الإصلاح المطلوب في المنطق
قليلون هم اليوم الذين يرددون قول «كانت» عن المنطق: «إنه منذ أرسطو لم يجد ما يُحفِّزه إلى الرجوع خطوة واحدة … ولم يكن في مستطاعه أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام، حتى إنه — كما تدل الظواهر كلها — لَيُمكن اعتباره تامًّا وكاملًا؛ ومع ذلك فما يزال هذا المنطق محوطًا بالتقدير العظيم؛ فمنه يتكون الأساس في معظم المؤلفات المنطقية التي تُدرَّس في المدارس، بعد إضافة فصول إليه عن «المنطق الاستقرائي»، أُضيفت — فيما يبدو — نتيجة لشعور بالحاجة إلى شيء من العناية بما يُظَن أنه مناهج العلم الحديث.»
وعلى ذلك فلست بحاجة إلى طلب المعذرة على مناقشتي للمنطق الأرسطي في علاقته بنظرية المنطق التي أبسطها في هذا الكتاب؛ وذلك لأن المنطق الأرسطي يدخل بصفة جوهرية في نظريات المنطق السائدة بيننا اليوم، بحيث يصبح النظر في أمره نظرًا في عالم المنطق المعاصر، ولا يقتصر أمره على مجرد قيمته التاريخية وحدها؛ وإذن فمن المسائل التي تتطلب منا النظر السريع مسألة كفاية المنطق التقليدي ليكون أداة للبحث فيما هو قائم بين أيدينا من مشكلات الذوق الفطري ومشكلات العلم معًا، ولهذا رأيت أن أَعرض في هذا الفصل عرضًا نقديًّا المعالم الرئيسية في المنطق الأرسطي مما يتصل (١) بظروف العلم والثقافة التي أمدته بأسسه وبمادته المهمة، (٢) ومقابلتها بظروف الثقافة والعلم التي تقوم بيننا اليوم. أما النقطة الأولى فتتضمن محاولة أبين بها الطريقة المباشرة المنظمة التي اتخذها المنطق القديم ليكون مرآة تعكس على العصر الذي صِيغ فيه ذلك المنطق، وأما النقطة الثانية فتختص بالتغير الانقلابي الذي طرأ على العلم منذ ذلك الحين، باعتباره أساسًا لتغير أساسي يقابله في المنطق.
ومقتضى هذه الفقرة فيما يبدو — وبخاصة إذا مددناها بحيث تشمل مؤلفات أرسطو المنطقية الأخرى بالإضافة إلى «الطوبيقا» — هو أن في مستطاعنا أن نغير تغييرًا أساسيًا في مسائل البحث وموضوعاته (كأن نبدِّل بالماهيات الثابتة وصورها الضرورية الجوهرية ارتباطات في الظواهر المتغيرة) دون أن نغير من الصور المنطقية إلا قليلًا؛ وهذا الزعم المتضمن (في الفقرة السالفة) إنما هو طابع يميز كثيرًا من التأليف المنطقي السائد بيننا اليوم؛ لكننا سنضع فرضًا آخر مضادًّا لهذا الفرض، لنجعله أساسًا لنا في نظرنا إلى المنطق الأرسطي في علاقته بالعلم والثقافة اليونانيين إبَّان القرن الرابع قبل الميلاد؛ وكلما ازدادت كفاية ذلك المنطق لعصره، قَلَّت صلاحيته لأن يكون إطارًا نبني عليه النظرية المنطقية التي نعرضها ها هنا.
كانت الثقافة اليونانية خصبة في إنتاجها الفني خصوبة غير مألوفة؛ كما امتازت كذلك بمشاهداتها المنوعة الدقيقة للظواهر الطبيعية، وبتعميماتها الشاملة التي صاغت فيها تلك المشاهدات؛ إذ دُرِسَ الطب والموسيقى والفلك والأرصاد الجوية واللغة والنظم السياسية بوسائل الدراسة القائمة عندئذ، دراسة أكثر تحررًا من السلطة الخارجية مما كانت الحال في الحضارة السابقة عليها؛ أضف إلى ذلك أن النتائج الخاصة التي انتهى إليها الدارسون في هذه الميادين المنوعة، قد دُمجت كلها في تلك النظرة الواحدة الشاملة التي أصبحت منذ ذلك الحين — جريًا على سنة اليونان — تحمل اسم الفلسفة؛ ومما هو جدير بذكر خاص، أنه لما لم يكن قد ظهر بعد ذلك التقسيم الحادُّ الذي ظهر فيما بعد، والذي يفصل بين «الذات» و«الموضوع»، فقد كان علم النفس مرتبطًا بعلم الحياة (البيولوجيا) الذي ارتبط بدوره بعلم الفيزياء؛ على حين كانت الأخلاق والسياسة أجزاء من نظريتهم في «الطبيعة»؛ أي إنهم تصوروا الإنسان في علاقته بالطبيعة، ولم يتصوروه باعتباره كائنًا قائمًا بمعزل عنها؛ ولم تكن الدراسات الأخلاقية والسياسية تنفصل عندهم بفواصل حادة عن دراسة الكون في جملته؛ وكذلك عُدت الرياضة علمًا يتصل بالوجود الفعلي.
وترتبط هذه الحقيقة الأساسية ارتباطًا وثيقًا بالمنطق الأرسطي؛ فمن الناحية السلبية لم يكن هذا المنطق صوريًّا بالمعنى الذي يجعل الصور مستقلة عن مادة الوجود الفعلي؛ نعم قد كان ذلك المنطق صوريًّا، لكن الصور إنما كانت هي صور الوجود القائم، إلى الحد الذي كان ذلك الوجود معلومًا، معلومًا لا بمجرد كونه واقعًا على الحواس، أو جاريًا مع حالات التفكير في تعاقبها، أو موضوعًا للتخمين والظن.
