الأشياء المادية المعينة التي هي أجزاء الكلام، ذوات معنًى، إلا أن هذا العرف نفسه، أو الاتفاق المشترك على أن يخصص الكلام ليكون وسيلة لتسجيل المعنى ونقله من شخص إلى شخص، إن هو إلا اتفاق على «فعل»، أي على ضروب مشتركة من السلوك الذي يرد به الناس على بيئتهم، ثم المساهمة في نتائج تلك الضروب؛ فالصوت أو الترقيم — وهما من مادة — إنما يكتسب معناه خلال مساهمة أعضاء الجماعة وبفضل تلك المساهمة نفسها في أن يستخدموا هذا الترقيم أو ذلك الصوت استعمالًا مؤديًا لغرض مقصود، وليس الذي يحدد المعنى هو أن يجتمع الأفراد علانية في «جلسة» يعقدونها، أو أن يصدروا القرارات بأن صوتًا معينًا أو ترقيمًا معينًا ينبغي أن يكون له معنًى معين يحددونه؛ فحتى حين تحدد محكمة ما معاني كلمات قضائية معينة، فليس حسم الأمر هنا مرهونًا بما يتفق عليه القضاة لأن هذا الاتفاق بينهم لا يُنهي الأمر، بل هو اتفاق يُقصَد به تحديد الأوضاع في الحالات المستقبلة التي تقتضي اتفاقًا على «سلوك» مشترك؛ وهذا السلوك التالي هو الذي يقرر بصورة حاسمة ماذا تكون المعاني الفعلية للكلمات التي هي موضع التحديد؛ فاتفاقنا على قضية ننتهي إليها لا يكتسب مغزاه إلا فيما تؤديه تلك القضية من تيسير اتفاقنا على سلوكنا الفعلي.
وإنما ذكرت هذه الملاحظات لأنها تُقيم البرهان على أن المعنى الذي يكون لرمز اتفاقي، لا يكون هو نفسه اتفاقيًّا؛ إذ يتقرر المعنى باتفاقات تقوم بين مختلف الأشخاص في تيار نشاطهم الفعلي، بحيث يكون لهذا النشاط صلة يشير بها إلى نتائج في الوجود الفعلي كذلك؛ فالصوت أو الترقيم الجزئي القائم في الوجود الفعلي — والذي يرمز إلى «الكلب» أو إلى «العدالة» في ثقافات مختلفة — هو جزاف، أو هو اتفاقي، بمعنى أنه على الرغم من أن له «أسبابًا» أوجدته، إلا أنه بغير «علل» تبرره؛ ولكنه «إلى الحد» الذي يكون به وسيلة للتفاهم، يكون مشترك المعنى، لأن ظروفًا فعلية هي التي عملت على قيامه؛ فإذا اختلف معنى كلمة عند جماعات ثقافية مختلفة أرادت التفاهم بعضها مع بعض، كان التفاهم — بمقدار ذلك الاختلاف — مسدود الطريق، ونتج عن ذلك سوء التفاهم بل إن التفاهم لينتفي وجوده حتى يمكن للأوجه المختلفة من الفهم أن تُترجَم — بوساطة معنى الكلمات — إلى معنًى لا يختلف عند فريق عنه عند فريق آخر. وحيثما ينسد طريق التفاهم — ومع ذلك يظل الافتراض قائمًا على أنه طريق مفتوح — ينشأ سوء التفاهم، ولا أقول إن الذي ينشأ هو مجرد انعدام الفهم. وإنه لمن الخطأ أن نظنَّ بأن سوء التفاهم إنما يكون حول معنى «كلمة» وهي بمعزل، كما أنه من الخطأ أن نظن أنه إذا قبل شخصان المعنى المعجمي لكلمة ما، فقد تم لهما الاتفاق والفهم؛ ذلك لأن الاتفاق وعدم الاتفاق إنما تحددهما النتائج التي تترتب على ما يشتركان فيه من أوجه النشاط؛ فما التوافق أو ضده إلا في الآثار التي تنتج عن المناشط المتعددة التي تقتضيها الكلمات التي نستعملها.
-
(٣)
إن ما قد أشرنا إليه من أن اتساق النتائج هو الذي يحدد المعنى لأي صوت نستخدمه وسيلة للتفاهم، لَيَدل على أنه لا وجود لما نقول عنه إنه «مجرد» كلمة أو «مجرد» رمز؛ نعم إن الموجود المادي الذي نجعله أداة لنقل المعنى قد يكون وهو على انفراد مما يجوز أن نقول عنه إنه «مجرد» لفظ؛ والنطق بعدد من هذه الأصوات، أو سلك عدد من هذه الترقيمات بخيط واحد مما يجوز أن نقول عنه إنه «مجرد» لغة؛ لكن حقيقة الأمر هي أنه ليس هنالك كلمة في مثل الحالة الأولى ولا هناك لغة في مثل الحالة الثانية؛ فالمناشط التي تحدث والنتائج التي تترتب عليها — ما دامت لم تخضع لمعنًى يحددها — لا تزيد — بحكم وصفها — عن كونها كيانات مادية وكفى؛ إذ الصوت أو الترقيم ذو الوجود المادي لا يصبح جزءًا من «لغة» إلا بفضل قوته في «الأداء»؛ أعني بمقدار ما يقوم به — باعتباره وسيلة — من استثارة مناشط مختلفة ينشط بها أشخاص مختلفون ليستحدثوا بها نتائج يشترك فيها كل من أسهم في المشروع المشترك؛ وإنك لترى هذه الحقيقة واضحة ومباشرة في مجال التفاهم الشفوي، لكنها تكون غير مباشرة ومتخفية في مجال التفاهم عن طريق الكتابة؛ فحيث تَكثر الآثار المكتوبة وتَكثر القدرة على قراءتها، تتشكل الفكرة عن اللغة — في الأرجح — وفق نموذجهما، وعندئذٍ تُنسَى العلاقة الكامنة التي تربط اللغة باشتراك الناس في أوجه النشاط الفعلي؛ وعندئذٍ كذلك يظن أن اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن «الأفكار» ووسيلة لنقلها، أي إنها وسيلة لنقل أفكار أو معانٍ كاملة بنفسها، مستغنية عن القوة الأدائية التي تكون لها في فعل يشترك الناس في أدائه.
