المعرفة المباشرة
إن ما قد قدمناه من آراء في مناقشتنا لنموذج البحث ولبناء الحكم، لتقتضي هذه النتيجة؛ وهي أن كل المعرفة من حيث هي قرارات تنبني على أسس تسوغها، تتضمن معرفة غير مباشرة؛ وأعني بالمعرفة غير المباشرة في هذا السياق أن كل قرار مما يجوز قبوله يتضمن عملًا استدلاليًّا؛ فوجهة النظر التي ندافع عنها ها هنا تناقض الاعتقاد بأن ثمة ما يمكن تسميته بالمعرفة المباشرة؛ وأن مثل هذه المعرفة المباشرة شرط أول لا بد من توافره لكي تصبح المعرفة الاستدلالية ممكنة؛ ولما كان هذا المذهب الأخير واسع الانتشار في يومنا هذا، ثم لما كان للنتيجة المنطقية التي تترتب عليه أهمية في ذاتها، رأينا أن نخصص هذا الفصل لمناقشة فكرة المعرفة المباشرة.
تتفق المدارس المنطقية — على تعارضها بعضها بعضًا، كما تتعارض المدرسة العقلية مع المدرسة التجريبية — تتفق هذه المدارس على قبول المذهب القائل بالمعرفة المباشرة؛ وهي إذ تختلف حول هذه النقطة فإنما ينحصر اختلافها في الأشياء التي يمكن إدراكها بهذه المعرفة المباشرة، وفي وسائل الإدراك بها؛ فالمدارس العقلية تذهب إلى أن الأشياء التي تدرك بالمعرفة المباشرة هي المبادئ الأولية ذات الطابع التعميمي، كما تذهب المدارس العقلية أيضًا إلى أن العقل هو أداة مثل هذا الإدراك المباشر؛ وأما المدارس التجريبية فمن رأيها أن الإدراك بالحس هو أداة المعرفة، وأن الأشياء التي يمكن إدراكها إدراكًا مباشرًا هي الصفات الحسية، أو هي المعطيات الحسية كما تسمى اليوم عادة؛ وهنالك من النظريات المنطقية ما يذهب إلى أن كلا نوعَي المعرفة المباشرة المذكورين قائمان، وأن المعرفة غير المباشرة والمعرفة الاستدلالية إنما تنتجان عن ازدواجهما، وهو ازدواج يربط الحقائق العقلية الأولية القبلية بالمادة التجريبية.
وما كان مذهب المعرفة المباشرة ليتسع انتشاره على هذا النحو، ما لم تكن توحي به مسوغات وجيهة مقبولة، وشواهدُ ظاهرةٌ يمكن بسطها لتأييده؛ وسأسوق فيما يلي مناقشة نقدية للمذهب، بأن أبين كيف يمكن تأويل تلك المسوغات من وجهة النظر التي أخذناها بالفعل في هذا الكتاب.
-
(١)
عملية البحث فيها اتصال؛ أي إن النتائج التي ننتهي إليها في بحث ما، تصبح وسائل — مادية أو إجرائية — للاستمرار في بحوث أخرى؛ ونحن في هذه البحوث الأخرى إنما نأخذ ونستغل نتائج البحوث السابقة دون أن نعيد إخضاعها إلى تمحيص جديد؛ نعم إنه إذا خلا تفكيرنا النظري من التحليل النقدي، كان الأغلب أن تجيء نتيجته الأخيرة ركامًا من أخطاء؛ لكن ضرورة هذا التحليل النقدي لأفكارنا السابقة لا تعني أن ليس هناك أشياء في الفكر وأشياء في الخبرة الحسية، قد لقيت خلال السير في الأبحاث المختلفة ما يثبت أركانها ويؤيد صدقها، بحيث يصبح تبديدًا لوقتنا ولجهدنا حين نتصدى لبحوث مقبلة أن نعيد تمحيص تلك الأشياء قبل قبولها واستعمالها؛ وسرعان ما يختلط علينا هذا الاستعمال المباشر للأشياء المعلومة لنا نتيجةً لاستدلالات مسابقة، أقول إنه سرعان ما يختلط علينا الأمر فنعد ذلك الاستعمال المباشر معرفة مباشرة.
-
(٢)
لقد ذكرنا في الفصل السابق أن الحكم الذي ننتهي إليه آخر الشوط، يتكون بعد سلسلة من الأحكام الجزئية التي تتوسط بين بداية البحث ونهايته، ولقد أطلقنا على هذه الأحكام الوسطى اسم تقديرات أو ترجيحات؛ وإنا لنضع — في قضايا — مضمون هذه الأحكام الوسطى، التي تشمل أمور الواقع كما تشمل التكوينات الفكرية على السواء؛ ثم تكتسب هذه القضايا استقلالًا نسبيًّا في أي بحث يتسع نطاقه (اتساعًا ينشأ عن طبيعة المشكلة التي يتناولها البحث)؛ فعلى الرغم من أنها في نهاية الأمر وسائل نستعين بها على تعيين الحكم النهائي، إلا أنها تؤخذ مؤقتًا على أنها غايات تستوقف انتباهنا لذاتها؛ كما تكون العُدَد في عمليات الإنتاج والبناء الماديين — كما رأينا — أشياء ظاهرة الاستقلال بنفسها، كاملة في ذاتها ومكتفية بذاتها؛ لأن الوظيفة التي تؤديها، والنتائج المرتقبة من قيامها بتلك الوظيفة، تصبحان مندمجتين أتم اندماج في تكوينها المباشر؛ ولا نكاد ننسى أنها وسائل، وأن قيمتها إنما تتحدد بما تحدثه من نتائج من حيث هي وسائل إجرائية لاستحداث تلك النتائج، أقول إننا لا نكاد ننسى ذلك عنها حتى تبدو لنا وكأنما هي موضوعات تدرك بالمعرفة المباشرة، بدل أن ننظر إليها على أنها وسائل لبلوغ المعرفة.
