الذوق الفطري والبحث العلمي
إنه لا مناص للكائنات العضوية — إذ تكون على المستوى البيولوجي — من الاستجابة للظروف القائمة حولها بأساليب من شأنها أن تُعدِّل تلك الظروف كما تعدل العلاقات التي تصلها بها تعديلًا يُعيد الملاءمة المتبادلة التي يقتضيها الاحتفاظ بوظائف الحياة؛ وإن هذه المشكلة نفسها لَتشمل الكائنات البشرية كذلك؛ لولا أن الصعاب التي يتصدى لها الإنسان في هذا السبيل، تختلف عن مثيلاتها عند سائر الكائنات العضوية، لا من حيث مضموناتها فحسب، بل إنها لَتختلف عنها كذلك في كونها قابلة للعرض على نحو يُبرز إشكالها، بحيث يمكن لعملية البحث أن تدخل عاملًا من عوامل حلها، وهو اختلاف يرجع إلى تأثير الظروف الثقافية التي تُحيط بالإنسان؛ وذلك لأن الظروف الطبيعية المادية يصيبها التعديل في المحيط الثقافي، لِما تكتنف تلك الظروف الطبيعية من خيوط العادات والتقاليد والأعمال والاهتمامات والأهداف، فيترتب على ذلك كله تحول في طرائق الاستجابة، لأن هذه الطرائق تستفيد من الدلالات التي يُضيفها الإنسان إلى الأشياء، ومن «المعاني» التي تُزوِّده بها اللغة؛ فمن الواضح أن الصخور باعتبارها مصادر معدنية تعني للجماعة التي تعلمت أن تستخلص الحديد، أكثر مما تعنيه لجماعة من الأغنام والنمور، أو لجماعة تشتغل بالزراعة أو الرعي. وكذلك من شأن معاني الرموز المتصل بعضها ببعض، وهي الرموز التي تكون اللغة لجماعة ما، أن تستحدث نمطًا جديدًا من وقفات الإنسان — كما أوضحنا ذلك في الفصل السابق — ومِن ثَم تستحدث نمطًا جديدًا من طرائق الاستجابة؛ وسأُطلق على البيئة التي تكتنف بني الإنسان بصورة «مباشرة» اسم بيئة الذوق الفطري، أو «العالم»، كما سأُطلق على البحوث التي تؤدي خلق الملاءمة المطلوبة في السلوك، اسم بحوث الذوق الفطري.
وإن المشكلات التي تنشأ في أمثال هذه المواقف التي يتفاعل فيها الإنسان مع بيئته — كما سأُبيِّن فيما بعد — ليمكن ردها إلى مشكلات خاصة باستخدام الأشياء وأنواع النشاط وضروب الإنتاج — مادية وفكرية — ثم بالاستمتاع بجميع هذه الأمور، التي يشتمل عليها العالم الذي يعيش فيه الأفراد؛ فأمثال هذه البحوث — بناءً على ذلك — تُخالف تلك التي تستهدف تحصيل المعرفة؛ نعم إن تحصيل المعرفة بأشياء معينة داخل بالضرورة في بحوث الذوق المشترك، لكنه يحدث ونحن في سبيلنا إلى فض مشكلة خاصة بالانتفاع أو بالاستمتاع، ولا يحدث باعتباره غاية في ذاته كما هي الحال في البحث العلمي؛ لأنه في البحث العلمي لا يكون أفراد الإنسان جزءًا «مباشرًا» من أجزاء البيئة «المباشرة»، وهي حقيقة تحمل معها أساس التفرقة بين ما هو نظري وما هو عملي.
إن استخدامنا لكلمتَيْ «ذوق فطري» هو جزاف إلى حد ما من وجهة النظر اللغوية؛ لكنه لا شك في وجود ضروب المواقف التي أشرنا إليها، وفي نوع البحوث التي تعالج المشاكل والصعاب التي تنشأ بسبب تلك المواقف؛ لأنها هي المشاكل والصعاب التي ما تنفك تظهر في مسلك الحياة وفي ترتيبنا لسلوكنا اليومي؛ وهي كذلك نفس المشاكل والصعاب التي لا تني عن الظهور أثناء نمو النشء؛ إذ يتعلمون كيف يشقون طريقهم في البيئتين الطبيعية والاجتماعية التي يعيشون فيها؛ وهي تحدث ثم تعاود الحدوث في مناشط الحياة عند الكبار جميعًا، سواء فيهم من كان زارعًا ومن كان صانعًا، وسواء أكان رجلًا من أرباب المهن، أم مشرِّعًا للقوانين أم ذا عمل في الإدارة؛ وسواء أكان مواطنًا، أم زوجًا، أم زوجة أم والدًا؛ هذه كلها مواقف لا بد — من مجرد ظواهرها — أن تتميز من البحوث التي هي بحوث علمية غير مختلف على صفتها هذه، أي أن تتميز من البحوث التي تستهدف حقائق ثبت صدقها ﮐ «القوانين» والنظريات.
وفي هذا الشرح نرى في وضوح كذلك مضمونًا فكريًّا داخلًا في معنى العبارة؛ فقوله «ذوق جيد» معناه — في اللغة الجارية — «حكم» سليم؛ وما سلامة الحكيم إلا قدرة على تمييز العوامل التي تكون على صلة وذات أهمية في دلالتها بالنسبة إلى مواقف معينة؛ أو هي القدرة على البصر النافذ، أو القدرة — كما يقول المثل السائر — على تمييز الصقر من مالك الحزين، وحجر الطباشير من قطعة الجبن؛ ثم استغلال هذا التمييز في تقرير ما نفعله وما نتركه، وذلك كله «في أمور الحياة الجارية»؛ فما قد أطلقنا عليه في مستهل هذا الفصل طريقة البحث الذي يعالج مواقف الانتفاع والاستمتاع، إن هو إلا التعبير الصوري الذي نعبر به عما يذكره المعجم في تعريفه للذوق الفطري.
وهنالك بين المعنيين السالفين فرق حقيقي، غير أن هنالك كذلك قسطًا معلومًا من الاتفاق بينهما عند الجماعة المعينة من الناس؛ فكلاهما معنيٌّ بمسلك الحياة في علاقته بالبيئة القائمة: أما أحدهما فيختص بالحكم على دلالة الأشياء والحوادث بما له صلة بما ينبغي فعله، وأما الآخر فيختص بالأفكار التي نستخدمها في توجيه وتسويغ مناشطنا وأحكامنا؛ فالتحريمات في قبيلة بدائية إنما تكون أول ما تكون طرائق معتادة في القيام بألوان النشاط، وهي طرائق من الفعل نعدها نحن أقرب إلى الخطأ منها إلى الصواب؛ لكن مجموعة المعاني المقدسة في اللغة التي تحمل التقاليد الموروثة في طيها، تجعل لها السلطان في الأمور العملية الخالصة، كأكل الطعام، والتصرف على نحو مُرْضٍ في حضرة شيوخ القبيلة وأعضاء الأسرة، حتى ليكون لها القول الفصل في ضبط العلاقات بين الذكور والإناث، والعلاقات القائمة بين مختلف ذوي القربى على تفاوتهم في درجة القرابة؛ ولقد تكون هذه التصورات والاعتقادات بالقياس إلينا غاية في البعد عما تتطلبه الحياة العملية، لكنها عند أولئك الذين يعتقدون فيها أمور أبلغ أهمية من الناحية العملية من طرائق السلوك الخاصة التي تُتبع في معالجة الأشياء الجزئية، لأنها هي التي تضع المعايير التي يحكم الناس على أساسها في طرائق سلوكهم الخاص، وهي المرجع الذي يرجعون إليه في أفعالهم؛ ومع ذلك فربما كان في مستطاعنا اليوم — مع ما قد عرفناه عن الاختلافات الشاسعة التي تفرق بين الثقافات المختلفة — أن نجد أصولًا مشتركة في أوجه النشاط وفي المعاني، نجدها في «الذوق الفطري وفي وجدان البشرية» خصوصًا في الأمور التي تمس أساس التماسك الاجتماعي.
