أحكام التجربة العملية: التقويم
قد خصصنا الفصل السابق لتأكيد ضرورة الخطوات الاستدلالية في المعرفة من حيث هي قرارات جائزة القبول؛ وليست هذه الضرورة بقائمة وحدها بمعزل عن سواها، بل هي جانب هام من جوانب نظرية البحث والحكم التي توليناها بالعرض والبسط؛ وإنما خصصنا لها عناية في عرضها مستقلة عن سواها، بسبب ما قد جرى به التقليد وما لا يزال يجري بيننا اليوم من مذهب في الحقائق العقلية الواضحة بذاتها والقضايا التي تتخذ من نفسها أساسًا عقليًّا ترتكز عليه؛ لكنْ هنالك جانبٌ آخر في نظريتنا الأساسية، وهو جانب يساوي الجانب السابق (بل ربما زاد عليه) في معارضته للنظرية المنطقية السائدة، ولذلك فهو أيضًا بحاجة إلى تناول صريح؛ وذلك أننا — على خلاف النظرية السائدة — نأخذ في هذا الكتاب برأي مؤداه أن البحث من شأنه أن يحدث تحولًا في الوجود الخارجي. كما يحدث إعادةً لتكوين المادة التي يتناولها؛ لأن نتيجة التحول الناشئ حين يكون قائمًا على أساس من معقول، هي تحويلُ موقف مشكل غير متعين، ليصبح موقفًا متعينًا حُل إشكاله.
وإن إبرازنا هذا لجانب التحول الذي يصيب خصائص المادة الوجودية كما كانت قبل البحث، وإبرازنا لفكرة أن الحكم هو هذا التحوُّل كما ننتهي إليه بعد البحث، ليباينُ النظرية التقليدية مباينة حادة؛ فهذه النظرية التقليدية تذهب إلى أن ما عساه أن يحدث من تغيرات في البحث بما في ذلك أكثر البحوث انضباطًا، إنما ينحصر في الشخص العارف من حيث حالاته وعملياته الداخلية — وأعني به الشخص الذي يمسك بزمام البحث — ولذلك جاز أن تسمى تلك التغيرات «ذاتية» بحق، سواء أكانت ذاتيتها تلك عقلية أم نفسية؛ كما جاز أن تسمى بأي اسم آخر شبيه بهذا؛ فهي تغيرات لا تقوم على أي أساس موضوعي، ومن ثَم أعوزتها القوة المنطقية وأعوزها المعنى؛ وأما وجهة نظرنا في هذا الكتاب فعلى خلاف ذلك، إذ نرى أن ما عند الباحث نفسه من اعتقادات وحالات عقلية لا يجوز أن يتغير تغيرًا مشروعًا إلا بمقدار ما تُؤدى الإجراءات العملية التي تمس الوجود الخارجي، والتي تضرب بجذورها آخر الأمر في مجال النشاط العضوي، إلى تحوير المادة الموضوعية وتغيير صفاتها؛ وإلا لما اقتصر أمر التغيرات «العقلية» على مجرد كونها عقلية (كما تريد لها النظرية التقليدية) بل تصبح تعسفية وفي طريقها إلى أن تكون خيالات وأوهامًا.
إن النظرية التقليدية بصورتَيها التجريبية والعقلية لتذهب إلى أن كافة القضايا إنما تقرر أو تصرِّح بما قد كان من قبلُ قائمًا في الوجود المادي أو في الوجود العقلي؛ وإنها لتذهب كذلك إلى أن هذه المهمة التقريرية للقضايا أمر مكتمل في ذاته يبلغ بالمطاف إلى ختامه؛ وعلى خلاف ذلك وجهة نظرنا في هذا الكتاب، إذ نذهب إلى أن القضايا التقريرية — سواء أكانت تقرر لنا عن وقائع في الخارج أم عن تصورات ذهنية (كالمبادئ والقوانين) إن هي إلا مراحل وسطى في سبيل السير، أو هي أدوات وسلية (أدوات مادية وإجرائية على التوالي) من شأنها أن تحدث لنا ما عسانا أن نستهدفه عن كثب (وكذلك ما نستهدفه في نهاية الأمر) من تحول مقصود نريد له أن يطرأ على مادة الموضوع الذي نبحثه؛ فذلك التحول هو الهدف القريب (والبعيد) من كل القضايا التقريرية إثباتًا كانت أو نفيًا؛ وليلاحظ القارئ أن ما ننكره هنا ليس هو حدوث القضايا التقديرية الخالصة، كلا، بل إننا — على عكس ذلك — نؤكد تأكيدًا صريحًا — كما سنبين ذلك تفصيلًا فيما بعد — وجود أمثال تلك القضايا، إذ هي التي تبسط العلاقات القائمة بين حقائق الواقع الخارجي من جهة، وبين أجزاء مادة الموضوع كما هي كائنة في تصورنا العقلي من جهة أخرى؛ وأعود فأقول إن موضع الإشكال هنا ليس هو وجود تلك القضايا، بل هو جانبها الأدائي وطريقة تأويلها.
ولنا أن نضع وجهة النظر المذكورة في العبارة الآتية: إن كل بحث موجه وكل حالة ننشئ فيها قرارًا مدعمًا، لا بد بالضرورة أن يكون مشتملًا على جانب عملي؛ أي على نشاط ننشط به في أداء شيء ما أو صنع شيء ما، من شأنه أن يعيد تشكيل المادة الوجودية السابقة لقيام البحث، والتي تقيم للبحث مشكلته (التي يتناولها بالحل)؛ وسنبين كيف أن هذه الوجهة من النظر ليست مزعومة على سبيل الجزاف، بل هي وجهة تمثل ما يحدث حقًّا (أو ما هو إشكال حقيقي) في بعض الحالات على الأقل، أقول إننا سنبين ذلك بأن نستعرض بالنظر بعض صور البحث في مجال الذوق الفطري، وهي صور البحث الذي يقصد إلى تحديد ما ينبغي فعله في بعض الأزمات العملية.
وليست البحوث التي من هذا القبيل بالشواذ ولا هي بالقليلة الوقوع، إذ الكثرة العظمى من بحوث الذوق الفطري وأحكامه هي من القبيل المذكور؛ وما نتدبره من شئون حياتنا اليومية هو مسائل خاصة — إلى أبعد حد — بما عسانا صانعيه أو فاعليه؛ وكل صناعة وكل مهنة لا تنفك تواجهها مشكلات متكررة من هذا القبيل؛ فلأنْ نضع وجود هذه المشكلات موضع شك مساوٍ لإنكارنا اشتراك الذكاء بأي عنصر من عناصره في المجال العلمي بأية صورة من صوره؛ أو هو مساوٍ لقولنا بأن كل ما نتخذه من قرارات في الشئون العملية هو نتائج اعتسافية للنزوة والطيش والعادة العمياء والجزاف؛ فالزارع والميكانيكي والرسام والموسيقى والكاتب والطبيب ورجل القانون والتاجر ومدير الصناعة ورجل الإدارة وصاحب الحكم، كل واحد من هؤلاء لا مندوحة له في كل لحظة عن البحث فيما هو خيرٌ له أن يؤديه في الخطوة التالية من عمله؛ وقراره الذي يصل إليه في ذلك، إنما يصل إليه بجمعه ثم باستعراضه للشواهد التي يزن قيمتها ويقرر صلتها بموضوعه، اللهم إلا إذا كان قراره ذاك قد جاءه عن خبط أعمى وضرب جزاف؛ كلا، بل إنه بعد جمعه واستعراضه للشواهد كما ذكرنا، تراه يأخذ في رسم خطط العمل واختبارها من حيث قابليتها لأن تكون فروضًا علمية، أعني قابليتها لأن تكون أفكارًا.
إن المواقف التي تستثير منا التدبر الذي ينتهي إلى قرار، لهي بحكم وصفها هذا مواقف غير متعينة بالقياس إلى ما يجوز أو ما ينبغي عمله؛ فهي مواقف تتطلب وجوب عمل ما لا بد من أدائه، أما ما هو هذا العمل الذي علينا أن نؤديه فذلك هو نفسه موضع الإشكال؛ وعندئذٍ تكون المشكلة العاجلة هي كيف نتناول الموقف غير المتعين؛ غير أننا لو وقفنا إزاء المشكلة وقفة لا تجاوز كونها مشكلة تتطلب حلًّا سريعًا، كانت وقفتنا تلك حالة انفعالية من شأنها أن تعطل، بل كثيرًا ما تبطل وصولنا إلى قرار حكيم إزاءها؛ أما الجانب العقلي من الأمر فهو أن نبحث عن نوع الفعل الذي يقتضيه الموقف لكي يطرأ عليه من تغير الوضع ما يرضينا؛ وإني لأكرر القول بأن هذا السؤال لا يمكن الجواب عنه إلا بما نجريه من مشاهدات، وبما نجمعه من حقائق، وما نقوم به من استدلال، وهذه كلها أمور توجهها أفكارٌ لدينا، على أن مادة هذه الأفكار نفسها إنما تمحص بما نؤديه من مقارنة ومن تنظيم في المجال الفكري.
إنني لم أذكر رجل العلوم في قائمة الأشخاص الذين قلت عنهم إنهم لا بد لهم من الدخول في عملية بحث حتى يتسنى لهم الوصول إلى أحكام خاصة بأمورهم العملية؛ لكن قليلًا من التفكير كفيل أن يدلنا بأن رجل العلوم مضطر كغيره إلى اتخاذ القرارات عما ينبغي له أن يتناول من البحوث وعن الطريقة التي لا بد له أن يجري بها تلك الأبحاث، وتلك مسألة تقتضيه أن يقرر ماذا عساه أن يجري من مشاهدات وأن يؤدي من تجارب، وأي الخطوط يتبع في تدليلاته العقلية وفي عملياته الرياضية؛ أضف إلى ذلك أن أمثال هذه الأسئلة لا يمكن فضها بجواب واحد يصْدق إلى الأبد؛ بل إن الباحث العلمي مضطر أن يحكم لنفسه في غير انقطاع ماذا يكون أفضل ما يؤديه في الخطوة التالية لكي ينتهي إلى نتيجة مؤسسة على قوائم مكينة، مهما تبلغ تلك النتيجة من التجريد ومن الإمعان في الجانب النظري؛ وبعبارة أخرى فالسير في طريق البحث العلمي — سواء كان ذلك البحث طبيعيًّا أو رياضيًّا — هو ضرب من الأداء العملي؛ ورجل العلم وهو قائم بعمله إن هو إلا صاحب عمل يؤديه قبل كل شيء، فهو لا ينفك مشغولًا بالوصول إلى أحكام عملية، أي باتخاذ قرارات عما ينبغي له أن يؤديه، وعن أي الوسائل يستخدم لأدائه.