- (١)
فبينما نرى أن استخدامنا استخدامًا مباشرًا للأشياء التي تقررت أثناء محاولتنا لفض مواقف مشكلة سابقة — سواء أكانت تلك الأشياء وقائع خارجية أم أفكارًا داخلية — أقول إنه بينما نرى أن استخدامنا لهذه الأشياء أمر ذو قيمة عملية لا غناء عنها في تسييرنا للبحوث المستقبلة، فليست هذه الأشياء مع ذلك منزهة عند ورودها في البحوث الجديدة عن الحاجة إلى إعادة التمحيص وإعادة التكوين؛ فكونها قد حققت المطالب التي فرضت عليها في بحوث سابقة، ليس برهانًا منطقيًّا على أنها — في الصورة الجديدة التي ظهرت فيها بعدئذٍ — أدوات ووسائل لتحقيق ما يتطلبه الموقف المشكل الجديد؛ بل الأمر على نقيض ذلك، فمن أكثر مصادر الخطأ شيوعًا زعمنا قبل الأوان المناسب بأن موقفًا جديدًا له من أوجه الشبه القريب بمواقف سابقة ما يسوغ أخذ نتائج تلك المواقف السابقة أخذًا مباشرًا إذ نحن إزاء الموقف الجديد؛ فتاريخ البحث العلمي نفسه يدل كم تكرر هذا الخطأ، وكم طال الأمد الذي لم يتنبه أحد خلاله لهذا الخطأ فيكشف عنه؛ فشرطٌ من الشروط التي لا بد من توافرها في البحث المنضبط، هو أن يكون الباحث على أهبة الاستعداد واليقظة فيخضع نتائج البحوث السابقة، مهما تكن متانة الأساس الذي قامت عليه، لإعادة تمحيصها بالقياس إلى مدى انطباقها على المشكلات الجديدة؛ نعم إن ثمة فرضًا مزعومًا يؤيدها، لكن الفرض المزعوم لا يكفي ضمانًا.
- (٢)
واعتبارات شبيهة في مجموعتها بما قد أسلفناه، تنطبق على مضمونات القضايا التي نقبلها ونستخدمها؛ فيجوز أن تكون هذه القضايا قد ثبتت صحتها ثبوتًا كاملًا في معالجتنا لبعض المشكلات، ولكنها مع ذلك لا تكون هي الوسيلة المناسبة لمعالجة مشكلات أخرى لها ما للمشكلات الأولى من قسمات في ظاهر الأمر؛ ولنا في هذا الصدد أن نذكر ما قد اقتضاه الأمر من مراجعات لقضايا الميكانيكا القديمة، حين أردنا تطبيقها على أجسام شديدة السرعة بالغة الصغر؛ ولبثت بديهيات الهندسة الإقليدية وتعريفاتها قرونًا، وهي تعد مبادئ أولية مطلقة يمكن قبولها بغير تردد؛ مع أن انشغال من اشتغلوا بعدئذٍ بمجموعة جديدة من المشكلات، قد أظهر أن تلك البديهيات والتعريفات يتداخل بعضها في بعض من جهة، وقاصرة — من جهة أخرى — عن أن تكون أسُسًا منطقية لهندسة تنصب في صورة التعميم؛ واتضح في جلاء من نتيجة هذا كله أن تلك البديهيات والتعريفات الإقليدية، بدل أن تكون حقائق «واضحة بذاتها» تعرف معرفة مباشرة، فهي في حقيقة أمرها مصادرات صُدر بها البحث من أجل النتائج التي تلزم عنها؛ والواقع هو أن الاعتقاد بأنها صادقة بطبيعتها الداخلية نفسها، قد عاق تقدم الرياضة لأنه حال دون حرية الباحث في افتراض ما شاء من مصادرات؛ وبهذا التحول الذي طرأ على تصور البديهيات الرياضية من حيث حاجتها المميزة، قد اندك حصن من الحصون الرئيسية التي كانت تتحصن فيها المعرفة المباشرة للمبادئ الشاملة.
وإذن فإنكارنا لوجود المعرفة المباشرة لا يقتضي إنكارنا لحقائق معينة يزعمها أصحاب مذهب المعرفة المباشرة تأييدًا لمذهبهم؛ إنما الذي نضعه موضع الشك هو تفسير هذه الحقائق تفسيرًا منطقيًّا، وعندما عرضنا ملاحظاتنا التي أرسينا بها مضمونات الحكم، سواء كانت تلك المضمونات من وقائع الخارج أو من أفكار الذهن، أقول إننا عندما أرسينا هذه المضمونات من حيث هي أمور مرهونة بوقتها ومن حيث هي إجرائية عملية، كنا بذلك نمهد الطريق تمهيدًا إيجابيًّا لإنكار هذا اللون المعين من تفسير تلك الحقائق التي يفسرها أصحابها بأنها معرفة مباشرة، وهو التفسير الذي نضعه الآن أمامنا لنناقشه مناقشة نقدية؛ فمن المعروف الشائع أن الفرض العلمي لا يتحتم أن يكون صادقًا لكي يكون شديد النفع في تسييرنا للبحث؛ ولو أنعمنا النظر في التقدم التاريخي لأي علم، وجدنا الحقيقة نفسها تصْدقُ كذلك على «وقائع العالم الخارجي»، أعني أنها تصدق على ما كان قد اتخذ في الماضي أدلة شاهدة؛ فقد كانت تلك الوقائع نافعة من حيث هي شواهد، لا لأنها كانت صادقة أو كاذبة، بل لأنها حين اتخذت وسائل مؤقتة عاملة على دفع البحث إلى الأمام في طريق سيره: كانت عندئذٍ مؤدية إلى كشفنا عن وقائع أخرى تبين أنها ألصق بموضوع البحث وأهم؛ وكما أنه عسير أن تجد مثلًا واحدًا لفرض علمي ظهر آخر الأمر أنه فرض صحيح، دون أن يطرأ عليه تغير عما كان عليه أول تقديمه، فكذلك من العسير في أي مشروع علمي هام أن تجد قضية عن أمور الواقع، قد ظلت بغير تغيير خلال شوط البحث كله، من حيث مضمونها ودلالتها؛ ومع ذلك كله فتلك القضايا عن الفروض العلمية وعن الروابط التي جمعت بين أمور الواقع، قد حققت لنا غاية لم يكن لنا عنها بد، وذلك بسبب طبيعتها الإجرائية من حيث هي وسائل؛ وكذلك يدلنا تاريخ العلم على أننا كلما أخذنا الفروض العلمية على أنها صادقة صدقًا لن يأتيه بعد ذلك باطل، ومن ثَم فهي لن تتعرض لريبة مرتاب، أصبحت تلك الفروض نفسها عوائق تحول دون تقدم البحث العلمي، وتركت العلم مغلولًا بآراء أظهرت الأيام بعدئذٍ أنها فاسدة.
