تكوين الحكم١
نستطيع على أساس الأفكار التي بسطناها في الفصل السابق أن نفهم الحكم على أنه النتيجة المقررة التي يتمخض عنها البحث؛ فالحكم شيء يختص بالموضوعات الختامية التي تتولد من البحث، حين ننظر إلى هذه الموضوعات باعتبارها مرحلة الختام؛ وبهذا المعنى يكون الحكم شيئًا متميزًا من القضايا؛ إذ مضمون هذه الأخيرة إنما يقع في مراحل وسطى، وهو يمثل شيئًا سواه، ويكون محمولًا على رموز، على حين يكون للحكم — من حيث هو أمر قد تم تكوينه — فحوى وجودي مباشر؛ ولئن كان الحديث الجاري يستخدم كلمتَيْ إثبات وإقرار على سبيل الترادف، إلا أن بينهما اختلافًا — ولا بد لهذا الاختلاف أن يُرد إلى أصول لغوية — بين الخاصة المنطقية التي تكون لمواد الموضوعات إذ هي مراحل وسطى تتخذ وسائل لما يُراد لها أن تنتهي إليه، وبين مادة الموضوع التي أُعدت لتكون مرحلة الختام؛ وسأستخدم كلمة إقرار لأدل بها على الخاصة المنطقية الأخيرة، وكلمة إثبات لأسمي بها الخاصة المنطقية الأولى؛ فحتى من وجهة نظر الحديث السائر، نلمس في كلمة إقرار صفة الإلحاح التي يعوزها مفهوم كلمة «إثبات»؛ فإن جاز لنا عادة أن نستبدل عبارة «إنه من المأخوذ به» أو «إنه يُقال» بعبارة «إنه من الثابت» إلا أن الأمر الهامَّ هنا ليس هو الألفاظ، بل هو الخصائص المنطقية التي تميز مواد الموضوعات في حالاتها المختلفة.
- (١)
فحدوث المحاكمة مساوٍ لحدوث الموقف المشكل الذي يتطلب حلًّا يستقر به؛ فترى ترددًا ونزاعًا حول ما ينبغي عمله، بسبب تعارض المختلفين في دلالة أشياء معينة قد حدثت، حتى إن اتفق هؤلاء المتعارضون على طبيعة الأشياء التي وقعت — وهو اتفاق لا يتم دائمًا بطبيعة الحال؛ وقرار القضاء هو قرار لإشكال، لأنه يقرر أمرًا عن ظروف الوجود الخارجي من حيث تأثيرها في مجرى المناشط المقبلة — وهذا هو نفسه جوهر ما يكون لأي موقف واقعي من دلالة.
- (٢)
وهذا القرار أو الحكم هو نتيجة بحث وُجِّه في طريق سيره خلال شهادة الشهود؛ ومثل هذا البحث إنما يمثل لنا النمط الذي وصفناه في الفصل السابق؛ فمن جهة، تُقدَّم القضايا الخاصة بوصف الوقائع المتضمنة، ويشهد الشهود بما قد سمعوا ورأوا، وتُقدَّم مدونات مكتوبة … إلخ؛ وعندئذٍ تكون مادة الموضوع مما يمكن تناوله بالمشاهدة المباشرة، فيكون لها بذلك صلة بالوجود الفعلي؛ وعندما يتقدم كل طرف من أطراف النزاع بمادته التي يستشهد بها، يكون مراده بهذه المادة أن تشير إلى قرار معين فضًّا للموقف الذي لم يزل غير متعين؛ وإنما يكون لهذا القرار فعله إذ كان من شأنه أن يعيد تكوين الموجودات الخارجية على صورة معينة؛ ومن جهة أخرى، تشترك في الأمر قضايا خاصة بمادة الموضوع كما يتصورها الفكر؛ فيرجع إلى أحكام القانون لتحديد ما للوقائع المقدمة على أنها شواهد، من وجاهة (أي من صلة بالأمر) ومن قيمة؛ وها هنا تكون دلالة مادة الوقائع مرهونة بأحكام النظام القضائي القائم؛ أي إن هذه الدلالة لا تلحق الوقائع في ذاتها مستقلةً عن البناء الفكري الذي يفسرها؛ ومع ذلك فالموقف المشكل بما له من خصائص هو الذي يقضي أيَّ الأحكام من النظام القضائي نختار؛ وهذه الأحكام تختلف في القضايا المدنية عنها في القضايا الجنائية؛ فتختلف في حالة انتهاك لحرمة أرض عنها في حالة نقض العقود؛ ولقد نسقنا أفكارنا فيما مضى بحيث أدرجناها تحت رءوس مألوفة تلخص لنا أنواع المبادئ الشارحة التي دلت الخبرة الماضية على أنها تصلح لمختلف الحالات التي تنشأ عادة؛ وإذا كان التفكير القضائي من مثل نظري أعلى ينشده، فذاك هو قيام مجموعة من علاقات وإجراءات تمثل أقصى ما يمكن تحقيقه من تقابل بين الوقائع والمعاني القضائية التي تخلع على تلك الوقائع دلالتها؛ أي إنه ينشد أن يجيء إقراره للنتائج نابعًا من الوقائع في ظل النظام الاجتماعي القائم.