إن ما هو موجود وجودًا حقيقيًّا لا يطرأ عليه التحول؛ ولهذا كان التغير برهانًا على نقص في كمال «الوجود»؛ أو هو برهان على ما أسماه اليونان أحيانًا — إبرازًا لجانب النقص في عنصريته — باللاوجود؛ فجاءت الدرجات المتفاوتة في الإدراك الفكري مقابلة — ومعها صورها المنطقية في هذه المقابلة — درجةً درجةً للترتيب المدرج الذي رتبت به الذوات في تفاوتها من حيث درجاتها الكيفية في سلم «الوجود».
والقضايا التي يسمونها كبرى وصغرى هي ما تبين على التوالي «الموضوعات» الشاملة والموضوعات المشمولة، على حين يكون «الحد الأوسط» هو النسبة أو هو الحقيقة الثابتة (اللوغوس) أو هو العلة العقلية أو المبدأ الذي على أساسه تتحدد الأبعاد والأطراف، ولهذا فهو أساس التداخل أو التخارج؛ فلا غناء عنه في التدليل، لا لأن ﻟ «الفكر» خصيصة معينة تميزه، بل لأن في الطبيعة روابط هي جزء من كيانها، وهي روابط تربط «الموضوعات» بعضها ببعض وتمنع اختلاطها؛ ولما كان الحد الأوسط يمثل مبدأ التداخل والخارج في الطبيعة، فهو يعبر عن كلي أو عن كل؛ ولو كان يمثل ما هو جزئي (أي ما هو مكسور وغير كامل) لما صلح أن يكون هو الأساس أو هو المسوغ العقلي للنتيجة التي إن هي إلا بيان في مجال المعرفة لما هو كائن في «الطبيعة» من حالات التداخل والتخارج.
وما هو داخل في غيره أو خارج عن غيره لا بد بالضرورة أن يكون نوعًا بأسره، لأن الأشياء المفردة، كالفرد الواحد من الناس، أو القطعة الواحدة من الصخر، أو الجماعة الواحدة من الجماعات إنما تظهر في الوجود ثم تختفي، فهي إذن جزئية وليست هي بالكاملة؛ أما النوع الذي يكون الفرد الواحد أحد أجزائه فهو أزلي؛ فالإنسانية نوع، وباعتبارها نوعًا ذا ماهيَّة فهي لا تبدأ وجودها عند لحظة معينة، كلا ولا هي تفنى بميلاد أو موت سقراط وألقبيادس وزينوفون وغيرهم من سائر الأفراد؛ والنوع ذو الماهيَّة يكون بالضرورة حاضرًا في كل جزئية واحدة، أي في كل جزء داخلٍ فيه، فيجعله هو ما هو، سواء أكان الكائن الجزئي إنسانًا أم حصانًا أم بلوطة أم صخرة؛ فالذي ينتمي إلى النوع بالضرورة وبحكم كيانه الداخلي، هو طبيعة ذلك النوع أو هو جوهره؛ والتعريف هو الصورة التي يتمثلها الجوهر باعتباره موضوعًا لمعرفة؛ فليس هو أمرًا لفظيًّا بل ليس هو عملية أو ثمرة ﻟ «الفكر» نطمئن لها، إنما التعريف هو إمساكنا — بالإدراك العقلي — لذلك الذي يحدد (أو يعين حدود) الجوهر كما هو كائن في الوجود القائم؛ إذ هو يفصله عن كل ما عداه ويمسك بطابعه الأزلي الذي يحتفظ بذاتيته أبدًا.
أضف إلى ذلك أن الأنواع تُكوِّن تسلسلًا مدرجًا؛ فثمة «أنواع مدرَكة بالحس» تمثلها هذه الصفات الكيفية: رطب ويابس، حار وبارد، ثقيل وخفيف؛ وهنا يبلغ جانب التغير — أي الجانب الفيزيقي — حده الأقصى؛ وهذه الصفات الكيفية عابرة دائمًا ونازعة دائمًا إلى التحول إلى أضدادها؛ ومع ذلك فبينما تتغير الصفات الكيفية في حالاتها الوجودية الجزئية، تكون أنواعها ثابتة؛ ولهذا يمكن قيام أدنى أنواع الإدراك في المعرفة — وهو الإدراك الحسي — بالنسبة لها؛ بل إن الحس نفسه إذا ما أدرك صفة كيفية، كأحمر وصلب فلا بد له من إدخالها في نوعها الذي يحتويها، أعني أنه لا بد له أن يصنفها؛ على أن هنالك في الطرف الآخر أنواعًا خالصة تخلو من المادة ومن التغير، وتكون الأشياء التي تجسد طبيعتها الجوهرية ثابتة لا تنحرف في نشاطها وحركاتها.
والمثل النموذجي لذلك عند أرسطو هو النجوم في ثباتها، كل منها يجري في فلكه الأزلي لا يتحول عنه؛ وبين هذين النمطين من الأنواع تجيء الأنواع الأخرى كافة، أنواع الظواهر والأشياء في الكون؛ ولو أردنا ذكرها تفصيلًا، لبسطنا علم الفيزيقا وعلم الكون عند أرسطو؛ لكن حسبنا هنا أن نقول إن كل نوع له في ترتيب «الطبيعة» مكانه الثابت، ومِن ثَم كان لكل نوع منزلته الثابتة في درجات المعرفة العلمية أي البرهانية، تحددها له درجته النسبية في مدى خضوعه للتحول؛ وهذه الخاصة الأخيرة إنما تعين مدى اشتراك «المادة» في كيان النوع، لأن المادة هي مبدأ القلقلة والتحول؛ وأما الأنواع العليا فتتميز باطِّراد حركتها تجاه نهاية محددة أي كاملة.