أضف إلى ذلك أن كثيرًا من المادة المكتوبة يُقرأ لمجرد المتعة ولأغراض جمالية؛ وفي مثل هذه الحالة لا تكون اللغة وسيلة فعل إلا بمقدار ما تعين القارئ على تكوين صور ومناظر تكون مصدرًا لمتعته؛ وعندئذٍ لا تبقى للغة طبيعتها المباشرة الكامنة في صلبها، وهي أن تُشير إلى مناشط مشتركة وإلى نتائج يُسهِم الناس فيها جماعة؛ لكن ما هكذا تكون الحال في القراءة التي يحاول بها القارئ أن يصل إلى ما يعنيه الكاتب. أعني في القراءة التي تتميز بجانبها العقلي تميزًا ظاهرًا، وهو جانب يختلف عن جانبها الذي يبتغي النشوة الجمالية؛ نعم إن في قراءة رسالة علمية لا يكون ثمة اشتراك مباشر صريح في فعل يؤديه القارئ مع سواه بغية استحداث نتائج تكون «مشتركة» بالمعنى الذي يجعلها مقتسمة بينهما اقتسامًا مباشرًا وشخصيًّا؛ لكنه لا بد في مثل هذه القراءة أن يستخدم القارئ خياله في بناء المواد والعمليات على النحو الذي أدى بالمؤلف إلى نتائج معينة؛ ولا بد كذلك أن يوافق القارئ أو لا يوافق على تلك النتائج باعتبارها الخاتمة التي انتهى إليها سيره خلال ظروف وعمليات أقامها لنفسه بخياله.
وفي مثل هذه الحالة تكون الصلة بالمناشط الصريحة صلة غير مباشرة وذات حلقات وسطى؛ لكنه إذا ما بلغ القارئ موقفًا محددًا ثابتًا من الموافقة أو عدم الموافقة، فإنه بذلك يُكوِّن لنفسه وقفة تكون له بمثابة استعداد تمهيدي يُمكِّنه من التصرف على نحو يرد به على عوامل البيئة حين تنهض أمام عينيه بالفعل تلك الظروف الواردة في المادة المقروءة، أو ظروف شبيهة بها؛ وبعبارة أخرى فإن الرابطة التي تصل اللغة في هذه الحالة بالفعل، إنما هي رابطة بما «يمكن» أن يُؤدَّى من طرائق الفعل، لا بما هو مطلوب «فعلًا» ومباشرة أن يُؤدَّى فورًا،٢ على أن تهيؤ الإنسان لفعل «ممكن» في مواقف لم تحدث بعد في عالم الوجود الفعلي، هو شرط جوهري لكل سلوك ينبني على عقل، وهو كذلك عامل يدخل في ذلك السلوك؛ فحين تلتقي جماعة من الناس معًا في مؤتمر ليخططوا ما عساه أن يُؤدَّى في ظروف وطوارئ معينة قبل وقوعها فعلًا؛ أو حين يتدبر فرد من الناس لنفسه ماذا عسى أن يكون عليه سلوكه في ظرف يجوز قيامه مستقبلًا، قبل أن ينشأ ذلك الظرف بالفعل؛ أقول إنه في مثل هذه الحالة أو تلك يحدث شيء هو من قبيل ما يحدث للقارئ حين يتفهم معنى رسالة علمية تفهمًا عقليًّا، لولا أن الأمر في الحالتين السابقتين أكثر مباشرة في صلته بالفعل من الأمر في الحالة الأخيرة.وأنتقل الآن إلى الجانب الإيجابي الذي يلزم عن الحقيقة القائلة بأن الصوت أو الترقيم أو النتاج الفني لا يكون كلمة أو جزءًا من اللغة وهو قائم وحده؛ إذ لا يكون لكلمة أو لعبارة من المعنى إلا باعتبارها عضوًا من مجموعة معانٍ متصل بعضها ببعض؛ فالكلمات بوصفها ممثلات لمسمياتها إن هي إلا جزء من نظام رمزي كامل شامل؛ وقد يكون هذا النظام الرمزي عامًّا أو خاصًّا؛ ويتمثل العامُّ في أية لغة سائدة بين مجموعة ثقافية معينة، وأما الخاصُّ فهو نظام يتفق عليه أعضاء المجموعات الخاصة فيما بينهم بحيث لا يستطيع فهمه إلا من ضُم إلى المجموعة عضوًا؛ وبين هذين الضربين تأتى ضروب من اللغات السرية التي تصطنعها جماعات خاصة في المجتمع، وتأتي نظم رمزية فنية يبتكرها أصحابها ابتكارًا لغرض خاصٍّ محدود، كالمصطلحات التي تستخدمها السفن في البحر؛ ولكنه في كل حالة من هذه الحالات، لا يكون للكلمة الواحدة المعينة معنًى إلا بإضافتها إلى النظام الرمزي الذي هي أحد مقوماته؛ ولقد يصلح التمييز الذي أشرنا إليه منذ قليل بين المعاني التي تتحدد بالعلاقة التي توشك أن تكون علاقة مباشرة بالفعل الذي نؤديه في مواقف راهنة أو وشيكة الوقوع، وبين المعاني التي تتحدد لتكون مهيَّأة للاستعمال في مواقف بعيدة وطارئة، أقول إن هذا التمييز بين ذينك النوعين من المعاني، قد يَصلح أن يكون أساسًا للتفرقة بين اللغات باعتبارها نسقات من رموز، تفرقة تقسمها نوعين أساسيين.