وعلى أي حال فقد يرتد الفرق بين المعنيين — دون افتيات على حقائق الأمور — إلى الفرق بين تلك الجوانب والأوجه من المواقف العملية الخاصة التي تكون منا موضع الفحص والبحث والنظر، من حيث علاقتها بما يجوز أو ما يجب أداؤه في زمان ومكان معينَين، وبين القواعد والمبادئ التي نأخذ بها مأخذ التسليم في الوصول إلى كل ما نصل إليه من نتائج، ومن كل ما نعده سلوكًا صحيحًا من الناحية الاجتماعية؛ وهكذا يكون المعنيان كلاهما مختصَّيْن — أحدهما بطريقة مباشرة والآخر بطريقة غير مباشرة — «شئون الحياة الجارية» بالمعنى الواسع لكلمة حياة.
ولست أحسب أن تعميم البحوث والنتائج التي من هذا القبيل، بحيث تنضوي كلها تحت عنوان «النفع والمتعة»، يحتاج إلى استطراد طويل لتأييده؛ إذ النفع والمتعة هما الوسيلتان اللتان يرتبط بهما الإنسان ارتباطًا مباشرًا بالعالم المحيط به؛ فما أمور الطعام والمأوى والوقاية والدفاع … إلخ، إلا أمور للنفع الذي يستغل مواد البيئة، والذي يتخير الوقفات اللازمة من الوجهة العملية إزاء سائر أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان المنتفع، وإزاء سائر الجماعات الأخرى مأخوذة في مجموعاتها؛ ثم يعود هذا الجانب النفعي نفسه فيصبح سبيلًا إلى المتعة أو إلى بلوغ ثمرة منشودة؛ حتى الأشياء التي تجاوز حدود المنفعة المباشرة مجاوزة بعيدة المدى، كالنجوم وأسلافنا الموتى، فإنما نتخذ منها أشياء ذوات نفع سحري، ثم نجعلها وسيلة متعة في شعائرنا وأساطيرنا؛ فإذا نحن أدخلنا في اعتبارنا تلك الأفكار السلبية المرتبطة بالمنفعة، وأعني فكرة الاستغناء عن الانتفاع أو إساءة الانتفاع، وفكرة التسامح وفكرة المعاناة، جاز لنا أن نقول ونحن بمنجاة من الخطأ بأن مشكلات النفع والمتعة تستنفد كل مجال البحث القائم على الذوق الفطري.
وتتصل هذه الحقيقة صلة مباشرة بعناية الذوق الفطري بالجانب الكيفي من الأشياء؛ وذلك لأن إمكان الانتفاع بالأشياء والحوادث، وملاءمة تلك الأشياء والحوادث، إنما تتقرر عن طريق إدراكنا لصفاتها الكيفية؛ فنستطيع — مثلًا — أن نميز الطعام المناسب من الطعام غير المناسب أو السامِّ أو ما هو منه موضع التحريم؛ فكون الشعور بالمتعة أو بالألم أمرًا يتعلق كله بالكيف، ويُعنى بالمواقف من حيث صفاتها الكيفية المتغلغلة فيها، لأوضح جدًّا من أن يستحق الذكر؛ هذا إلى أن العمليات وردود الأفعال التي تدور حول الانتفاع بالمواقف أو التمتع بها، إنما يتميز بعضها عن بعض بصفتها الكيفية؛ فدبغ الجلود عملية تختلف من الناحية الكيفية عن ضفر السلال أو تشكيل الصلصال في جرار؛ والشعائر التي نؤديها في حالة الموت تختلف كيفًا عن الشعائر الملائمة لمناسبات الولادة والزواج؛ والأساليب التي نعامل بها من يصغروننا ومن يكبروننا ومن هم متساوون معنا، تختلف كيفًا في طرائق التحية وطرائق التناول.
وما علينا إلا أن نلحظ الفوارق البعيدة — من حيث المضمونات وأساليب البحث — التي يختلف بها الذوق الفطري في طرائق الحياة من مرحلة تسودها البداوة إلى مرحلة ثانية تسودها الزراعة، ثم إلى ثالثة تسودها الصناعة؛ فكثير مما كان الناس يقبلونه قبول التسليم، باعتباره من إملاء الذوق الفطري، قد أصابه النسيان، أو قد تعرض للهجوم العنيف؛ على حين تظل تصورات أخرى واعتقادات أخرى قديمة، تظل موضع القبول النظري، يرتبط بها الناس بأقوى الروابط العاطفية، لما يكون لها في أنفسهم من احترام، مع أنها لا تحتفظ من لمستها لأمور الحياة الجارية إلا برابطة واهية وتطبيق محدود؛ مثال ذلك ما كان عند القبائل البدائية من أفكار وأعمال توشك أن تتغلغل في كل شأن من شئون الحياة اليومية، ثم تقادم عليها العهد فأُحيلت إلى مجال تعتزل فيه، كمجال الدين أو مجال القيم الجمالية.
فما قد كان لعصر مضى من شئون العمل، قد يصبح لعصر آخر مجالًا للهو والتسلية؛ حتى النظريات العلمية والتأويلات العلمية تظل خاضعة لتصورات لم تعد هي الحاسمة في الطرائق الفعلية التي نتناول بها بحوثنا؛ وسنبين في الفصول الآتية الأثر الخاص الذي يتركه «الذوق الفطري» بما يتعرض له من تغير، في صياغتنا للصور المنطقية؛ وحسبنا هنا أن نوجه الأنظار إلى نقطة سنتناولها فيما بعد بالدراسة المفصلة، وهي: أن كون المنطق الأرسطي قد لاءم جماعة معينة كانت تعيش في العصر الذي صِيغ فيه ذلك المنطق، من حيث ثقافتها وذوقها الفطري، هو نفسه الذي يجعل ذلك المنطق غير صالح لأن نعده الصيغة المنطقية التي تصور، لا أقول العلم في العصر الثقافي الراهن، بل إنها لا تصور حتى الذوق الفطري في هذا العصر.
وأعود الآن إلى قولنا عن بحوث الذوق الفطري إنها معنية بالجانب الكيفي من الأشياء والأفعال، لأبين أثر ذلك في التفرقة بين تلك البحوث (بحوث الذوق الفطري) من جهة والبحوث العلمية من جهة أخرى؛ وما هذه التفرقة من حيث الأساس إلا ما قد أشرنا إليه في الفصل السابق، وأعني بها: التفرقة بين الدلالات (التي تكون للأشياء) والمعاني (التي تكون للأفكار ورموز اللغة) — تلك الدلالات والمعاني التي تتقرر على أساس تطبيق مباشر إلى حد كبير على كائنات الوجود الفعلي — وبينها إذ تتقرر على أساس ما يكون في أجزائها الداخلية نفسها من علاقات نسقية تجعلها ملتئمة ومسايرة بعضها بعضًا. وكل ما نضيفه الآن إلى ما قلناه في هذا الصدد، هو أننا ها هنا نعنى ﺑ «التطبيق على كائنات الوجود الفعلي» الذي ذكرناه في الحالة الأولى، تطبيقًا على ما في البيئة من وسائل النفع ووسائل المتعة من جانبها الكيفي؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تاريخ العلم والحالة الراهنة للعلم ليدلان معًا على أن الهدف الذي تستهدفه الصلة المتسقة بين حقائق الواقع من ناحية وتصوراتنا الذهنية عنها من ناحية أخرى، إنما يتوقف على حذف الجانب الكيفي باعتباره كيفًا، وتحويله إلى صياغة لا أثر فيها للكيف.