وإن هذه الملاحظات التي عرضتها لتخلصنا من حجة جدلية استخدمها أصحابها منذ عهد أرسطو، وما زالت مستخدمة إلى يومنا هذا؛ فهم يقولون إنه لا بد للاستدلال أن يرتكز على شيء معلوم يبدأ منه، ومعنى ذلك أنه إذا لم تكن هناك مقدمات صادقة نتخذ منها سندًا يرتكز عليه الاستدلال، كان محالًا علينا أن نصل إلى نتائج صادقة، مهما استوفينا للاستدلال وللسير التدليلي ما يقتضيانه؛ ومن ثَم كانت الطريقة الوحيدة التي نتجنب بها الوقوع في التسلسل الذي لا ينتهي عند حد، هي — في رأيهم — وجود حقائق نعرفها معرفة مباشرة (ونبدأ منها السير)؛ فحتى لو كانت هذه الحجة مستحيلة على الرد من الناحية الجدلية، لكان لنا رغم ذلك أن نواجهها بالوقائع العنيدة التي تبين كيف أمكن لنتائج صحيحة أن تتولد باطراد من «مقدمات» غير صحيحة؛ ومع ذلك فالرد الجدلي بسيط؛ إذ يكفي أن تكون بين أيدينا مادة على سبيل الفرض (نقدمها مشروطة بنتائجها) يكون من شأنها أن توجه البحث في مسالك تنكشف لنا فيها مادة جديدة — من حيث الواقع الخارجي ومن حيث الأفكار الذهنية على السواء — نراها ألصق صلة بموضوعنا، وأرجح شاهدًا وأثبت صدقًا وأخصب ثمرة، مما كانت الوقائع والأفكار التي جعلناها نقطة ابتداء في سيرنا؛ وما هذا القول إلا قول نعيد به ما ذكرناه عن الصفة الإجرائية الأدائية التي قلنا إنها تظل تصف مضمونات الحكم حتى نصل إلى مرحلة تنفيذ الحكم الأخير.
غير أن النقطة الهامة بالنسبة إلى الغاية التي نستهدفها من هذا الحديث الذي نحن الآن بصدده، هي أنه إما أن تحدث استجابة مباشرة صريحة (نرد بها على ما أدركناه) كأن أستعمل الآلة الكاتبة أو أن أتناول الكتاب (وفي هاتين الحالتين لا يكون الموقف إدراكيًّا) أو أن يكون الشيء الملحوظ بطريقة مباشرة جزءًا من عملية بحث موجهة إلى تحصيلنا لمعرفة بالمعنى الذي يجعلها قرارات نجيز قبولها؛ وفي هذه الحالة الأخيرة، لا يكون إدراكنا العقلي المباشر ضمانًا منطقيًّا بأن الشيء أو الحادثة التي أدركناها بالعقل إدراكًا مباشرًا، هي بالقياس إلى «وقائع الحال» ما قد ظنناه بها حكمًا بالظواهر؛ أي إنه لا يكون ثمة ما يجيز لنا أن نزعم لها بأنها من الشواهد التي يركن إليها في الأخذ بالقرار النهائي الذي نخلص إليه؛ إذ قد تكون غير ذات صلة — كلها أو بعضها — بالمشكلة التي نحن بصددها، أو قد تكون تافهة الدلالة بالقياس إلى تلك المشكلة؛ فكونها مألوفة لنا يجوز أن يكون هو نفسه ما يعوقنا، إذ ترانا عندئذٍ نميل إلى تحميلها نفس الدلالات التي كانت لها في الحالات القديمة، في الوقت الذي نكون فيه أحوج إلى البحث عن معطيات توحي لنا بما يوجهنا وجهة لم نألفها من قبل؛ وبعبارة أخرى، فإن إدراكنا العقلي لشيء أو حادثة ليس هو نفسه المعرفة بمعناها المنطقي المطلوب، أكثر مما نقول عن الفهم المباشر أو التصور الذهني لمعنى ما إنه هو تلك المعرفة؛ ومن هذه الملاحظات العامة التي ذكرتها، أنتقل إلى تمحيص طائفة من النظريات في المعرفة المباشرة، كان لها تأثيرها التاريخي.
(١) نظرية مل التجريبية
فإذا سأل سائل إن كان ثمة حالات من الشعور «تُعَرِّف» نفسها بنفسها بالضرورة، لمجرد كونها حالات من الشعور، أجاب مل بأن هذه مسألة «ميتافيزيقية»؛ وواقع الأمر هو أن الاعتقاد في وجود تلك الحالات كان جزءًا من تقليد نفسي إقليمي، ولم يعد اليوم هذا التقليد قائمًا بصفة عامة؛ على أننا مع ذلك نستطيع مناقشة موقفه إزاء معرفة الجزئيات معرفة «مباشرة»، دون الإشارة إلى أي زعم خاص عن القوام الذي يؤلف طبيعة تلك الجزئيات؛ فلو غضضنا النظر عن كل إشارة للإحساسات ولحالات الشعور، بات واضحًا أن أمثلته قاصرة قصورًا شديدًا عن أن تمثل لما يزعم لها أنها أمثلة له.