ونحن إذ نقول عن اللغة بأسرها — أي مجموعة الرموز ومعانيها — إنها نسق مؤلَّف من أجزاء، فلسنا بالضرورة نعني بذلك أن الأجزاء قد اختيرت على أساس صلاحيتها لأن تكون أعضاء في بنائها النسقي؛ وأبعد من ذلك احتمالًا أن يكون ما نعنيه بقولنا ذاك أن الأجزاء قد اختيرت على أساس اشتراكها بالفعل في بناء نسق شامل؛ فقد لا يزيد هذا النسق الرمزي على كونه اللغة الجارية، وعندئذٍ ترتبط معانيها بعضها ببعض، لا على أساس أننا قد اختبرنا تلك الروابط بين معانيها، بل لأن المعاني متداولة في مجموعة واحدة من عادات المجتمع وتوقعاته؛ فمعاني اللغة الواحدة يرتبط بعضها ببعض بسبب ما يشترك فيه الناس من أوجه النشاط ومن الاهتمامات والعادات والنظم؛ تلك هي الحال في لغة الحياة الجارية، أما في اللغة العلمية فالأمر يخضع لاختبار آخر يُضاف إلى ما تخضع له اللغة الجارية، وذلك أن كل معنًى يدخل في لغة العلم إنما يتحدد تحديدًا صريحًا من حيث علاقته بسائر أجزاء البناء اللغوي، وإن هذا المعيار الجديد المضاف لَتكون له الأسبقية على المعيار الذي تُقيمه علاقة اللغة بالعادات الثقافية، وذلك في كل حالة نقوم فيها بتدليل عقلي أو بمناقشة منظمة.
والفرق الناتج عن هذه التفرقة بين الضربين المذكورين من اللغة ومعانيها، هو الذي يحدد — من حيث الأساس — الفرق بين ما نسميه ذوقًا فطريًّا وما نسميه علمًا؛ ففي حالات الذوق الفطري تكون العادات ونفسية الجماعة وروحها هما العامل الفاصل في تحديد مجموعة المعاني المتداوَلة؛ فمجموعة المعاني في هذه الحالة إنما تكون ذات بناء نسقي بالمعنى العملي الاجتماعي لهذه الكلمة، لا بالمعنى العقلي لها؛ والمعاني التي تتكون على أساس الذوق الفطري لا مفر لها من احتوائها على كثير مما لا يخضع للضابط العقلي الذي يضبط سير النشاط، كما أنه لا مفر لها من أن تَستبعد كثيرًا مما يتطلبه هذا الضابط العقلي؛ فها هنا تكون المعاني غليظة الأطراف، وكثير منها لا يتسق بعضه مع بعض من وجهة النظر المنطقية؛ فمعنًى منها يلائم الفعل في ظل ظروف اجتماعية معينة يقتضيها ما للجماعة من نظم، ومعنًى آخر يُلائم الفعل في موقف آخر، دون أن تكون هنالك محاولة لوصل المواقف المختلفة بعضها مع بعض في نسق واحد تلتئم أجزاؤه؛ فهنالك — من وجهة النظر العقلية — لغات كثيرة، وأما من وجهة النظر الاجتماعية فهي لغة واحدة. وإنه لمن السمات التي تميز ثقافتنا الراهنة أن نجد هذه الكثرة من مجموعات الرموز اللغوية ومعانيها؛ فكلمة واحدة تعني شيئًا معينًا بالقياس إلى النظام الديني، وتعني شيئًا آخر في دنيا الأعمال، وشيئًا ثالثًا في القانون وهلم جرًّا، وما هذه الحال إلا «بابل» على حقيقتها حيث تختلط وسائل التفاهم؛ وثمة اليوم من يحاولون نشر فكرة بين الناس، وهي أن طريق الخلاص من هذا الخلط هي تربية تصوغ الأفراد في تقليد واحد معين؛ لكن هذه المحاولة إنما تقلب الوضع من الناحية «النظرية»؛ وذلك فضلًا عن أن هنالك عددًا كبيرًا من الاستعمالات التقليدية للغة، فإذا اخترنا استعمالًا واحدًا دون غيره، كان اختيارنا هذا جزافًا، مهما يكن للتقليد المختار من اتساق في أجزائه الداخلية، ومن اتساع المجال الذي يكون فيه هذا التقليد المختار مقبولًا، فاشتراك الناس اشتراكًا حقيقيًّا في لغة واحدة، أو في رموز بعينها، يستحيل أن يتم إلا بمجهودات تُبذَل في سبيل توحيد أوجه نشاطهم في ظل ظروفهم القائمة؛ فاللغة العلمية المثلى هي بناء نسق تتصل فيه المعاني بعضها ببعض في عمليات الاستدلال والنقاش، بحيث تكون الرموز الداخلة في ذلك البناء دالة بذاتها على الصلة القائمة بين المعاني.