ومما هو جدير بالذكر أن مناشط الكائنات الحية تتميز بدرجة كبيرة من الاطِّراد في معاودة الحدوث؛ ومعنى ذلك أنها تتميز بدرجة كبيرة من الحركة التلقائية؛ وجهدها في هذه الحركة التلقائية إنما يُعينها على مقاومة التغير الذي تتطلبه الظروف الخارجية؛ فلها من هذه المقاومة أكثر جدًّا مما للصفات الكيفية المدرَكة بالحس (التي تخضع للتغير من الأشياء المحيطة بها كافة)، بل أكثر جدًّا كذلك مما يكون لظواهر مثل الجو وسائر الأشياء الجوامد؛ وهذه الخاصة التي تميز الكائنات الحية، أعني حركتها الذاتية ونموها الذاتي، لها أهمية خاصة؛ إذ إن ثمة تسلسلًا كيفيًّا تندرج فيه تلك الكائنات الحية؛ ففي الطرف الأدنى والأسفل تجد أنواع النبات بما لها من «وظائف النمو» التي تتألف من امتصاص الطعام وتمثيله؛ وأما مختلف أنواع الحياة الحيوانية، فتتميز بتلك الوظائف النباتية نفسها مضافًا إليها طاقتها على الحركة الذاتية.
والإنسان في ذروة السُّلَّم؛ إذ هو يحتفظ بوظائف النمو وبالوظائف الحيوانية معًا؛ فيحتفظ بالإحساس ورغبات البدن والحركة؛ لكن الإنسان كلما دنا من الدرجة العقلية في حد ذاتها، التي هي درجة خالصة بمعنى أنها متحررة من الحاجة ومن الإحساس والإدراك الحسي، ازدادت طاقته في الحركة الذاتية اقترابًا من الكمال؛ فما العمل إلا نشاط الحركة الذاتية خالصًا، فلا يعتمد قط ولا يتصل قط بأي شيء عداه؛ ومثل هذا النشاط الذاتي الخالص هو تعريف الله، وكلما اقتربت منه الكائنات الفانية، تخلصت من فنائها.
ومن هذا العرض تَبرز أمامنا نقط رئيسية معينة في المنطق الأرسطي؛ فأولًا ليست الصور المعترَف بها صورية، لأنها ليست مستقلة عن ذوات الكائنات التي تكون موضوع المعرفة؛ بل هي — على خلاف ذلك — صور تلك الذوات نفسها بمقدار ما تتبدى في مجال المعرفة؛ وثانيًا تتألف المعرفة — في صورها المنطقية — من التعريف والتصنيف، بحيث لا يتبقى منها شيء؛ وليست عملية التعريف ولا عملية التصنيف لغوية ولا نفسية ولا هي معينة على التفكير النظري؛ فالتعريف هو إدراك الماهيَّة التي بها تكون الأشياء هي ما هي في الوجود الواقع؛ والتصنيف مختص بما هو كائن — في الوجود القائم — بين الأنواع الطبيعية من دخول بعضها في بعض وخروج بعضها عن بعض؛ فالتعريف وتصنيف الكائنات هما من الصور الضرورية للمعرفة لأنهما يعبران عن صور ضرورية ﻟ «الوجود».
وثالثًا ليس هنالك مكان لأي منطق للكشف والاختراع: فقد كانوا يرون الكشف داخلًا في مجال التعلم، وما التعلم إلا أن يظفر المتعلم بما هو معلوم بالفعل قبل ذلك، كالتلميذ حين يحدث له أن يعرف ما قد كان معروفًا قبل ذلك عند المعلم في الكتاب الذي يعرض مادة الموضوع؛ وكان التعلم ينتمي إلى المجال الأسفل الذي هو مجال التغير، وككل ضروب التغير الأخرى، لا يتمخض عن شيء ولا يعني شيئًا إلا بالقدر الذي يدخل به في حدود المعرفة الثابتة — وتلك الحدود — في حالة التعلم (الذي هو الصورة الوحيدة للكشف) هي إدراكنا للنوع الذي يكون متمثلًا في أفراده الجزئية التي تقع في مجال الإدراك الحسي من جهة، وإدراكنا العقلي لجوهر ما يحدد الطبيعة الكاملة لنوعٍ ما باعتباره كلًّا واحدًا من جهة أخرى؛ أي إن التعلم لا يزيد على كونه يربط هاتين الصورتين من صور المعرفة، اللتَيْن سبقتا إلى علمنا، إحداهما بالأخرى وهكذا لم يكن لاختراع الجديد مكان؛ فلم يكن له من المعنى سوى وقوع الإنسان على شيء كان موجودًا بالفعل.
وهذه الملاحظات تفسر لنا السهولة التي أصبحت بها نظرية منطقية كانت في دلالتها الأصلية متصلة اتصالًا وثيقًا بالوجود القائم أو بالوجود الفعلي، منطقًا صوريًّا صِرفًا حين هتك التقدم العلمي الأساس الذي كان قوامه جواهرَ وأنواعًا، والذي انبنى عليه المنطق في أولى مراحله؛ فلم يكن في هذا المنطق الأول مكان لعمليات التفكير النظري أو التفكير الذي ينتقل به المفكر من حلقة إلى حلقة تليها، اللهم إلا أن يكون ذلك التفكير من قبيل العمليات التي تحدث في ذات الإنسان فتنقلها من طور إلى طور (كالذي يمكن أن نسميه الآن تطورًا نفسيًّا، مع أنه أقرب إلى أن يكون تربويًّا) والتي بوساطتها يبلغ الإنسان الفرد مرحلة الإدراك المباشر للماهيات والعلاقات التي تصل الأنواع تداخلًا وتخارجًا؛ وكذلك كان لاحتفاظنا بصور التقليد الأرسطي مع حذف المضمون الذي كانت تلك الصور صورًا له، نتيجة أخرى، وهي أن حذف البحث (بالمعنى الذي يجعله موصولًا بالكائنات الفعلية) من مجال المنطق بمعناه المقبول (مع أن البحث ما هو إلا التفكير النظري حين يثمر نتيجة فعلية)؛ إن القياس الاستنباطي في المنطق الأصلي لم يكن قط صورة للاستدلال والتدليل، بل كان إدراكًا مباشرًا، أو رؤية مباشرة لعلاقات التداخل والتخارج التي ترتبط بها الكائنات الحقيقية في «الطبيعة» من حيث يُعد كل كائن منها كلًّا واحدًا.