خذ عبارة «كنت مغضبًا بالأمس»؛ فمعنى ضمير المتكلم هنا — أي قوله «أنا» — بعيد عن أن يكون مُعطًى مباشرًا، بعدًا جعله موضوع نزاع في الرأي أمدًا طويلًا؛ ودع عنك أن تكون معرفتنا ﻟ «الأمس» مباشرة، إذ لا شك أن أحدًا لا يرى «الأمس» رؤية حاضرة؛ وتمييزنا ﻟ «الغضب» من سائر الحالات الانفعالية إنما هو علم كسبناه في كثير من البطء على مر التطور البشري؛ وقل هذا نفسه — من حيث المبدأ — عن عبارة «أنا جائع اليوم»؛ فيجوز لك أن تشعر بالجوع حين لا تكون جائعًا، لأن «الشعور» يمكن استحداثه استحداثًا مصطنعًا دون أن يكون الكيان العضوي في حالة الحاجة إلى طعام؛ وقد يكون تمييزنا بين هاتين الحالتين مشكلة عسيرة الحل؛ وإذا كانت كلمة «اليوم» تعني شيئًا أكثر من اللحظة الحاضرة، كانت تتضمن تكوينًا عقليًّا على كثير من دقة التفصيلات في طريقة بنائه؛ وإنك لتستطيع أن تعثر عند مل على أي عدد شئت من الفقرات، لتستدل بها على أن حالة مباشرة معينة لا يمكن وصفها بأنها حالة جوع إلا إذا جاوزنا الحالة نفسها لنقارن بينها وبين غيرها من أشباهها، مقارنة استدلالية؛ نعم إن أحدًا لا ينكر أن الذوق الفطري يدرك إدراكًا مباشرًا حادثات معينة بحيث يدرك أن لها دلالة هي الغضب أو الجوع أو أمس، أو اليوم؛ لكن «الوضوح الذاتي» الذي يتولد عن الإلف — رغم أنه ذو أهمية عملية — يختلف جد الاختلاف عن الوضوح الذاتي في الإدراك، وكثيرًا ما أدى إلى تضليل الذوق الفطري حتى في الأمور العملية نفسها؛ فنحن إذن مضطرون إلى انتزاع نتيجة، يمكننا تدعيمها بتحليل أوفى تفصيلًا، نحن مضطرون إلى انتزاع نتيجة هي أن مذهب مل بأجمعه، الخاص بالمعرفة المباشرة، هو نفسه استدلال من نظرية نفسية هي أيضًا بدورها قد جاءتنا استدلالًا؛ فهي من حيث مغزاها المنطقي الصرف إنما ترتكز على قبولنا — قبولًا لا تمحيص فيه — للفكرة القديمة القائلة بأنه يستحيل إقامة «البرهان» على قضية، ما لم تكن تلك القضية لازمة عن «حقائق» معلومة بالفعل.
(٢) الرأي نفسه كما عرضه لُك
إن شرح لُك للمعرفة المباشرة هام، لا لتأثيره التاريخي فحسب، أعني كون نظريته الأصلية الموضوعية في الإحساسات والأفكار كانت هي المصدر لما قد طرأ على تلك الإحساسات والأفكار من تحول فيما بعد، بحيث أصبحت حالات من الشعور، بل إنه هام كذلك لأن لُك قد أدرك إدراكًا واضحًا ما يترتب على نظريته تلك من نتيجة خاصة بالمعرفة، وهي نتيجة أصابها في تطوراتها المستقبلة ما غشاها بالغموض والالتواء؛ فهو يعتقد — من جهة — بأن كل معرفة لنا بالوجود المادي مرتكزة على الإحساس، لكنه يشير — من جهة أخرى — إلى كون الإحساسات (وهي عنده حالات بدنية) تحول بيننا وبين معرفتنا للأشياء كما هي في الطبيعة، حيلولة تجعل المعرفة العلمية بتلك الأشياء أمرًا محالًا؛ فأولًا معظم الكيفيات الحسية لا تنتمي إلى الأشياء الطبيعية، إذ إن هذه الأشياء لا تتصف إلا بالصفات الأولية وحدها، وهي: الشكل، والحجم، والصلابة، والحركة؛ وثانيًا حتى هذه الصفات الأولية نفسها، على النحو الذي تقع به في خبراتنا، لا تمكننا من تحصيل المعرفة ﺑ «التكوين الحقيقي» الذي يكون للأشياء.
قد كان يمكن لهذه النتيجة السلبية سلبًا تامًّا، التي وصل إليها «لُك»، وهي نتيجة تلزم حتمًا عن اعتبار المعطيات الحسية نفسها موضوعات للمعرفة، أقول إنه كان يمكن لهذه النتيجة أن تجيء نذيرًا لأصحاب النظريات المستقبلة، حتى لا يعزوا مضمونًا إدراكيًّا إلى المعطيات الحسية في حد ذاتها، كان يمكن أن تجيء لهم نذيرًا يستحثهم على تمحيص كل مقدمة من شأنها أن تؤدي إلى نتيجة تجعل معرفتنا بالأشياء كما هي في الطبيعة أمرًا محالًا؛ لأنه إذا كانت المعطيات الحسية أو غيرها من المعطيات، تعد نهائية وقائمة بذاتها (أي في عزلة وحدها من حيث هي موضوعات للمعرفة)، إذن لما كان في حدود المستطاع أن ننسب إليها محمولات ذوات صلة بالوجود الخارجي الموضوعي، بحيث يكون لدينا ما يسوغ ذلك.
لو أن هذه الطريقة في تأويل الصفات الحسية قد جُعلت أساسًا، لأمكن أن تظهر لنا الصفات على أنها ليست في ذاتها موضوعات للمعرفة الإدراكية، بل على أنها تكتسب وظيفتها الإدراكية حين نستخدمها في مواقف معينة، تكون فيها الصفات علامات تدل على شيء سواها؛ ذلك أن الصفات هي الوسيلة الوحيدة التي نملكها لتمييز الأشياء والحوادث بعضها من بعض؛ وفائدتها من حيث هي كذلك لا تنقطع؛ ولا ضرر في الأمور العملية من توحيدنا للوظيفة التي تؤديها الصفة بالصفة نفسها، فنعدهما موجودًا واحدًا؛ كما أنه لا ضرر من أن نعد شيئًا ما مجرافًا، لأن الاستعمال العملي للشيء، والنتائج التي تترتب على ذلك الاستعمال جانبان مندمجان في وجوده؛ هذا من الوجهة العملية، أما من الوجهة النظرية فإن عجزنا عن تمييز وجود الشيء عن وظيفته، قد كان مصدرًا لخلط مذهبي لم ينقطع.