وها هنا أقدم كلمة «رمز» لأحدد معناها، فأجعلها مرادفة للكلمة باعتبارها كلمة، أعني أنها مرادفة للكلمة باعتبارها معنًى تحمله اللغة بما لهذه اللغة من بناء نسقي، سواء كان هذا البناء اللغوي من الطراز الذي تنقصه الدقة، أم من الطراز الآخر الذي هو عقلي صارم؛٣ وإنما أردت بتقديم كلمة «رمز» هنا تهيئة السبيل التي نميز بها بين مدلول هذه الكلمة والمدلول الذي تدل عليه في العادة كلمة «علامة»؛ فما قد أسميته رموزًا هو نفسه الذي يسمونه عادة ﺑ «العلامات الاتفاقية» تمييزًا لها مما يطلقون عليه اسم «العلامات الطبيعية». -
(٤)
إنه باتفاق الناس في فعلهم المشترك الذي أسلفنا وصفه، أن أصبحت «كلمة» دخان في اللغة العربية دالَّة على شيء ذي خصائص معلومة؛ ولربما كان هذا الصوت نفسه، وهذا الترقيم نفسه، في لغة أخرى دالًّا على شيء آخر في حين يجعلون صوتًا آخر مختلفًا كل الاختلاف عن هذا الصوت، هو الدالَّ على «الدخان»؛ فعلى أمثال هذه الحالات من إنابة الرمز عن مدلوله نطلق اسم «العلامات الاتفاقية»؛ أما حين نقول عن الدخان باعتباره كائنًا فعليًّا، إنه يشير إلى، أو إنه شاهد على نار موجودة وجودًا فعليًّا كذلك، فعندئذٍ يكون الدخان علامة «طبيعية» للنار؛ وشبيه بهذا أن تكون السحب الكثيفة ذات الخصائص المعينة علامة طبيعية لمطر مُرجَّح النزول، وهكذا؛ فهذه الخاصة التي تجعل شيئًا ينوب عن شيء كما نرى في المثالين السابقين، إنما هي خاصة تصف «الأشياء في علاقتها بعضها ببعض»، وليست هي بالصفة التي تصف ترقيمات يعتمد معناها على ما يقوم بين الناس من اتفاق على طريقة استعمالها. على أنه إذا لم يكن ثمة من شك في وجود هذا الفرق بين ما تدل عليه كلمتا «طبيعي» و«اتفاقي» حين نصف بهما العلامات، وإذا لم يكن ثمة من شك في أهمية هذه التفرقة بين النوعين، إلا أن الفرق الهام من حيث الأساس لا يتضح بهاتين الكلمتين؛ وإني لَأُفضِّل — لأسباب سأُبديها الآن — أن أُبرز الفرق بين الحالتين بأن أقصر استعمال كلمة «علامة» على ما يسمونه «علامات طبيعية» لأستخدم كلمة «رمز» للدلالة على «العلامات الاتفاقية».
هذا الفرق الذي ذكرته الآن هو فرق قائم بالفعل، لكنه يقصر عن بيان الخاصة العقلية المميزة لما أسميه رموزًا، فلك أن تقول إن كون أشياء معينة قد أكسبها الاتفاق الاجتماعي وظيفة إنابية، لهو من الأمور العرضية التي تمس الموضوع من ظاهره، إذا نظرنا إليه من زاوية المنطق؛ لكن هذه الحقيقة تصبح ماسَّة بموضوعنا من الناحية المنطقية بسبب ما قد يطرأ من تطور على المعاني خلال الحديث تطورًا حرًّا قائمًا بذاته، ينشأ بمجرد الفراغ من وضع الرموز المتفق على استعمالها؛ فإذا كانت «العلامة الطبيعية» بحكم التعريف شيئًا يقوم بالفعل في محيط فعلي من مكان وزمان، كأن يكون الدخان — باعتباره شيئًا له خصائص موضوعية معينة — علامة على النار؛ لأن الدخان والنار معًا موجودان بالفعل ويمكن رؤيتهما، ومِن ثَم تكون الصفة الإنابية التي للدخان — منظورًا إليها وحدها — مقيدة بنطاق غاية في التحديد، لقيامها في ظروف محدودة معلومة دون غيرها من الظروف؛ أقول إنه إذا كان هذا هو الأمر في العلامة الطبيعية، فإن الأمر ليختلف اختلافًا بعيدًا حين يكون المعنى «دخان» قد جُسِّم في أحد الكائنات ذوات الوجود الفعلي، كأن يُجَسَّم في صوت بعينه، أو في ترقيم معين على الورق؛ فعندئذٍ تكون الصفة الفعلية التي نجدها بين الموجودات القائمة تابعًا للوظيفة الإنابية التي يقوم بها الصوت أو الترقيم، وليس ذلك راجعًا فقط لإمكان إحداث الصوت على أي صورة نشاء، بحيث لا نضطر أن ننتظر حدوث الشيء المسمى قبل إحداث الصوت الذي نسميه به، بل إنه ليرجع كذلك إلى ما هو أهم من ذلك؛ وهو أن المعنى إذا ما تجسد في كائن ما، اخترناه اعتباطًا بحيث لا يكون بين طبيعته وبين المعنى المجسد فيه رابطة ضرورية، فإن المعنى عندئذٍ «يتحرر» من قيود الوظيفة الإنابية التي يؤديها؛ فلا يظل مغلولًا إلى مدلول واحد لا قِبَل له بالفكاك منه، بل يمكن وصله بمعانٍ أخرى في بناء اللغة؛ فبعد أن كان الدخان لا يشير إلا إلى النار (في العلامة الطبيعية) يصبح موصولًا بمعانٍ لا صلة بينها في الظاهر وبين النار، كالاحتكاك وتغير درجات الحرارة، والأكسجين، والتكوين الذري، كما يصبح موصولًا — إذا ما أدخلنا بين الطرفين حلقات وسطى من الرموز والمعاني — بقوانين الديناميكا الحرارية.