وواضح أن النتائج التي نصل إليها بتدبرنا لماذا عسى أن يكون أفضل لنا أن نؤديه، ليست هي بعينها النتيجة الختامية التي من أجلها كنا قد اضطلعنا بالبحوث التي عنينا بالسير فيها؛ وذلك لأن النتيجة الختامية هي موقف جديد فضت فيه الصعاب والمشاكل التي كانت باعثة على تدبر الأمر بادئ ذي بدء؛ أي إنها موقف لا تظهر فيه تلك الصعاب والمشاكل؛ ومثل هذه النهاية الموضوعية لا يمكن الوصول إليها إذا ما اقتصرنا على الضرب في مجال الحالات العقلية وحدها؛ بل إنها لنهاية يستحيل خلقها إلا بما نحدثه من تغيرات في الوجود الخارجي؛ فالسؤال الذي نطرحه لنتدبره هو ماذا عسانا أن نصنع لكي نحدث هذه التغيرات، التي هي وسيلتنا إلى إعادة ترتيب الأشياء في الوجود الفعلي على النحو المطلوب: وإذن فلا بد لما ينشأ من بحوث ومن قرارات أثناء أدائنا الأفعال التي نريد بها إحداث التغيرات، أن تكون وسلية وأن تكون كذلك حلقات وسطى في طريق السير؛ ولما كان ما ينبغي لنا أن نؤديه مرهونًا بالظروف القائمة في الموقف الذي نحن إزاءه، اقتضى ذلك وجود قضية تقرر أو تفصح عما هو قائم، فتنص على أن «الظروف القائمة فعلًا هي كذا وكذا»؛ وعندئذٍ تصبح هذه الظروف أساسًا لاستدلالنا قضية تقريرية أخرى نقول بها إن الفعل الفلاني هو في تقديرنا خير ما يمكن أداؤه لاستحداث النتيجة المرجوة في ظل الظروف الواقعية التي ثبت قيامها؛ وإذن فالقضايا التقريرية التي تنص على حالة الواقع، هي التي تبرز لنا العقبات التي تقف في سبيلنا ولا بد من التغلب عليها، والوسائل التي يمكننا توجيهها توجيهًا يوصلنا إلى الهدف المنشود؛ وهكذا تكون القضايا التقريرية مقررة للإمكانات، ما يعين منها وما يعرقل، فهي بمثابة الأدوات الوسلية؛ وثمة ارتباط أدائي بين القضايا التي تبسط الطريقة التي لا بد أن نتناول بها الظروف القائمة، والقضايا التي تفصح عن أو التي تصف تلك الظروف؛ وأما القضايا التي ترسم لنا خطة السير فليست تحمل إلينا شيئًا من مواد الواقع، أي إنها لا تنقل إلينا شيئًا عن مواد الوجود الخارجي، بل إنها لتتخذ الصورة العامة الآتية: «إننا إذا ما سرنا في الطريق الفلاني في ظل الظروف القائمة، فالنتيجة المحتملة هي كذا وكذا»؛ وصياغة هذه الفروض التي نرسم بها خطة العمل، تتضمن — من الناحية المنطقية — تدليلًا عقليًّا، أي إنها تتضمن سلسلة من قضايا تقريرية تنص على العلاقات الكائنة بين تصوراتنا العقلية؛ إذ يندر أن تكون الفكرة التي تعرض لنا بادئ ذي بدء عن إجراء السير، مما يمكن أن نطبقه في مجال التنفيذ العملي تطبيقًا مباشرًا؛ بل لا بد من تهذيبها أولًا، وهذا التهذيب هو قوام التفكير العقلي الذي يتخذ في البحث العلمي عادةً صورة الحساب الرياضي.
وقبل أن أسوق أمثلة توضح ما قد أسلفته، سألخص الشكل الصوريَّ لما هو من الناحية المنطقية متضمن في كل موقف من مواقف التدبر والوصول إلى قرار مؤسس في الأمور العملية؛ فهناك في الوجود الخارجي موقف يتسم (أ) بكون مقوماته تتغير تغيرًا من شأنه أن يتمخض — على أي حال — عن اختلاف ما في صورته المستقبلة، (ب) وبأن ذلك الذي سينشأ في المستقبل هو نفسه الذي يتوقف إلى حد ما على دخول ظروف وجودية أخرى تتفاعل مع الظروف التي كانت قائمة بالفعل، (ج) وبأن ذلك الذي جاءت الظروف الجديدة لتحدثه يتوقف على نوع المناشط التي نضطلع بأدائها، (د) إلا أن هذه المناشط نفسها تتأثر بتوجيه البحث لطريق المشاهدة والاستدلال والتدليل.
والمثل الذي سأسوقه لأوضح به هذه الشروط الأربعة مثل شخص — حالة كونه مريضًا — أخذ يتدبر خير سبيل يسلكها بغية تحقيق الشفاء؛ (١) فهنالك تغيرات بدنية حادثة بالفعل، سيكون لها على أي حال نتيجة ما في الوجود الفعلي؛ (٢) ومن الممكن إدخال ظروف جديدة تصبح عوامل في تقرير النتيجة، وعندئذٍ تكون المسألة المطروحة للتدبر هي هل يدخل هذه الظروف الجديدة؟ وإذا أدخلها فأي الظروف يدخل وكيف يدخلها؟ (٣) ثم يقتنع المريض عن تدبر بأنه لا بد من عرض نفسه على طبيب؛ فالقضية التي يتقرر بها هذا الوضع هي بمثابة النتيجة التي ينتهي إليها المتدبر بأن ما يترتب على زيارة الطبيب مفروض فيه أن يخلق العوامل المتفاعلة التي من شأنها أن تنتج النتيجة المطلوبة (٤) ومن هنا يتاح للقضية عند تنفيذها تنفيذًا عمليًّا أن تخلق الظروف التي تتدخل في سير الحالة، والتي تتفاعل مع الظروف السابق قيامها، بحيث تغير من مجراها تغييرًا يكون له أثره في النتيجة؛ وهي نتيجة تكون عندئذٍ مختلفة عما كانت لتكون عليه لو لم يتدخل البحث والحكم في مجرى الأمور، حتى على فرض أن شفاء المريض لم يتحقق.
فحيثما يكون تدبرٌ بمعناه الصحيح، فلا بد أن يكون ثمة أكثر من طريق واحد للسلوك عند كل مرحلة تقريبًا من مراحل السير؛ ففي كل خطوة تنشأ مشكلات ذوات وجهين، لكل وجه منهما شيء يُقال أو شيء يثبت على سبيل التجريب؛ ولربما فكرنا في خبرتنا الماضية فوجدناها دالة على أنه من الخير في أغلب الحالات المرضية «أن ندع الطبيعة تجري مجراها»، ولكن مريضنا مع ذلك يتساءل إزاء حالته القائمة: هل تكون هي الأخرى من ذاك القبيل؟ وكذلك ربما دخل في الأمر موضوع النفقات المالية؛ كما يجوز كذلك أن يدخل في الأمر سؤال عما إذا كان الطبيب الكفء في متناول النداء، أو من ذا يكون الطبيب الذي يستشار؛ وقد يدخل في الأمر مواعيد المريض التي ارتبط بها عن الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، وأثر نصيحة الطبيب من حيث تمكينها للمريض من الوفاء بتلك المواعيد … إلخ إلخ.
أمور واقعية كهذه هي التي نمحصها ونصوغها في قضايا؛ وكل حالة من حالات الواقع مصوَّرة في قضية، توحي بما يكون بديلًا لها في مجرى العمل، ولا بد لإيحائها هذا من أن يُصاغ (في قضية) إذا كان البحث الذي نحن بصدده بحثًا بالمعنى الصحيح؛ وبعدئذٍ نأخذ في بسط الصياغة التي صغناها، أي القضية، تأخذ في بسطها بسطًا يوضح النتائج التي تترتب على الأخذ بها؛ وإنه لبسط يجري في سلسلة من القضايا التي قوامها هو: إذا … إذن … فإذا ما قرر المريض (في المثل المذكور) آخر الأمر أن يستشير الطبيب الفلاني، كانت القضية الناتجة ممثلة في حقيقة الأمر استدلالًا بأن هذه الصورة من صور الإجراء فيها أكبر احتمال بأنها هي الصورة التي من شأنها أن تدخل تلك العوامل التي إذا ما تفاعلت مع الظروف القائمة أنتجت الموقف المرغوب في قيامه في المستقبل قيامًا فعليًّا: فهو استدلال بأن ذلك الإجراء المذكور سيوجه العوامل القائمة بالفعل توجيهًا لم تكن لتتجهه لو تركت وحدها.
وليست مضمونات القضايا التي نصوغها عن أمور الواقع وعن طرق العمل الممكنة (بما في ذلك الطريق المختارة) محددةً لذاتها بذاتها، كلا ولا هي مكتفية بذاتها؛ بل تحدد بالقياس إلى نتيجة مستقبلة مقصودة، ولذلك فهي وسلية وتقع في مراحل الطريق الوسطى؛ فهي ليست صادقة في ذاتها وبذاتها، لأن صدقها يتوقف على النتائج الناجمة عن سلوكنا الذي نسلكه بمقتضاها، فإلى الحد الذي تكون به هذه النتائج ناجمة فعلًا عن إجراءاتنا العملية، تكون القضايا بمثابة ما يملي خطة الفعل، وليست هي بالزوائد العارضة، فافرض مثلًا أن القضية التي نقولها عن أمر واقع هي قولي: «إنني مريض مرضًا خطيرًا»؛ فهذه القضية — في سياق ما ذكرناه — إنما تخلو من الهدف إذا نحن أخذناها على أنها مرحلة الختام وعلى أنها مكتملة بذاتها؛ ذلك لأن قوتها المنطقية تتألف من العلاقة الكامنة التي تربط بينها وبين موقف مستقبل؛ وكذلك القضية التقريرية «ينبغي أن أستشير طبيبًا أو أنني سأستشير طبيبًا» هي الأخرى أدائية في طبيعتها: فهي تصوغ الإجراء الممكن الذي إذا ما أجريناه، ساعد على إحداث موقف مستقبل في الوجود الفعلي، يختلف في خصائصه وفي دلالته عن الموقف الذي كان يقوم إذا نحن لم نقم بالفعل المذكور؛ وستجد أن هذه الاعتبارات نفسها تصْدقُ أيضًا على القضايا التقريرية التي يقولها الطبيب الفاحص عن الوقائع التي تحدد موضع المرض وتصفه من جهة، وعن خطة الفعل التي يقررها لمعالجة المرض من جهة أخرى.