كانت المعرفة كلها — بمعناها التام الكامل — في الإطار القديم إدراكًا عقليًّا مباشرًا، أو قل إنها كانت إمساكًا مباشرًا بالحقيقة أو رؤية مباشرة لها؛ وكان التفكير النظري والبحث من حيث طبيعَتَاهما كالمحاولة التي قد يُضطر الفرد إلى القيام بها لكي يظفر برؤية أفضل لشيء موجود بالفعل؛ وهي محاولة شبيهة بالقيام برحلة إلى متحف ابتغاء النظرة الفاحصة للأشياء المعروضة فيه؛ ذلك لأن الصورة والنوع إن هما إلا نظرات لكائنات كل منها هو بمثابة الكل الذي لا يتجزأ؛ ولما كان الإنسان عاجزًا بطبيعته الفانية، كان لزامًا عليه أن يقوم ببحوث في تفكيره النظري، غير أن هذه البحوث لم تكن ذات أهمية منطقية نابعة من كيانها حتى إذا ما بلغ الإنسان معرفة، كانت تلك المعرفة بمثابة إمساكه بشيء أو حيازته لشيء؛ وهما إمساك وحيازة لهما طبيعة ما يُسمَّى في النظرية الحديثة «حدسًا»، لولا أنهما لم يكن فيهما شيء من غموض «الحدس» كما تُفهم هذه الكلمة اليوم.
وأنتقل الآن إلى الفرق الأساسي بين تصور اليونان ﻟ «الطبيعة» كما يعبر عنه أرسطو في فلسفته عن الكون وعن الوجود وفي المنطق والتصور الحديث كما قد حددته الثورة العلمية؛ وأوضح جوانب الخلاف هو الجانب الخاص بما قد طرأ على تصور الكيفي والكمي في علاقة أحدهما بالآخر، مع اختلاف شامل في وجهة النظر؛ فليس الأمر مقصورًا على أن فلسفة الكون القديمة والعلم القديم كانا يتألفان على أساس الصفات الكيفية، بادئة بالعناصر الكيفية الأربعة: التراب والهواء والنار والماء (وهذه بدورها تتألف من تركيبات من الأضداد الآتية: رطب ويابس، بارد وحار، ثقيل وخفيف)، بل إن كافة التحديدات الكمية كانت تُرد إلى حالة الأحداث العارضة، بحيث لم يكن لإدراك الإنسان لها أية قيمة علمية؛ وإني لَأستخدم كلمة «العرض» هنا بمعناها الاصطلاحي بطبيعة الحال، وهي بهذا المعنى لا تتضمن انعدام السببية بالنسبة إلى حدوث الأشياء بمقدار كمي معين دون آخر؛ لكنها تعني أن السبب في هذه الحالة يكون خارجيًّا بالنسبة إلى الشيء ذي المقدار الكمي المعين، بحيث لا يمكن اعتباره في المعرفة أساسًا أو علة عقلية لوجود ذلك الشيء في كميته تلك.
وثمة اختلاف آخر وثيق الصلة بالاختلاف السابق، نراه في كون الصفة الكيفية التي كان يتسم بها موضوع المعرفة في تصور اليونان ﻟ «الطبيعة» قد أدت إلى افتراضهم لمبدأ التنوع افتراضًا أَمْلَتْه طبيعة الموقف، على حين يفترض العلم الحديث مبدأً آخرَ، هو مبدأ التجانس، محاوِلًا بذلك أن يحل التجانس محل الكثرة الكيفية؛ وهو اختلاف توضحه الموازنة بين النظرية القائمة اليوم عن العناصر «الكيموية» وبين العناصر الكيفية الأربعة (هي خمسة لو أضفنا العنصر الأثيري الذي تتألف منه النجوم الثابثة)؛ غير أن أوضح مثل يبين لنا الاختلاف، هو تصورهم لأنواع كيفية مختلفة من الحركة، وهو تصور سيطر على العلم حتى القرن السادس عشر تقريبًا؛ فبدل أن يُنظر إلى الحركة على أنها تغير مَقيس يطرأ على الوضع المكاني، ويشغل فترة مَقيسة من الزمن، عُدت الحركات الدائرية، وإلى أمام ووراء، وإلى أعلى وأسفل، حركات تختلف كيفًا بحيث لا يدخل نوع منها في نوع آخر؛ وميزوا العناصر ذوات الطبائع المختلفة بأن جعلوها تحتل أمكنة تتفاوت قيمةً حسب منزلها من سلم الأنواع، وكانت لهذه الأنواع المتفاوتة غايات مختلفة كذلك توجه سيرها؛ فالتراب يهبط أو يسقط بحكم طبيعته وطبيعة مكانه الملائم، والنار والضوء يتحركان إلى أعلى للسبب نفسه؛ وفي طبائع الأشياء نفسها صفة الخفة كما أن فيها صفة الثقل، وهكذا قل في «جواهر» الضروب الأخرى من ضروب الحركة.