(٣) الواقعية الذرية
قد رأينا أن التفسير الذي عرضه مل معيب بنقصين خطيرين؛ فقد عد الصفات حالات من الشعور، وظن أن أشياء مركبة مثل اليوم، وأمس، وغضب، معطيات أولية بسيطة، فجاءت النظرية الحديثة وتخلصت من هذين الخطأين؛ فأصبحت الصفات كائنات في الخارج الموضوعي (لا في مجرى الشعور الداخلي كما ظن مل) وعدت معطيات حسية؛ وأما مضمونات القضايا التي تؤخذ على أنها تجيء إلينا مباشرة من الوجود الخارجي، فتعالج الآن على أنها مركبات يمكن ردها إلى معطيات لها من البساطة ما لا يمكن رده بعد ذلك إلى ما هو أبسط؛ وإدراكنا العقلي لهذه الصفات البسيطة المباشرة، هو الذي يؤلف القضايا «الذرية» بينما تعد القضايا المشتملة على معامل استدلالي «مركبة»؛ فقضايا من قبيل «هذا أحمر، وصلب، وحلو» … إلخ تكون ذرية؛ وبناءً على النظرية التي نبسطها، تعتبر كلمة هذا في مثل هذه القضايا الذرية خلوًا من كل المميزات الوصفية؛ لأنه لو كانت هذا أكثر من مجرد أداة إشارية عارية، لأصبحت مركبة، ومن ثَم — بناءً على هذه النظرية — أصبحت شيئًا لا نعطاه عطاءً مباشرًا، ففي قولنا «هذا الشريط أحمر» لا يكون مدلول كلمة شريط مما يُعطى بالمعنى الذي نُعطى به «هذا» و«أحمر»؛ ومن المؤلفين من يدخل في نطاق القضايا الذرية قضايا مثل «هذا قبل ذاك» باعتبارها علاقة بسيطة غير قابلة للتحليل، ومعطاة لنا عطاءً مباشرًا.
ولقد نقدنا فيما أسلفناه الفكرة القائلة بأن هنالك أداة إشارية محضًا، هي كلمة «هذا»، بحيث تخلو خلوًّا تامًّا من أي مضمون وصفي، فكل حالة نستخدم فيها كلمة هذا — بناءً على النظرية المنطقية الذرية — استخدامًا يجعلها موضوعًا لقضية، لا بد لها من الوجهة المنطقية (وإن لم تكن كذلك من حيث الكيف) أن تتطابق تطابقًا ذاتيًّا مع أي حالة من قبيلها؛ فكل حالة من هذه الحالات إنما تتحدد بمجرد الفعل الإشاري الذي نشير به إلى ما نشير إليه، وكل فعل إشاري — باعتراف أصحاب النظرية أنفسهم — لا يشتمل على شيء يميزه من سائر الأفعال الإشارية الأخرى؛ فيلزم عن هذا أن ليس ثمة من أساس أو مبرر لحملنا صفة ما دون صفة أخرى على أداة الإشارة؛ ولا تخف المسألة إذا قيل إن المعطى الأولي الذي لا يرتد إلى ما هو أبسط منه، هو «هذا الأحمر» (لا «هذا» وحدها)؛ لأنه حتى في هذه الحالة لا يكون لدينا قضية، بل كل ما لدينا عندئذٍ هو «موضوع» عارٍ لا يصلح أن يكون موضوعًا لأي محمول؛ وكما هو الأمر في الحالة الأولى، لا أساس هناك إطلاقًا يسوغ لنا أن نحمل على الموضوع أي محمول متعين.
ولا سبيل إلى الإنكار — فيما أظن — بأن جواز قبولنا لجملة تقرر بأن صفة محاضرة معطاة هي أحمر، يتطلب في حقيقة الأمر سلسلة من إجراءات تجريبية مما يقتضي تقنيات معينة؛ فالتحديد العلمي يختلف عن قرار يقرره الذوق الفطري عن وجود صفة خاصة، في كون التحديد العلمي يستخدم مثل تلك التقنيات، فمثلًا تحديدنا للأحمر تحديدًا علميًّا قائمًا على أساس محكم، يقتضي من التقنيات ما يثبت لنا وجود عدد معين من الذبذبات في كل وحدة زمنية؛ وبعبارة أخرى، لست أحسب أن أصحاب النظرية الذرية يذهبون إلى أن الصفة الذرية، أولية بالمعنى النفسي، بل هي أولية بالمعنى المنطقي الذي يجعل أية قضية وجودية ترتكز آخر الأمر على تحديد صفة بسيطة من أي نوع؛ لكن لما كان البحث في معظم الحالات لا يسير بالفعل كل هذا الشوط، لزم أن نسلم بأن المشاهدة التجريبية — من الوجهة النظرية — لا بد لها أن تمضي حتى تعين صفة ما غير قابلة للتحليل إلى ما هو أبسط منها، لكي يتسنى لنا قبول قضية وجودية قبولًا كاملًا، لكننا كلما ازددنا لهذه الحقيقة تبينًا، ازداد الأمر وضوحًا بأن مثل هذا التحديد لا يكون كاملًا ونهائيًّا في ذاته، بل هو وسيلة لفض مشكلة قائمة؛ فهو عامل في إقامة ما يمكن أن نتخذه وأن نستخدمه شاهدًا يركن إليه، فانظر — مثلًا — كيف نجشم أنفسنا أشق الصعاب في تحليل الطيف الشمسي لننتهي إلى قضية مكينة الأساس، مؤداها أن الصفة اللونية الفلانية ماثلة أمامنا.