هذا التحليل — لو صادف قبولًا — يحمل معه اعترافًا بأن القضايا التقريرية (وهي بدورها نتائج لأحكام قضينا بها على سبيل الترجيح المؤقت) عوامل تدخل بصورة فعالة في المقومات الفعلية التي منها تتألف المادة الوجودية في موضوع حكمنا الختامي؛ وقد لا تكون مادة الموضوع كما انتهينا إليها هي نفسها المادة التي كنا نأمل بلوغها ونرمي إلى تحقيقها؛ إلا أنها على أية حال مختلفة نوعًا ما عما كانت لتكون عليه إذا نحن لم نجرِ ما قد أجريناه من فعل مرتكز على القضايا الوسلية التي توسطت مراحل الطريق؛ ولو أخذنا بالتفسير الشائع للقضايا التقريرية لوجدنا أنه من التناقض الصريح أن نقول عن تلك القضايا إنها تدخل في التكوين النهائي الذي يجيء عليه الموقف نفسه الذي قيلت تلك القضايا «عنه»؛ لكن مصدر التناقض هنا هو النظرية الشائعة وليس هو القضايا نفسها؛ إذ ينشأ التناقض عن تجاهلنا لما للقضايا التي نصوغها من قوة إجرائية وسلية.
ولو عرضنا المثل المذكور في مناقشتنا السابقة، لو عرضناه على أساس النظرية التقليدية لجاء العرض قريبًا مما يلي؛ القضيتان القائلة أولاهما «إنني مريض» وأخراهما «إذا ما أصاب المرضُ إنسانًا، وجب أن يستشير طبيبًا» كانتا تؤخذان على أنهما — على التوالي — قضية صغرى وقضية كبرى في قياس تلزم عنه بالضرورة نتيجة تقول «يجب أن أستشير طبيبًا»؛ وهذا التفسير إنما يرتكز على استغلال ما هنالك من غموض؛ فربما كان القياس السالف لا يزيد على كونه أداءً لغويًّا لحكم بمعناه الصحيح كنا بالفعل قد انتهينا إليه، وفي هذه الحالة يتأيد التحليل الوارد في قضايا القياس، لأن المقدمة الصغرى والمقدمة الكبرى عندئذٍ تقرران قرارات كنا قد وصلنا إليها في بحث أجريناه لنعلم به ماذا تكون عليه وقائع الحال لكي يتسنى لنا أن نوجهها الوجهة التي نريد؛ لكننا إذا فهمنا التفسير السابق على حرفيته كان مؤداه أن لم يكن هنالك بحث ولا حكم؛ إذ لا يعني هذا التفسير إلا أن المريض في المثل الذي نحن بصدده، كلما توهم أنه مريض قصد بغير تردد إلى طبيب بحكم عادة تعودها؛ كأنما ليس هنالك جانب من الشك أو التردد، وليس هنالك بحثٌ ولا تكوينٌ لقضايا؛ وكأنما كل ما هنالك مثيرٌ مباشر يستجيب له المريض المذكور وفق عادة تكونت لديه فيما مضى؛ وكأنما القياس المزعوم ليس إلا رواية لفظية فرضت من الخارج، لتقصَّ عما قد حدث من فعل لم تدخل فيه صور منطقية على الإطلاق.
إن هذا الموقف دلالته لأنه موقف يُبرز عن طريق التباين المواقف التي يتم فيها حكم بالمعنى الصحيح؛ فقد تكون لدى إنسان عادة مطردة في استشارة الأطباء لعلة في بناء شخصيته، فهو بهذا لا يمارس حكمًا، أو قد يكون به ميل إلى استشارة الأطباء كلما اشتدت به عوارض المرض، ولكنه في هذه الحالة الخاصة شاكٌّ فيما إذا كان مرضه الراهن يقتضي تلك الاستشارة حقًّا؛ وها هنا تراه يأخذ في التفكير؛ فضلًا عن أنه من حيث الواقع كما يقع لا يقرر لنفسه أن يستشير طبيبًا كائنًا من كان هذا الطبيب، بل هو يقرر استشارة طبيب بعينه، وربما اقتضاه الأمر أن يبحث من ذا يكون الطبيب الذي يستشير؛ وقد تكون لديه المبررات التي تميل به إلى تفضيل الركون إلى المصادفة تأتيه بالشفاء بغير طبيب مراعاة لحالته المالية، وهكذا؛ وإذن فالرأي الذي يرد قضية السلوك العملي إلى ائتلاف صوري بين قضيتين إحداهما جزئية والأخرى كلية، لا يَصْدقُ إلا على التحليلات اللغوية التي نقرر بها ما قد حدث من قبل، وإما أن يكون هذا الذي حدث هو فعل أديناه مدفوعين إليه بعادة دون أن يدخل في الأمر حكمٌ، أو أن يكون حكمًا تمت مراحله؛ فإذا كان تدبرنا للأمر وتقديراتنا تدبرًا وتقديرات نصوغهما في قضايا، يتدخلان بالفعل في وصولنا للقرار الذي يقرره القائل حين يقول: «سأستشير طبيبًا» فعندئذٍ يكون حكمنا على الأمور العملية عاملًا في تحديدنا النهائي الذي نحدد به مادة الوجود الخارجي، وهي نفسها المادة التي نصدر عنها أحكامنا التقديرية التي أصدرناها بادئ ذي بدء.
ولست أحسب المثل الواحد الذي ضربناه كافيًا لفض المسألة التي نطرحها الآن للبحث، لكونها مسألة أوسع نطاقًا من ذلك المثل الخاص؛ ولهذه المسألة من الخطر ما يدعوني إلى المضي في مناقشتها خلال مجموعة من الأمثلة.
-
(١)
فهنالك حالات يكون من شأن الأحكام الخاصة بالأمور العملية فيها أن تقرر ما ينبغي فعله في الخطوة التالية «مباشرة» بحيث يتسنى لنا أن نخلق موقفًا وجوديًّا معينًا يجيء نتيجة لنوع النشاط الذي نؤديه بمقتضى الحكم الذي اتخذناه؛ فقد يلحظ أحد الناس — مثلًا — سيارة مندفعة لتنقض عليه، وربما انحرف عن مسارها انحرافًا لم يسبقه تفكير؛ فلا يكون في هذه الحالة حكمٌ ولا تكون قضيةٌ؛ لكن الموقف قد يكون من شأنه أن يستثير الروية؛ وفي هذه الحالة لا بد للمرء من مشاهدة الظروف القائمة (وذلك هو تحديد المشكلة) ومن رسم خطة للفعل يقلل بها الحالة الطارئة (وذلك هو حل المشكلة)؛ ومثلٌ آخر أشد من ذلك توضيحًا هو مثلُ القرارات التي يتخذها الحَكَمُ خلال شوط اللعب؛ إذ لا بد له من تكوين قضايا عن الوقائع المشاهدة وعن القاعدة التي يمكن تطبيقها تفسيرًا لتلك الوقائع؛ فلئن كان تقديره للوقائع وللقاعدة التي يمكن تطبيقها موضعًا لاختلاف الآراء، إلا أن الحكم القاطع الذي يقرره إذ يحكم بأن الحالة «صواب» أو بأن الكرة قد «خرجت» عن الحدود الجائزة، يدخل عاملًا فعالًا في مجرى الحوادث التي ستقع بعدئذٍ في الوجود الفعلي؛ فهذه الحقيقة تدلنا على أن فعل الفاعل ووضعه — فعل من يجري في لعبة المضرب والكرة الأمريكية مثلًا ووضعه — ليسا هما ما ينصب عليه الحكم؛ بل إن موضوع الحكم هو مجموعة الموقف الذي حدث فيه الفعل؛ وما القضايا التي نقولها عما قد فعله الضارب بالمضرب أو ما قد فعله الجاري؛ والقضايا التي نقولها عن القاعدة (أو الفكرة) التي يمكن تطبيقها على فعل هذا أو ذاك، أقول إن هذه القضايا ليست سوى حلقات وسطى، فهي وسلية وليست هي بالخاتمة التي نقف عندها ولا هي بالمكتملة الكيان في ذاتها.
إن هذين المثلين المذكورين ليوضحان ما نعنيه بعبارة «وسائل إجرائية» التي ننعت بها محمول الحكم؛ فمادة هذا المحمول تصور لنا غاية قريبة يستهدفها الفاعل بفعله، أي إنها تقدير سابق لما ستكون عليه النتائج في الوجود الخارجي؛ التي هي غاية بمعنى الختام والنهاية التي يتحقق بها المقصود؛ فالغاية القريبة التي يقصد إليها من يرى سيارة قادمة تجاهه، هي أن يلجأ إلى مكان آمن، وليست هي النجاة في ذاتها؛ وأما هذه الأخيرة (أو ضدها) فهي غايته بالمعنى الذي يجعل الغاية ختامًا؛ ويتخذ التقدير السابق أو الغاية القريبة صورة إجراء يُؤدَّى، اللهم إلا إن كانا من قبيل الوهم العقيم؛ وهكذا قل في القضية التي يقضي بها الحَكَم في لعبة الكرة بأن الكرة قد «خرجت» عن الحدود الجائزة أو أنها «بمنجاة من الخطأ»، أقول إن هذه القضية بالنسبة إلى اللاعب أمر إجرائي لأنها تقرر ماذا عسى أن يَهمَّ اللاعب بفعله، وكيف يكون مجرى اللعب بعدئذٍ؛ فلو كانت الغاية الوجودية بالمعنى الذي تكون به حاصلًا نهائيًّا أو ختامًا، لو كانت تلك الغاية الوجودية حدًّا في قضية، لكان معنى هذا الحد دالًّا على أن تلك الغاية قد اكتمل تحقيقها؛ ولا تكون الغاية سليمة من مناقضة نفسها بنفسها إلا إذا وردت على صورة تجعلها توجيهًا لما يمكن أداؤه بحيث يأتي هذا الأداء وسيلة تنتهي آخر الأمر بتحقيق الخاتمة المقصودة.