- (٣) والحكم الأخير الذي تصل إليه المحكمة هو إقرار لما لم يكن مستقرًّا، فقد تصرفت المحكمة فيها، وكان تصرفها ذاك موصول الأطراف بالوجود الفعلي عن طريق ما سيترتب عليه من نتائج؛ إذ لم تكن الجملة٢ أو القضية كما نُطق بها في نهاية المحاكمة خاتمة للأمر في ذاتها، بل كانت توجيهًا حاسمًا لأوجه النشاط كيف تسلك بعدئذٍ؛ ومن شأن النتائج المترتبة على أوجه هذا النشاط المنتظر، أن تُحدِث تعيينًا في الموقف السابق الذي لم يكن متعينًا من حيث نتائجه؛ فقد يُقضى لرجل بأن يُطلَق سراحه، أو يُقضى عليه بالسجن أو بالغرامة أو بإبرام اتفاق أو بدفع تعويض للطرف الذي أصابه الضرر؛ وعندئذٍ تكون الحالة من هذه الحالات الناتجة والتي تتأثر بها الأمور الواقعة، أعني أن هذا الموقف الذي طرأ عليه تغيرٌ، هو الذي يكون عندئذٍ موضوع القرار أو موضوع الحكم؛ أما منطوق ما قاله القاضي نفسه فهو قضية (بالمعنى المنطقي) وإن تكن مختلفة عن سائر القضايا التي وردت خلال المحاكمة — سواء أكانت تلك القضايا مختصة بأمور الواقع أم بمدركات قانونية — من حيث إن القضية التي نَطق بها القاضي في النهاية تنصرف بأثرها الفعلي إلى إجراءات عملية تقيم موقفًا كيفيًّا جديدًا؛ على حين أن القضايا الواردة خلال المحاكمة لم تكن إلا وسائل مؤدية إلى الجملة التي جاءت في الخاتمة، فهذه الأخيرة ختامية من حيث هي الوسيلة التي ستُتخذ لاستحداث موقف وجودي معين.
(١) الحكم النهائي فريد٤
ويلزم من هذا أن تحديدنا لفرد من الأفراد هو كذلك أمر وسلي، نستخدمه في تحديدنا لموقف ما يكون بدوره غير كامل ولا مكتفٍ بذاته؛ وإذن فتحديدنا لفرد ما هو وسيلتنا لتمييز موقف معين بالقياس إلى مشكلة مطروحة للبحث؛ وإذا ما كنا أثناء سيرنا في البحث إزاء مرحلة من مراحله، كان تحديدنا لفرد ما يمثل عند تلك المرحلة المعينة شاهدًا مرجحًا، أو حاسمًا، أو ذا دلالة تعين على التفرقة عندما يشكل علينا الأمر؛ فالصانع أثناء سيره في عمله، وفي كل لحظة من لحظات ذلك السير، يلحظ أوجهًا معينة وجوانب معينة مما يكون للموقف الذي يشتمل على مناشطه؛ إذ هو يلحظ شيئًا ما أو حادثة ما دون غيرها، حين يراها حاسمة في المرحلة التي يكون قد بلغها من مراحل سيره بالنسبة إلى الموقف بأكمله، بحيث يكون في ذلك ما يقطع بما عسى أن يكون في المرحلة التالية؛ وأما نهايات المراحل التي يمكنه الإشارة إليها بأداة الإشارة هذا، وذلك، والتي ينصب عليها بحثه ونشاطه انصبابًا مباشرًا، فهي لا تنفك تتبدل؛ فكلما فضَّ وجهًا من وجوه المشكلة خلقه له سيره في العمل، قام وجه آخر على صورة شيء جديد أو حادثة جديدة؛ فلو لم تكن الحلقات المتتابعة منطوية تحت موقف شامل، له من الطابع الكيفي ما يتغلغل في تلك الحلقات كلها، ويمسكها معًا، لكان نشاط العامل في صناعته قفزات وانتقالات تخلو من المعنى؛ وعلى هذا النحو نفسه يمكن وصف المشاهدات المتتابعة التي نشاهد بها الأشياء والحوادث المفردة إبَّان قيامنا بالبحث العلمي؛ فالشيء الفرد هو ذلك الذي يدور حوله البحث في موقف فريد، في ظل ظروف خاصة من شأنها — في كل لحظة معينة — أن تحدد المشكلة بالقياس إلى الظروف التي ستكون موضع النظر في الخطوة التالية.
ولهذه النقطة التي ذكرناها الآن معنًى منطقي؛ إذ هي تُزيل ازدواج المعنى الذي يكتنف كلمة «مُعطًى» كما تستخدم في مؤلفات المنطق اليوم؛ فما يكون «مُعطًى» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة هو المجال بأكمله، أي هو الموقف؛ أما المعطى بالمعنى الذي يجعل الكلمة تنصرف إلى فرد — شيئًا كان ذلك الفرد أو صفة — فهو ذلك الوجه الخاص أو الجانب الخاص أو المقوم الخاص من الموقف القائم في عالم الوجود الخارجي، الذي نختاره لنحدد به ونميز ملامحه المشكلة بالنسبة إلى البحث الذي نحن بصدد القيام به في تلك اللحظة المعينة وذلك المكان المعين؛ إذن فبالمعنى الدقيق هو مأخوذ لا مُعطًى، وهذه الحقيقة تقرر لنا الخاصة المنطقية التي تتسم بها المعطيات؛ فهذه المعطيات ليست بمعزل عن سواها، ولا هي كاملة أو مكتفية بذاتها؛ فلأن يكون الشيء مُعطًى من المعطيات معناه أن يكون ذا وظيفة خاصة يؤديها في تسيير مادة البحث، إذ يتجسد فيه ربط المشكلة على نحوٍ يشير إلى حل ممكن لها، كما يعين على تهيئة الشاهد الذي نختبر به الحل كما قد تصورناه تصورًا فرضيًّا؛ وسنتناول بالتفصيل مذهبنا هذا حين نناقش فيما يلي «الفكر» أي البحث.
