الخاتمة

على مدار الشهور التي استغرقتُها في الكتابة عن صوت المرأة، عُدْتُ مرارًا وتكرارًا إلى جَدتي.

عبَّرتْ عن رأيها، وازدرائها للطبقات الثرية، وانزعاجها من أن المعرفة الأكاديمية تُعتبر أكثر أهميةً من المنطق السليم، وعبَّرت كذلك عن احتقارها العميق للإمبراطورية البريطانية.

عندما حضرتُ الليلة الختامية لسلسلة الموسيقى الكلاسيكية في قاعة رويال ألبرت، كرهتْ فكرة أن أُنشد الأغنية الوطنية «أرض الأمل والمجد» (لاند أوف هوب آند جلوري).

كان كل ما قالته: «كل هذا كلام فارغ»، لكنَّ ثمة غضبًا مكتومًا آتيًا من شعور طبقة النخبة البريطانية بأنهم مُتميزون. لقد كانت شُجاعة في الحرب العالمية الثانية عندما أسقط الألمان قنابلهم على منازل الطبقة العامِلة مثل منزلها، ولعنت القاذفات لعنًا شديدًا: وهذا دليلٌ على حنقها العارم. لقد عاشت خلال الحرب العالمية الأولى وشهِدت المَجزرة التي ارتكبتها حرب عقيمة. ضُحِّيَ فيها برجال الطبقة العاملة المَنكوبين مقابل لا شيء. وكذلك حكايات جيمي — جدي — الذي كان دائمًا يلوم الضباط على مقتل أصدقائه.

كان هذا مناقضًا تمامًا لحُب أمي للإمبراطورية البريطانية. وحينما اندلعت الحرب في عين حياتها، دَعَمتْ بسلاسة إمبراطوريةً صمدت أمام شرِّ الفاشية.

لقد أسأتُ فهم جَدتي. أدركتُ الآن أنها تستطيع أن تُبصر الجوانب الإيجابية في أي حضارة. استطاعت هذه الخيَّاطة أن تتحدَّث بسهولة تامة مع أي شخص، على المستوى نفسه. كانت فضوليةً بشأن الجميع، وأرادت أن تفهم قصصهم، ومن أين أتوا وإلى أين يذهبون. لم تكن ضد الخير في أي شيء، ولكن بطريقةٍ ما أُدركها الآن كانت سابقةً لعصرها، كانت ضد الأنظمة التي تقهر الآخرين وتبني الإمبراطوريات. وكذلك ضد الأنظمة الذكورية التي ترى العالم بطريقتها الخاصة، ولا تقبل برأي آخر. أتذكَّر نقاشًا دار بيننا، عندما ذكَّرتني بأن شكسبير أتى من زمنٍ لم يكن فيه للإنجليز إمبراطورية، ولذلك استطاعت أن تتقبَّله. كانت تُكِنُّ عطفًا شديدًا تجاه أي شخصٍ تراه يُعاني، ويُمكنني أن أراها وأسمعها مرةً أخرى في طالباتي الآن اللاتي تَحرَّرن من قيد الطبقات الثرية والسُّلطة الذكورية ولم يخضعنَ لها. ولكن على عكس جَدتي، فإنهن يستطعنَ التعبيرَ عن آرائهن علانيةً.

كان أحد أقوال جَدتي المُفضلة «يمكنك أن تقودي الحصان إلى الماء، لكن لا يمكنك أن تُجبريه على الشرب». لم تكن تُقال أبدًا كمقولة مُبتذلة، بل كحقيقة عميقة. عندما كانتْ تُوجهها إليَّ، كانت تُغير كلمة «الحصان» إلى «الفرس» بغرض التأنيث. وكان الهدف من ذلك أن تُذكِّرني بعنادي. في بعض الأحيان كانت تقول ذلك مع إيماءةٍ بعينها تعكس استنكارها ولكن بحسٍّ مُستمتع في أحيانٍ كثيرة. كان أداؤها في الكلام دقيقًا لدرجةِ أنني كنتُ أتخيل الفرس، وهي مربوطة والسَّرج عليها، والشكيمة مسحوبة عند شفتَيها واللُّعاب مُتجمِّع حول جانبي فمها. وعنقها يأبى أن ينحني. والفرس المروَّضة (يا إلهي، أتذكَّر الصدمة التي شعرتُ بها عندما فهمت معنى «ترويض الفرس») تقاوم للحظةٍ الرجلَ النحيل وسوطه. نعلم جميعًا أنه لا يُمكنك حقًّا أن تروِّض حصانًا. بركلةٍ سريعة من إحدى رجلَيه الخلفيتَين، يُصبح جليًّا لمن القوة العُليا. خطرَ بذهني تشارلز مرة أخرى ومفهومه عن القوة بأنها هي القوة الجسدية فقط.