وعلى ذلك فسأربط فيما يلي بين كلمتَيْ «علامة» و«دلالة»، وبين كلمتَيْ «رمز» و«معنى» على التوالي، لكي يكون بين أيدينا مصطلحات تشير إلى نوعين مختلفين من الصفة الإنابية؛ على أن اختيار المصطلحات — من الوجهة اللغوية — أمر جزاف إلى حد ما، ولو أن كلمتَيْ «علامة» و«دلالة» (في اللغة الإنجليزية) مشتركتان في الجذر اللفظي الذي منه اشتُقَّتا؛٤ ومع ذلك فليس لهذه النقطة أهمية إذا قِيسَت إلى ضرورة أن يكون لدينا كلمات نشير بها إلى نوعين من عملية الإنابة. والأمر الهام من الوجهة النظرية هو أن الأشياء الموجودة وجودًا فعليًّا — والتي هي علامات — إنما تُتخذ «شواهد» على وجود أشياء بعينها، وهذه الأشياء «تُستدل» أكثر مما تكون موضع مشاهدة.أما الكلمات — أي الرموز — فلا تقوم «شاهدًا» على أي «وجود فعلي»؛ غير أن ما ينقصها في هذه الناحية تُعوِّضه بخَلق ناحية أخرى لها، وتلك هي أنها تهيِّئ السبيل للبحث المنظم أو التدليل العقلي؛ إذ يمكن السير في التدليل العقلي بغير وجود أي كائن من الكائنات الفعلية التي تُشير إليها الرموز، حين تكون هذه الرموز وحدها قائمة قيامًا فعليًّا راهنًا؛ بل بغير وثوق من أن يكون للأشياء التي تشير إليها الرموز أي وجود فعلي في أي مكان من العالم، وبغير إشارة مباشرة إلى الوجود الفعلي إطلاقًا، كما يحدث في حالة التدليل الرياضي.
فالأفكار باعتبارها أفكارًا، والفروض باعتبارها فروضًا، ما كانت لتوجد لو لم يكن ثمة رموز ومعانيها متميزة من العلامات ودلالاتها؛ وإنه لذو أهمية عملية أن يكون للرموز هذا النصيب الأوفر في قابليتها للتناول، ومع ذلك فقابليتها تلك ضئيلة إذا قِيسَت بكونها تُضيف إلى عملية البحث بُعدًا آخر يختلف عن الوجود الفعلي؛ فالسحائب ذوات الأشكال المعينة والحجم المعين واللون المعين، قد تدلنا على احتمال نزول المطر، أي إنها تُنذرنا بالمطر، أما كلمة سحاب حين تقام الروابط بينها وبين كلمات أخرى من المجموعة الرمزية، فهي تمكننا من أن نُورد معنى أن يكون الشيء سحابًا، مصحوبًا بأشياء أخرى كاختلافات درجات الحرارة ودرجات الضغط، ودوران الأرض، وقوانين الحركة، وهلم جرًّا.
ونستطيع أن نوضح الفرق بين علاقة العلامة بدلالتها من جهة وعلاقة الرمز بمعناه من جهة أخرى (بالمعاني التي حددناها لهذه الكلمات) بذكر الحادثة الآتية:٥ سأل زائر لقبيلة بدائية ذات مرة عن الكلمة التي تعني «نضد» وكان هنالك خمسة صبيان أو ستة يقفون قريبًا مني؛ فنقرت لهم النضد بسبابتي وقلت مستفسرًا: «ما هذه؟» فقال منهم صبي إنها «دوديلا». وقال آخر إنها «إتاندا». وقرر ثالث أنها «بوكالي». وقال رابع إنها «إلامبا». ثم قال خامس إنها «ميزا». فأخذت الزائر فرحة بخصوبة اللغة في كلماتها، لكنه وجد فيما بعد «أن أحد الصبية قد حسب السائل يسأل عن الكلمة التي تعني النقر بالإصبع، وفهم الثاني أن الكلمة المرادة هي تلك التي تعني المادة التي صنع منها النضد، وظن الثالث أننا إنما نسأل عن الكلمة التي تعني الصلابة، وخال الرابع أننا نريد اسم الغطاء الذي كان على النضد؛ وأما الأخير … فهو الذي زودنا بكلمة «ميزا» التي تعني نضدًا».وقد كان في مستطاعنا أن نورد هذه القصة في موضع سابق، لنوضح بها الحقيقة القائلة بأنه ليس في حدود الإمكان أن تقوم علاقة واحد بواحد٦ قيامًا مباشرًا بين الأسماء من جهة والأشياء الكائنة في الوجود الفعلي من جهة أخرى، أي إن نوضح بها أن الكلمات تعني ما تعنيه بما لها من علاقات تربطها بالمناشط المشتركة التي تستتبع نتائج مشتركة، أي نتائج يشترك الناس فيها؛ فالكلمة التي كان الزائر يبحث عنها كانت داخلة في مناشط اشترك فيها الحاضرون بغية الوصول إلى هدف مشترك؛ ولما كان النقر بالإصبع في المثل السابق معزولًا عن كل المواقف التي من هذا القبيل، كان إذن خلوًا من كل تحديد فيما يشير إليه، أي إنه لم يكن جزءًا من «عملية التفاهم» التي هي وحدها تجعل للأفعال دلالاتها، وللكلمات المصاحبة معانيها.