فليس المحمول إدراكًا «لما هو واقع» أو إعلان عن شيء كائن بالفعل في الوجود الخارجي؛ بل هو تقدير نقيمه على أساس مشاهدتنا للوقائع الموجودة فعلًا، باعتبارها ظروفًا يحتمل أن تتمخض عن نتائج ممكنة الحدوث، أي إنه تقدير لفعل في مستطاعنا أن نؤديه؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى المتسابق في سباق حين ترتسم له فكرة الهدف، أو إلى قاذف الرمح حين يفكر في هدفه، فعندئذٍ تكون فكرة الهدف هذه عائقًا لا معينًا، ما لم تحول لصاحبها نقطة الختام من حيث هي كائن قائم في الوجود الخارجي، تحويلًا يجعلها وسائل مؤدية، أو قل وسائل إجرائية؛ فالعدَّاء يستخدم فكرة الهدف وسيلةً ينظم بها سرعة خطاه وما إلى ذلك في المراحل المتتابعة من شوطه، وقاذف الرمح يستخدم فكرة الهدف فيما له علاقة بمشاهداته عن اتجاه الريح وقوتها وما إلى ذلك، بحيث يهتدي بذلك في تسديد رميته أو توجيهها؛ وإن هذا الفرق بين معنى كلمة غاية: معناها حين تعني غاية قريبة، ومعناها حين تعني نهاية تكون بمثابة الخاتمة والاكتمال في الوجود الفعلي، أقول إن هذا الفرق بين المعنيين لبرهان حاسم على أن الخاتمة في عملية البحث ليست مجرد شيء ندركه بالحس بين الكائنات القائمة في الخارج ثم نعلن عن وجوده، بل إنها شيء نقرره من حيث هو طريقة لما نؤديه من إجراء؛ والخلط بين معنيي كلمة «غاية» هو المصدر الذي عنه نشأت الفكرة القائلة بأن الحكم في أمور التجربة العملية إما أن يكون إخباريًّا صرفًا، أو أن يكون أمرًا مقتصرًا على الجانب العملي اقتصارًا يجرده من صفته المنطقية.
-
(٢)
وكذلك التقديرات الخلقية حالةٌ يمكن الاستشهاد بها فيما نحن بصدده فالزعم الشائع — بل ربما كان هو الزعم الذي يصادف أكثر القبول — هو أن ثمة أشياء هي غايات في ذواتها، وأن هذه الغايات إنما ترتب في سلم متدرج من الأقل إلى الأكثر من حيث قربها من القمة العليا، وأنها تتفاوت في تسييرها لسلوكنا حسب منازلها في ذلك التدرج؛ فيلزم عن هذه النظرة أن نقول عن «الحكم» الخلقي إنه لا يتألف إلا من إدراكنا المباشر لما هو غاية في ذاته بالقياس إلى منزلته الصحيحة في إطار القيم الثابتة؛ وإن أصحاب هذا الرأي ليزعمون بأن صاحب الفعل الخلقي لو غض النظر عن الغايات الثابتة موضوعةً في تدرجها هذا، لما بقي أمامه سوى أن يتبع أهواءه العابرة؛ أما وجهة نظرنا في هذا الكتاب فتقتضي أن ننظر إلى الغايات من حيث هي نهايات ختامية قائمة بالفعل، أو قل من حيث هي تحقيقات لما نسعى إلى تحقيقه، أقول إن وجهة نظرنا تقتضي أن ننظر إلى الغايات نظرة تجعلها في الحكم الذي ترد فيه بمثابة الخطة التي ترسم لنا طرائق السلوك الإجرائي الذي من شأنه أن يفض موقفًا مشكوكًا في أمره يستثير فينا ويتطلب منا أن نقضي فيه بحكم ما؛ فالغايات من حيث هي غايات قريبة إنما تدل على خطط لطرائق الفعل، أو قل إنها تدل على أغراض؛ فمهمة البحث هي أن نقرر طريقة الإجراء الذي من شأنه أن يزيل الحيرة التي يجد فيها الفاعل نفسه متورطًا فيها، وإنما يتقرر ذلك الإجراء على أساس المشاهدات التي تحدد ماذا عسى أن تكون عناصر ذلك الموقف المحير.
إن الرأي القائل بأن الحكم الخلقي لا يعدو أن يكون إدراكًا ثم إعلانًا عن غاية في ذاتها كانت قد تحددت قبل إدراكنا لها وإعلاننا عنها، لهو رأي في الحقيقة ينكر أن تكون بنا حاجة إلى أحكام خلقية بمعناها الصحيح، كما ينكر أن يكون لمثل هذه الأحكام وجود على الإطلاق؛ لأنه بناء على هذا الرأي لا يكون ثمة موقف مشكل، ولا يكون هنالك إلا شخص تنتابه حالة ذاتية من التشكك الخلقي، أو من الجهل؛ فمهمته في تلك الحالة ليست هي أن يحكم على موقف موضوعي حكمًا يبين له أي طريق من الفعل ينبغي له أن يسير فيه لكي يتسنى له أن يحول ذلك الموقف إلى موقف آخر يحكم عليه من الناحية الخلقية أنه صواب ومُرضٍ، بل مهمته عندئذٍ لا تعدو أن تكون إلمامه العقلي بغاية في ذاتها كانت قد تحددت قبل ذاك؛ نعم إن ما قد خبرناه فيما مضى من خبرات يصبح بغير شك وسائل مادية تعيننا على الوصول إلى حكم فيما عسانا أن نصنعه الآن، لكنها وسائل ليست هي بالغايات الثابتة؛ فهي مادة ينبغي لنا أن نستعرضها وأن نقدرها بالقياس إلى ما قد نهتدي به في الفعل المطلوب إزاء الموقف القائم.
إن وجهة النظر التي تأخذ بأن الحكم الخلقي إنما ينصب على موقف موضوعي مشكوك في أمره، وبأن الغايات القريبة إنما تُصاغ في سياق الحكم وبوساطة الحكم صياغة تجعلها طرائق لإجراءات تزيل الإشكال القائم، لهي وجهة من النظر تتسق مع حقيقة كون الغايات القريبة التي هي منارات هادية من حيث هي طرائق فعل — وذلك بسبب معاودة المواقف المتشابهة إلى الحدوث — إنما تقام ويكون لها علينا أحقية ظاهرة بأن نتخذ منها نموذجًا تحتذيه في المواقف الجديدة؛ غير أن هذه القضايا النموذجية «الجاهزة» لا تكون نهايات نقف عندها؛ فعلى الرغم من أنها وسائل بالغة القيمة، إلا أنها ما زالت وسائل نمحص بها الموقف القائم، ونقدر ما يتطلبه منا من طرائق الفعل؛ فقد يؤدي، بل كثيرًا ما يؤدي إمكان تطبيقها على الموقف الجديد، وصلتها وقيمتها بالنسبة إلى هذا الموقف الجديد، إلى إعادة تقويمها وإعادة صياغتها.
-
(٣)
القضايا الاستفهامية؛ ليس من الموضوعات التي يكثر تناولها بالبحث أن ننظر هل تكون الأسئلة قضايا بأي معنًى من المعاني المنطقية؛ على أن المناطقة الذين يثيرون هذه المشكلة يذهبون عادة إلى أن الأسئلة ليست قضايا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ أما من وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب فكل القضايا من حيث هي متميزة عن الحكم، لها جانب استفهامي؛ لأنه ما دامت القضايا موقوتة بمواضعها من البحث، فليست هي واجبة الخضوع للتمحيص فحسب، بل إنها كذلك لتثير أسئلة خاصة بصلاحيتها وبقيمتها وبإمكان انطباقها؛ وفي الحالات التي نكون فيها على وثوق تام إزاء الوقائع الخارجية أو إزاء أفكارنا الداخلية (وثوقًا يترتب على استخدامنا لها فيما مضى استخدامًا موفقًا، أو يترتب على غير ذلك من الأسباب) في هذه الحالات يكون الناجم فعلًا نؤديه لا حكمًا نصدره؛ وإنه لمما ييسر علينا حياتنا العملية تيسيرًا عظيمًا أن نقف موقف الواثق من وقائع كثيرة ومن أفكار كثيرة، لنستخدمها استخدامًا مباشرًا؛ لكننا إذا حوَّلنا هذه القيمة العملية إلى صفة منطقية مؤكدة، زللنا في سبيل هي من أكثر السبل شيوعًا نحو إقامة القطعية (الدوجماطيقية) التي هي العدو اللدود للبحث الحر المتصل.١ومن المؤلفين القلائل نسبيًّا، الذين عالجوا في صراحة الصفة المنطقية لعبارات الاستفهام، «بوزانكت»، وهو يقول عنها إنها لا تعدو أن تكون عبارات نتحسس بها، «والحكم التحسسي يعوزه الفصل الذي يجعل الحكم حكمًا؛ فهو لا يقرر شيئًا، وليس هو بالذي يزعم لنفسه صدقًا؛ فالسؤال من حيث هو سؤال لا يمكن أن يكون موضوعًا للفكر من حيث هو فكر … إذ ليس السؤال وقفة يمكن للذهن أن يقفها داخل نفسه … بل هو مطالبة بالمزيد من العلم؛ فهو في جوهره موجهٌ إلى ذات خلقية لعله أن يحرك صاحبها إلى أداء فعل ما».٢
هذه الفقرة السابقة تتضمن نقطة سبق لنا أن ناقشناها، وهي الصفة المزدوجة للحكم، من حيث هو تقدير أو تقويم مؤقت، ثم من حيث هو ختامي أو نهائي؛ وواضح أن ما يقوله «بوزانكت» ينطبق على الحكم في وجهه الثاني؛ وهو إذ يحذف من معنى الحكم كل التقديرات والتقويمات الابتدائية التي نقدر بها الوقائع والأفكار من حيث قوتها وصلتها بما نحن بصدد بحثه، فهو ينتهي إلى النتيجة التي انتهى إليها، وهي أن البحث ليس صورة من صور الحكم، وعلى ذلك فمن حيث هو بحث لا يدخل في مجال المنطق؛ ولهذه الوجهة من النظر دلالة حاسمة لما يلزم عنها من نتائج بعيدة الأثر.