(٢) موضوع الحكم
فافرض أن «هذا» في حالة معينة، يتصف بكونه «النصب الذي يخلد ذكرى وشنطن»؛ ففعل الإشارة في هذه الحالة لا يعين على وجه التحديد مفردًا واحدًا يُشار إليه ﺑ «هذا» دون غيره، إذ يكون كل شيء واقع في اتجاه الإشارة مشارًا إليه؛ وثانيًا، فحتى لو فرضنا أن فعل الإشارة قد تصادف أن يرسو — إن جاز هذا التعبير — على كائن واحد مفرد دون غيره، فهو إنما يشير عندئذٍ إلى مجموعة من الصفات المحسة؛ وليس في هذه الصفات — إذا نحن عزلناها عما يضبطها — من حيث تفسيرها — من جملة الموقف الذي يشملها مع غيرها — أقول إنه ليس في هذه الصفات وحدها ما يبرر وصفنا إياها بأنها «النصب الذي يخلد ذكرى وشنطن»، بل ليس فيها ما يسوغ وصفنا إياها بأنها نصب تذكاري إطلاقًا؛ وأقصى ما يمكن أن يُقال عندئذٍ هو أن الصفات المشاهدة نتيجةً لفعل الإشارة هي هي الصفات التي نشاهدها؛ فتمييزنا لشيء من أشياء الوجود الخارجي، أو تحديدنا له بأنه كذا وكذا، إنما يقع صميمه في أنه يمدنا بأساس نستطيع بناءً عليه أن نخلع على الشيء صفات مما لا يكون موضع المشاهدة ساعة إدراكه بالحس وفي المكان الذي ندركه فيه؛ فوصف الشيء بصفة ما يكون جزافًا كل الجزاف، وغير قائم على أساس، إذا ما عزلناه عن موقف شامل هو الذي يحدد لنا العلاقة القائمة بين مادة مشاهدتنا التي يتألف منها الشيء المفرد المشاهد، والذي نشير إليه باسم الإشارة «هذا»، وبين المحمول الذي يتعلق به ويميزه؛ فلا بد أن يكون هنالك مسألة (أعني مشكلة) معينة معلومة ينتمي إليها الجانبان كلاهما: الموضوع الذي هو كلمة «هذا» والمحمول الذي هو — في المثل المذكور — «النصُبُ التذكاري لوشنطن»؛ والمشكلة هنا أو المسألة إنما تنشأ عن موقف ما في جملته، وهذا الموقف هو الذي يضبط سيرها، وإلا لكانت القضايا التي نصوغها بغير هدف معلوم.
فكل قضية تظهر فيها كلمة «هذا» قد كوَّنها حكمٌ تقديري حددنا به طبيعة «هذا» لكي نستعين بهذا التحديد على إيجاد أسس نستشهد بها على نسبتنا إلى الشيء ما قد نسبناه إليه من صفات المحمول؛ وهذه الحقيقة لا تتسق مع جعلنا «هذا» مقتصرة في معناها على مجرد كونها هذا؛ لكن ليس ثمة من تعارض بين أن يكون الشيء هو ما هو في واقعية وجوده، وبين تقديرنا بأنه هو الأساس الشاهدي المطلوب لتسويغ حملنا صفة معينة عليه؛ وإذا أردنا عبارة إيجابية تعبر عن المعنى السابق نفسه، قلنا إن الإجراءات العملية التي تعين شيئًا نشير إليه بقولنا «هذا» لتجعله موضوعًا، هي دائمًا إجراءات تفرز وتحصر شيئًا ما من بين أشياء كثيرة تقع معه في مجال واحد؛ وهذا الذي تفرزه تلك الإجراءات عن غيره، ثم ما تحذفه من سائر الأشياء، إنما يستمد أصوله من تقديرنا نحن لما عسى أن يكون للأشياء من دلالة محتملة تجعلها شواهد.
(٣) الموضوعات والجواهر
والإجابة عن هذا السؤال متضمنة فيما قد أسلفنا قوله؛ فالموضوع ذو وجود فعلي حين يكون كائنًا فردًا يُشار إليه ﺑ «هذا» أو حين يكون مجموعة من أفراد؛ غير أن هناك شروطًا للبحث لا بد أن تُستوفى في أي شيء يُتخذ موضوعًا (١) فلا بد أن يحدد وأن يصف مشكلة ما، تحديدًا ووصفًا يشيران إلى حل ممكن لها (٢)؛ ولا بد أن يكون بحيث تجيء المعطيات الجديدة التي نستجلبها بإجراءات المشاهدة التي يوجهنا فيها المحمولُ الذي نحمله على الموضوع بصفة وقتية (ويمثل المحمول في هذه الحالة حلًّا ممكنًا) متحدة مع مادة الموضوع اتحادًا يكوِّن منهما كلًّا متسقًا؛ وإنما يكون هذا الكل المتسق شيئًا عنصريًّا بالمعنى المنطقي لهذه العبارة، أو أن يكون في طريقه إلى أن يكون شيئًا من هذا القبيل؛ لأن مثل هذا الاتحاد للعناصر المتميزة مرتبطًا بعضها ببعض، هو الذي يتيح لنا أن نصب فعلنا عليها، أو أن يتخذها فعلنا أداة له من حيث هو كل واحد؛ ومثل هذا الاتحاد أيضًا يقبل أن تدخل فيه صفاتٌ محمولةٌ أخرى، حتى يصبح — في ذاته — وحدة قوامها متميزات متصل بعضها ببعض، أي إنه يصبح «خصائص».
خذ — مثلًا — هذه القضية الأولية: «هذا حلو» فكلمة «هذا» — كما بينا — تحدد عملية فرزية حاجزة، تؤدي غرضًا معلومًا، داخل موقف مشكل كيفي شامل؛ وما ذلك الغرض المعلوم إلا النتيجة الختامية التي تتمثل في فض الموقف القائم، والتي — من أجل تحقيقها — تقوم كلمة «هذا» بوظيفة خاصة في هذا السبيل؛ فإذا كان المحمول «حلو» توقعًا للحالة التي يفض فيها الموقف، فمعناه عندئذٍ هو أن «هذا» سيكون من شأنه أن يحلي شيئًا ما، إذا ما قمنا بالإجراء الذي لا بد لنا من القيام به لكي نستحدث نتائج محسوسة معينة؛ أو قد يسجل لنا هذه النتيجة التي وصلنا إليها عن طريق قيامنا بذلك الإجراء، وهذه النتيجة هي التي نعبر عنها بقولنا: «هذا قد أحلى بالفعل شيئًا ما»؛ فإذا ما تم لنا هذا الإجراء، كان لنا أن نصف هذا بأنه حلو على وجه التحديد؛ ولا تظهر هذه الحقيقة في قضية (وإن يكن يجوز لقضية أن تقررها ابتغاء تسجيلها أو نقل معلوماتها إلى الآخرين في عملية التفاهم) أقول إن هذه الحقيقة لا تظهر لا في قضية ولا في رموز، بل تظهر في حالة وجودية فعلية نَخْبُرُها خبرة مباشرة؛ ومنذ تلك اللحظة يصبح «هذا» شيئًا ما حلوًا؛ وصفة كونه حلوًا لا تقف بمفردها، بل هي ترتبط ارتباطًا مؤكدًا بغيرها من الصفات المشاهدة؛ ومن حيث هي قائمة على هذا النحو مع غيرها، تراها تدخل بعدئذٍ في مواقف أخرى، تضيف فيها إلى نفسها صفات أخرى، كأن يصبح الشيء أو العنصر حلوًا وأبيض وجزيئاته على شكل الحب وأجرش إلى حد ما، أو قلْ إنه يصبح سكرًا.