إن مسألة العلاقة بين مجال الذوق الفطري ومجال العلم، قد اتخذت — لسوء الحظ — شكل المقابلة بين ما هو كيفي من ناحية وما هو ليس بكيفي من ناحية أخرى، وهذا الأخير إنما هو إلى حد كبير — لا إلى كل حد — الجانب الكمي وكذلك كثيرًا ما وُضع الفرق بين هاتين الناحيتين في صياغة تجعله فرقًا بين المادة المدرَكة بالحواس من جهة، والنسق الذي نبنيه من جهة أخرى في أذهاننا من كيانات عقلية؛ ولقد كان الأمر بوضعه هذا هو الموضوع الرئيسي — خلال القرون الحديثة — للبحث في المعرفة وفيما وراء الطبيعة؛ لكن وجهة النظر التي تسود بحثنا في هذا الكتاب، لا تجعل المشكلة مشكلة معرفية (إلا بمقدار ما ندل بهذه الكلمة على ما هو منطقي) كما أنها لا تجعلها كذلك مشكلة ميتافيزيقية أو متصلة بحقيقة الوجود؛ وفي قولنا عن المشكلة إنها منطقية فنحن إنما نؤكد أن المسألة المطروحة للبحث هي مسألة العلاقة القائمة بين ضروب المشكلات المختلفة بعضها مع بعض؛ إذ إن الاختلاف في نوع المشكلة يتطلب اختلافًا في موضع اهتمامنا من البحث الذي نجريه؛ وهذا هو ما يجعل موضوعات الذوق الفطري وموضوعات البحث العلمي تختلف فيما يلائم كلًّا منهما من صور منطقية؛ فالمسألة إذا ما سقناها في عبارة مختصرة من هذه الوجهة للنظر، هي مسألة العلاقة القائمة بين الحالات المعينة التي يكون فيها انتفاع خاص أو متعة خاصة وبين النتائج العلمية؛ وليست هي العلاقة بين موضوعين يختلفان مجالًا، سواء كان هذا الاختلاف ذا طبيعة تتصل بالمعرفة أم تتصل بحقيقة الوجود.
ونسبق هنا إلى ذكر النتيجة التي سننتهي إليها فيما بعد، ليهتدي بها القارئ في متابعته لخطوات البحث التالية: (١) إن موضوع الدراسة العلمية وإجراءات البحث العلمي تنشأ عن الذوق الفطري بما له من مشكلات وطرائق مباشرة، أعني أنها تنشأ عن المواقف العملية التي يكون لنا فيها نفع أو متعة، (٢) على أن العلم بموضوعه ومنهجه يؤثر في مشكلات الذوق الفطري وطرائقه على نحو يؤدي إلى درجة كبيرة من تهذيب وتوسيع وتحرير ما للذوق الفطري من مضمونات وعوامل؛ وأما فصلنا ومعارضتنا بين موضوع العلم وموضوع الذوق الفطري — إذا ما جعلناهما فصلًا ومعارضة حاسمَيْن — فمن شأنه أن يُوَلِّد المشكلات التي يدور حولها النزاع في نظرية المعرفة وفي الميتافيزيقا، مما نراه حتى اليوم عائقًا عن طريق الفلسفة؛ على حين أننا إذا نظرنا إلى موضوع العلم من ناحية كونه متصلًا بموضوع الذوق الفطري اتصالًا عضويًّا وظيفيًّا، زالت تلك المشكلات؛ فموضوع العلم حلقة وسطى في سلسلة حلقات، وليس هو بالنهائي الكامل في ذاته.
وأبدأ البحث بعرض وشرح لما لكلمة «موقف» من قوة إشارية؛ وربما كان أقرب الوسائل لعرض مضمونها أن نلجأ إلى وصف مبدئي سلبي، فنقول إن ما نشير إليه بكلمة «موقف» ليس شيئًا مفردًا، ولا حادثة مفردة، بل ولا مجموعة من الأشياء والحوادث: لأنه يستحيل علينا أن نتصل أو أن نقضي بأحكام على أشياء وحوادث وهي بمعزل، بل نفعل ذلك دائمًا حين تكون الأشياء والحوادث عندنا داخلة في كل سياقي، وهذا الكل السياقي هو ما نسميه «موقفًا»، ولقد أسلفت ذكر المدى الذي بلغته الفلسفة الحديثة في اهتمامها بمسألة الوجود وكيف تتقرر على أساس الإدراك الحسي من جهة والإدراك العقلي من جهة أخرى. وإن ما يصاحب مناقشة هذه المسألة من ضروب الخلط والغلط لَيتصل اتصالًا مباشرًا بالفرق بين الشيء (وهو قائم وحده) وبين الموقف (الذي يدخل ذلك الشيء في سياقه)؛ وقد انصرف علم النفس بكثير من عنايته إلى «عملية» الإدراك الحسي ومشكلتها، فوصف الشيء المدرك بالحس وصفًا يتفق مع غايته؛ إذ وصفه على أساس ما قد انتهى إليه تحليل تلك العملية من نتائج.
ومهما يكن هنالك من مشروعية في توحيدنا للعملية ونتائجها بالقياس إلى الغرض الخاص الذي يستهدفه علم النفس ببحثه فإنني لا أريد الوقوف عند هذه النقطة، وهي أن مثل هذا التوحيد مثار للشك الشديد حين نُعمِّمه لنجعله أساسًا نبني عليه مناقشتنا وآراءنا النظرية في الفلسفة؛ وإنما ذكرت هذه النقطة لكي أَلفت الأنظار إلى أن معالجة علم النفس للشيء وهو قائم بمفرده، أو للحادثة وهي مفردة، بأن يجعله أو يجعلها موضوع تحليله، إنما يرجع إلى طبيعة الحالة نفسها التي يتعرض ذلك العلم لبحثها؛ أما من حيث خبراتنا الفعلية، فيستحيل أن نقع فيها على مثل هذا الشيء المفرد أو هذه الحادثة المفردة؛ بل يكون الشيء المعين أو الحادثة المعينة دائمًا جزءًا واحدًا أو وجهًا واحدًا أو جانبًا واحدًا من عالم يُحيط بنا ويقع لنا في خبراتنا، أي من موقف؛ فإذا رأينا شيئًا مفردًا قد برز بروزًا واضحًا، فما ذاك إلا بسبب موضعه الذي قد يجعله مركزيًّا وهامًّا — في لحظة معينة — لِلبَتِّ في مشكلة معينة من مشكلات النفع أو المتعة، مما تعرضه لنا البيئة بمجموعة عناصرها؛ فهنالك دائمًا مجال تحدث فيه ملاحظتنا لهذا الشيء أو الحادثة، أو لذلك؛ وملاحظتنا للشيء المفرد أو الحادثة المفردة على هذا النحو، إنما تتم بغية الكشف عن حقيقة المجال بالقياس إلى ما ينبغي عمله لنرد به ردًّا فعالًا ملائمًا، إذ نحن في سبيل سيرنا خلال شوط سلوكي نسلكه وما علينا إلا الرجوع إلى الإدراك الحسي عند الحيوان، إدراكًا يحدث بوساطة أعضاء الحس، لكي نتبين أن عزل الشيء المدرَك عن مجرى السلوك الحيوي لا يكون عبثًا فحسب، بل يكون كذلك حائلًا يعوق ذلك السلوك، إعاقة قد تؤدي إلى الموت في حالات كثيرة.