إنه على الرغم من أن المضي في مناقشة المبادئ المنطقية المتضمنة في النظرية التي نحن بصددها، سيقتضي بعض التكرار لما قد سبق أن ذكرناه، إلا أن أهمية الموضوع الأساسية تبرر هذا التكرار، خصوصًا إذا علمنا أننا سننظر إلى الموضوع من وجهة نظر غير التي نظرنا إليه منها، فلقد كانت العادة في الفلسفة حينًا من الزمن (١) أن تنظر إلى عالم الذوق الفطري في تباينه مع مجال الأشياء العلمية، على اعتبار أن الخاصة المميزة للأول هي أنه يدرك بالحس بالمعنى الدقيق هذه العبارة؛ (٢) وأن تعد الإدراك الحسي ضربًا من ضروب المعرفة الإدراكية؛ (٣) وأن تجعل — بناءً على ذلك — لما يدرك بالحس، شيئًا كان أو صفة، طابعًا وقوة إدراكيين؛ لكن هذه المزاعم كلها ليست مما يجوز قبوله؛ (أ) فعالم الذوق الفطري يشمل حقًّا أشياء مدركة بالحس، لكن هذه الأشياء لا تفهم إلا في سياق من بيئة، والبيئة قوامها تفاعل بين الأشياء وكائن حي؛ وهي قبل كل شيء المجال الذي تتم فيه الأفعال والنتائج، التي نؤديها ونخضع لها في عمليات التفاعل؛ ولا تصبح أجزاءُ البيئة وجوانبها موضوعات للمعرفة إلا بصفة ثانوية فمقوماتها هي أولًا أشياء نستخدمها ونستمتع بها أو نتألم لا أشياء للمعرفة، (ب) وأما عن الإدراك الحسي، فالبيئة تكوِّن مجالًا فسيحًا، زمانًا ومكانًا؛ ولا يحدث إلا آنًا بعد آن أن توجه الأفعال المنعكسة في سلوك الكائن العضوي إبَّان حياته نحو مثيرات مفردة بمعزل عن سياق البيئة؛ ذلك أن صيانة الحي لحياته أمر موصول الحلقات، يتضمن أعضاء وعادات اكتسبها في ماضيه، ولا بد له أن يكيف أعماله التي يؤديها بحيث تلائم الظروف المستقبلة وإلا لحقه الموت وشيكًا؛ وإذن فالمادة التي يتجه إليها السلوك مباشرة إن هي إلا بؤرة مركزية في مجال بيئي بأسره؛ ولا بد لنوع السلوك الذي يسلكه الحي — لكي يكون سلوكًا متكيفًا ومستجيبًا لما يحيط به — أن يختلف باختلاف المجال الذي قلنا إن بؤرته المركزية شيء يتجه إليه السلوك اتجاهًا مباشرًا.
فيلزم عن ذلك أننا إذ ندرك أشياء أو صفات إدراكًا نصفه بأنه معرفة، فإنما ننظر إليها حينئذٍ بالنسبة إلى ضرورات المجال الحسي الذي حدثت فيه؛ فعندئذٍ تصبح أشياء في مجال المشاهدة، بحيث يكون تعريف المشاهدة تعريفًا دقيقًا هو أنها التحديد الذي يختار هذا ويستبعد ذلك، حتى يقع على الشيء المعين أو الصفة المعينة داخل مجال بيئي بأسره؛ والعادة أن «نفهم» المجال البيئيَّ في مجموعه، أي أن نأخذه مأخذ التسليم، لأنه قائم هنالك بمثابة الشرط اللازم لأدائنا فعلًا ما من شأنه أن ينصرف إلى جزء من البيئة دون جزء آخر؛ ولقد صِيغت النظرية النفسية الخاصة بالإدراك الحسي على أساس ما يحدث هذه الحالات الخاصة التي نتجت عن عملية الفرز، وأعني الحالات التي فيها نشاهد وندرك بالحس شيئًا ما بمفرده أو صفة ما بمفردها، كأن نرى برتقالة أو أن نرى بقعة صفراء؛ وليس يقتضيني الأمر هنا أن أتناول بالنقد هذه الطريقة في النظر إلى المسألة، لكي أعرض ما يحدث في حالة المشاهدة ذاتها، وما يدخل في هذه الحالة من مسألة نفسية: لكن إذا تحولت نتائج هذه النظرة إلى نظرية منطقية، بأن يجعل أصحابُ هذه النظرية تلك النتائج أساسًا يقيمون عليه نظريتهم الخاصة بالمعطيات الحسية من حيث خصائصها، وآثارها المنطقية، فعندئذٍ يتمخض الأمر عن تشويه شامل؛ لأن الأشياء المفردة أو الصفات المفردة تؤخذ عندئذٍ وهي في حالة انفرادها لتكون هي المعطيات.
وإنا لنعترف بوجود الفرق بين المعرفتين وأهميته؛ لكن ذلك بعيد جدًّا عن أن يكون تأييدًا للنظرية المنطقية التي تقول بالمعرفة المباشرة؛ إذ إن المباشرة المتضمنة في تلك المعرفة إن هي إلا العلاقة الوثيقة بينها وبين الانفعال والقدرة على العمل؛ فأولًا ليست المعرفة بالاتصال المباشر معرفة أولية بل هي مكتسبة، ولذلك فهي تتوقف على خبرات سابقة دخلت فيها معرفة غير مباشرة؛ وثانيًا (وهذه نقطة أهم من الأولى لما نحن بصدده الآن) ليست المعرفة بالاتصال المباشر في كثير من حالاتها معرفة بالمعنى الذي يجعلها قرارات يجوز لنا قبولها؛ نعم إنها تمكننا من أن نتوقع ما عساه يحدث في المجال العملي، وهي توقعات ربما تحققت بالفعل في أغلب الأحيان؛ غير أن الإلف الذي يكتنف معرفتنا بالاتصال المباشر، كثيرًا ما يعمينا عن أشياء غاية في الأهمية من حيث هي مؤدية بنا إلى النتائج التي وصلنا إليها؛ فإلفنا لعادات معينة في الكلام لا ينجينا من الوقوع في الخطأ ومن الزلل، بل قد يكون مصدرًا للخطأ والزلل؛ وإذن فمن الناحية المنطقية لا بد للمعرفة المباشرة أن تخضع للمراجعة والبحث النقديين، بل إنها عادةً تدعو إليهما.
(٢) وحالات التعرف — ولنا أن نقول إن التعرف يتم لصاحبه فورًا — مسوغ تجريبي آخر يؤيدون به النظرية التي نتناولها الآن بالتمحيص؛ وما قلناه في نقطة المعرفة بالاتصال المباشر، نقوله هو نفسه عن التعرُّف؛ بل الحق أن التعرف يمكن اعتباره حالة خاصة من حالات المعرفة المباشرة، تبلورُ هذه المعرفة في حدها الأدنى؛ فترانا نتعرف أشخاصًا لم يكن لنا بهم إلا صلة طفيفة؛ ونتعرف كلمات في لغة أجنبية دون أن تكون لنا صلة بهذه اللغة تمكننا من التحدث بها أو قراءتها؛ هذا إلى أن تعرف الأشياء هو كالمعرفة المباشرة في أنه (أ) حصيلة خبرات اقتضت شكًّا وبحثًا، (ب) وعلى الرغم من أهميته العملية العظيمة، فليس هو في غناء عن ضرورة قيامنا ببحوث تحدد لنا مدى صواب حالة معينة من حالات التعرُّف، ومدى صلتها بالمشكلة التي نكون إزاء حلها؛ فليس التعرُّف تعرفًا بالمعنى الذي يجعله تكرارًا لمعرفة سابقة، بل هو أقرب إلى أن يكون اعترافًا بشيء معين أو بحادثة معينة من حيث هي ذات مكانة معينة في موقف قائم.