اعتادت جَدتي أيضًا استخدامَ هذه المقولة في التعبير عن نفسِها. وكانت تُلازمها حينها ابتسامةٌ ماكرة. لكنها لم تقُلها قطُّ على ابنتها التي هي أمي المُطيعة. كان كلانا يعلم أنه بعد لحظة من المقاومة، كانت أُمي ستشرب الماء، على الرغم من أنها كانت ستُفضل النبيذ.

إن الإدراك الأشد وضاعةً وخِزيًا الذي يجب أن يتوصَّل إليه المعلِّم هو أن الطالب يجب أن يكون راغبًا بالتعلُّم والعمل. بصرف النظر عن حجم معرفتك أو جودة شرحك للعمل أو مظاهر الترفيه التي تُقدمها لطلابك أو محاولتك إرضاءهم، لن يتعلم أحدٌ بعُمق من دون أن يمتلك رغبةً حقيقية. وهذا ينطبق تحديدًا على العمل الذي يحتاج إلى تجسيده ويتطلَّب حضورًا ومن ثَم يتحقق «البوح».

إنها لعملية صعبة أن تُحرِّر صوتك وطاقتك وقصتك. ومَن يظن أن التعليم والتغيير الشامل أمران يسيران فهو لم يسبق له أن أجاد التدريس. إن قيادة الآخرين أو قيادة نفسك «إلى الأمام» هي عملية مُرهقة. عرَّفني القسيس الموقَّر من المكتبة على إنجيل القديس توما. يقول يسوع: «إذا أخرجتَ ما بداخلك، فإن ما عندك سوف يُخلِّصك. وإن لم تُخرِج ما بداخلك، فما لا تُخرجه سيُهلكك.» نعم، إن هذا الذي أعرفه الآن هو الحقيقة عن نفسي وعن أولئك الذين أحاول التدريسَ لهم. وما في نفوسنا هو أحيانًا أسرارٌ مُخزية نُخفيها عن أنفسنا وعن العالم. أسرار عن أنه لا كيان لنا أو لا نمتلك ما يكفي من أي شيء. فلا نمتلك ما يكفي من الذكاء أو الجمال أو القوة. لم نحظَ بما يكفي من الحُب والإعجاب. ولا نحن مُثيرون للاهتمام أو موهوبون بما يكفي …

إن رغبة الطالب هي شيءٌ خارج نطاق سيطرتي، ومن ثَم فإن الكثير مما يُمكنني فِعله يُصبح لا طائل منه إلى أن يُبدوا رغبتهم واستعدادهم للعمل، وللمحاولة والفشل، ثم المحاولة مرةً أخرى. يمكن لطالبٍ واحد عازف عن العمل أن يُدمِّر عمل المجموعة بأكملها. في بعض الأحيان يبدو عزوفه واضحًا، لكن في أحيانٍ أخرى يتنكَّر في قناع الاستعداد الذي يمكن أن يُخفيَ وراءه الكسل أو الإهمال أو الاستخفاف. فالرغبة الحقيقية هي اختيار للقبول والانفتاح.

اتسمتْ بالهمجية بعضُ المحادثات التي سمعتُها في أوائل عملي بالتدريس بين المُعلمين بشأن الطلاب غير الراغبين في العمل. «عليكِ أن تكسري إرادتهم ثم تُعيدي تشكيلهم.» مثل الخيول؟ وماذا سيتبقى من إبداعهم وموهبتهم وتَميُّزهم بعد كسرهم؟

في نطاق التدريب المؤسسي، يُطلَق على هذا الأسلوب مصطلح القيادة والسيطرة، وهو وصفٌ مختصر لنمط القيادة النخبوي والذكوري.