وتتبع ذلك نتيجة أخرى، وتلك أننا حين نَعزل فعل الإدراك الحسي وموضوعه، عن مكان حدوثهما وعن الوظيفة التي تؤديانه في تسديد السير بمجرى النشاط الناجح وتوجيهه تسديدًا وتوجيهًا يخدمان جانب النفع وجانب المتعة، فإننا بذلك ننظر إليهما كما لو كانا عمليتَيْن «إدراكيتَيْن» لا أكثر، أعني أن الشيء المدرَك: برتقالة أو صخرة أو قطعة من الذهب أو كائنًا ما كان ذلك الشيء، يُؤخذ على أنه موضوع للمعرفة في ذاتها؛ نعم إنه لكذلك حقًّا ما دمنا نلاحظه وهو متميز مما عداه، لكنه مع ذلك لا يكون موضوعًا للمعرفة باعتبار هذه المعرفة نهائية ومكتفية بذاتها؛ بل إنا لَنلحظه، أي «نعرفه» بمقدار ما تهدينا تلك الملاحظة في توجيه السلوك توجيهًا يمكننا من التمتع بالموقف الذي وجدنا ذلك الشيء فيه تمتعًا ملائمًا، أو توجيهًا يمكننا من استخدام جانب من ظروف الموقف استخدامًا يُنتج لنا المتعة أو يُزيل عنا الألم؛ ولا تنشأ لدينا الفكرة بانقسام المعرفة قسمين، وانقسام موضوع المعرفة نوعين يتعارضان بحيث لا تجد الفلسفة بُدًّا من اختيار ما يكون منهما «حقيقيًّا» أو أن تلتمس سبيلًا للتوفيق بينهما إذا كان كلاهما «حقيقيًّا»، أقول إن هذه الفكرة لا تنشأ لدينا إلا إذا عددنا الشيء الذي تنعقد عليه الملاحظة موضوعًا للمعرفة وهو منفرد؛ أما إذا رأينا أن الذوق الفطري في بحثه لا يحاول معرفة الشيء المعين أو الحادثة المعينة في ذاتهما، بل يعرفه أو يعرفها ليقرر دلالتها بالنسبة إلى الطريقة التي لا بد للإنسان من معالجة الموقف كله على أساسها، فعندئذٍ لا ينشأ ذلك التعارض أو التضادُّ بين الجانبين؛ فالشيء أو الحادثة التي تكون موضع النظر إنما تدرَك باعتبارها جزءًا من عالم محيط، لا باعتبارها حقيقة في ذاتها وبذاتها، فهي تدرك إدراكًا صحيحًا (أو سليمًا) إذا اتُّخذت — وحين تُتخذ — مفتاحًا وهاديًا في دنيا النفع والمتعة؛ فنحن إذ نحيا ونعمل نكون على صلة بالبيئة القائمة، لا بأشياء قائمة فرادى، على الرغم من أن الشيء المفرد قد يكون ذا دلالة قاطعة في رسم الطريقة التي نستجيب بها للبيئة في مجموعها.
ونعود إلى موضوعنا الأساسي فنلاحظ أن الموقف يكون كلًّا بفضل ما يكون له من صفة غالبة غلبة مباشرة؛ حتى إذا ما وصفناه من جانبه النفسي، كان لزامًا علينا أن نقول عنه إن الموقف — باعتباره كلًّا من حيث الكيف — إنما يُدرَك بحسٍّ مباشر أو يُشعَر به شعورًا مباشرًا؛ ومع ذلك فعبارة كهذه ليس لها قيمة إلا إذا أخذناها من جانبها السلبي، فجعلناها تعني أن الموقف — بصفة كونه موقفًا — ليس مما يدخل في سياق الحديث؛ وقولنا عنه إنه يُدرَك بالشعور، هو قول غاية في التضليل لو فُهم منه أن الموقف هو هو نفسه شعور أو انفعال أو غير ذلك من الحالات العقلية؛ إذ الأمر على خلاف ذلك تمامًا، فالشعور والإحساس والانفعال إنما تُعرف خصائصها وتُوصف عن طريق موقف كيفيٍّ بمجموعه، يَمثُل مثولًا مباشرًا.
هذا إلى أن ما يغلب عليه الجانب الكيفيُّ لا يقتصر على كون مقوماته مربوطًا بعضها ببعض في كل واحد، بل يجاوز ذلك إلى صفة أخرى وهي أن يكون فريدًا، بمعنى أن الطابع الكيفي يجعل من كل موقف موقفًا فردًا، يستحيل تجزئته كما يستحيل تكراره؛ فإذا كانت هنالك بين مقوماته فوارق وعلاقات، فهي إنما تكون داخل الموقف؛ وهي التي يمكن لها أن تعود إلى الحدوث مرة بعد مرة، وأن يتكرر وقوعها في مواقف مختلفة؛ ومجرى التفكير إذا لم يكن منضبطًا بالإشارة إلى موقف بذاته، فهو ليس من التفكير في شيء، بل يكون خليطًا بغير معنًى؛ كما أن الخليط من الحروف «الدشت» في المطبعة لا يكون نمطًا خاصًّا من حرف معين، دع عنك أن يكون جملة؛ فاكتمال الخبرة في مجال موحد هو الشرط الذي لا بد من توافره لكي يكتمل الفكر في مجال موحد كذلك؛ فإذا لم تكن هنالك تلك الخبرة الموحدة لتكون بمثابة الزمام الضابط، لم تعد أمامنا سبيل لنقرر عن أي فارق يميز شيئًا من شيء، أو أي علاقة تربط شيئًا بشيء، ماذا عسى أن تكون صلته بموضوع تفكيرنا ولا ماذا تكون قيمته أو التئامه مع غيره؛ على أن مجال الخبرة في توحده إن كان يحيط بجمال التفكير في توحده وينظمه، إلا أنه لا يظهر قط في عالم التفكير هذا بصفته المشخصة له. ولربما اعترض معترض هنا بأن ما أسلفنا ذكره فيما مضى يتناقض مع هذا القول الأخير، محتجًّا بأننا ها هنا إنما نفكر عن مجال الخبرة الموحدة وعن المواقف الموحدة تفكيرًا يصبهما معًا داخل نطاق رموز اللغة؛ وإنه لاعتراض، إذا ما أنعمنا فيه النظر، وجدناه معينًا لنا على إبراز جانب هامٍّ؛ فمن الحقائق المألوفة لنا أن مجال التفكير في توحده لا يكون حدًّا من حدود نفسه ولا عنصرًا من عناصر نفسه؛ لكنَّ مجالًا معينًا للفكر قد يكون حدًّا من الحدود الداخلة في مجال فكري آخر؛ وهذا المبدأ نفسه يصدق أيضًا على مجالات الخبرة.
وبعبارة أخرى، كان يكون من التناقض أن أحاول البرهنة على وجود المجالات الخبرية بوساطة الفكر وحده، لكنه ليس من التناقض أن أستعين بالتفكير على أن «أطلب» من القارئ أن يكوِّن لنفسه موقفًا مما يُستطاع استيعابه بالخبرة المباشرة، ومما يكون دليلًا على أن قيام موقف ما على صورة تجعله مجالًا خبريًّا موحدًا، هو شرط لكل تفكير؛ إذ هو الذي يُحيط بالتفكير وينظمه.
ولعل أقرب طريق لفهم معنى الكيفية بالمعنى الذي يجعلها تتغلغل خلال العناصر كلها والعلاقات كلها التي تشترك أو يمكن لها أن تشترك في إقامة حالة فكرية، بحيث تصبح باشتراكها هذا كيانًا واحدًا فريدًا، أقول إن أقرب طريق لفهم الكيفية بهذا المعنى هو أن نستشهد بطريقة استخدامها في علم الجمال؛ إذ يُقال عن لوحة فنية إنها ذات كيف خاص، أو يُقال عن لوحة معينة إنها تنطبع بكيفية تقربها من فن «تتيان» أو «رمبرانت»؛ وليس من سبيل إلى الشك بأن الكلمة باستعمالها هذا لا تشير في اللوحة المقصودة إلى خط معين أو لون معين أو جزء معين؛ بل تشير إلى شيء له أثره وله طابعه في كل ما تحتوي عليه الصورة من مقومات وما بينها من علاقات، فليس هو بالشيء الذي يمكن التعبير عنه بكلمات، لأنه شيء لا مندوحة عن أخذه أخذًا. نعم إن لغة التفكير قد تشير إلى الخصائص والخطوط والعلاقات التي هي وسيلة إخراج الكيفية المتغلغلة في الصورة والموحدة لها، لكن إذا انفصل هذا التفكير عن أخذ الخبرة المباشرة في مجموعها، فعندئذٍ يكون ما لدينا هو موضوع إدراكي لا موضوع جمالي؛ ولم أذكر هذه الخبرة الجمالية — بمعناها المحدد — إلا على سبيل لفت الأنظار إلى ما نعنيه بقولنا مواقف ومجالات خبرية؛ وإن قوة هذا المثل التوضيحي التي أردناها له لَتضيع إذا ظُن أن الخبرة الجمالية في حد ذاتها هي كل ما هنالك من مجال ومن دلالة لكلمة «موقف»؛ فكما أسلفنا القول، هنالك دائمًا موقف كيفي يَصبغ بكيفيته سواه، قائم في كل خبرة بطانة لها وضابطًا؛ ولسبب شبيه بهذا قد ذكرنا منذ حين أن الإشارة إلى الصفات الثالثة لا توضح الأمر توضيحًا كاملًا، لأن أمثال هذه الصفات الثالثة — كالتي تدل عليها كلمات «محزن» و«نشوان» … إلخ — صفات عامة، على حين أن صفة الحزن وصفة النشوة كما تصف موقفًا قائمًا بالفعل، ليست عامة، بل هي فريدة، والتعبير عنها بكلمات ضرب من المحال.