إنه ليس من شك في أننا إذا ما عددنا العمل الذي يقوم به العلم فعلًا، عملًا يصح تسميته بالبحث، فلسنا بذلك نعتدي على الروح العلمية في شيء؛ كما أنه ليس من شك كذلك في أن وجهة النظر التي تحذف العلم من ميدان المنطق ومجاله، اللهم إلا باعتباره مجموعة من قضايا نقبلها بغض النظر عن طرائق البحث التي أدت إليها، هي وجهة من النظر لا يجوز أن نتقبلها بكثير من الرضا؛ فاللغة الجارية تستخدم عبارة «موضوع التساؤل» مرادفة لمادة الموضوع الذي يدور حوله البحث؛ فالعلم والذوق الفطري كلاهما يجعل من الأصوب أن نقول عن السؤال (بمعنى ما يوضع موضع التساؤل أو إمكان التساؤل) إنه هو موضوع «الفكر» الذي لا موضوع للفكر سواه؛ فذلك أدنى إلى الصواب من أن نقول مع «السيد بوزانكت» بأن «السؤال لا يمكن أن يكون موضوعًا للفكر».
فالقول بأن السؤال هو مطالبة لشخص ما أن يؤدي فعلًا ما، قول لو نظرنا إليه على انفراد وجدناه متفقًا تمام الاتفاق مع مذهب هذا الكتاب؛ فالحكم — من حيث هو تقديرٌ — يجوز دخوله حتى في تكوين الأسئلة التي نوجهها إلى شخص آخر؛ إذ السؤال الذي ينبغي توجيهه إلى المسئول هو على وجه الدقة شيء بعيد عن أن يكون أمرًا واضحًا بذاته؛ ومع ذلك فالقول بأن السؤال بحكم طبيعته نفسها شيء نوجهه إلى شخص آخر، إنما هو قول يتجاهل حقيقة أساسية وهي أن الأسئلة توجه إلى موضوعات الوجود الخارجي؛ فالبحث العلمي يمكن اعتباره التماسًا ﻟ «معلومات» لكن الطبيعة لا تناولنا المعلومات المطلوبة معدة جاهزة، فالأمر يقتضينا حكمًا نقرر به أي الأسئلة يجب أن نلقيها على الطبيعة لتجيب عنها، ما دام الأمر أمر صياغة لأفضل طرق الملاحظة وإجراء التجارب والتعليل العقلي.
وتضع العبارة الأخيرة مناقشتنا وجهًا لوجه مع المشكلة الخاصة بعلاقة البحث بأحكام التجربة العملية؛ وذلك لأن تحديدنا للأسئلة التي نلقيها وللطريقة التي نلقيها بها، هو أمر يشتمل على إصدارنا لأحكام نقرر بها ماذا ينبغي لنا أن نصنع لكي نظفر بالمادة الضرورية والكافية — سواء أكانت من مادة الواقع أم من مادة الفكر — لفض الموقف المضطرب؛ وما عليك إلا أن تتذكر إجراءات المحامي أو الطبيب في أية حالة معروضة، لتدرك كيف أن مشكلته من أساسها إنما هي مشكلة صياغته للأسئلة الصحيحة، ومعيار «الصحة» هذا هو قدرة السؤال على استخراج المادة التي تتصل بما يكون الباحث بصدده، والتي تكون فعالة الأثر في فض الموقف الذي كان قد استدعى القيام بالبحث.
-
(٤)
الروية؛ تشتمل كل الأمثلة التي بسطناها للبحث على روية؛ غير أن للروية — الروية بمعناها المبرز لطبيعتها — جانبًا يبلغ من الأهمية حدًّا يجعلنا نفضِّل أن تعالج موضوع الروية تحت عنوان مستقل؛ فالروية بمعناها الصحيح تبدأ بتصور سبل النشاط الممكنة ثم تمحيصها والنظر في النتائج التي تترتب على كل منها؛ وإن هذه الحقيقة لتلقي ضوءًا على الطبيعة الأدائية التي تتسم بها القضايا الشرطية بنوعيها المنفصل والمتصل؛٣ والتصنيفات التي نصنف بها أنواع النبات والحيوان أمثلةٌ على نطاق واسع توضح القضايا الشرطية المنفصلة؛ ولقد كانت تعد فيما مضى علامة دالة على أقصى ما يمكن للعلم أن يبلغه، وهي نظرة جاءت نتيجة لازمة عن الفكرة القديمة القائلة بوجود أنواع ثابتة؛ أما اليوم فهذه التصنيفات إنما تؤخذ على أنها وسيلة مفيدة نهتدي بها في توجيه البحث، فهي ليست بذات قيمة إلا من حيث أداؤها لهذه المهمة؛ ذلك أن أي نظام نصطنعه في تصنيف النبات والحيوان، إنما ننظر إليه على أنه نظام مرنٌ وقابل للمراجعة المستمرة، لكن مؤلفات المنطق — لسوء الحظ — تدأب على جعل القضايا الشرطية المنفصلة فكرة قائمة بذاتها؛ ونتيجةً لذلك تراها تستخدم في توضيحها لتلك القضايا المنفصلة، حالات من قضايا الانفصال كانت قد جاءت نتيجة لبحث سابق، دون أن تشير إلى تلك البحوث السابقة التي كانت هي وسيلة إنتاجها، ودون أن تشير كذلك إلى البحوث المستقبلة التي ستدخل فيها تلك القضايا الانفصالية عاملًا من عواملها؛ مع أن التصنيفات المشتملة على قضايا شرطية انفصالية في أعمال العلم الجارية فعلًا، هي حيلٌ وسلية صرفة، وهي لا تشذ عن كونها كذلك أبدًا، حتى ليزول عنها كل استقلال يجعلها حقيقة قائمة بذاتها؛ ولا نكاد نبالغ إذا قلنا إن الباحث العلمي إذا ما حبس نفسه داخل تصنيف معين للنبات أو للحيوان، إنما يعرض نفسه إلى ما يقرب من ازدراء رجال العلم العاملين في الميادين العلمية المتقدمة.
فللقضايا الشرطية المنفصلة علاقة تربطها بالحكم في الأمور العملية، وذلك لأن تدبرنا لأمور السياسة التي يجري عليها سلوكنا، يقتضي: (أ) أن نتصور الاحتمالات الممكنة وأن نمعن فيها النظر الفاحص، (ب) وأن تكون تلك الاحتمالات الممكنة كلها مما يتيح لنا أن نقارنها بعضها ببعض مقارنة ميسورة؛ مثال ذلك رجل وقعتْ له ملكية مبلغ جسيم من المال، فيأخذ في الروية متدبرًا ماذا عساه صانعًا به؛ لكن رويته تلك لا تنتهي به إلى نتيجة ما لم تتخذ صورة تنشئ بها الطرائق الممكنة كلها لاستخدام الأموال التي هي رهينة بتصرف مالكها؛ أيودعها مصارف الادخار ليستفيد بربحها؟ أيستغلها في سندات أو في أسهم، أم يشتري بها عقارًا؟ أم هل ينفقها في رحلات، أم في شراء كتب أو أجهزة … إلخ؟ وهكذا ترى الموقف المشكل قد أصبح محددًا نسبيًّا بتحليله إلى بدائل الاحتمالات الممكنة، كل بديل منها يتمثل في قضية شرطية منفصلة تجيء واحدة من مجموعة تضمها مع شتى مثيلاتها.
وواضح في هذا المثل أن كل قضية قد تكونت لتكون وسيلة نحدد بها ماذا عسانا أن نصنع، وأن التحديد الذي يَنْتُجُ لنا من ذلك وسيلة نقيم بها في الوجود الفعلي موقفًا معينًا ننتهي إليه؛ وإنك لترى الخبراء في كل ميدان خاص سرعان ما يرسمون مجموعة البدائل الممكنة، فتكون هذه البدائل بالنسبة إلى الحالات الجديدة مادة معدةً، على نحو ما تكون لدى الصانع مجموعة العدد المتصلة بميدان صناعته؛ ففي هذه الحالات ينصرف الحكم إلى مسألة اختيار ما يصلح من مجموعة البدائل الممكن استخدامها، أكثر مما ينصرف إلى تكوين القضايا الشرطية المنفصلة؛ ومع ذلك فهذه القضايا المنفصلة تظل بمثابة الأدوات؛ فإذا ما جمدنا هذه الأدوات بحيث نجعلها شيئًا نهائيًّا ومكتملًا، وضعنا بذلك قيودًا على المراحل المستقبلة من البحث، لأننا عندئذٍ نخضع النتيجة المنتظرة لفكرة سبق تكوينها، نزعم لها أنها فوق متناول السؤال والتمحيص.
وحسبنا في هذا الموضع أن نشير إشارة عابرة إلى العلاقة التي تربط القضايا الشرطية المتصلة بالقضايا الشرطية المنفصلة؛ وذلك أن معنى كل بديل من بدائل ضروب الفعل الممكنة، يتألف من النتائج التي تنجم عن اصطناعنا لذلك البديل في طريق سلوكنا؛ ويتم تطوير هذا المعنى خلال خطوات من التدليل العقلي تتخذ الصورة الآتية: «إذا اتبعنا في سلوكنا هذا البديل المعين من ضروب الفعل، إذن فينتظر للنتائج الفلانية والفلانية أن تنشأ عنه» وبمقارنة هذه النتائج المنتزعة بالنتائج التي تلزم عن قضايا أخرى شرطية متصلة، يتهيأ لنا الأساس الذي يتيح لنا مبدئيًّا أن نرفض ما نرفضه وأن نقبل ما نقبله؛ ولئن كنا في مجال التجربة العملية لا نمضي في العادة شوطًا بعيدًا في تتبع القضايا الشرطية المتصلة التي تتخذ صورة «إذا … إذن …» إلا أننا من حيث الحكم الختامي الجائز قبوله عما ينبغي لنا أن نفعله، لا بد لنا أن نستوعب البدائل الممكنة كافة بقضايا شرطية منفصلة، ولا بد كذلك أن نستوفي النتائج كلها التي تلزم عن كل قضية منفصلة من مجموعة القضايا التي نستوعب بها الممكنات جميعًا، متخذين من كل قضية منها فرضًا نرتب عليه نتائجه.