يجب على المعلم المُبدع أن يبديَ استعدادًا للتدريس بأي طريقةٍ تستحوذ على رغبة الطالب واستعداده للعمل. إذا كان المعلم راغبًا في التدريس والطالب والمجموعة بأكملها راغبة في التعلُّم، يُصبح حينها كل شيء مُمكنًا. يحدث تغييرٌ شاملٌ في القاعة حينما يُعاد اكتشاف الحضور والصوت الطبيعيَّيْن. يُصبح كل فردٍ قويًّا وجميلًا وموهوبًا واستثنائيًّا. فالرغبة تُفسح المجالَ لأن تتبدَّد كل الانقسامات، ثم من خلال العمل الذي يُمارس طوعًا، نلتقي في نقطة نحترم فيها تشابُهنا واختلافاتنا.

يُمكننا — نحن النساء — الانضمامُ إلى الطاولة والجلوس والتحلِّي بالقوة مع أفضل الرجال. يُمكننا التمتع بالحضور والاستماع والتحدُّث وألا نتعرَّض إلى المقاطعة أو التجاهل، لكن علينا أن نُبديَ استعدادًا للعمل والقيادة بكفاءة. القيادة الرشيدة هي قيادة نظيفة وخالصة، وليست مخفية أو مقنَّعة، إنما حقيقية وشفافة. لا مجال للحِيَل فيها. إحدى مقولات جَدتي كانت: النظافة لصيقة بالورع.

على النظافة، اتفقت جَدتي وأُمي. كلتاهما كانتا تشعران بالفخر لكونهما نظيفتَين ومنظَّمتَين. ويتضح ذلك أكثر عندما أتخيَّلهما في شقتهما بشارع «سيلفر بليس»، حيث يتوفَّر حمَّامٌ واحد لخدمة المبنى بأكمله. كلتاهما كانتا تُنظفان باستمرار. وفي مرحلةٍ لاحقة في الحياة، بعد أن انتقلنا من لندن، كانت أمي كثيرًا ما تشعر بالصدمة عند العودة من ضيافة أصدقاء والدي الأثرياء في منازلهم. لم تكن هذه المنازل ترقى إلى مستوى نظافتها، بل والأسوأ من ذلك، ولا المُضيِّفون كانوا كذلك. كانت تعلِّق على قذارة ملابسهم رغم أنها غالية الثمن، وعلى الأظافر المُتسخة رغم تزيين الأصابع بخواتم فائقة الجمال. والأسوأ من ذلك، أن هؤلاء الناس كانت تفوح منهم رائحةٌ تَنِم على عدم استحمامهم. كان أحد تفسيرات والدتي عن سبب خروجها أولَ مرة مع والدي هو أنه «كانت تفوح منه رائحة الصابون». اعتادت هي وجَدتي معًا مشاهدةَ الأفلام الوثائقية المؤثرة في ستينيات القرن العشرين، ثم كانتا تندمجان في توجيه الكلام إلى النساء الظاهرات على شاشة التلفاز، فتقولان: «اغسلي وجهَ الطفل».

في التمرينات الصوتية، أجد نفسي في أغلب الأحيان أستخدِم صور التنظيف. عندما تُزال جميع العوائق المادية عن الجسم والتنفُّس والصوت، يجب إجراء تنظيفٍ شامل. يجب تنظيف الغبار وخيوط العنكبوت والصدأ أحيانًا، لا بد من إزالته من الأدوات، كل ذلك من أجل التهيئة لاستخدام القوة الصوتية الكاملة. يجب أن يكون صوتك جاهزًا ومهيَّأً للتحدُّث عما يُهِمك.

كانت الخطيئة والأخلاق والقذارة سواءً عند جَدتي. كانت تقول: «خدعة قذرة مُجحفة.» وكذلك كانت تقول: «فكرة خاطئة سفيهة»، «إنه لحقير نَتِن»، و«إنها امرأة سيئة.»