٧ ففيما يختص بالموضوع الذي بين أيدينا، نرى في القصة المذكورة مثلًا يوضح انعدام الشاهد الدالِّ، فلا نعرف إلى أي الكائنات الفعلية نشير بالرموز أو بالوسائل الإنابية التي أطلقنا عليها اسم «المعاني»؛ فهذه الرموز لا يمكنها أن تشير أو أن تميز «الأشياء» التي تعنيها، ما لم يتدخل في الأمر ضرب معين من ضروب الإجراء العملي الذي نتناول به عالم الوجود الفعلي؛ نعم إن التدليل العقلي وحده، أي البحث المنظم، الذي نعرفه بأنه استطراد في تسلسل الرموز ومعانيها بالنسبة بعضها إلى البعض، أقول إن التدليل العقلي وحده ربما أمدنا (بل يجب أن يمدنا) بأساس نقيم عليه أداءنا لتلك الإجراءات العملية، لكنه هو وحده لا يقرر إن كان ثمة وجود فعلي أو لم يكن؛ وإن هذا القول ليصدق مهما بلغت مجموعة المعاني من درجة الشمول، ومهما بلغت العلاقات التي تربط تلك المعاني بعضها ببعض من الدقة واليقين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالقصة توضح لنا كيف أنه حتى على فرض أن الكلمة الصحيحة كانت قد حضرت إلى الأذهان، فالمعنى المرموز له بتلك الكلمة كان يمكنه الدخول في علاقات مع أي عدد من المعاني الأخرى، بغض النظر عن الوجود الفعلي الراهن، في أية لحظة من الزمن، للشيء المعين الذي هو «نضد»؛ فكما أن العلاقة بين العلامة ودلالتها تحدد لنا معنى «الاستدلال»، فكذلك تحدد لنا العلاقة بين المعاني التي منها تتألف القضايا، معنى «اللزوم» في سياق البحث، وذلك على شرط أن تحقق لنا تلك العلاقة الشروط العقلية التي ما جاءت تلك العلاقة إلا من أجل تحقيقها؛ فما لم تكن لدينا الكلمات التي نميز بها هذين الضربين من العلاقات تمييزًا يُباعد بين ما تؤديانه وما تختصان به في صلتهما بالوجود الفعلي، تعرضنا لخطر الخلط بين شيئين مختلفين من الناحية المنطقية، وهما الاستدلال واللزوم؛ والواقع أن هذا الخلط — حين يعالج الاستدلال كما لو كان هو نفسه اللزوم — قد كان أداة قوية في خلق الرأي المذهبي القائل بأن المنطق صوري بحت، وذلك لأن علاقة المعاني (التي تحملها الرموز) بعضها ببعض، هي في ذاتها — كما أسلفنا — مستقلة عن قيام مسمياتها في الوجود الفعلي.٨ -
(٥)
لقد كنا حتى الآن نستخدم كلمة «علاقة» على نحو هو أقرب إلى عدم التحديد؛ لكننا قد بلغنا من الحديث حدًّا يقتضينا أن نعالج هذه الكلمة في تعدد معانيها، لا أقول في كلام الناس المعتاد فحسب، بل في كتب المنطق نفسها؛ فكلمة «علاقة» تُستعمل لتشمل أمورًا ثلاثة هي غاية في التباين، ولا بد لنا من التمييز بينها خدمة لقيام مذهب منطقي منسق الأجزاء: (١) فالرموز «متعلقة» تعلقًا مباشرًا بعضها مع بعض، (٢) وهي «متعلقة» بالوجود الفعلي عن طريق وسيط يتدخل بين الطرفين، وأعني به الإجراءات العملية التي نمس بها الوجود الفعلي، (٣) والكائنات الفعلية «متعلقة» بعضها ببعض في الصلة التي تربط العلامة بمدلولها ربطًا يجعل العلامة شاهدًا على المدلول؛ وواضح أن هذه الضروب الثلاثة من أنواع «العلاقة» مختلف أحدها عن الآخرين، وأن استعمال كلمة واحدة بعينها من شأنه أن يطمس ما بينها من اختلاف.
ولكي نتجنب — من الناحية السلبية — ذلك الخلط المذهبي الفظيع، الذي ينشأ عن تعدد المعاني لكلمة «علاقة»، ثم لكي تكون لدينا — من الناحية الإيجابية — أدوات لغوية تُبرز لنا في وضوح الطبيعة المنطقية لهذه الموضوعات المختلفة التي نحن بصدد بحثها، سأحتفظ بكلمة «علاقة» لأدل بها على نوع «العلاقة» التي تقوم بين الرموز بعضها ببعض، بصفة كونها رموزًا ومعانيَ؛ وسأستعمل كلمة «إشارة» لأدل بها على نوع العلاقة التي تكون بين تلك الرموز والمعاني من جهة والوجود الفعلي من جهة أخرى؛ وسأستعمل كلمة «رابطة» (وكذلك كلمة «تضمن») لأدل بها على نوع العلاقة التي تقوم بين «الأشياء» بعضها ببعض، قيامًا يجعل «الاستدلال» أمرًا مستطاعًا.
وما تكاد هذه الفوارق تبسط حتى تصبح واضحة وضوحًا يوشك ألا يحتاج إلى أمثلة تبينه؛ ومع ذلك فانظر إلى قضايا الفيزياء الرياضية: (١) فهي باعتبارها قضايا تكون نسقًا من رموز ومعانٍ «متعلق» بعضها ببعض على نحو يُتيح لنا أن نتناولها وأن نستطرد في استخراج بعضها من بعض دون أن نجاوز حدودها، (٢) لكن باعتبارها قضايا عن «الفيزياء» لا عن الرياضة فحسب، فهي «تشير» إلى الوجود الفعلي إشارة نتبينها حين نُجري إجراءات «تطبيقها». (٣) والمحك الأخير الذي نختبر به «سلامة» هذه الإشارة (إشارة القضايا الفيزيائية إلى الوجود الفعلي) أو هذه القابلية للتطبيق، إنما يكمن في «الروابط» القائمة بين الأشياء، بمعنى أن تضمن الأشياء بعضها لبعض من حيث حدوثها في الواقع الفعلي، هو وحده الذي يُجيز لنا أن نستدل استدلالات عن روابط أخرى بين الأشياء نتوقع أن نكشف عنها الغطاء.