إن المذهب القائل بأن «الإدراك العقلي البسيط» كيان مكتمل في ذاته، كثيرًا ما يصطحب بمغالطة، إذ تراهم يظنون أنه ما دام فعل الإدراك العقلي بسيطًا ومفردًا، فلا بد بناءً على ذلك أن يكون الشيء المدرك على هذا النحو بسيطًا كذلك ومفردًا؛ بيد أن المشاهد المركبة العناصر قد تدرك أيضًا إدراكًا عقلًا بسيطًا، مثال ذلك حين يعود الإنسان إلى مشهد طفولته؛ هذا إلى أن الأشياء البسيطة نسبيًّا، ليست تعتمد أهميتها على تكوينها البسيط في ذاته، بل إنها هامة بسبب ما تتيح لها بساطة تكوينها أن تؤدي ما تؤديه حين تؤدي دور الشواهد المرجحة لحل دون آخر، مثال ذلك ما تؤديه بصمات الأصابع في تحديدها لأشخاص بذواتهم؛ وشبيه بذلك أن نتعرف شخصًا مألوفًا لنا بصوته وحده دون أن نضطر إلى رؤيته بكل جسده؛ وهكذا ترى قدرتنا على اتخاذ ما هو بسيط نسبيًّا وسيلة لتحديد ذاتيات الأشياء، توفر لنا وقتًا وجهدًا.
فحقائق كهذه تُوحي بالمهمة الخاصة التي تؤديها البسائط أو العناصر البسيطة في مجرى البحث؛ فكلما ازداد بناء الشيء تركيبًا ازداد عدد ما يمكن استدلاله من نتائج تلزم عن وجوده، لأن مقوماته المختلفة تشير في اتجاهات مختلفة؛ وكذلك كلما قلَّ الشيء المعين أو الحادثة المعينة تركيبًا في بنائها، ازداد كذلك هذا البناء تقيدًا، ومن ثَم ازداد الشيء أو الحادثة تعينًا في قدرتها على الإشارة الدالَّة؛ وفي تاريخ العلم شواهد كثيرة تدل على أن تحليل الأشياء إلى عناصرها البسيطة هو من أفعل الوسائل لصيانة البحث الاستدلالي ولتوسيعه في آنٍ معًا؛ وليس لدينا دليل يشهد بأن أمثال هذه العناصر البسيطة موجودة بذواتها في الطبيعة، ولكن إذا كان من الحمق أن نعارض عملية التحليل وما تؤدي إليه من إبراز تلك العناصر، فذلك الحمق نفسه الذي نصف به تلك المعارضة، دليل كذلك على أن فكرة «البسيط» و«العنصر» فكرة أدائية، وأننا إذا ما خلعنا على البسائط والعناصر صفة وجودية مستقلة، سواء أكان ذلك في الفيزياء أم علم النفس أم التشريح أم السياسة، لم يكن ذلك منا إلا مثالًا جديدًا لاكتفائنا بما هو في حقيقته وسيلة لسواه.
(٤) الفهم والتصور الذهني
إنه ينبغي لسلسلة القضايا التي منها تتألف حلقات الحديث المرتب أن تجيء بحيث تكون معاني الحدود الواردة فيها من الوضوح والتحديد بالقدر المستطاع؛ غير أن استيفاء هذا الشرط لا يضمن صدق انطباقها على مشكلة بعينها؛ ومن ثَم كان الفهم — مثل الإدراك العقلي للأشياء الخارجية — بغير نهاية يقف عندها؛ فمحال على قضية تروي العلاقة القائمة بين المعاني — مهما تبلغ هذه القضية من التحديد ومن الكفاية — أن تقوم وحدها منطقيًّا، كلا ولا سبيل إلى زوال عجزها هذا عن القيام وحدها، إذا نحن ضممناها مع غيرها من القضايا التي من نفس نوعها، على الرغم من أن ضمها إلى غيرها قد ينتهي بنا إلى وضع المعاني على هيئة تجعلها صالحة للتطبيق.
ومزعوم للقضية التي سقناها مثالًا للصورة أنها «عامة تعميمًا مطلقًا، أي إنها تصدق على الأشياء والخصائص كافة، وإنها واضحة بذاتها وضوحًا تامًّا» ثم هي فوق ذلك قبلية «فما دامت لا تذكر أي شيء بذاته، بل لا تذكر أية صفة بذاتها أو أية علاقة بذاتها، فهي إذن مستقلة أتم استقلال عما يحدث في العالم الموجود من وقائع عرضية؛ ولذلك فمعرفتها ممكنة — من الوجهة النظرية — بغير أية خبرة لنا بالأشياء الجزئية المعينة أو بما لهذه الأشياء من صفات وعلاقات»؛ وهذه النتيجة إنما تلزم عن حقيقة منطقية ومفروضة، هي أن «الحقائق العقلية العامة لا يمكن استدلالها من حقائق عقلية خاصة فقط، بل لا بد لها — إذا أردنا معرفتها — إما أن تكون واضحة بذاتها، أو أن تكون مستنتجة من مقدمات تكون إحداها على الأقل حقيقة عقلية عامة؛ ولما كانت الشواهد التجريبية كلها حقائق جزئية، لزم كذلك أنه إذا كان ثمة من معرفة لدينا بحقائق عقلية عامة إطلاقًا، فلا بد أن يكون هنالك جانب من معرفتنا بالحقائق العقلية العامة بحيث يكون مستقلًّا عن الشواهد التجريبية، أي إنه لا يكون معتمدًا على معطيات حسية».
والجوانب التي تتصل بالمشكلة المذكورة اتصالًا مباشرًا، هي — أولًا — أن ما هو «واضح بذاته» في القضية المنطقية العامة التي أسلفناها، هو معناها؛ وقولنا عنها إنها واضحة بذاتها معناه أن من يتدبرها في منظومة المعاني التي هي أحد أعضائها، سيدرك معناها في علاقتها بسائر معاني المنظومة — تمامًا كما يفهم معنى قضية تجريبية مثل قولنا «ذلك الشريط أزرق»؛ وأما ما يكون لتلك القضية من قوة ووظيفة منطقيتين، ثم ما يكون لها من تأويل نفسرها به، فأمر يظل بحاجة إلى النظر، تمامًا كما يظل صدق القضية التجريبية بحاجة إلى النظر، حتى بعد أن يتم لنا إدراك معناها.