وبسبب المبدأ الغنائي القائل بأن كل تغير يمكن معرفته يتجه نحو نهاية محددة تضع له ختام سيره، كان الظن أن الحركة كلها تتجه بطبيعتها نحو أن تبلغ حالة من السكون؛ وهي فكرة سيطرت على العلم حتى عصر جاليليو تقريبًا، فانظر على سبيل الموازنة إلى مكان الحركة المتجانسة من العلم الحديث، وهو تجانس لا تتميز أجزاؤه باتجاهات الزوايا وبقوة الدفع والسرعة، وكلها أشياء يمكن قياسها؛ ولا يمكن أن نغض النظر عن اختلاف كهذا على أساس أنه اختلاف في تفصيلات موضوع البحث ولا شأن له بالمنطق؛ لأن الحركة الكيفية التي ترتد بالشيء إلى سابق وضعه من تلقاء نفسها كامنة في صميم تصور القدماء للعقل وموضوعاته؛ إذ كان الاختلاف الكيفيُّ الذي يفرق بين هذه الحركة المذكورة وسائر أنواع الحركة هو المعيار الذي تقاس به صور المعرفة من حيث درجاتها، فضلًا عن أن الأمر هنا يدخل فيه ما قد طرأ من اختلاف على عناية العلم بالقياس الكمي وبالمقادير الكمية.
واختلاف ثالث وثيق الصلة بالاختلافين السابقين، نراه في عناية العلم الحديث بإقامة العلاقات، على أن المنطق القديم كان قائمًا على أساس نظرية عن الطبيعة تنظر إلى العلاقات كافة — فيما عدا علاقة تداخل الأنواع وتخارجها (التي لم ينظروا إليها على أنها علاقة) — نظرة تجعلها عرضية، بنفس المعنى الذي كانت الكمية تُعد به عرضية؛ فلأن يكون شيء متعلقًا بشيء، معناه من وجهة النظر الأرسطية أن يكون معتمدًا على شيء خارج عنه، غير أن هذا الاعتماد لم يُعَمَّم ولم يُنظر إليه على أنه من الموضوع العلمي في صميم بنائه؛ بل إن هذا الاعتماد — على خلاف ذلك — قد وُضع بحيث يكون على تضادٍّ حادٍّ مع استقلال الشيء بكيانه، واكتفائه بذاته، وفاعليته الذاتية، وهي أمور لا تكون إلا ﻟ «الذوات» (أي العناصر) التي تصلح وحدها أن تكون موضوعات للمعرفة العلمية البرهانية؛ فكون الشيء هنا الآن، وفي موضع آخر في لحظة أخرى. قد حُذف من اعتبارهم إلى الأبد، على أنه العلامة المميزة للمادة الدنية، على حين أن مثل هذا التغير هو الذي يقيم مسائل البحث العلمي عند العلم الحديث.
ونذكر كذلك اختلافًا آخر نراه في المركز الرئيسي الذي كانت تحتله الغايات والفلسفة الغائية في المنطق الأرسطي؛ فلئن اختفى هذا العامل الغائي من منطقه بعد تحويله إلى مجرد منطق صوري فحسب، فذلك لا ينفي أن الغائية كانت أساسية في المنطق القديم إلى الحد الذي يُمكِّننا من القول بأنه ما دامت تلك الغائية قد اختفت فقد اختفى كذلك باختفائها المسوغ لبقاء المنطق الأرسطي، الذي لم يبقَ منه إلا قوقعة فارغة، أو صور بغير مادة موضوعاتها؛ وفي اختتامي لهذه المرحلة من مناقشتي للأمر، سأشير إلى الأساس الذي تنطوي عليه تلك الاختلافات كلها التي ذكرناها، وأعني به الانقلاب الذي طرأ على العلم في وقفته إزاء التغير؛ ونستطيع أن نحدد تاريخًا ملائمًا نؤرخ به اكتمال هذه الدورة الانقلابية التي طرأت على الوقفة العلمية، وذلك التاريخ هو ظهور مؤلف دارون «أصل الأنواع»؛ فعنوان الكتاب وحده كافٍ للدلالة على ثورة في العلم لأن فكرة الأنواع البيولوجية قد كانت قبل ذلك مظهرًا واضحًا للزعم الذي يزعم أن ثمة استحالة تامة على التغير؛ نعم كانت هذه الفكرة قد زالت قبل دارون من كل موضوع علمي إلا علم النبات وعلم الحيوان، لكن هذين العلمين قد لبثا الحصن الذي تحصن به المنطق القديم في مجال الموضوعات العلمية.
ويمكن تلخيص الموضوع كله بالإشارة إلى الفرق بين فكرتين عن «الطبيعة» نراهما داخلتين على التوالي في العلم القديم والعلم الحديث؛ فقد كانت «الطبيعة» في العلم اليوناني كلًّا كيفيًّا محددًا ومغلقًا؛ فلأن نعرف كائنًا خاصًّا كان معناه أن نعرف ذلك الكائن باعتباره كلًّا موضوعًا في مكانه الملائم من ذلك الكل الشامل شمولًا لا يفلت منه شيء، وأعني به «الطبيعة»؛ وليس صوابًا أن يُقال إن العلم القديم قد حاول استنباط المعرفة الخاصة بالكلات الداخلية من تصوره للكل النهائي الكامل؛ فهذه الفكرة عن العلم اليوناني بأنه كان استنباطيًّا بهذا المعنى، هي سوء فهم عميق؛ لأن قوام المعرفة — على أساس الفكرة اليونانية — هو وضع كل نوع نسبي، الذي هو في ذاته كل واحد، بعد تحديده وتعريفه بجوهره، وضعًا يصل العلاقة بينه وبين سائر الأنواع في «الطبيعة» من حيث هي كل أخير؛ وهذه الضرورة التي تقتضي إحالة شتى الأنواع الخاصة وشتى ضروب المعرفة الخاصة إلى «الطبيعة» من حيث هي كل مغلق، تفسر لنا استحالة قيام الفواصل الحادة — بناءً على التصور القديم — بين العلم والفلسفة؛ أما موضوع دراسة العلم الطبيعي الحديث فقوامه التغيرات تُصاغ في صيغ تبين ما بينها من تقابلات؛ وليست تقتصر هذه الحقيقة على كونها تضع التغير في موقف يختلف اختلافًا عميقًا عن موقفه الأول، بل إنها لَتؤثر كذلك أثرًا عميقًا في فكرتنا عن «الطبيعة».