-
(٥)
التقويم؛ لكلمة «قيمة» من ازدواج المعنى — سواء استعملت اسمًا أو استعمل فعلها يقوِّم — ما قد استدعى التنويه إليه في مناسبات كثيرة؛ فالفعل في أحد معانيه، يعني «يستمتع»، والمتعة الناتجة تسمى على سبيل المجاز قيمة؛ وليس ثمة تفكير ولا بحث في الحالات التي يتم فيها استمتاعٌ ما دامت هذه الحالات تحدث حدوثًا تلقائيًّا؛ غير أن واقعة الاستمتاع ذاتها يمكن تسجيلها ونقلها إلى الآخرين عن طريق اللغة؛ ومن ثَم يتخذ التعبير اللغوي المتكونُ نتيجةً لذلك التسجيل، الصورة الخارجية لقضية، لكن ما لم تنشأ عن ذلك مسألة، فسيظل الأمر تفاهمًا اجتماعيًّا أكثر مما يصبح قضية؛ إذ هو لا يصبح قضية إلا إذا تولد عن ذلك التفاهم بوساطة العبارة اللغوية عامل نستخدمه في فض موقف جديد؛ فإذا ما أثير سؤال عما إذا كان الموضوع الراهن جديرًا بالاستمتاع، أعني إذا ما أثير سؤال عما إذا كان هنالك مسوغات كافية تدعو إلى التمتع بما هو كائن، نشأ عندئذٍ موقف مشكل يقتضي بحثًا وحكمًا؛ ففي ظروف كهذه، يكون تقويمنا للشيء معناه أن نزنه ونقدر أهميته؛ فلأن نقوِّم الشيء بقيمته عمليةٌ عقليةٌ ما في ذلك ريب؛ لأننا مضطرون إلى التماس المبررات والأسس على هذا النحو أو ذاك، ثم إلى صياغتها في صورة تبرزها.
أما أن هنالك من المواقف ما ينشأ خاصًّا بأشخاص كانوا منا ذات يوم موضع حب وإعجاب، وخاصًّا بأشياء كنا ذات يوم نغدق عليها تقديرنا (وهذا شيء يختلف عن أن يكون منا موضع تقويم لقدرها) فأمر لا نزاع فيه، كما أنه أمر له دلالته فيما نحن الآن بصدد الحديث عنه؛ وذلك لأن قيام هذه المواقف دليل على أننا لا نقوِّم إلا حيث تكون قيمة الشيء موضعًا لإشكال؛ وأعني بقيمة الشيء هذا ما يمكن أن يكون مدار استمتاعنا؛ فالقضايا في هذه الحالة تكون جد مختلفة في صفتها المنطقية عن الجمل الشبيهة بها لفظًا والتي لا تعدو أن تسجل وأن تنقل إلى الآخرين ما قد سجلته من أن متعة معينة أو إعجابًا معينًا أو تقديرًا معينًا قد وقع فعلًا في لحظة ماضية؛ نعم إن «القضايا» من هذا النوع الثاني تسجل ما قد حدث؛ ولكنها إذا كانت ذات صفة منطقية إطلاقًا، فذلك لا يكون إلا حين تتخذ تلك القضايا موضوع بحث نسير به بغية الوصول إلى قرار فيما إذا كان هنالك ما يسوغها عندما جعلناها مدار استمتاعنا أو ما إذا كان هنالك ما يسوغها الآن في موقفها الراهن؛ فهل ينبغي لنا الآن أن نتخذ إزاءها هذا الموقف نفسه؛ وإذا فعلنا، أفلا يجوز أن نندم على ذلك فيما بعد؟
وأمثال هذه الأسئلة تنشأ على درجات فسيحة من التفاوت، وفي حالات شديدة التباين؛ فمن حالات يتناول فيها الطاعم لونًا من الطعام يعرف من خبرته الماضية أنه مما يجدر أن يستمتع به فورًا، إلى حالات تنهض فيها معضلات خلقية خطيرة؛ ولا سبيل إلى الإجابة عن الأسئلة، أي إلى إزالة الشكوك التي تكتنف الأمور القائمة، إلا باستعراض النتائج الفعلية التي يجوز لها أن تقع إذا ما اضطلعنا بتقدير أو بإعجاب أو باستمتاع؛ لأن مواقفنا من الأمور وتقديرنا لها … إلخ، هي مواقف فاعلة؛ أعني أنها طرائق سلوك تترتب عليها النتائج؛ وليس من سبيل إلى توقع النتائج قبل حدوثها توقعًا قائمًا على أساس، إلا بالنظر إليها من حيث هي نتائج تتولد عن ظروف فعالة التأثير؛ وما استمتاعنا بشيء ما إلا واحد من تلك الظروف الفعالة، فهو لا يولد النتائج — كما هي الحال في تناول الطعام للطاعم الذي يستمتع به في غير تردد — إلا بعد تفاعل مع غيره من ظروف الوجود الخارجي؛ وإذن فلا بد لهذه الظروف الأخرى من أن توضع موضع النظر وهي على انفراد؛ ولا سبيل إلى تقدير نتائجها المحتملة إلا على أساس ما قد حدث في حالات شبيهة بها مما وقع في الماضي، إما في الخبرة الشخصية الماضية لصاحب الشأن، أو في الخبرة المدوَّنة مما قد وقع لسواه؛ وليست تدل الظروف القائمة من ظاهرها المجرد وحده على ماذا عسى أن يتولد عنها من نتائج، فلزام علينا أن نتقصى ما في الأمر من علاقات، والأغلب أن نتقصى من ذلك علاقة السبب بمسببه؛ وبعدئذٍ نصوغ تلك العلاقات في صورة قضايا مجردة شاملة ننشئها بالفكر، أو نصوغها في صورة قواعد ومبادئ وقوانين؛ لكن تدخل في الأمر دائمًا مسألة إمكان انطباق تلك القواعد والمبادئ التي حصَّلناها (مهما يكن تحقيقنا لها في الماضي) على الموقف الخاص الذي نكون بصدده؛ ولا مفر لنا من اختيار بعضها دون بعضها الآخر؛ وإذن فلكي نحصل على حكم أخير قائم على أساس، فلا بد لنا كذلك من تقويم أو تقدير تلك المبادئ.
وعلى ذلك فالقضية القيمية لا تقتصر على مجرد الإخبار، سواء أكان المخبر عنه أمور الواقع الخارجي أم أفكارًا تدور في أذهاننا؛ فلقد تكون الوقائع الخارجية مما لا يتعلق به شك؛ كأن أقول لنفسي إنني قد تمتعت يقينًا بهذا الشيء فيما مضى، وسأجد فيه متعة مباشرة الآن؛ وكذلك قد تكون المبادئ العامة مما يجوز قبوله معيارًا نحكم على غراره؛ لكن لا الوقائع الخارجية ولا القواعد المتخذة معايير للحكم — كما نجدهما في موقف راهن — حاسمة بالضرورة في تقويمنا لما نحن بصدده؛ وإنما هي — على التوالي — وسائل مادية ووسائل إجرائية؛ وصلتها بالموقف الراهن، وأهميتها بالنسبة له، هما نفس الأمر الذي لا بد من أن نقضي فيه بحكم عن طريق بحث نؤديه، قبل أن يكون لنا تقدير قيميٌّ نقيمه على أساس سليم.
وواضح أن أمثال هذه الأحكام القيمية هي من قبيل الأحكام التي نصدرها على الشئون العملية؛ أو إن شئت عبارة أدق، فقل إن أحكامنا كافة في الشئون العملية تقويمات، لأنها تهتم بتقرير ما ينبغي فعله على أساس النتائج المقدر لها أن تنجم عن الظروف القائمة، لأن هذه الظروف — ما دامت من عناصر الوجود الفعلي — سيكون لها أثر فعَّال على أي حال؛ وكلما زدنا من تأكيد الحقيقة عن الاستمتاع المباشر وعن ميلنا وإعجابنا … إلخ، بأنها حالات هي في ذاتها بحكم طبيعتها انفعالية نزوعية، ازداد الأمر وضوحًا بأنها ضروب من الفعل (أو ضروب من التفاعل)؛ ومن ثَم فالقرار الذي نقرره عما إذا كان الأجدر بنا أن نضطلع أو أن ننغمس في حالة من تلك الحالات، عندما نكون إزاء موقف معين، هو حكم نصدره في أمر عملي، أي نصدره عما ينبغي لنا أن نفعله.
وعلى أهمية النقطة المذكورة بالنسبة إلى النظرية المنطقية، فهناك نقطة أخرى أكثر منها أهمية، وهي أن هذه الأحكام التقويمية (كما أشرنا إشارة واضحة في مناقشتنا السالفة لموضوع الحكم) تدخل في تكوين الأحكام النهائية جميعًا؛ فليس هنالك من بحث يخلو من أحكام منصبة على أمور عملية؛ فالباحث العلميُّ مضطر أن يواصل تقديره لقيمة المعلومات التي جمعها هو نفسه من مشاهداته ومن النتائج التي وصل إليها الآخرون؛ فلزام عليه أن يقدر أثرها على ما عساه أن يتناول من مشكلات، وما عساه أن يجريه من ضروب الملاحظة والتجارب والحساب؛ فهو إن يكن «يعرف» — بمعنى أنه يتصور بفهمه — مجموعات من الأفكار العقلية، بما في ذلك القوانين، إلا أنه لا بد أن يزن صلتها وأهميتها من حيث هي أمور تمس البحث الخاص الذي يضطلع به؛ ولا يبعد أن يكون أعظم مصادر العبث النسبي — أو على الأقل العقم — الذي يتسم به ذلك الجزء من المؤلفات المنطقية، الذي يتناول المنهج العلمي، هو تقصيره في ربط المادة التي يبسطها بالإجراءات العملية التي كانت هي مراحل الوصول إليها، وتقصيره كذلك في ربط تلك المادة التي يبسطها بالإجراءات العملية المستقبلة التي من شأن تلك المادة أن توحي بها وتشير إليها وتفيد في توجيهها.