ثانيًا، إن التأويل النظري الذي نفسر به دلالة المعنى الذي قد أدركناه إدراكًا مباشرًا، أمر بعيد عن أن يكون واضحًا بذاته؛ فهنالك — مثلًا — بديل آخر (غير أن يكون للمعنى المدرك في رءوسنا إدراكًا مباشرًا دلالة يشير إليها) هو الذي يسوقه «بيرس» من الوجهة النظرية، وأعني به قوله بأن جميع القضايا المعبرة عن الصور والعلاقات المنطقية، هي مبادئ هادية وليست بمقدمات؛ فهي من هذه الوجهة النظر، صياغات صورية نصوغ بها الإجراءات العملية، أي إنها صياغات صورية بمثابة (أ) فروض نفرضها عن الإجراءات العملية التي يجوز لنا أداؤها في كل البحوث التي من شأنها أن توصِّلنا إلى نتائج جائزة القبول، و(ب) فروض تأيُّد صدقها بغير استثناء في شتى الحالات التي قد أدت بنا فعلًا إلى قرارات مدعمة: على حين أن (ج) تقصيرنا في مراعاة الشروط المتضمنة فيها، قد أدى بنا — كما دلت على ذلك خبرتنا الفعلية فيما قمنا به من بحوث ذات نتائج معلومة — إلى نتائج غير مدعمة.
إنهم لا يدَّعون أن هذه القضية التي نقولها عن القضايا المنطقية هي «واضحة بذاتها» من حيث صدقها، بل يدَّعون أن لها معنًى مفهومًا، يمكننا إدراكه إدراكًا مباشرًا من حيث هو معنًى، وأن هذا المعنى من شأنه — إذا ما استخدمناه أو طبقناه على مسائل النظرية المنطقية — أن يوضح تلك المسائل ويحلها؛ هذا إلى أن الفكرة القائلة بأن «الخبرة» يمكن ردُّها إلى قضايا ذرية نتلقاها تلقيًا مباشرًا ويكون لها صدق واضح بذاته، أقول إن هذه الفكرة — من جهة أخرى — تحمل في ثناياها ضروبًا من الإشكال والخلط؛ فالقضايا العامة عن الصور المنطقية هي دالات قضايا، فتكون بذاتها — من حيث هي دالات قضايا — لا هي صادقة ولا هي كاذبة؛ إنما هي تقرر أساليب من الإجراء العملي في أدائنا لعملية البحث، وهي أساليب نفرض فيها مبدئيًّا أنها ممكنة التطبيق وأنها مطلوبة لأي بحث منضبط؛ فشأنها شأن البديهيات الرياضية، من حيث إن معناها أو قوتها يتقرر ويقاس صدقه بما يترتب على استخدامها العملي من نتائج.
وإلى هنا تنتهي مناقشتنا فيما يختص بالمعرفة المباشرة بوصفها مذهبًا نعني به عناية مباشرة؛ لكن يجوز لنا أن نضيف أشياء أخرى من ناحية الجانب غير المباشر (الاستدلالي) الذي يطبع كافة ضروب المعرفة، نضيفها لنتقي بها سوء الفهم: (أ) إننا لا نقول بأن التأويلات التي نستدلها تستند في اختبار صدقها وفي إثباتها والتحقق من نتائجها (أو عدم التحقق من ذلك) على الأشياء الجزئية من حيث هي أشياء جزئية في ذاتها؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إذ إن معيارنا في ذلك كله هو قابلية الفكرة المستدلة أن ترتب وأن تنظم الأشياء الجزئية في كل ملتئم؛ (ب) ولا نقول بأن الاستدلال وحده يستنفد العمليات المنطقية كلها، وهو وحده الذي يحدد الصور المنطقية كلها؛ بل الأمر على نقيض ذلك أيضًا، إذ إن البرهان — بمعنى اختبار صدق النتائج — عملية لا تقل عن الاستدلال نفسه أهمية.
أضف إلى ذلك أن الاستدلال — حتى من حيث علاقته باختبار الصدق — ليس من الناحية المنطقية مكتملًا بذاته ولا هو نهاية المطاف، فصميم النظرية كلها التي نبسطها في هذا الكتاب هو أن فض الموقف اللامتعين هو الذي يكون خاتمة المطاف، بالمعنى الذي يجعل «الخاتمة» خاتمة تقع منا في مدى البصر، وبالمعنى الذي يجعل «الخاتمة» خاتمة بالمعنى القريب؛ فبناء على هذه النظرة يكون الاستدلال تابعًا رغم كونه ضرورة لا غناء عنها؛ وليس هو — كما نراه مثلًا في منطق جون ستيوارت مل — مانعًا جامعًا، أي إنه شرط ضروري، ولكنه وحده لا يكفي لوصولنا إلى قرارات جائزة القبول.
والنقد الذي يوجهه ديوي إلى هذه النظرية يقوم على أساس أن هذه الإشارة الأساسية لإحدى الحالات الواقعة، لا تقوم وحدها بمعزل عن سياقها وبمعزل عن الهدف الذي نستهدفه في الموقف الذي نكون إزاءه، وأن مجرد الإشارة لا يكفي وحده أن نعلم منه أنها إشارة إلى لون أصفر؛ أو بعابرة أخرى لا تكون هذه قضية إلا إذا كانت تحمل في طيها عملًا نؤديه إزاء ما نحن بصدده؛ ومن وجهة نظري الشخصية أن هذا لا يتناقض مع كون الوحدة الذرية للكلام هي قضية موضوعها إشارة إلى حالة قائمة؛ لأن العمل إنما يترتب على هذه الوحدة الإدراكية؛ فالأمر هنا شبيه بأن أقول عن شيء إنه مفتاح هذا الباب، وبعدئذٍ يأتي الإجراء العملي الذي يبين إن كان ما زعمته صوابًا أو لم يكن، فكذلك قولي «هذا أصفر» لا ينفي — بل يستوجب — أن أتبعه بإجراء عملي للتأكد من صوابه، كأن ألجأ إلى قياس طول موجة الضوء مثلًا.