وعلى ذلك ﻓ «العنصر» يمثل تحديدًا منطقيًّا لا تحديدًا وجوديًّا؛ فالسكر — مثلًا — عنصر، لأننا خلال تكويننا لعدة أحكام جزئية نستمدها من إجراءات أديناها وكانت لها نتائج فعلية، قد وجدنا أن عددًا منوعًا من الصفات قد اجتمع بعضه مع بعض بحيث كوَّن شيئًا يمكن استخدامه والاستمتاع به من حيث هو كل موحد؛ فصفته العنصرية لا شأن لها قط بكونه ذا طبيعة يدوم بقاؤها، ودع عنك أن يكون ذا طبيعة لا يطرأ عليها التحول؛ فالشيء هنا — السكر — قد يختفي بالذوبان، وعندئذٍ يكتسب صفة أخرى، فنقول عنه إنه قابل للذوبان؛ وربما تحول كيانه في تفاعل كيموي بحيث لا يعود سكرًا كما كان؛ فتصبح قابليته لمثل هذا التحول صفة أو خاصة إضافية لأي شيء نسميه سكرًا، فالشرط، الشرط الوحيد الذي لا بد من استيفائه لكي تكون هنالك عنصرية، هو أن صفات معينة يتعلق بعضها ببعض تعلقًا يجعلها علامات نركن إليها في الحكم بأن نتائج معينة ستنشأ إذا ما حدثت تفاعلات معينة؛ وهذا هو ما نعنيه حين نقول إن العنصرية في الشيء تحديد منطقي له، وليست هي بالتحديد الوجودي الأولي.
فالعنصرية صورة تضاف إلى الوجود الخارجي، كما قد كان بادئ ذي بدء، وذلك حين يسلك هذا الوجود على نحو وظيفي خاص، باعتباره نتيجة نجمت عن إجراءات البحث؛ ولسنا بذلك نصادر بفرض وهو أن صفات معينة تلتئم في الوجود الفعلي دائمًا بعضها مع بعض؛ وإنما الفرض الذي نصادر به هو أن تلك الصفات تلتئم معًا من حيث هي علامات موثوق بها في الشهادة بما نتوقع حدوثه؛ فالخصائص المجتمعية معًا بحيث تحدد وتعين مقعدًا وقطعة من حجر الجرانيت وشهابًا، ليست مجموعات من الصفات نلقاها في الوجود الخارجي على صور تميز أنواعها؛ بل هي صفات معينة تتكون منها — في ارتباطها المنظم بعضها مع بعض — علامات صادقة لما عساه أن يحدث بالتبعية إذا ما أجريت إجراءات معينة؛ وبعبارة أخرى فالشيء من الأشياء هو مجموعة صفات نأخذها على أنها إمكانات لنتائج فعلية محددة؛ فالبارود هو شيء ينفجر إذا توافرت ظروف معينة؛ والماء من حيث هو شيء عنصري، مجموعة صفات مرتبطة من شأنها أن تطفئ الظمأ، وهكذا؛ وكلما ازداد عدد التفاعلات، والإجراءات، والنتائج، ازداد تكوين الشيء العنصري المعين تركبًا؛ فالتقدم التقني قد أكسب الطين والحديد إمكانات جديدة؛ إذ إن قطعة الحديد اليوم تتخذ علامة لأشياء كثيرة لم تكن علامة لها ذات يوم؛ ولما وجد أن لب الخشب يمكن استخدامه في صناعة الورق إذا جرت على مادته إجراءات يدخل فيها في ظروف تفاعلية جديدة، تغيرت بالتالي دلالة أنواع معينة من الخشب من حيث هي أشياء؛ لكنها لم تصبح بذلك أشياء عنصرية جديدة كل الجدة، لأن الإمكانات القديمة من حيث النتائج المترتبة عليها لا تزال قائمة؛ غير أنها كذلك لم تعد هي المادة العنصرية القديمة كما كانت؛ ولقد نشأت لدينا عادة الافتراض بأن تلك المادة هي هي دائمًا على مدى الزمن، نتيجة لتشخيصنا للخاصة المنطقية التي تجعل من الشيء علامة أو تجعله ذا دلالة، فقد شخصنا هذه الخاصة المنطقية وجعلناها شيئًا داخلًا في تكوين الخشب؛ إلا أن كون الشيء عنصرًا هو الذي يعين لنا أنه ذو وظيفة يؤديها.