وإن صياغة التقابلات في ارتباطها بعضها ببعض لَتزداد اتساعًا في المدى شيئًا فشيئًا؛ لكننا لا نجد اليوم عالِمًا تحدثه نفسه بأن يصوغ صيغة واحدة تشمل كل شيء في الكون من حيث هو كل واحد؛ فهذه مهمة تولتها عن العلماء بعض المدارس الفلسفية؛ ذلك أن تغير الفكرة عن «الطبيعة» تلخصه الفكرة القائلة بأننا اليوم نتصور الكون مفتوحًا وفي سير، على حين تصورته اليونان القديمة محدودًا بحدود، بالمعنى الذي يجعله شيئًا اكتمل، وتم وكمل؛ وكان اللانهائي في العلم اليوناني هو ما ليست تحده الحدود، ولا يمكن معرفة هذا اللامحدود من حيث هو كذلك.
وإنه لخطأ لا يَترك للصواب مكانًا أن يُعد هذا الذي أسلفته نقدًا للمنطق الأرسطي في صياغته الأصلية التي كانت تربطه بالثقافة اليونانية؛ فإذا نظرنا إليه من حيث هو وثيقة تاريخية ألفيناه جديرًا بما قد لقيه من إعجاب؛ فمن حيث هو خطة فكرية شاملة نافذة كاملة، ترسم طريق السير في كل حركة فكرية وهي بمعزل عن الإجراءات العملية التي يخرج إليها ذلك التفكير إذا خرج إلى حيز العمل، أقول إنه من حيث هو كذلك فهو فوق كل ثناء؛ وإنما الذي قد أسلفته هو نقد موجه إلى ذلك المجهود الذي يبذله من يحاولون الإبقاء على هذا المنطق، بعد مراجعات هنا وإضافات هناك، على اعتبار منهم أنه كافٍ أو أنه يتصل إطلاقًا بعلم اليوم؛ فكما قد أسلفت القول، كلما ازداد ذلك المنطق في تمامه وكماله بالنسبة للثقافة القديمة التي سادت العصر الذي صِيغ فيه، كان أقل ملاءمة للمعرفة بظروفها الحاضرة وبما تقتضيه من شروط؛ فالمصدر الأساسي الذي يصدر عنه ما نراه اليوم قائمًا في النظرية المنطقية من خلط، هو محاولة الإبقاء على الصور المنطقية الأرسطية بعد أن نبذت أسسها الوجودية التي كانت قائمة عليها؛ فتلك هي العلة التي ينتهي إليها كل تعليل لكوننا نعالج، الصور المنطقية على أنها مجرد أمور صورية.
غير أن هذا الإعجاب — كما أشرت من قبل — بالطريقة الشاملة التي أدى بها المنطق القديم مهمته، حتى من وجهة نظر النسيج الثقافي المعاصر له، لا بد أن نتحفظ فيه بعض الشيء، بأن نُلم بالطريقة التي قام عليها بناء تلك الثقافة على أساس فكرة الأنواع، لأننا عندئذٍ سنتبين أن صياغته لم تكن صياغة كاملة حتى بالقياس إلى الوسائل الممكنة في زمانه ومكانه؛ فمؤلفو المنطق القديم لم يكونوا على علم بأن العُدَد إنما تكون ضربًا من اللغة التي ترتبط بأشياء الطبيعة ارتباطًا هو أكثر إفحامًا من ارتباط الكلمات بتلك الأشياء؛ كما لم يكونوا على علم بأن سياق الإجراءات العملية يمدنا بنموذج لإطار المعرفة المنظمة هو أكثر إلزامًا لنا مما تمدنا به اللغة منطوقة ومكتوبة؛ فقد نهضت المعرفة العلمية بمعناها الصحيح، حين تبني البحث ما كان قد سبق وجوده بين أيدي العمال المنتجين من أدوات وسلية وإجراءات عملية، لم يكن يأبه لها أحد من قبل، أقول إن البحث قد تبناها ليجعلها جزءًا من إجرائه ووسيلة لتحقيق أغراضه؛ فكان هذا التبني هو الطابع الأصيل الذي يميز منهج العلم في بحثه التجريبي؛ ولئن كانت الرياضة بدورها العظيم الذي تؤديه في سير العلم، دليلًا على أن التفكير وهو بمعزل عن العمل لا يزال قائمًا بمهمة أساسية، إلا أنه في محيط المعرفة التي تتصل بالوجود الفعلي، قد أصبح دور الرياضة ذاك تابعًا لغيره ولم تعد له السيادة على غيره؛ وهكذا نرى أن الخلط الذي يكتنف النظرية المنطقية اليوم، هو نتيجة طبيعية لمحاولات الإبقاء على صور النظرية المنطقية القديمة، بعد أن طرأ تغير أصيل على منهج البحث الذي هو وسيلتنا إلى اكتساب المعرفة وإلى اختبار معتقداتنا؛ وسنسوق الأمثلة على هذا الخلط آنًا بعد آن خلال الفصول القادمة؛ لكن لا بأس في أن نسوق الآن مثلًا واحدًا نوضح به ما نقول: وهو مثل نتناول به أمرًا بالغ الأهمية من الناحية المنطقية، ألا وهو طبيعة الكلي.