-
(٦)
التقدير؛ لقد أبرزنا حقيقة كون الحكم القيمي ليس هو نفسه العبارة التي نقرر بها أن الشخص الفلاني يستثير منا الإعجاب والحب، أو أن الحادثة الفلانية أو الشيء الفلاني كان أو ما يزال موضع استمتاعنا؛ ذلك لأن أمثال هذه «القضايا» لا تتصف بالصدق إلا بالمعنى الخلقي لهذه الصفة، أعني أن الصدق عندئذٍ يكون هو الصدق الذي يضاد الكذب المتعمد؛ ومع ذلك فيجوز لأمثال هذه القضايا أن تصبح مقومات لحكم قيمي، أي تصبح مقومات لتقويمنا شيئًا ما؛ وهي إنما تكتسب هذه الصفة حين تُستخدم وسائل مادية نحدد بها ما إذا كان شخص معين أو فعل معين يحتم علينا أن نعجب به، أو ما إذا كان شيء معين لا بد لنا من الاستمتاع به؛ فعندما نستبدل بعبارة «أحب هذه الصورة» قضية تقول «هذه الصورة جميلة» عندئذٍ ينتقل الأمر إلى الصورة من حيث هي شيء؛ ولكي تكون هذه القضية الأخيرة صحيحة، لا بد أن تقوم على أساس خصائص يمكن أن نراها وأن نحققها في الصورة من حيث هي شيء؛ فالقضية تعتمد — من جهة — على تمييزنا لخصائص يمكن مشاهدتها، ومن جهة أخرى على معانٍ ذهنية يتألف منها — حين نجعلها صريحة — تعريف الجمال؛ ولا تعارض بين هذه الجمل التي نقرر بها ما نقرره عن الصورة وبين وجود خبرة جمالية مباشرة ليست تُصاغ في أحكام، حتى لينبغي للحكم الجمالي — إذا أردنا له أن يكون حكمًا بمعناه الصحيح — أن يستمد جذوره من مثل هذه الخبرة الجمالية المباشرة؛ غير أن الخبرة المباشرة لا يعبر عنها بالعبارة التي نقول بها «إني أحبها»؛ إذ التعبير الطبيعي عنها هو أقرب إلى أن يكون متمثلًا في وقفة المشاهد إزاءها، أو في صيحة إعجاب ينطق بها.
ولملاحظاتنا الأخيرة تأثيرها في موضوع التقدير؛ إذ إن قوام التقدير ليس هو مجرد المتعة وحدها، بل المتعة من حيث هي ذروة تنتهي إليها عمليات واستجابات سابقة عليها؛ وهذه الحالات والعمليات السابقة إنما تتضمن ملاحظة يصاحبها التفكير العقلي، في طبيعتها شيء من التحليل ومن التركيب، من تمييز العلاقات بعضها من بعض، ومن تركيب هذه العلاقات في بناء واحد يضمها؛ فالتقدير بمعناه الصحيح، إنما ينصب على موضوع يمثل شيئًا؛ غير أنه لا يمثل شيئًا يقع خارج موضوع التقدير، بل الشيء الذي هو موضوع التقدير يمثل ذلك الذي كان مؤديًا إليه، من حيث هو خاتمة بلغنا عندها ذروة السير أو حققنا بها الغاية المقصودة؛ وهكذا يختلف التقدير اختلافًا جوهريًّا عن حالات الاستمتاع العابرة، التي تجيء كيفما اتفق.
ونحن نشير إلى الأشياء التي هي خاتمة السير بكلمات مثل القمة والذروة ونهاية الصعود؛ فكل شيء أو حادثة تجيز لنا أن نسميها بأسماء كهذه، إنما يكون في طبيعتها الداخلية ما يشير إلى ما قد سبقها من خطوات؛ فالكلمات المذكورة دالة على أن ما قد سبق الخاتمة، لم تكن أسبقيته مجرد أسبقية في الترتيب الزمني، بل إن السابق قد سبق باعتباره خطوات من شأنها أن تؤدي إلى نتيجة تتولد عنها، وهذه النتيجة هي القمة؛ فحيثما نشأت حالة من التقدير، كانت هناك الخاصية الصعودية الناتجة عن رابطة داخلية بين الموضوع المقدَّر وظروفه العابرة؛ وليس نقيض هذه الحالة هو عدم الحب أو عدم التمتع، بل هو عدم التقدير، أعني أنه هو استخفاف النتيجة أو الحاصل بالقياس إلى الظروف والجهود التي كانت النتيجة نتيجته أو الحاصل حصيلته؛ فقد يتناول إنسان شربة ماء تناولًا يوشك أن يكون آليًّا لكي يطفئ ظمأه؛ لكنه إن كان مرتحلًا في أرض يباب، ثم كوَّن لنفسه فكرة أين عساه أن يجد الماء، حتى إذا ما بلغ المكان المعين أطفأ ظمأه، فإن خبرته عندئذٍ تكون لها الخاصية الصعودية، فهو عندئذٍ يقدر الماء تقديرًا لا يقدره به عندما لا يحتاج منه الأمر إلا أن يدير صنبورًا وفي يده كوب يضعه في مجرى الماء الذي يتدفق من الصنبور؛ فخبرته لها صفة كونها تمثل شيئًا ما، وذلك أنها خاتمة السير أو ذروة الصعود.
فعنصر التقويم — تبعًا لذلك — يدخل في التقدير؛ لأن الأشياء المقدَّرة ليست نهايات بمعنى أنها مجرد خاتمات للسير، بل هي نهايات بمعنى أنها تحقق غايات مقصودة؛ أي إنها إشباعات بالمعنى الحرفي الذي يجعل كلمة الإشباع تعني مَلءْ ما قد كان ناقصًا؛ وبناءً على ذلك تكون أحكام التقدير حيثما يطرأ على موضوع ما ذلك التحول وإعادة البناء اللذان من شأنهما أن ينتهيا إلى كلٍّ كامل فيه إشباع؛ وانظر إلى النص الآتي باعتباره مثلًا يوضح هذه النقطة: «إن النظرية الكلاسيكية عن الديناميكا الحرارية نظرية متسقة الأجزاء وغاية في «رشاقة التكوين»؛ وإن الإنسان ليميل إلى الظن بأنه ليس في حدود الإمكان أن يدخل عليها تعديل لا يقحم فيها جزافًا ما ليس منها، فيُفسد جمالها إفسادًا تامًّا؛ لكنه ظن خاطئ إذ قد بلغت ميكانيكا الكوانتم اليوم صورة تمكنها من القيام على أساس من قوانين عامة، وعلى الرغم من أنها لم تبلغ كمالها بعد، إلا أنها قد جاوزت النظرية الكلاسيكية رشاقة وإمتاعًا في حدود المسائل التي تعالجها».٤فلفظتا جمال ورشاقة تدلان دلالة واضحة على أن ثمة في هذه الحالة تقديرًا؛ فقليل من التحليل لهذه الفقرة المذكورة يبين أن النظرية رشيقة وذات جمال، لأن مادتها تمثل ترتيبًا متناغمًا بلغ ذروته، وأعني به ترتيبًا لمختلف الحقائق الخارجية والأفكار العقلية؛ فنشاطنا العقلي، الذي هو العلم، له جوانبه التقديرية بمعناها الصحيح، شأنه في ذلك شأن الفنون الجميلة سواءً بسواء؛ وتنشأ هذه الجوانب كلما بلغ البحث خاتمة تحقق ما كانت تبتغيه أوجه النشاط والظروف التي انتهت إليها؛ وبغير هذه الجوانب التقديرية — التي تبلغ حد الغزارة أحيانًا — لا يتاح لأي باحث أن يحس في خبرته علامة تنبئه بأن بحثه قد بلغ ختامه.
ومع ذلك فالأحكام التقديرية لا تقتصر على الخاتمة النهائية؛ فكل بحث مركب يتميز بسلسلة من مراحل لكل واحدة منها اكتمال نسبي؛ لأن البحوث المركبة تتضمن مجموعة من المسائل الفرعية، وحل كل مسألة منها هو فض لحالة من حالات التوتر؛ وكل حل من هذه الحلول هو صعود بمادة البحث صعودًا يتناسب تناسبًا مباشرًا مع كثرة الظروف المتضاربة المتعارضة وتنوعها، أعني الظروف التي تنضم معًا في رباط يوحِّدها؛ وهذه الأحكام التي تكتمل بها كل مرحلة، والتي لا تختلف في نوعها عن الأحكام التي يُقال عنها إنها أحكام جمالية، إنما تقع في تسلسل من المعالم التي تبين مراحل التقدم في أي مشروع؛ إذ هي علامات دالة على ما قد تم لمادة الواقع من تماسك، وما قد تم لمادة الفكر من اتساق؛ فهي في الحق أحكام لها من الأهمية بكونها تعمل عمل المفاتيح وترسم وجهة السير، لها من هذه الأهمية ما يجعلنا نسارع إلى تقبل ما يصاحبها من انسجام على أنه شهادة دالة على صواب مادة موضوعها؛٥ وهي غلطة ترجع إلى عزلنا لشعورنا باتساق تلك القضايا وملاءمتها بعضها لبعض، عن الإجراءات العملية التي كانت سببًا في ضم المادة المتباينة ضمًّا يجعل منها وحدة منسقة؛ وهكذا نحوِّل ما يقع لنا في خبرتنا المباشرة من شعور بالملاءمة — وهو شعور يكون لنا بمثابة الدليل الهادي في توجيهنا للبحث — هكذا نحول هذه الخبرة الشعورية إلى معيار نقيس به الصدق الموضوعي.وتشخيص شعورنا على هذا النحو قد كان له أثره في الصور الثلاث التي هي أوسع الصور التقديرية تعميمًا، فأنتج مدركات «الخير» و«الحق» و«الجمال»، جاعلًا إياها مطلقات وجودية؛ مع أن الأساس الحقيقي لهذه المطلقات هو تقديرنا لغايات متعينة جاءت بمثابة الذُّرَى التي ينتهي عندها الصعود؛ ففي خبراتنا العقلية والجمالية والخلقية، يحدث أن يتحقق الاكتمال الموضوعي لحالات معينة من ظروف وجودية كانت خليطًا أول الأمر، أقول إن ذلك الاكتمال الموضوعي يتحقق على صورة من استقامة الاتساق تخلع على الموقف الختامي شيئًا من البهاء؛ فعندئذٍ يصدر عنا حكم بأن «هذا حق، وجميل، وخير» في شيء من التحمس؛ وأخيرًا تقام التعميمات على أساس عدد من أمثال هذه الحالات الفردية التي يتحقق لنا فيها ما نبتغيه؛ فيصبح كون الأمر حقًّا أو جميلًا أو خيرًا، كأنما هو في نظرنا صفة مشتركة لشتى الموضوعات على الرغم مما بين هذه الموضوعات من اختلافات جسيمة في مقوماتها الحقيقية؛ مع أن هذه الصفات لا تعني شيئًا سوى دلالتها على أن موضوعات معينة تتميز تميزًا واضحًا بكونها اكتمالات بلغت بها ذروة الطريق ضروبٌ معينة من مواقف كانت لا متعينة بادئ ذي بدء، ولقد بلغت تلك المواقف اكتمالها ذاك بفضل إجراءات ملائمة أجريت عليها؛ وبعبارة أخرى، فكلماته «الخير» و«الحق» و«الجمال» أسماء مجردة نسمي بها خصائص تختص بها أنواع ثلاثةٌ من غايات كنا قد بلغناها بالفعل وكانت لنا بمثابة القمم التي ينتهي عندها طريق الصعود.