إننا كثيرًا ما نتحدث عن العناصر الكيموية؛ وها هنا لا يكون العنصر الكيموي متمثلًا فيما نحصيه عنه من الصفات من حيث هي صفات، بل يتمثل في صيغة تحمل إشارة مركزة لأنواع النتائج المختلفة التي يُنتظر لها أن تنتج؛ فالخصائص المدركة بالحس لسكر المائدة وسكر الرصاص متشابهة تشابهًا شديدًا، لكن الإنسان بذوقه الفطري نفسه يعلم كيف يميزهما «عنصرين» مختلفين، تمييزًا يهتدي إليه ببعض النتائج المختلفة التي تترتب على استعمالهما استعمالًا عمليًّا؛ وفي وصف العنصر الكيموي لكل منهما وصفًا علميًّا، ترانا نغفل من خصائصهما حتى تلك الصفات المدركة بالحس المشتركة بينهما؛ ونصوغ لكل منهما صيغة مختلفة عن الأخرى، بحيث نستطيع من كل من الصيغتين أن نتوقع سلفًا من الاختلافات بين النوعين ما لم ندركه بالحس فيهما أول الأمر؛ والماء عند الذوق الفطري هو ذلك الذي يمكن وضعه في القدور، ويمكن استخدامه في التنظيف، وعلى سطحه تطفو أشياء كثيرة وهلم جرًّا، أما الماء عند الكيميا فهو «يد ا» — وهذا وصف للماء على أساس مجموعة التفاعلات الممكنة والنتائج المعينة الخاصة؛ فبعض الصفات يمثل بالفعل أمام الحس، لكن تلك الصفات من حيث هي ماثلة للحس لا تكوِّن الشيء؛ بل هي — عند الذوق الفطري وعند العلم على السواء — تكوِّن الشيء بفضل النتائج التي تكون تلك الصفات القائمة فعلًا — قلت أو كثرت — علامة على حدوثها، والتي تكون تلك الصفات القائمة أيضًا شروط حدوثها على شرط أن تخلق إجراءات «معينة» ضروبًا من التفاعلات لم تكن قائمة في الشيء أول أمره كما أدركناه بالحس ساعة حدوثه ومكان حدوثه.
(٤) محمول الحكم
لقد سبقنا إلى ذكر المعنى المنطقي للمحمول عند مناقشة الموضوع المنطقي، لما هنالك بين الموضوع والمحمول من ارتباط دقيق بين مضمونيهما في الوجود الخارجي وفي الوجود الفكري على السواء؛ فالمعاني التي تعرض لنا على أنها حلول ممكنة لمشكلة ما، والتي تستخدم عندئذٍ لتوجيه إجراءات جديدة في مجال المشاهدة التجريبية، هي التي تكون مضمون المحمول في الأحكام؛ فهذا المضمون يتصل بمضمون الواقع — وأعني به الموضوع — كما يتصل الممكن بالفعلي؛ مثال ذلك في المثل التوضيحي الذي عرضناه فيما سبق، عندما قدرْنا ﻟ «هذا» (أي الشيء المعين المشار إليه باسم الإشارة في قولنا هذا حلو) قبل تذوقه أن يكون حلوًا، كنا بذلك نتوقع سلفًا نتيجة معينة، ترتبط على نحو محدد بالموقف في مجموعه؛ لكننا — مع ذلك — لو سارعنا على الفور إلى تقرير العبارة القائلة: «هذا حلو» كان تقريرنا هذا سابقًا لأوانه وغير قائم على أساس سليم؛ لأن التوقع إنما تنحصر وظيفته المنطقية في رسم وتوجيه الإجراء الذي علينا أن نؤديه في مجال المشاهدة التجريبية؛ فإذا جاءت نتائج هذه المشاهدة متآزرة مع الحقائق التي سبق التحقق من صدقها، تآزرًا من شأنه أن يقيم موقفًا بأكمله موحدًا، فعندئذٍ يبلغ البحث مرحلة ختامه؛ لكن الخطر الذي نتعرض له دائمًا في هذا الصدد، هو أن نتسرع بقبول المضمون الذي يحتوي عليه معنى المحمول، ما دمنا نراه جديرًا بالقبول وبالرضا؛ فعندئذٍ ترانا نقبله دون أن نمحصه بإجراءات عملية نجريها عليه؛ مع أن خاصته المنطقية لا تتوافر له إلا إذا أخذناه على حقيقته من حيث هو محمول — وحقيقته تلك هي أنه طريقة للحل وليس هو نفسه حلًّا؛ وكذلك ثمة خطر آخر، وهو أننا حتى إذا قمنا بالإجراءات المحققة المحمول، فقد نغفل تمحيص نتائج تلك الإجراءات تمحيصًا نستوثق به من أن ظروف الوجود الخارجي قد التأمت فعلًا على نحو يوحدها؛ فهذان التقصيران هما مصدر ما نقع فيه عادة من أقوال نقررها متسرعين وقبل التثبت منها، ومن ثَم تكون أقوالًا غير مرتكزة على أساس سليم.
فالمضمونات الفكرية و«العقلية» هي فروض يعوزها التحقيق؛ حتى إذا ما اكتملت صورها أصبحت نظريات؛ ومن حيث هي نظريات، يجوز تجريدها، بل إنها لتجرد عادةً من تطبيقها على هذا الموقف أو ذاك من المواقف الوجودية المباشرة؛ لكنها على هذا الأساس نفسه تكون وسائل — في نطاق فسيح غير مقيد بحدود — للتطبيق الإجرائي، بحيث لا تطبق فعلًا إلا إذا عرضت لنا ظروف خاصة تقتضي ذلك؛ ولقد ذهب التقليد المنطق «التجريبي» إلى التطرف من الناحية الأخرى، مقاومةً منه لذلك الوضع «الأسمى» الذي كانت المادة العقلية توضع فيه بحكم طبيعتها نفسها، واعترافًا منه بضرورة الخبرة الآتية من المشاهدات لتضمن لنا شيئًا في الوجود الخارجي نرجع إليه؛ فأنكر (المنطق التجريبي) تلك الضرورة المنطقية المنسوبة إلى المعاني والنظريات المدركة بالعقل، وردها جميعًا إلى مجرد وسائل عملية مواتية؛ وظنت التجريبية التقليدية أنها بهذا إنما تلتزم النموذج الذي أقامه البحث العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تشغل نفسها بإفساد صورة البحث العلمي، بأن أخضعت هذه الصورة إلى نتائج نظرية نفسية ذاتية قبلها من قبلها بغير تمحيص.