يبدو واضحًا الآن أنه بينما كنتُ أقرأ مسرحيةَ «هاملت»، كنتُ ألتقط انطباعاتِ شكسبير وأربط بينها وبين انطباعات جَدتي. أي قيادة سيئة وإساءة استعمال السُّلطة كانت توصف «بالفاسدة»، وأصبح هذا الفساد جزءًا من النظام. القائد الفاسد يجعل الدولة فاسدة. في غضون أسابيع قليلة من وفاة الملك الصالح، ثمَّة فساد ظهر في دولة الدنمارك. وافقت جَدتي على ذلك. شعر هاملت بهذا حتى قبل أن يُخبره طيف أبيه بالحقيقة. كان عالَمُه ملوثًا، حديقة قذرة، نَتِنة ومقززة. «ساءَ ما عَمِلَتْ وساءت عقباه، ولكن تَفَطَّرْ يا قلب، ولا تنطق يا لسان.»

يؤدي العنف المادي المُتمثل في إمساك لسانك إلى تحطُّم قلبك. إن الامتناع عن التعبير سيضر بكِ، يزعزع شعورك تجاه نفْسك. بالتزامنا الصمتَ، نُصبح عليلات. بمجرد أن رصدتُ تلك الأمثلة القذرة المُحيطة بالقيادة السيئة، صرتُ أجدها في كل مكان. يقول كلوديوس — عمُّ هاملت — الذي كان واعيًا بجرائمه: «ماذا لو كانت هذه اليد اللعينة أكثرَ امتلاءً بدمِ أخي؟ أليس في السماوات ما يكفي من المطر حتى تتطهَّر يداي من ذنبها؟»

تلطَّخ ماكبث بالدم بعدما قتل دونكان. اعتقدَت الليدي ماكبث أن العمل الذي اقترفه يمكن أن يُتطهر منه «اذهب والتمِس شيئًا من الماء تغسل به عنك آثارَ التهمة.» يعلم ماكبث خلافَ ذلك: «ليس في وسع البِحار كلها، أن تُطهِّر كفيَّ من هذا الدم. بل هما اللتان تُخضِّبان بحمرةٍ ما على تلك الخضمَّات الشاسعة من مسحة الخضرة.» إنه يعلم أنه حتى البحر لا يمكن أن يطهِّره. لن تكتشف الليدي ماكبث الحقيقةَ إلا في كابوس وهي سائرة أثناء نومِها وتحاول غسل الدم عن يدَيها: «أوه يا للعنة! لن تُطهَّر هاتان اليدان أبدًا. رائحة الدم. هذه يدٌ على صغرها لا تطهِّرها جميع العطور العربية».

يُعلِّمنا شكسبير بوضوح أن القيادة السيئة فاسدة ومُفسِدة، وأن القيادة الجيدة تُنظِّف وتُجدِّد. بدأتُ ألاحظ أني كنت أشرح أن الهدف الرئيسي في تدريس القيادة هو جعلها «نظيفة وشفافة». لم أتعلم قط لغةَ الشركات، لذلك كانت هذه الكلمات غيرُ المُعقَّدة في حاجةٍ إلى تفسيرها ثم تجسيدها. ببساطة، لا تُوجَد أجندة خفية في القيادة الجيدة. يجب منحُ مَن هم تحت قيادتك جميعًا معاملةً متساوية وعادلة. عدالة نظيفة، لا مُحاباة فيها، لا نِكات لا يفهمها إلا أشخاصٌ مُحدَّدون، لا ثرثرة، لا مُغازلة. لا شيء يسمح للبيئة المهنية بأن تُصبح إقصائية لفئة دون غيرها.

يعمل القائد الواضح والصريح من أجل الوحدة وليس الانقسام، والأهم هو أن القائد يجب ألا يتساهل أو يُشجِّع على كتمان الأسرار أو الدفاع عنها. إن السلاح الأكثر فتكًا في القيادة السيئة هو كتمان الأسرار. فالأسرار تُدمِّر الدول والشركات والعائلات. وتسمح للمُتنمِّرين بأن ينجحوا، والمُعتدين جنسيًّا بأن يتزايدوا، والقسوة بأن تطغى، والترهيب بأن يُصبح أمرًا طبيعيًّا. حتى عندما تُكتم الأسرار لسببٍ وجيه، سيحين وقتٌ يزداد فيه الوضع سوءًا، وذلك هو الوقت الذي يُعالِج فيه القائدُ ذلك الوضعَ بأن يكشف عن تلك الأسرار.