أما النظرية القديمة فقد حولت الغايات التي حققناها بالفعل إلى غايات في ذاتها؛ وذلك بتجاهلها للظروف والإجراءات العينية، التي كانت هي وسيلتنا إلى تحقيق ما قد حققناه؛ إذ عزلت الخصائص التي كانت تميز مواد البحث بسبب كونها قد انتهت إلى حلول ناجحة لمسائل عرضت لنا فيما قمنا به من بحث عقلي، ومن تكوين فني، ومن سلوك خلقي، عزلتْ هذه الخصائص عن ظروفها التي أكسبتها منزلتها ودلالتها؛ وما دامت قد عزلت على هذا النحو، كان من الضروري أن تتجسد في كيانات مستقلة؛ فظن بها وهي في حالة انعزالها ذاك عن الوسائل التي كانت سبلنا إلى بلوغ ما بلغناه من نتائج، ظن بها أنها مثلٌ عليا أو معايير مفروضة من الخارج على نفس إجراءات البحث ونفس الخلق الفني والجهد الخلقي، التي لم تكن تلك المثل والمعايير في حقيقة الأمر إلا تعميمات استخلصت منها؛ وإن مثل هذا التجسيد ليحدث دائمًا كلما جعلنا من الغايات العينية بما لها من طبيعة الخواتم التي نختم بها طرق السير، «غايات في ذاتها».
نعم إن أفكارنا العامة المجردة عن الحق والجمال والخير لها قيمة حقيقية في البحث العلمي والخلق الفني والسلوك الخلقي؛ إذ إن لها — كما للمثل العليا الحقيقية كافة — قوة تهدينا وتقيم لنا الحدود؛ إلا أنها لكي تؤدي وظيفتها الحقيقية، لا بد لنا أن ننظر إليها على أنها مذكرات تذكرنا بالظروف والإجراءات العينية التي ينبغي لنا أن نستوفيها في الحالات التي ترد في حياتنا الفعلية؛ ونحن إذ نستخدمها من حيث هي أدوات معممة، فإننا نجد معانيها متمثلة في انتفاعنا بها فيما يستجد من حالات، لكنها في الوقت نفسه تزداد وضوحًا بهذا الانتفاع كما تتعرض للتحوير بفضله؛ مثال ذلك ما قد طرأ من تغير على المعنى المجرد لكلمة الحق، أي المعنى المجرد لكون الشيء حقًّا، وهو تغير جاء نتيجة تطور مناهج البحث التجريبي.
وختامًا فإننا سنعود إلى الحديث عن المفارقة التي تبدو كأنما هي ملازمة لفكرة الأحكام العملية، والتي قدمناها فيما سلف؛ لكن بغض النظر عن هذه المفارقة، فليس هنالك إلا بديلان اثنان في مسألة الصفة العقلية التي ننعت بها عملية التروِّي؛ فإما أن نعترف بأن القضايا التحسسية التي نصوغها ونحن في مراحل السير الوسطى، حين نكون بصدد الروِّية في أي السبل نختار، أقول إما أن نعترف بأن تلك القضايا ذات تأثير حاسم على نفس مادة الموضوع الذي تكونت تلك القضايا عنه، وإلا فلا مناص من أن نسلب عنها كل صفة عقلية وكل أثر عقلي؛ فإذا نحن أخذنا بالتفسير الأول قامت المفارقة الظاهرية التي أشرنا إليها؛ وفضلًا عن ذلك فإن هذه الفكرة لا توصف بالمفارقة إلا إذا نظرنا إليها من وجهة نظر معدة مقدمًا نتصور بها طبيعة القضايا، وأعني بها وجهة النظر التي تجعل القضايا إخبارية فقط، وتجعلها في حالتها الإخبارية هذه كيانات كاملة التكوين ونهايات يقف عندها السير؛ لكن المسألة تتخذ شكلًا جد مختلف لو أننا اعترفنا — ولو على سبيل الفرض — بأن ذلك الذي تخبر به القضايا، إنْ هو إلا حاجتنا إلى أداء عمليات معينة، تقتضيها الحكمة، لتكون لنا وسيلة تنتهي بنا إلى موضوع ختامي يمكننا أن نثبته مرتكزين في ذلك على أساس سليم؛ فعلى هذا الأساس تصبح الفكرة القائلة بأن القضايا عوامل في تشكيل مادة الموضوع ذاتها التي جاءت تلك القضايا لتتحدث عنها، أقول إن هذه الفكرة تصبح هي الفكرة التي نتوقعها، بدل أن نعدَّها فكرة تشتمل على مفارقة.
وربما ازداد الأمر وضوحًا إذا لاحظنا في هذا الصدد أن كلمة «عن» (في قولنا عن قضية ما إنها عن كذا وكذا) يكتنفها شيء من الغموض؛ فمن جهة يُقال عن قضية إنها عن شيء ما لا يظهر في القضية باعتباره حدًّا من حدودها؛ ومن جهة أخرى يُقال عن القضية إنها عن أحد حدودها، وهو عادةً الحد الذي يكون من الجملة موضوعها النحوي، أعني الجملة التي جاءت لتعبر عما نحن بصدده من إثبات أو نفي؛ مثال ذلك رجل يبحث في موضوع يتصل بمسألة خاصة بالعلاقات الخارجية يحيط بها الغموض، فبحثه على وجه الجملة يكون عن ذلك الموقف الغامض؛ لكنه وهو في غضون البحث، تراه ينشئ قضايا عن حالات الواقع وعن أحكام القانون الدولي، فتكون هذه الوقائع والأحكام هي المقومات الصريحة التي منها تتألف قضاياه؛ غير أن هذه القضايا هي قضايا عن (أي إنها تشير إلى) موضوعات ليست بذاتها مقومًا من مقومات أي من تلك القضايا؛ فهدفها وقوتها عندئذٍ يقعان في ذلك الموضوع الذي قيلت هي عنه، أي إنهما يقعان في الموقف الذي جاءت تلك القضايا لتعمل على فضه؛ وهو موقف لا يظهر حدًّا في أية قضية منها.
والنتيجة التي نخلص إليها هي أن التقويمات من حيث هي أحكام نصدرها عن الأمور العملية، ليست نوعًا خاصًّا من الحكم بمعنى أن تكون أحكامًا نقابل بها أنواعًا أخرى من الحكم؛ بل هي جانب يدخل في طبيعة الحكم ذاته؛ غير أنه في بعض الحالات، قد تكون المشكلة المباشرة منصبة رأسًا على تقويم الأشياء الكائنة في الوجود الخارجي من حيث هي وسائل، موجبة أو سالبة (أي مُعينة أو عائقة)، ومن ثَم تكون منصبة رأسًا على تقويم الأهمية النسبية للنتائج المحتملة التي تعرض نفسها باعتبارها غايات قريبة، فعندئذٍ يكون للجانب التقويمي الأولوية على سواه؛ وفي هذه الحالة تكون ثمة أحكام مما يجوز — بمعنى نسبي — أن تسمى أحكامًا قيمية تمييزًا لها من موضوعات الأحكام الأخرى التي يكون فيها الجانب القيمي ثانويًّا؛ بيد أنه لما كان اختيارنا لكائنات من الوجود الخارجي نتخذ منها موضوعات لأحكامنا، واختيارنا لأفكار معينة نتخذ منها ما يحتمل أن يكون محمولات لتلك الموضوعات (أي ما يحتمل أن يكون غايات قريبة) أقول إنه لما كان اختيارنا لهذه وتلك أمرًا يشترك بالضرورة في كل حكم، كانت عملية التقويم جزءًا من طبيعة الحكم من حيث هو حكم؛ وكلما ازداد الموقف الذي نحن إزاءه إشكالًا، وكلما ازداد البحث الذي لا بد لنا من الاشتغال به دقةً وشمولًا، ازداد الجانب التقويمي بروزًا؛ وكون الحكم التقويمي هو من قبيل الأحكام التي تُقال عن الأمور العملية، أمر معترف به ضمنًا في البحث العلمي، وذلك في ضرورة إجراء التجارب لتعيين المعطيات (التي نجعلها موضوعات لأبحاثنا) والانتفاع بالأفكار والمدركات العقلية — بما في ذلك المبادئ والقوانين — لنتخذ منها فروضًا تهدينا سواء السبيل؛ فهذا الفصل — من حيث الجوهر — ليس إلا مطالبة منا بأن تُصاغ النظرية المنطقية صياغة تساير ما هو حادث بالفعل في الأعمال العلمية، ونحن لا نجد في هذه الأعمال العلمية من الاتجاهات القائمة على أساس سليم، إلا ما كان مرتكزًا على إجراءات عملية نجريها ونؤديها.