(٥) الرابطة
إن عرضنا السابق للموضوع وللمحمول ليتضمن الفحوى المنطقي لعملية ربطهما الواحد بالآخر؛ فليس هذا الربط عنصرًا منفصلًا مستقلًّا، كلا ولا هو بالعنصر الذي يؤثر في المحمول وحده، لاصقًا إياه بموضوع مفرد يعرض لنا في الوجود الخارجي باعتباره كائنًا مستقلًّا عن محموله، سواء أكان ذلك الموضوع شيئًا أم صفة أم معطًى حسيًّا؛ بل الرابطة بين الموضوع والمحمول هي تعبير عن الفعل الذي ننشط به في إلحاق المحمول بموضوعه، كما أنه تعبير كذلك عن الفعل أو الإجراء الذي نجريه عند «وضعنا» للموضوع، أعني أنه الفعل الذي ننشط به في إقامتنا للموضوع؛ وإذن فالرابطة اسم نطلقه على مركب من إجراءات بفضلها (أ) تختار وتقيد موجودات بعينها لتحدد لنا حدود مشكلة ما، ولتهيئ لنا مادة اختيارية نقيمها شواهد لنا، وبفضلها كذلك (ب) تُستخدم معانٍ وأفكار وفروض معينة مما يُدرَك بالعقل، باعتبارها هي المحمولات التي تعين خصائص الموضوع؛ أي إن الرابطة اسم نطلقه على العلاقة الدالية بين الموضوع والمحمول في صلتهما الواحد بالآخر؛ فالإجراءات التي تعبر عنها الرابطة هي إجراءات تميز بين الموضوع والمحمول، وتصلهما معًا في آنٍ واحد.
-
(١)
إن الحكم ليتطلب — كما قد رأينا — إجراءات من جانبي المشاهدة الخارجية والأفكار الداخلية في آنٍ معًا؛ وإنه ليستحيل أن تنضبط عملية البحث، إذا لم تكن تلك الإجراءات في كل من جانبيها قائمة قيامًا يرتبط ارتباطًا صريحًا بإجراءات الجانب الآخر؛ ومن اليسير أن نرى ماذا عسى أن يحدث إذا كانت المشاهدة الخارجية لتوجه نحو مادة لا علاقة لها البتة بما في أذهاننا من أفكار وفروض، وأن نرى ماذا يحدث إذا كانت هذه الأفكار والفروض التي في أذهاننا قد انسابت في طريق تستقل به، بحيث لا يربطها رابط بالمادة المحصلة بالمشاهدة الخارجية؛ نعم إنه أثناء عملية التدليل العقلي، وبخاصة في البحث العلمي، كثيرًا ما تقع فترة غير قصيرة تنمو خلالها مادة الفكر نموًا تستقل به وحدها، تاركة مادة المشاهدة الخارجية في حالة انتظار مؤقت؛ لكن على الرغم من ذلك، فإن الهدف بأكمله — خلال البحث الذي نمسك بضوابطه — لهذا النمو (الذي يطرأ على الفكر الداخلي) والذي يبدو كأنما هو مستقل وحده، الهدف كله من هذا هو أن نحصل على ذلك المعنى المعين أو البناء الفكري المعين، الذي يكون أفضل المعاني ملاءمة لاستحداث وتوجيه إجراءات المشاهدة الخارجية التي من شأنها — دون غيرها — أن تنتج تلك الوقائع الوجودية — وحدها دون غيرها — التي نتطلبها لحل المشكلة القائمة.
-
(٢)
إننا نبلغ الحكم النهائي خلال خطوات من الأحكام الجزئية نجتازها، وهي الأحكام التي أطلقنا عليها اسم تقديرات أو ترجيحات؛ فليس الحكم شيئًا يتم حدوثه بأجمعه دفعة واحدة؛ ويكفي أن نذكر أنه مظهر يصاحب البحث، لنعلم أنه يستحيل أن يكون وليد لحظة واحدة، ثم يكون في الوقت نفسه بحثًا؛ فما لم نبلغ مرحلة ينفض فيها الموقف انفضاضًا نهائيًّا (وذلك هو نتيجة الحكم الأخير أو القرار الأخير) فستظل مضمونات الموضوع والمحمول في جملتها متخذة لصورة مؤقتة يكون فيها الطرفان منفصلين ومتصلين في آنٍ واحد؛ ولو كانت مضمونات الموضوع والمحمول أمورًا نهائية لا مؤقتة، لكان قولنا بوجود انفصال بين الطرفين واتصال بينهما في آنٍ واحد، قولًا يعبر عن حالة من التضاد الذي لا يمكن الجمع بين طرفيه؛ ولكن لما كان الموضوع والمحمول يتسمان بعمل يؤديانه وإجراء يجريانه، لم يكن بينهما من التعارض أكثر مما يكون في طريق أي نشاط منتج مركب العناصر — صناعيًّا كان ذلك النشاط أو اجتماعيًّا — إذ إنه في كل نشاط منتج ومركب العناصر، ترى العمل منقسمًا بين القائمين به، ولكنه مع ذلك انقسام يربط الأجزاء بعضها ببعض ربطًا أدائيًّا؛ وذلك لأن تلك الأجزاء قد أنشئت لتتعاون معًا على إنتاج نتيجة مشتركة موحدة؛ ولو كان أحد المشروعات المركبة العناصر، التي يسودها تقسيم للعمل على نطاق واسع، ليوقف قبل أن يبلغ ختامه في وقته المناسب؛ ثم لو كانت أوجه النشاط المختلفة بما لكل منها من حاصل خاص، لتؤخذ في اللحظة التي أوقف فيها المشروع قبل تمامه، على أنها هي المرحلة التي تفسر لنا تفسيرًا كاملًا لما هو جارٍ؛ لو كان كل هذا ليحدث، فربما كانت النتيجة التي نستنتجها هي أنه ليس بين تلك الأجزاء المختلفة من تناقض نابع من طبائعها؛ لكننا كنا سنجد عندئذٍ ما يسوغ لنا القول بأن تلك الأجزاء تخلو من الرابطة التي تجمعها، ومن النظام الواحد الذي ينتظمها معًا؛ ونتيجة مناقشتي هذه هي أن أبين ألا مناص لنا من الاعتراف بأن الحكم — مثله في ذلك مثل البحث — أمر يتأثر في طبيعته بمر الزمن؛ فهو حقيقة زمنية لا بالمعنى الخارجي الذي يجعل فعل تكوين الحكم يمتد على فترة من الزمن، بل بالمعنى الذي يجعل مادة موضوعه تتعرض للتحول في كيانها خلال سيرها إلى تحقيق المرحلة الأخيرة من مراحلها، وهي المرحلة التي يتم فيها الحل والتوحيد على صورة معينة؛ وإنها لمرحلة هي الهدف الأخير الذي يتحكم في سير الحكم إبَّان تكوينه.