وأسوق مثلًا موضحًا آخر من زاوية أخرى للنظر، فمما يوشك أن يعرفه كل إنسان أنه في إمكاننا أن نمضي في مشاهداتنا التي نكوِّم بها أكداسًا من حقائق، بغير أن يأخذنا في ذلك ملل، ومع ذلك لا نجد تلك «الحقائق» التي شاهدناها مؤدية بنا إلى شيء؛ وفي إمكاننا — من جهة أخرى — أن نُقيم على المشاهدة من الضوابط التي تضبط سيرها بما ننشئه مقدمًا لأنفسنا من إطار تصوري ثابت، ما يجعلنا نُغضي إغضاءً تامًّا عن نفس الأشياء التي كان من شأنها أن تكون هي الفاصلة بحق في المشكلة التي نكون إزاءها وفي طريقة حلها؛ فترانا في مثل هذه الحالة نُقحم كل شيء على الإطار النظري الذي كنا قد أعددناه في تصورنا قبل البدء في البحث نفسه؛ والطريقة — بل الطريقة الوحيدة التي تجنبنا هذين الشرَّين — هي حساسيتنا للصفة الكيفية التي تميز الموقف باعتباره كلًّا واحدًا؛ وبعبارة نسوقها في اللغة الجارية نقول إن المشكلة ينبغي أن تقع لنا في شعورنا قبل أن نأخذ في وصفها بالألفاظ، فإذا ما لقفنا الصفة الكيفية الفريدة للموقف لقفًا مباشرًا، كان لنا بذلك مرجع ينظم لنا اختيارنا للحقائق التي نشاهدها، ووزنها، وترتيبها في تصورنا.
ها نحن أولاء قد بلغنا بالحديث نقطة يمكن عندها أن نتعرض صراحة للمسألة الرئيسية، مسألة العلاقة بين ما للذوق الفطري من مادة ومنهج، وما للعلم من موضوعات الدراسة ومنهج البحث: فأولًا يبدأ العلم سيره — بالضرورة — من عالم الذوق الفطري بما يشتمل عليه من نفع ومن لذائذ وآلام متعينة، إذ يبدأ بما في ذلك العالم من أشياء وطرائق سير وأدوات، وكلها مطبوع بطابع كيفي؛ فإذا كانت النظرية العلمية الخاصة بالألوان والضوء غاية في التجريد وفي الدقائق العلمية الخاصة، إلا أنها عن الألوان والضوء كما يدخلان في شئون حياتنا اليومية؛ ففي مستوى الذوق الفطري لا يكون الضوء والألوان موضع خبرة ولا موضوع بحث باعتبارهما شيئين قائمين بمعزل، بل ولا باعتبارهما صفتين تصفان الأشياء منظورًا إليها وهي على انفراد؛ إنما نخبرهما ونزن قدرهما ونحكم عليهما بالقياس إلى مكانهما فيما تؤديه الجماعة من أعمال وفنون (بما في ذلك فنون الطقوس الاجتماعية والفنون الجميلة على حد سواء)، فالضوء عامل سائد في مجرى الحياة اليومية، تبدأ به اليقظة من النوم ثم يسود خلال ما يقوم به الإنسان من شتى ضروب العمل؛ ولهذا ترى الفروق التي تتفاوت بها آماد ضوء الشمس وضوء القمر متغلغلة في العادات عند كل قبيلة تقريبًا؛ وكذلك يتخذ الناس من الألوان علامات لما يستطيعون أداءه وكيف يؤدونه إذ هم في موقف معين، مثال ذلك حين يحكمون على جو الغد، وحين يختارون الثياب المناسبة لمختلف المناسبات، وحين يصبغون ويصنعون الحصير والسلال والجرار. وهلم جرًّا في هذه الأمثلة المختلفة التي هي أوضح جدًّا من أن نمضي في عدَّها، وأبعث إلى الملل لو عددناها؛ ولهذه الأشياء كلها دور تؤديه إما في مجال النشاط العملي وما يتصل به من قرارات، أو في مجال المتعة فيما يقيمه الناس من احتفالات ورقص وأعياد وما شاكل ذلك؛ وما يصدق على الضوء واللون يصدق كذلك على سائر الأشياء والحوادث والصفات التي تدخل في شئون الحياة اليومية التي يعالجها الإنسان بذوقه الفطري.
وكان قياس زوايا الميل وزوايا الانحراف شيئًا عمليًّا قابل به الإنسان حاجة عملية، ولا بد للمثال الذي نوضح به هذا — من الوجهة التاريخية — أن يشوبه التخمين إلى حد ما، ومع ذلك فليس من شك في أن شيئًا من هذا القبيل بصفة عامة هو الذي أحدث الانتقال من المرحلة التي نسميها مرحلة الذوق الفطري إلى مرحلة ما نسميه علمًا؛ وربما ازداد الأمر وضوحًا إذا ضربنا المثل بالحاجات العملية في مجال الطب إبَّان محاولته شفاء المرضى ومعالجة الجروح، وعلاقة ذلك بما قد حصلناه من معرفة عن وظائف الأعضاء والتشريح؛ في المراحل الأولى من تاريخ الفكر النظري عند اليونان، كان الفن — أو الصناعة — والعلم كلمتين مترادفتين.
وكان اليونان أقل خضوعًا للسيطرة السياسية التي كانت لرجال الكهنوت والحكم المطلق، من الشعوب التي أسلفنا ذكرها، مما يسوغ إلى حد كبير ما يُقال عن اليونان من أنهم هم الذين حرروا الفكر والمعرفة من السلطان الخارجي؛ غير أنهم — من ناحية أخرى لها أهمية جوهرية — جمَّدوا التقسيم المذكور بالنسبة لما قد جاء بعدهم من مراحل التاريخ الفكري، على الرغم من أنهم غيروا اتجاه ذلك التقسيم وطريقة تأويله؛ فكان العلم والفلسفة (وكانا لا يزالان شيئًا واحدًا) هما قوام الصورة العليا من صورتَي المعرفة والنشاط، وكانت تلك الصورة وحدها هي الصورة «العقلية» عندهم، وهي وحدها التي استحقت أن تُسمَّى بكلمة معرفة أو بكلمة نشاط حين يُوصف هذا النشاط بأنه نشاط «خالص» لأنه هو النشاط الذي تحرر من ضرورات الجانب العملي؛ وأما المعرفة المعتمدة على خبرة فقد اقتصرت على الصانع والتاجر، وعُد نشاطهما «عمليًّا» لأنه كان معنيًّا بإشباع الحاجات والرغبات، وقد نظروا إلى معظم هذه الحاجات والرغبات، في نشاط التاجر مثلًا، فعدُّوه دنيًّا وغير جدير بالاحترام على كل حال.