وقد يُثار إشكال: هل المعاني وما بينها من علاقات في مجرى التفكير تسبق إلى الوجود أو تلحق الأشياء وما بينها من روابط؟ هل بدأنا أول الأمر باستدلال (حدث من حدث) ثم استخدمنا النتائج بعدئذٍ فيما نشغل أنفسنا بالتفكير فيه؟ أم أن العلاقات القائمة بين معنًى ومعنًى كما نراها في مجرى التفكير هي التي تهدينا إلى رؤية الروابط بين الأشياء على نحو يجعل بعضها شواهد دالة على وقوع بعضها الآخر؟ غير أن هذا الإشكال لفظيٌّ، لاستحالة الجزم برأي في مسألة الأسبقية التاريخية؛ ومع ذلك فللسؤال ما يسوغه، لكي ينبهنا إلى أن قدرتنا — على أي حال — على النظر إلى الأشياء باعتبارها علامات، لم تكن لتبعد بها طريق السير لو لم تكن هنالك رموز نميز بها من خصائص الأشياء تلك الخصائص وحدها التي تصلح أن تكون أساسًا للاستدلال، ثم نحتفظ عن طريقها بتلك الخصائص في ذاكرتنا؛ مثال ذلك أنه بغير الكلمات أو الرموز التي نميز بها أولًا ثم نحتفظ ثانيًا بالصفات البصرية والشمية التي خبرناها حين خبرنا «الدخان» بما يدخل في مقوماته من تلك الصفات دخولًا يُتيح لنا أن نتخذ منه علامة دالة على نار، أقول إنه لولا تلك الكلمات والرموز التي نميز بها خبراتنا ونحتفظ بها، لجاز لنا أن نرد على تلك الصفات البصرية والشمية على نحو ما يرد الحيوان، وأن نؤدي من ضروب العقل ما يتناسب مع ذلك الرد؛ لكننا لا نستطيع عندئذٍ أن نستدل قط دون أن يجيء استدلالنا في عمًى وتخبُّط؛ أضف إلى ذلك أنه ما دام «الشيء» الذي نستدل على وقوعه، وهو النار، ليس قائمًا في مجال المشاهدة، فلا مناص من أن يكون كل تقدير سالف لدينا عنه غامضًا وغير محدد، هذا إذا فرضنا أن مثل هذا التقدير السالف ممكن إطلاقًا؛ ولو قارنَّا ووازنَّا ما للأشياء والحوادث الفعلية من مدى وعمق في قدرتها الدلالية عند جماعة بدائية وعند جماعة متحضرة، ثم قارنَّا ووازنَّا كذلك ما يترتب على ذلك عند الجماعتين من قدرة استدلالية، وجدنا ارتباطًا وثيقًا بين ذلك وبين ما يكون هنالك بين الرموز والمعاني في مجرى التفكير من علاقة وثيقة وما يكون لها من مدًى؛ وإذن فإنها اللغة — على وجه العموم — التي نشأت أول أمرها لتكون وسيلة للتفاهم من شأنها أن تخلق بين الناس تعاونًا مقصودًا ومنافسة مقصودة فيما يقومون به من مناشط مشتركة، أقول إنها هي هذه اللغة التي خلعت على الأشياء الكائنة بالفعل ما لها من قوة الدلالة، أي ما لها من قدرة على أن يكون وقوع بعضها شاهدًا على وقوع بعضها الآخر.
-
(٦)
وهكذا قد عدنا إلى المشكلة الأصلية، وهي: تحويل المناشط الحيوانية إلى سلوك ينطوي على ذكاء، وله الخصائص التي إذا ما صِيغَت، ألفيناها «منطقية» في طبيعتها؛ فالسلوك الذي يشارك فيه عدة أفراد معًا ليس يقتصر على النبات والحيوان فحسب، بل إنه ليميز الكهارب والذرات والمجموعات الذرية كذلك؛ بل قل إنه طابع يتسم به — فيما نعلم — كل شيء موجود في الطبيعة على الإطلاق؛ وإذن فاللغة لم تكن هي التي خلقت مشاركة الأفراد في أمورهم؛ غير أنها حين ظهرت مرحلة عليا في مجرى التطور، خارجة خروجًا طبيعيًّا من صور سبقتها للنشاط الحيواني، كان رد فعلها هو تحويل تلك الصور والضروب التي كان السلوك الجماعي يجيء على غرارها، تحويلًا يُضيف إلى أبعاد الخبرة بعدًا جديدًا.
-
(١)
«فالثقافة» وكل ما تتضمنه، متميزة من «الطبيعة»، هي شرط لقيام اللغة ونتيجة لها في آنٍ واحد؛ فهي نتيجة ما دامت هي الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بالمهارات «المكتسبة» والمعرفة المكتسبة والعادات المكتسبة، ثم هي الوسيلة الوحيدة لنقل هذه الأشياء كلها إلى الأجيال القادمة؛ لكن الثقافة هي كذلك شرط لقيام اللغة، ما دامت المعاني ودلالات الحوادث تختلف باختلاف الجماعات الثقافية.
-
(٢)
والمناشط الحيوانية، كالأكل والشرب والبحث عن الطعام وعن الجنس الآخر … إلخ، تكتسب صفات جديدة؛ فأكل الطعام يصبح عند الجماعة أعيادًا واحتفالات؛ والحصول على الطعام يصبح فن الزراعة وتبادل السلع؛ ولقاء الجنس الآخر يتحول إلى نظام الأسرة.
-
(٣)
وإذا غضضنا النظر عن قيام الرموز والمعاني، وجدنا نتائج الخبرة السابقة إنما نستبقيها بوساطة ما قد يحدث في الكيان العضوي من تغيرات فقط دون أن نجاوز هذه الحدود قيد أنملة؛ بل وأكثر من هذا، وهو أن هذه التغيرات ما دامت قد حدثت للكائن العضوي، فهي بعدئذٍ تميل إلى أن تتجمد على صورة تعوق — إن لم تمنع — حدوث تغيرات أخرى؛ أما قيام الرموز فيُمكِّننا من استرجاع الماضي وتسلف المستقبل استرجاعًا وتسلفًا مقصودَيْن؛ ومِن ثَم نستطيع خلق تشكيلات جديدة من العناصر التي نختارها من خبراتنا اختيارًا يُضفي عليها جانبًا عقليًّا.