فالرابطة في حكم ما — حين لا تكون مجرد حد له دلالة العلاقة الصورية وحدها — تعبر، بناءً على ما أسلفناه، عن التحول الحقيقي الذي يطرأ على مادة الموضوع في موقف غير متعين تحوُّلًا يجعل ذلك الموقف متعينًا؛ وهكذا نرى الرابطة أبعد ما تكون عن كونها عنصرًا يمكن عزله وحده، حتى ليمكن النظر إليها على أنها هي التي تحرك مضمون الموضوع والمحمول مجتمعين إلى العمل، إذ تحركهما معًا إلى أداء وظيفتيهما، الواحد منهما بالنسبة للآخر؛ والأمر هنا شأنه شأن ما يحدث في المشروعات المركبة العناصر حين توضع للمشروع عادة خطةٌ على الورق تبين تقسيم الأعمال، فليست الخطة نفسها هي التقسيم الفعلي للعمل، بل إن هذا التقسيم إنما يكون في التوزيع الفعلي بين العوامل الفاعلة لما يعمله كل عامل منها في تعاونه مع العامل الآخر؛ فعندئذٍ يكون التوزيع كما يكون التعاون مدبرين على أساس هدف مقصود أو نتيجة يتم حدوثها في عالم الأشياء.
ويجوز للخطة أن تعرض وأن تشرح في قضايا؛ وربما كان عرضها في هذه القضايا وسيلة لنقدها ووسيلة لإعادة ترتيب طريقة التقسيم؛ أما التقسيم الفعلي فلا بد أن يكون مجاله مجال التنفيذ العملي؛ فكما ذكرنا الآن توًّا، يجوز للخطة أن توضع في صورة رموز، ثم يجوز لهذه الصورة الرمزية لطريقة تقسيم العمل أن تكون وسيلة ضرورية تؤدي إلى مرحلة التنفيذ الفعلي؛ لكن تلك الصورة الرمزية لا تكون تقسيمًا يؤدي فعلًا من أعمال موزعة بين فاعليها، أكثر مما يكون التصميم على الورق الأزرق منزلًا تُؤدَّى في إقامته عملية البناء فعلًا، ولا أكثر من أن تكون خريطة السير في الرحلة هي الرحلة نفسها؛ فالتصميمات المعمارية على ورقها الأزرق، والخرائط هي قضايا، وهي تمثل لنا ماذا ينبغي أن يتوافر في القضية لتكون قضية بمعناها الصحيح؛ أضف إلى ذلك أن الخريطة لا تقتصر في أداء مهمتها من حيث توجيهها لطريق السير في الرحلات، إذ هي لم توضع موضع التنفيذ في كل حين؛ فكذلك قلْ في القضايا العامة إنها لا تقصر في مهمتها من حيث هي وسيلة لبناء الأحكام، ما دامت إجراءاتها لا تُؤدَّى دائمًا في صورة عمل حقيقي يعمل لإعادة تنظيم الأشياء في عالم الوجود الخارجي.
نعم إن القضية لا بد أن تحددها مهمتها الأدائية التي تؤديها، شأنها في ذلك شأن الخريطة، أو شأن أية عدة مادية أو أي عضو من أعضاء البدن؛ هذا إلى أننا في حالة القضية نستفيد بما يكون لدينا مقدمًا من خطط فكرية نصممها ونعدها مهيأة للعمل، قبل أن ندخل في الموقف العملي الذي نستخدمها فيه، كما نستفيد بما يكون لدينا من عدد نستعد بها بدل أن نلفقها تلفيقًا كلما نشأت الحاجة إلى استعمالها؛ وكذلك كما هي الحال في المشروع المركب العناصر في أي ميدان، إذ يتطلب هذا المشروع أن نعد مواده كما زيد أدوات تنفيذه، فكذلك الحال بالنسبة إلى القضايا التي تصف ارتباطات مواد الوجود الخارجي بعضها ببعض — وهي ارتباطات تنتهي آخر الأمر إلى روابط فعلية في المكان والزمان — إذ نجد قيامنا بالبحث الذي من شأنه أن يحدث أثرًا فعليًّا يتطلب تلك القضايا؛ ولئن كنا في بداية البحث نحقق هذه الغاية معتمدين على الأشياء والحوادث كما هي واقعة وحادثة في الوجود الخارجي، نعتمد عليها من حيث هي نتائج فرعية ثانوية، أو من حيث هي رصيد تخلف لنا من البحوث الماضية، إلا أن تلك الأشياء والحوادث آخر الأمر إنما تنظم تنظيمًا مدبرًا بالبحث النقدي الذي نقصد به إلى خلق أشياء نتخذها وسائل فعالة ومفيدة كلما مست بنا حاجة إليها — وهذا هو الفصل الذي يميز الأشياء التي يتناولها الذوق الفطري من الأشياء التي يتناولها البحث العلمي؛ وهكذا نرى القضايا الخاصة بفحوى موضوعاتها، أي الخاصة بما هو قائم فعلًا في الوجود الخارجي من خصائص يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا مكانيًّا وزمانيًّا، نرى هذه القضايا تتعرض في حد ذاتها للتحول والنمو، كما تتعرض لهما القضايا الخاصة بالمعاني وما بينها من علاقات سواء بسواء؛ وسنطلق على الأولى اسم الوسائل المادية وعلى الثانية اسم الوسائل الإجرائية، غير ناسين أن النوعين كليهما إجرائيان، ما داما وسيلتين لتحديد الموقف النهائي ولتحديد الحكم.