ولم يكن مفروضًا في المواطن الحر أن يشغل نفسه بأيٍّ من هذه المشاغل، بل أن يُكرس نفسه للسياسة وللدفاع عن دولة المدينة؛ وعلى الرغم من أن العالم الفيلسوف كان مضطرًّا بحكم الضرورات الجسدية أن يُنفق بعض وقته وفكره في إشباع حاجاته، إلا أنه باعتباره عالمًا فيلسوفًا كان يشغل نفسه بإعمال عقله في الأشياء العقلية، ليبلغ عن هذا الطريق غاية ما يمكن بلوغه من الحرية الكاملة والمتعة المثلى؛ وحَوَّلت الصياغة الفلسفية ما كان هنالك من تفرقة حادَّة في المجال الاجتماعي بين العمال والمحرومين من حق المواطنة الذين كانوا في منزلة العبيد، وبين أعضاء طبقة الفراغ الذين عُدُّوا مواطنين أحرارًا، أقول إن الصياغة الفلسفية قد حَوَّلت هذه التفرقة إلى تفرقة بين العمل والنظر، أو بين الخبرة والعقل؛ وانتهى الأمر إلى تصور المعرفة والنشاط اللذَيْن يُوصفان بأنهما علميان فلسفيان بالمعنى الدقيق؛ على أنهما يُجاوزان حدود الأمور الاجتماعية كما يجاوزان حدود الأمور التجريبية؛ ثم ربط الناس بين القائمين بمثل هذه المعرفة وهذا النشاط وبين ما هو إلهيٌّ وعزلوهم عن بقية مواطنيهم.
لقد شغلت نفسي بما قد يبدو استطرادًا تاريخيًّا، لا بغية أن أَعرض معلومات تاريخية، بل لكي أُشير إلى أصل التفرقة بين المعرفة والعمل التجريبيَّيْن من ناحية، والمعرفة والنشاط الخالص العقليَّيْن من ناحية أخرى، أو بين المعرفة والعمل اللذَيْن لا اعتراض على كون الحياة الاجتماعية هي التي أنشأتهما إنشاءً وحددت لهما الأهداف، وبين البصيرة والنشاط اللذَيْن ظُنَّ أنهما لا يتصلان البتة بما هو اجتماعي أو عملي؛ فالأصل الذي نشأت عنه هذه التفرقة نفسها هو في حد ذاته وليد المحيط الثقافي الاجتماعي؛ وإلى هذا الحد قد بلغت سخرية الأوضاع؛ فعلى الرغم من أن عقول المفكرين اليونان كانت حرة نسبيًّا، وعلى الرغم من أن إنتاجهم في نَواحٍ معينة كان جسيمًا، فقد حدث بعد أن لم تعد ثقافة اليونان شيئًا حيًّا، ونُقلت ثمارهم إلى ثقافات أخرى، أن أصبح تراثهم عقبة كأداة تعوق تقدم الخبرة وتقدم العلم، باستثناء واحد هو الرياضة؛ بل في مجال الرياضة نفسه، قد أقعد التراث اليوناني العلوم الرياضية أمدًا طويلًا؛ إذ جعلها تابعة للصياغة الهندسية بمعناها المحدود.
نعم إنه لا شك في أن ما قد حدث بعد ذلك من إحياء للعلم بمعناه الصحيح، قد استمد حافزه ووحيه من ثمرات الفكر اليوناني، إلا أن ما أعاد الحياة إلى تلك الثمرات، كان هو اتصالها وتفاعلها مع نفس الأشياء التي تقع في مجال الخبرة المعتادة والأدوات ذات النفع في الفنون العملية، وهي الأشياء التي ظن الفكر اليوناني القديم أنها مفسدة للعلم في نقائه؛ وذلك أن هذا الإحياء إنما تم بالعودة إلى الظروف والعوامل التي أسلفنا ذكرها في مواضع سابقة وهي: المواد والعمليات والأدوات التي تتميز بطابع كيفي خاص؛ فظاهرات الحرارة والضوء والكهرباء قد أصبحت أمورًا تُوضع أمام خبرة الإنسان، يخبرها في ظروف يرسم لها ضوابطها، بعد أن كانت أمورًا يتولاها بالصياغة العقلية عن طريق ذهنه الخالص؛ وأخذ البحث العلمي العدسة والبوصلة وأدوات أخرى كثيرة كما أخذ عمليات كثيرة، أخذ هذه وتلك من الفنون العملية، وحوَّرها بحيث أصبحت صالحة لحاجاته؛ ولم نَعد نزدري تلك العمليات العادية التي لبثت أمدًا طويلًا أمرًا مألوفًا في مجال الفنون الصناعية، كالإضعاف والتقوية، والجمع والتشتيت والإذابة والتبخير، والترسيب والنقع، والتسخين والتبريد وغير ذلك؛ بل تناولنا هذه العمليات لنستغلها في الكشف عن حقائق الطبيعة، بدل أن نقصر استخدامها على صناعة الأشياء في مجال النفع والمتعة وحده.
وطرأ تجديد هائل على أجهزتنا الرمزية بنوع خاص؛ إذ أصابها التهذيب والتوسيع معًا؛ فمن جهة؛ أقمناها ووصلنا بعضها ببعض — على أساس قابليتها للاستعمال التطبيقي قابلية أظهرتها الإجراءات العملية — ثم ربطنا بينها وبين الوجود الفعلي؛ ومن جهة أخرى، حررناها من ضرورة الصلة في مجال التطبيق المباشر بما يَمَسُّ شئون النفع والمتعة؛ فنتج عن ذلك أن تطلبت المشكلات المادية التي نشأت في غضون تحصيلنا للمعرفة الخبرية بالطبيعة، تطلبت واستحدثت وسائل رمزية جديدة للتسجيل وطريقة التناول؛ فالهندسة التحليلية والحساب التحليلي قد أصبحا صورتين أوليتين للاستجابة العقلية حين وجدنا أن الكمية والتغير والحركة ليست من قبيل الأعراض اللامعقولة، بل هي المفاتيح التي يمكن أن نحل بها أسرار الوجود الطبيعي؛ وليست اللغة إلا واحدة من وسائلنا الرمزية؛ وهي وإن تكن وسيلة قديمة ومألوفة وذات طابع كيفي، إلا أن أدق وأشمل اللغات الرياضية لا تكاد تعدل — من حيث هي نتاج عظيم — تلك الآية التي خلقتها الشعوب البدائية حين خلقت الكلام المفهوم؛ وها نحن أولاء قد أدركنا آخر الأمر أن التصورات العقلية التي نصوغها ونطورها خلال تفكيرنا الذهني، إنما نلتمس لها مصداقها في إمكان تطبيقها على مادة الوجود الفعلي ذات الكيف المعين؛ ولم نعد نحكم «بصدق» تلك التصورات لمجرد كونها مقومات لمجرى التفكير العقلي وهو بمعزل عن العالم الواقع، بل أصبحنا نحكم بسدادها بمقدار ما نجد فيها من قدرة على تنظيم المواد الكيفية التي يعالجها الإنسان بذوقه الفطري وبمقدار قدرتها على إقامة الضوابط على سير تلك المواد؛ فأكثر التصورات العقلية اتصافًا بالعقل إنما هي تلك التصورات التي نبنيها في أذهاننا بحيث تكون معلومة الصلة بواقع الأشياء، فتدلنا بأقصى درجات الدقة على الطريقة التي نستخدمها بها في جانب التطبيق؛ وهكذا نرى عند كل خطوة من خطوات السير في إجراء البحث العملي، انهيار الفاصل القديم الذي كان يُباعد بين الخبرة والعقل، أو بين الجانب النظري وجانب الأداء الفعلي.