إن المعنى الذي يعزوه المنطق القديم للقضايا الكلية والقضايا الجزئية متسق ولا يشوبه الغموض؛ فالقضايا الكلية إنما تدور حول الكائنات (الجواهر) التي هي كلات وجودية كاملة الكيان بذواتها في «الطبيعة» وبحكم تلك الطبيعة، وأما القضايا الجزئية فتدور حول الأشياء التي هي بطبيعتها غير كاملة تتناول جانبًا وتهمل جانبًا، لأنها أشياء معرضة للتغير؛ وكانت الأنواع هي تلك الكلات العنصرية التي تبتعث فاعلية نفسها بنفسها، وتنظم فاعليتها بنفسها، على حين تعتمد الأشياء الناقصة على سواها؛ كان ما يُعد كلًّا هو النوع المتحدد في الطبيعة، وهو السلف الذي خلف لنا ما نراه اليوم في النظرية المنطقية الحاضرة وأعني هذا الشيء الغريب الذي يسمونه «فئة» منطقية؛ وأما الأشياء الناقصة — لأنها غير كاملة — في الطبيعة فلا يمكن التحدث عنها إلا في تكثرها، لأنها هي نفسها مفككة الأوصال.
ومع ذلك فالمنطق الأرسطي لو أُخذ بروحه بدل أن يُؤخذ بحرفيته، لوجدناه ذا دلالة هادية — من حيث أصوله وفروعه معًا — لما ينبغي أداؤه في المنطق في الموقف الراهن؛ فمن حيث الأصول نحن بحاجة إلى منطق يؤدي للعلم الحاضر والثقافة الحاضرة ما أداه أرسطو لعلم عصره وثقافته؛ ومن حيث الفروع نجد منطق أرسطو ذا دلالة هادية للمنطق الحاضر، في أنه شمل ببناء واحد موحد مضمونات الذوق الفطري والعلم — السائدين في عصره — في آنٍ واحد؛ وإن يكن أرسطو قد اتبع في ذلك التوحيد طريقة لا يجوز اتباعها اليوم؛ إذ لم يعد يجوز لنا اليوم أن نأخذ مضمونات وإجراءات الذوق الفطري والعلم باعتبارها أشياء محتومة بحكم طبيعة الأمور نفسها، وأن نعد أن تلك المضمونات والإجراءات في حالة الذوق الفطري لا تختلف عنها في حالة العلم إلا من حيث المرتبة والمنزلة الكيفيتان، التي تكون لهما في سلم كيفي ثابت؛ لأن ذلك التحديد الذي فرضه النظام الأرسطي على مضمونات الذوق الفطري من جهة والعالم من جهة أخرى، وعلى صورهما المنطقية، قد جبَّ إمكان ارتداد العلم إلى مجال الذوق الفطري، كما جبَّ إمكان أن تظل مواد الذوق الفطري ومناشطه مصدرًا لا ينقضي، تنبثق منه مشكلات وتصورات علمية جديدة؛ ذلك أن العلم لم يكن يستطيع فيما مضى سوى أن يقبل ما يقدمه وما يؤيده الذوق الفطري، ليصوغه صياغة تصله بالكائنات الثابتة التي هي قوام المعرفة العقلية العليا؛ فحاجتنا اليوم هي حاجة إلى منطق موحد يشمل بنظرته حركة الانتقال في الاتجاهين معًا بين الذوق الفطري والعلم.
كانت ثقافة الذوق الفطري التي صِيغت قديمًا من طراز عالٍ؛ ففيما يختص بالمواطنين الأحرار — وأعني أولئك الذين شاركوا في الثقافة مشاركة حرة — كان الذي يسود تلك الثقافة ومقولات الانسجام الجمالي والفني، من معيار ونسبة وسلامة تخطيط واكتمال بناء؛ هذا إلى أن الأفكار الرئيسية في مجال العلم الفلسفي لم تكن إلا ترجمة — إلى المصطلح الفلسفي — للأفكار التي تسود الذوق الفطري في كل العصور: (١) فمقولة الجوهر هي انعكاس للفكرة القائلة بأن الأشياء قائمة في العالم على صورة ثابتة، وهي فكرة ليست مألوفة فحسب، بل هي كذلك أساسية في معتقدات الذوق الفطري كافة التي لم يصبها شيء من التغير نتيجة اتصالها بالعلم الحديث؛ وهذه هي الأشياء التي تدل عليها الأسماء الشائعة في استعمالنا اللغوي المألوف، (٢) ومقولة الأنواع الثابتة تقابل اعتقاد الذوق الفطري في الأنواع الطبيعية، التي يشتمل بعضها على بعضها الآخر، كما يستبعد بعضها بعضها الآخر؛ وهذه الأنواع الطبيعية عند الذوق الفطري لا تُجيز الانتقال من نوع إلى نوع، كما أنها لا تُجيز تداخل الأنواع؛ وإن الذوق الفطري العادي لَينظر إلى الأمر من وجهة نظره فإذا الدليل عنده على قيام الأنواع الطبيعية الثابتة وعلى قيام الأشياء ذوات الجوهر دليل قاطع؛ (٣) وما للذوق الفطري في كل ثقافة من أفكار ومعتقدات وأحكام، إنما يضبط سيرها أفكار غائية، أي غايات؛ وإذا استخدمنا لغة العصر الحديث قلنا إن سيرها تضبطه أفكارنا عن القيم؛ (٤) ينظر الذوق الفطري إلى عالم الأشياء وإلى العلاقات الاجتماعية على أسس لو نظمناها بالتفكير النظري، لأصبحت هي مذهب السلم المدرج من الرتب، أو هو التسلسل الذي تتفاوت درجاته؛ وما تمييزاتنا بين السافل والعالي، والدني والسني، والوضيع والشريف، وما يشبه ذلك من أضداد كيفية بين القيم، إلا مضمون معظم معتقدات ذوقنا الفطري التي لم تتحول بعد بتأثير العلم؛ إذ يُخَيَّل إلينا أنها مضمونة الصدق، لما نراه رؤية نحسب أن لا شك في وضوحها من طرائق بناء الأشياء التي نراها في الطبيعة وفي المجتمع الإنساني على حد سواء.