فالشكل المستوي جنس بالقياس إلى المثلث؛ والمثلث جنس بالقياس إلى المثلث المتساوي الساقين والمثلث المختلف الأضلاع والمثلث المتساوي الأضلاع؛ لكن حتى هذه الأخيرة لم تكن إلا تمييزات للأنواع الموجودة فعلًا في الطبيعة؛ ففي صياغتنا للتعريف، أو في هدايتنا للمتعلم كيف يلم بالجوهر الذي يقوم بالتعريف، أو في تمكين الإنسان لنفسه من معاودة الإلمام بذلك الجوهر، نبدأ بالجنس القريب، ثم نعقب على ذلك بذكر الفصل الذي يميز نوعًا من أنواع الجنس، من سائر الأنواع جميعًا التي تقع تحت ذلك الجنس؛ ومن ثَم فالفصل الذي نميز به الجنس «شكل مستوٍ» — في حالة الشكل المثلث — هو أن له ثلاثة أضلاع؛ وعلى هذا فالجنس هو «المادة» المنطقية التي منها نصوغ التعريف، إذ الجنس من التعريف هو كالوجود بالقوة بالنسبة إلى الوجود بالفعل في مادة الوجود.
أما الخاصة فليست جزءًا من الجوهر، وإن تكن تنبثق منه بالضرورة؛ ولهذا جاز لنا أن نحملها على موضوع على سبيل التعميم والضرورة، كما نحمل عليه الجوهر المعرف سواءً بسواء؛ فليس جزءًا من جوهر الإنسان أن يكون نحويًّا، لكن العلم بالنحو خاصة تنبثق بالضرورة من جوهر الإنسان من حيث هو عاقل؛ وللنظريات التي تلزم عن التعريفات والبديهيات في هندسة إقليدس منزلة منطقية شبيهة بتلك؛ لكن هنالك من الأشياء ما لا يمكن حملها على موضوعاتها إلا بالعرض — وذلك حين تكون لا هي جزء من الجوهر ولا هي لازمة عنه، وكذلك لا تكون من طبيعة الجنس ولا من طبيعة الفصل؛ ومن هذا القبيل كل المتغيرات التي لا يمكن تسويرها بحدود ثابتة؛ فعندئذٍ لا تكون تلك المحمولات موصولة بموضوعاتها إلا بعلاقات عارضة؛ فيجوز لنا — مثلًا — أن نثبت أن «معظم ذوي العيون الزرقاء شقر» وأن «النهار أثناء الصيف حار عادةً أو على وجه الإجمال» وهكذا؛ لكن الموضوع هنا لا يرتبط برابطة ضرورية بمحموله؛ فكل ما في الأمر أنه قد حدث لهما أن يقعا على هذا النحو — ولسنا نعني بذلك أن ليس هنالك سبب لحدوثهما على هذا النحو دون غيره، بل نعني أن السبب نفسه في هذه الحالة هو تغيرٌ آخر، تربطه علاقة عارضة بما هو دائمٌ وعام وضروريٌّ؛ فليس ثمة من علة عقلية تفسر حدوث الأعراض على النحو الذي تحدث عليه، بالمعنى المقصود من مثل هذه العلة في البناء الأرسطي.
كانت هذه النظرية في صور المحمول نافذة وشاملة في الظروف العلمية التي صِيغت تلك النظرية في ظلها؛ لكنها لا تستقيم مع العلم الحديث، إذا نظرنا إليها على ضوء ما لهذا العلم من جانبي النظر والعمل؛ وسأسوق لهذا مثلًا واحدًا أوضح به؛ فالأشياء التي قد يبدو عليها أنها تشذ عن القانون أو عن المبدأ العام، وهي «الأعراض» بالمعنى القديم هي الآن الغذاء الذي يغتذي به البحث العلمي؛ ولهذه الأشياء أساسها و«علتها العقلية» فيما يحيط بحدوثها من ظروف يرتبط بعضها ببعض؛ وليس يقتصر الأمر على أن القضايا العامة ممكنة بالنسبة إلى هذه الروابط، بل إن كل قضية وجودية عامة، أو كل قانون وجودي عام هو من هذه الروابط؛ أما بالنسبة إلى كافة المعاني الأخرى التي نضيفها إلى كلمة «الأعراض»، فإن ما هو «عرضيٌّ» هو ذلك الذي لا صلة هناك تربطه بالموقف القائم، والذي لا بد — بناءً على ذلك — أن يحذف لعدم قيامه عندئذٍ بمهمة الشاهد في المشكلة التي تكون بين أيدينا؛ لأنه إذا لم يحذف، فالأرجح أن يسير بنا في طريق خاطئ؛ واختصارًا فليس في الإمكان تحديد المحمولات الممكنة ولا تحديد السبل التي يمكن حملها بها، تحديدًا نقيمه مقدمًا ونقدمه جاهزًا؛ فكل محمول هو من قبيل الفكر والتصور العقلي، ولا بد له أن يتخذ صورته تلك بحيث يوجه الإجراءات العملية التي من شأن نتائجها أن تلقي الضوء على المشكلة التي نكون بصدد حلها؛ وأن تضيف لنا شواهد جديدة نهتدي بها في ذلك الحل؛ ففيما عدا الحدود التي تقيمها طبيعة المشكلة الماثلة لنا، ليس هناك أية قواعد على الإطلاق تحدد لنا ماذا يجوز أو ماذا يجب أن نحمله على الموضوع من صفات؛ فإذا كانت المؤلفات المنطقية في يومنا الحاضر، لا تزال ماضية في حديثها عن الجواهر والخواص والأعراض، على أساس أنها تختلف — بحكم طبائعها — بعضها عن بعض، فهي بذلك إنما تعيد ذكر فوارق كان لها فيما مضى معنًى وجودي، لكنها قد خلت الآن من ذلك المعنى؛ فكل شيء نعده «جوهريًّا» إذا لم يكن منه بد في بحث نجريه، وكل شيء نعده «عرضيًّا» إذا أمكن الاستغناء عنه.