وكان نتيجة ذلك أن طرأ تغير انقلابي على الذوق الفطري من حيث مضموناته وتقنياته؛ فقد لاحظنا فيما سبق أن الذوق الفطري ليس عاملًا ثابتًا، غير أن أشد ما قد تعرض له تغيرات انقلابية كان هو ذلك التغير الذي أحدثه تسلل النتائج والمناهج العلمية إلى كيانه ودخولها مقومًا من مقوماته؛ فحتى الإجراءات العملية والمواد المتعلقة بظروف الحياة البيئية الأولية، كالطعام والثياب والمأوى والانتقال، حتى هذه الأشياء وأمثالها قد أصابها تحول جسيم؛ ويُضاف إلى ذلك أن قد نشأت حاجات لم يسبقها نظير، كما نشأت قوًى جديدة لتُشبع تلك الحاجات الطارئة؛ وكان الأثر الذي ترتب عليه دخول العلم في كيان الذوق الفطري ودنياه، وأوجه النشاط التي تعالج ذلك الأثر في محيط العلاقات الإنسانية أقول إن ذلك الأثر كان في جسامته يُعادل الأثر الذي ترتب على دخول العلم إلى عالم الذوق الفطري من حيث علاقة الإنسان بالطبيعة المادية؛ وحسبنا أن نذكر التغيرات والمشكلات الاجتماعية التي نشأت عما استُحدث من الوسائل الفنية في إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها، وذلك لأن تلك الوسائل الفنية إن هي إلا ثمرة مباشرة للعلم الجديد؛ ولو رَوَيْنا بالتفصيل تلك السبل التي أثر بها العلم في عالم الذوق الفطري، بالقياس إلى علاقات الناس شخصًا بشخص وجماعةً بجماعة وشعبًا بشعب، إذن لَرَوَيْنا قصة التغير الاجتماعي خلال القرون القليلة الماضية؛ فتطبيقات العلم في قلب قوى الإنتاج والتوزيع والمواصلات وظروفها، قد غيرت — بالضرورة — إلى حد بعيد من الظروف التي يعيش الناس في ظلها ويعملون متصلًا بعضهم ببعض، سواء كانت تلك الظروف ظروف تبادل وصلات ودية، أم كانت ظروف تضادٍّ وقتال.
ولسنا بذلك نزعم أن تسلل النتائج والإجراءات العلمية إلى الذوق الفطري من حيث وقفاته ومعتقداته وإلى الطرائق العقلية التي يصطنعها فيما نسلم اليوم بأنه من أمور الذوق الفطري، قد كمل اليوم أو التأمت جوانبه؛ بل الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن أثر العلم في الذوق الفطري من حيث مضمونه وطرائقه قد كان أثرًا مفكك الأوصال بالقياس إلى أعظم أمورنا خطرًا؛ لكن هذا التأثير المفكك ولو أنه حقيقة اجتماعية لا منطقية، غير أنه هو العلة الرئيسية التي تفسر لنا لماذا يبدو لنا أمرًا يسيرًا و«طبيعيًّا» أن نَفصل فصلًا حادًّا بين بحث الذوق الفطري ومنطقه من ناحية والبحث العلمي ومنطقه من ناحية أخرى.
والعلم يبسط موضوعاته في مجموعات رمزية تختلف اختلافًا أصيلًا عن المجموعات الرمزية التي يَألفها الذوق الفطري؛ أو قل إن العلم يبسط موضوعاته بما يصح أن نقول عنه إنه لغة مختلفة؛ وفوق ذلك أن للعلم مادة موغلة في دقتها الفنية لم تدخل بعد في مجال الذوق الفطري، حتى ولا على سبيل التطبيق الفني في شئون حياتنا «المادية»؛ هذا إلى أن العلم قد كان ضئيل الأثر كذلك في قطاع هو أهم قطاع بالقياس إلى الذوق الفطري، وأَعني به قطاع الأفكار والمعتقدات الخلقية والسياسية والاقتصادية، وطرائق تكوينها وإثباتها؛ فما تزال الأفكار وطرائق البحث في مجال العلاقات الإنسانية في نفس الحالة التي كانت عليها معتقدات الذوق الفطري وطرائقه بالقياس إلى الطبيعة المادية قبل نشأة العلم التجريبي؛ وإن هذه الاعتبارات لَتحدد لنا معنى قولنا إن الفرق القائم اليوم بين الذوق الفطري والعلم هو فرق اجتماعي أكثر منه فرقًا منطقيًّا؛ ولو أطلقنا كلمة «لغة» بحيث لا تقتصر على معناها الصوري، بل لتشمل مضمون اللغة من حيث معانيها ذوات الفحوى، لقلنا إن الفرق المذكور هو فرق بين لغتَيْن.
إن مسائل العلم لَتتطلب مجموعة من المعطيات ونسقًا من المعاني والرموز لها من التنوع ما يستحيل معه أن نقول عنه إنه «ذوق فطري منظم»؛ ولكنه أداة يمكن استخدامها لتنظيم الذوق الفطري في معالجته لموضوعه ولمشكلاته، وإن يكن هذا الإمكان بعيدًا عن التحقق الفعلي؛ ومع ذلك فقد بات العلم أداة قوية في هذا التنظيم بالنسبة للتقنيات التي تمس استخدام الإنسان لمواد الطبيعة المادية في إنتاجه؛ أما فيما يختص بأمور المتعة، أي بأمور استهلاك السلع، فأثره ما يزال ضئيلًا؛ وهو يوشك ألا يمس مجال الأخلاق ومسائل الرقابة الاجتماعية، ولا تزال المعتقدات والأفكار والعادات والنظم التي سبقت في نشأتها هذا العصر العلمي مسيطرة على ذلك المجال وهذه المسائل؛ فإذا ضممنا هذه الحقيقة إلى لغة العلم الموغلة في صورتها الاصطلاحية وفي بعدها عن اللغة المألوفة رأينا لماذا نشأ لدينا الشعور ونشأت الفكرة بوجود فجوة مقطوعة الصلة بين طرفيها، ثم احتفظنا بما قد نشأ من شعور وفكرة، فما تزال المسالك الواصلة بين الذوق الفطري والعلم إلى يومنا هذا طرقًا للسير في اتجاه واحد إلى حد كبير؛ فالعلم يبدأ سيره من الذوق الفطري أما الطريق الراجع من العلم إلى الذوق الفطري فملتوٍ ومسدود بما يعترضه من الظروف الاجتماعية.
فالصلة المتبادلة بين الذوق الفطري والعلم ضئيلة بالنسبة إلى الأشياء ذات الأهمية العظمى؛ أضف إلى ذلك أن ما قد سبق عصر العلم من معتقدات في الأخلاق والسياسة إنما يضرب بجذور عميقة في التقاليد والعادات والنظم، بحيث ترانا نخشى لمسة المنهج العلمي، كأنما هذا المنهج أمر شديد الخطر على أعز وأعمق ما للإنسانية من اهتمامات وقيم، وإنك لَترى في مجال الصياغة الفلسفية مدارس فكرية قوية الأثر، كرست نفسها للمحافظة على مجال القيم والأفكار والمثل العليا، كأنما هي أشياء منفصلة انفصالًا تامًّا عن أي إمكان لتطبيق المناهج العلمية؛ وفي تسويغ هذه المدارس لضرورة هذا الانقسام، تراها تلجأ إلى تصورات فلسفية قديمة عن ضرورة الفصل بين العقل والخبرة، بين النظر والعمل، بين مناشط الإنسان العليا ومناشطه الدنيا.