-
(٤)
إن المناشط البيولوجية العضوية لَتنتهي بأفعال صريحة لها نتائجها التي لا مناص من حدوثها، أما إذا استطعنا أن نستعرض نوع النشاط وما يترتب عليه من نتائج، بأن نتمثله أولًا في صورة رمزية، فلن نتورط في مثل تلك الخاتمة التي لا يكون لنا منها خلاص إذا وقعت؛ ذلك لأننا إذا وجدنا التصور الرمزي قد أظهر لنا النتيجة النهائية كريهة الصفات، عدلنا عن القيام بذلك النشاط قيامًا فعليًّا، أو أعدنا خطة الفعل بحيث يسير بنا في طريق تُجنبنا النتيجة الكريهة.٩
وسنتناول في شيء من التفصيل — في فصول آتية — كيف ظُن بمنطق يُعنَى بانتظام التفكير، منطق جمع في نسق واحد تلك العلاقات التي تمسك بالمعاني إمساكًا ينتظمها في سلك واحد من مجرى الفكر، كيف ظُن بمنطق كهذا أنه نموذج المنطق الذي لا يعلوه نموذج آخر، فأدى ذلك إلى الحيلولة دون تطور الطرائق المنتجة في عمليات البحث في الوجود الفعلي، مانعًا بهذا حدوث ما كان لا بد من حدوثه في تجديد المعاني وتوسيعها، تلك المعاني نفسها التي استُخدمت في مجرى التفكير؛ ذلك لأنه لما ظُن أن هذه المعاني في علاقاتها المنتظمة بعضها ببعض، هي الغاية التي لا غاية بعدها، وتكفي نفسها بنفسها، فُرضت على الطبيعة فرضًا مباشرًا، وبذلك غُض النظر عن ضرورة أدائنا لإجراءات عملية نمس بها الكائنات الفعلية. حين نريد تطبيق المعاني على الوجود الطبيعي، فكان لهذا التقصير أثره الرجعي في مجموعة المعاني باعتبارها معاني، ونتج عن ذلك اعتقاد بأن مقتضيات التفكير العقلي هي التي تضع لنا المعيار الذي نقيس به الوجود الطبيعي، وأنها هي المعيار الذي يحدد صورة «الوجود» في كماله؛ وإن يكن من الحق أن المنطق قد ظهر إلى الوجود — حين أدرك اليونان اللغة على أنها الكلمة المجردة (اللوغوس) — وكان إدراكهم ذاك مصحوبًا بما يلزم عنه، وهو أن اللغة إنما تنطوي على بناء نسقي من معانٍ منظمة.
وقد كان إدراكهم هذا بداية لتقدم عظيم، ولكنه كذلك كان معيبًا بعيبين خطيرين؛ فبسبب هذه المكانة العليا التي أُعطيت لصور التفكير العقلي عُزلت تلك الصور عن الإجراءات العملية التي هي الأصل في نشأة المعاني وفي أدائها لوظائفها وفي اختبار صلاحيتها؛ فكان هذا العزل معادلًا لتشخيص «العقل» تشخيصًا يجعل له كيانًا قائمًا بذاته؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المعاني التي عرفها اليونان، قد نظموها في سلم اقتبسوه من البناء الطبقي للمجتمع اليوناني، ثم جعلوا ذلك البناء الطبقي مرجعًا تُقاس إليه تلك المعاني؛ ولهذا تراهم قد وضعوا كل الوسائل وطرائق الإجراء وأنواع التنظيم التي ترتد نشأتها إلى اشتراك الناس اشتراكًا فعالًا عمليًّا في الأعمال الطبيعية، وضعوا كل هذا في منزلة دنية من منازل «الوجود» ومنازل «العرفان»؛ فأصبحت درجات المعرفة ودرجات «الطبيعة» — دون قصد متعمد — مرآة للنظام الاجتماعي الذي جعل للصناع والعمال وكل ذي صناعة يدوية على وجه الإجمال، مكانة دنيا بالقياس إلى مكانة الطبقة التي تحيا حياة الفراغ؛ لقد كان شرط المواطن — لكي يكون مواطنًا — أن يشتغل بأداء شيء ما، مما تستلزمه الحاجة أو يستدعيه النقص؛ وعلى الرغم من أن هؤلاء المواطنين قد كان لهم في الحرية ما أنكروه على طبقة الصناع، فإنهم في الوقت نفسه قد عُدُّوا بعيدين عن الكمال الذي يقتضي أن يكون نشاطهم كاملًا بذاته كمالًا تامًّا ومكتفيًا بذاته اكتفاءً تامًّا، ومثل هذا الكمال الذاتي أو الاكتفاء الذاتي في نوع النشاط لم يكن يتمثل عندهم إلا في تشغيل «العقل الخالص» الذي لا تشوبه قط شائبة من الحاجة إلى أي شيء خارج ذاته، ومِن ثَم فهو مستقلٌّ عن كل عمليات الأداء والصنع؛ فكانت النتيجة التاريخية لكل هذا أن نظر بعين الرضا الفلسفي، بل تحول هذا الرضا الفلسفي إلى توهم للوجود الفعلي لتلك الشروط الثقافية التي حالت دون الانتفاع بالإمكانات الهائلة التي كان يمكن أن تعين على بلوغ المعرفة الكامنة في مناشط الفنون الصناعية؛ وأقول إنها معرفة كامنة في تلك المناشط لأن تلك المناشط إنما تنطوي على عمليات من شأنها أن تغير الظروف القائمة تغيرًا فعالًا؛ وهي تحتوي في صلبها على الإجراءات التي منها يتألف المنهج التجريبي، والتي تتبدى فور استخدام العمليات المذكورة بغية الوصول إلى معرفة؛ بدل أن تخضعها لإطار نظري نخطط به طرائق العمل وطرائق المتعة كما تقتضيها ظروف اجتماعية ثقافية محددة الأوضاع.