وعندما أقول إن العلم الفلسفي — الذي كانت النظرية المنطقية جزءًا منه لا يتجزأ عنه — قد نظم هذه وأشباهها من معتقدات الذوق الفطري وأفكاره، فلست أعني أن العلم الفلسفي لم يكن إلا مرآة تعكس معتقدات الذوق الفطري وأفكاره فحسب، لأن فكرة قيام التفكير النظري بعملية التنظيم في ذاتها تنفي مثل هذا الرأي؛ فليس الأمر يقتصر على أن ما هو متضمن في الذوق الفطري تضمنًا لم يدركه الذوق الفطري نفسه قد أصبح صريحًا، بل يُضاف إلى ذلك ما قد طرأ على إطار المدركات من توسيع بعيد المدى بفضل إعمال الفكر في موضوعات لم يكن للذوق الفطري صلة بها؛ وفوق ذلك كله فإن حقيقة قيام الفكر بعملية التنظيم نفسها تتضمن ترتيبًا منظمًا لا عهد للذوق الفطري به؛ فمثلًا لم يكن الذوق الفطري ليستسيغ الفكرة القائلة بأن العالِم الفيلسوف هو أعلى منزلة بالقياس إلى ما يتناوله من موضوعات وما يقوم به من أوجه النشاط، من القائد العسكري ومن رجل السياسة؛ ولا كان ليستسيغ أن سعادة العالِم الفيلسوف من طبيعة إلهية بالقياس إلى السعادة المتاحة لغيره؛ ورغم ذلك فقد كانت هنالك أشياء مما تتضمنه الثقافة الآثينية، إذا ما رُتب بعضها مع بعض ترتيبًا منظمًا، اتخذت صورة هذه النتيجة.
فها نحن أولاء قد عدنا إلى نفس النتائج التي انتهينا إليها في الفصل السابق؛ وهي أن موضوع العلم الحديث ومناهجه لا تتصل صلة القربى المباشرة بموضوع الذوق الفطري ومناهجه، كما كانت هذه قائمة حين تمت صياغة العلم والمنطق القديمين؛ فلم يعد العالم اليوم تنظيمًا لمعانٍ وطرائق سلوك تتمثل في معاني اللغة الجارية وفي تكويناتها الجميلة؛ ومع ذلك فنتائج العلم وتقنياته قد حوَّرت الذوق الفطري تحويرًا كبيرًا، بالقياس إلى علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان؛ فكما أننا لا نستطيع اليوم أن نفترض بأن نتائج العلم وتقنياته إن هي إلا التنظيم العقلي للمعاني وطرائق السلوك كما تتبدى في اللغة الجارية، فكذلك ليس في مستطاعنا الظن بأن الأولى لا ترتد بأثرها على الذوق الفطري فتغير منه.
ومع ذلك فقد كان تأثير العلم في الظروف الفعلية التي يعيش الناس في ظلها ويعملون ويستمتعون ويتألمون، أكبر جدًّا من تأثيره (بغض النظر عن وسائله الفنية المادية) في عاداتهم التي اعتادوها في اعتناق معتقداتهم وفي القيام ببحوثهم وإن هذا لَيَصدق بصفة خاصة على مجالات النفع والمتعة التي لها في أنفسنا أعظم المكانة: مجالات الدين والأخلاق والقضاء والاقتصاد والسياسة؛ فإذا كنا نطالب بإصلاح المنطق، فنحن إنما نطالب بنظرية موحدة للبحث، نستطيع بفضلها أن نجعل الطريقة المعتمدة في البحث التجريبي الإجرائي التي هي طريقة البحث العلمي، نجعلها في متناول أيدينا؛ إذ نحن بصدد تنظيم مناهجنا المعتادة التي نستخدمها كلما تناولنا موضوعًا مما يقع في ميدان الذوق الفطري؛ وطريقة البحث التي نريدها في هذا الميدان هي طريقة تنتهي بنا إلى نتائج، وتؤدي بنا إلى تكوين اعتقادات واختبار صدقها؛ وسنجعل هذا الأسلوب المشترك في البحث (المشترك بين العلم وموضوعات الذوق الفطري) وحقيقة طبيعته موضوع المناقشة في الفصل الآتي.
وواضح أنه قد تفرع عن نظرة اليونان إلى موضوع المعرفة بأنه من قبيل «الذات» الثابتة، لا من قبيل الشيء المتغير، أن جعلوا المعرفة بمعناها الدقيق متعلقة بما هو ثابت في طبيعته، فتكون المعرفة بالتالي ثابتة يقينية كذلك.
أما إذا أردنا أن نشير بالقضية إلى وجود فعلي، تحتم أن تكون هذه القضية فردية الموضوع، لأن الوجود الفعلي ليس فيه إلا أفراد؛ كأن نقول — مثلًا — إن هذا المثلث الخاص المعين المرسوم أمامي الآن على هذه الورقة زواياه تساوي قائمتين.
وفي هذه النظرة اختلاف كبير عن وجهة نظر أرسطو التي كانت تجعل القضايا الكلية مثل «كل إنسان فانٍ» دالة على وجود فعلي، ولهذا الاختلاف آثار بعيدة المدى، لأن النظرة الحديثة تقتضي ألا تكون القضية قضية إلا إذا أمكن ردها إلى قضية تتحدث عن فرد واحد يمكن مشاهدته بين كائنات الوجود الفعلي.