وأما عن النقطة الثانية، الخاصة بما قد يبدو من فرق أساسي بين الذوق الفطري والعلم، نعزوه إلى كون الذوق الفطري في صميمه غائيًّا من حيث أفكاره ومناهجه التي تحدد طريق سيره، على حين أن العلم يتعمَّد إغفال هذه الغائية؛ فلا بد لنا أن نلاحظ أنه على الرغم من هذا الفرق النظري، فقد استطاع العلم الطبيعي — من حيث الواقع العملي — أن يحرر وأن يوسع توسيعًا كبيرًا من مدى الغايات التي تنفسح آفاقها أمام الذوق الفطري، كما استطاع أن يزيد زيادة كبيرة في مدى وفي قوة الوسائل الممكنة لتحقيق تلك الغايات؛ فلقد كان الظن عند الفكر القديم هو أن الطبيعة هي التي تحدد الغايات، وأن الانحراف عن تلك الغايات التي سبق تحديدها وفرضها بحكم طبائع الأشياء نفسها، ضرب من المحال؛ حتى لقد ظُن أن محاولة الإنسان أن يخلق لنفسه غايات من تصميمه هو، هي السبيل التي لا بد أن تنتهي بسالكها إلى الخلط والفوضى؛ ولا يزال هذا التصور قائمًا في مجال الأخلاق، بل قد يكون هو التصور السائد، لكنه قد نُبذ نبذًا تامًّا فيما يختص بالشئون «المادية»؛ فها هنا تجد اختراع الأدوات الجديدة والوسائل الجديدة كفيلًا بخلق غايات جديدة، ذلك لأنها تخلق نتائج جديدة من شأنها أن تحفز الناس إلى تكوين أهداف جديدة.
إن معنى «الغايات» الذي يجعلها نهايات محددة — وهو المعنى الفلسفي الذي كانت الكلمة تُفهم به أصلًا — كاد الآن يَنمحى؛ فبدل أن نقول إن العلم يحذف الغايات ويحذف البحوث التي ترسم لها الاعتبارات الغائية طريق سيرها، نرى — على عكس ذلك — أن العلم قد حرر ووسع — إلى درجة عظيمة — من النشاط والفكر في الأمور المستهدفة لغايات؛ ولسنا بهذا نعرض رأيًا خاصًّا، بل إنا لَنذكر حقائق واقعة هي أوضح من أن يتناولها الإنكار؛ وإن هذا نفسه ليصدق كذلك بالنسبة إلى الصفات الكيفية التي يُعنى بها الذوق الفطري عناية ليس في مستطاعه التخلي عنها؛ فكثيرة جدًّا هي تلك الصفات الكيفية الجديدة التي ظهرت في عالم الوجود الفعلي بسبب تطبيقات العلم الطبيعي؛ أضف إلى ذلك ما هو أهم منه، وهو أن قدرتنا على خلق الصفات الكيفية التي نريدها لأنفسنا في خبراتنا كلما أردناها، قد زادت زيادة تُوشك أن يتعذر حصرها؛ وإني لَأَطلب إليك — على سبيل ضرب مثل واحد — أن تنظر إلى قدراتنا بالنسبة إلى الصفات الكيفية التي يمكن أن نستخرجها من الضوء والكهرباء.
لقد عرضنا هذا الذي عرضناه تحقيقًا لغرضين؛ فمن جهة، نرى المشكلة الرئيسية في حضارتنا قد تكونت نتيجة لكون الذوق الفطري من حيث مضمونه ومن حيث «دنياه» وطرائقه، شبيهًا بأسرة انشق أفرادها بعضهم على بعض؛ فجزء من كيانه — وهو أكثر أجزائه جوهرية — هو أنه يتألف من معانٍ وأساليب بحث تكون لسيره بمثابة الزمام الضابط، مع أنها قد نشأت قبل نشأة العلم التجريبي وما قد انتهى إليه من نتائج وما اصطنع من مناهج؛ وجزء آخر من كيانه هو أنه يتصف الآن بما يتصف به بسبب تطبيق العلم؛ وإن هذا الانشقاق لَيطبع كل وجه من حياتنا الحديثة وكل ناحية من نواحيها: الديني منها، والاقتصادي، والسياسي، والقضائي، بل والفني أيضًا.
وإنه لَيشهد على قيام هذا الانشقاق أولئك الذين يهاجمون «الحديث» ويذهبون إلى أن المخرج الوحيد من فوضى حضارتنا هو العودة إلى المعتقدات الفكرية وإلى المناهج التي كانت موضع ثقة في العصور السوالف؛ كما يشهد عليه المجددون و«الثائرون» سواءً بسواء؛ وبين هاتين الجماعتين تقف كثرة الناس في اضطراب وقلق؛ ولهذا السبب نفسه ترانا هنا نؤكد أن المشكلة الأساسية في ثقافتنا الحاضرة وما يتصل بها من طرائق العيش، هي أن نوجد التكامل حيث يقوم الانقسام؛ ويستحيل أن تحل هذه المشكلة بغير طريقة منطقية موحَّدة نتخذها فيما تتناوله وفيما نُجريه؛ وتحقيقنا لهذه الطريقة الموحدة معناه أن نعترف بالوحدة الأساسية الكائنة في بناء البحث، سواء أكان بحثًا في مجال الذوق الفطري أم في مجال العلم، وأن ننظر إلى اختلافهما على أنه اختلاف ناشئ عن اختلاف المسائل التي يُعنى بها كل منهما في مجاله عناية مباشرة، وليس هو ناشئًا من أن لكل منهما منطقًا خاصًّا به؛ ولسنا بذلك نزعم أن بلوغنا منطقًا موحدًا، متمثلًا في نظرية تصل المنطق بوسائل البحث، سيزيل الانشقاق عن معتقداتنا ومناهجنا، لكن الذي نؤكده هو أن ذلك الانشقاق لن يزول بغيره.
ومن جهة أخرى فإن مسألة التوحيد هذه إنْ هي إلا إحدى مسائل النظرية المنطقية نفسها، وإذا أخذنا بها فمن أجل تلك النظرية المنطقية أيضًا؛ فصنوف المنطق السائدة في عصرنا الحاضر لا تدعي لنفسها أنها — بأكثر ما تقوله — تتصل بوسائل البحث؛ فأصحابها — بصفة عامة — يُطالبوننا بأن نختار لأنفسنا أحد منطقين: فإما المنطق التقليدي الذي صِيغ في عصر سابق بزمن طويل لنشأة العلم، وليس ذلك فحسب، بل إنه كذلك قد صِيغ حين كان العلم في مضمونه وفي طرائقه يتعارض تعارضًا أساسيًّا مع العلم الحاضر في مضمونه وطرائقه، وإما أن نختار «المنطق الرمزي» الجديد الذي هو خالص في صورية رمزيته، والذي يعترف بالعلوم الرياضية وحدها، وحتى في مجال الرياضة تراه لا يهتم بمناهج العلوم الرياضية اهتمامه بصياغة نتائجها صياغة لغوية؛ وإنك لَتراهم لا يكتفون بمجرد فصلهم بين منطق العلم من جهة والذوق الفطري من جهة أخرى بل إنهم لَيُؤْثِرون أن يفصلوا بين حديثهم عن المنطق وبين المنهج العلمي، كأنما هما أمران مختلفان يستقل أحدهما عن الآخر؛ وفي «تخليص» المنطق على هذا النحو من كل شوائب الخبرة قد جعلوه من الصورية بحيث لا ينطبق إلا على نفسه.
وسنتناول في الفصل التالي بصورة صريحة المنطقَ التقليدي كما أخذناه عن أرسطو، ابتغاء أن نبين: (١) أن الظروف العلمية التي صِيغ في ظلها تختلف — بالضرورة — عن الظروف العلمية التي تُحيط بالمعرفة كما هي اليوم، اختلافًا أدى إلى تحويله من الصورة التي كان عليها أول ما كان، وهي أن يكون منطقًا للمعرفة، إلى صورة يكون بها أمرًا صوريًّا بحتًا، (٢) وأن الضرورة الآن تقتضي إيجاد نظرية منطقية مبنية على نتائج العلم وطرائقه؛ وإن هذه النتائج والطرائق لَتبلغ من اختلافها عن نتائج العلم القديم وطرائقه حدًّا يجعل الحاجة لا تقتصر على مجرد مراجعة المنطق القديم وتوسيعه هنا وهناك، بل تتطلب وجهة النظر وطريقة في التناول مختلفتين من حيث الجذور، نأخذ بهما في نظرنا إلى مادة المنطق من أولها إلى آخرها.