إن الوحيدين الذين يخافون من الكشف عن الأسرار هم أولئك الذين يحمون أنفسَهم و«عُصْبَتَهم» الصغيرة المُحيطة بهم بالسر. أولئك الذين يتحكمون في عُصبتهم بالأسرار، ويعكفون على الاستئثار بالسُّلطة والامتيازات لأنفسهم، تلك هي العُصْبة التي جنَّبت المرأة قرونًا. واجهت كل امرأة عصبةً ذات طابعٍ خاص — مَجازية كانت أم حقيقية — تمنع دخولهن. نجح بعضهن في التسلل إلى هذه المجموعات النخبوية، لكنهن يساوِمنَ على أخلاقهن وسُمعتهن، وذلك حينما يتحولنَ إلى تابعاتٍ داعمات بكفاءة لتلك العُصبة. وتشمل مكاسب تلك المساومة تقلُّدهن مناصبَ رفيعة، وتلقِّيهنَّ مكافآت مجزية. لكن ثَمن انضمامهنَّ هو أنهن لا بد أن يستبعدن النساء الأخريات والرجال الذين يشكِّلون تهديدًا. سيُطلَب منهن الدفاع عن شخصٍ غير كفء وآخر متوسط الكفاءة، وذلك من أجل إبقاء أفراد العصبة آمِنين والإبقاء على أسرارهم مدفونة.

إنهن النساء خارج دائرة السُّلطة هُن اللاتي يُخاطرن في أعمال شكسبير بأن يدلين بالشهادة على حقيقةٍ أو سرٍّ معروف بين أفراد العصبة لم يكن محلَّ الحديث عنه البتة. فالبوح يُحرر المتحدث، ويحمِل في طياته الفرصةَ لإبراء دولةٍ والضحايا الأبرياء فيها.

أتساءل عما إذا كانت جَدتي ستستنكِر سذاجتي في الاعتقاد أن الحقيقة يُمكن أن تُحررك. لقد حدث ذلك بالفعل عندما كنتُ أبوح بالحقيقة في الماضي، ولم يسبق لي أن درَّستُ لأي امرأةٍ لم تشعر بالارتياح عندما أفشتِ الحقيقة.

أُومن بما يؤمِن به جميع رواة القصص بأنك حينما تُعبِّر عما تريد، فإنه يُحررك، والأكثر من ذلك أنه حينما يكون سَرْدك مُكتملَ الأركان فإنه يدخل قلوب الآخرين ويُغيِّر منهم.

ويبقى تأثير الكلام المنطوق زمنًا طويلًا بعد النطق به.

بمجرد أن يخرج الكلام، لا يُمكنك التراجُعُ عنه. وبمجرد أن يُسمَع، لا يمكنك نسيانه. لهذا استمرَّت ممارسة العنف والظلم أمدًا بعيدًا.

يتحتم على النساء في مواقع السلطة أن يُعبِّرن عما يُرِدْن بصوتٍ وحضورٍ قوِيَّيْن، ولكن أيضًا مع مراعاة العدالة والأدب والسماحة تجاه الرجال الذين يرغبون في المساعدة. نحن نعلم مدى قسوة إساءة استغلال السلطة، لقد تركت آثارًا مُدمرة لدى جميع النساء. ويجب ألا نُعاقبهم كما عاقبونا، بل علينا أن نلتمِس سبيلًا أرقى. لقد دمَّرت فوضى القوة الذكورية الوحشية الكثيرَ وأخذت دون أن تُعطي النساء والعالَم من حولنا بالمِثل.

لقد طفح الكيل.

إن جَدتي، تلك المرأة من الطبقة العاملة التي وُلدت عام ١٨٨٦، لم يكن أمامها خيار سوى الانحناء أمام «صفوة المجتمع». لكن رغم الظروف التي قيَّدَتها، كانت دائمًا واثقة في يقينها بأنهم ليسوا أفضل منها في شيء. لم تشعر قطُّ بضرورة أن تُرِيح أي شخصٍ يمارس سلطة عليها. كان تعبيرها عن القوة يتمثَّل في تَرَفُّعها عن استجداء أحدٍ ليسمعها، أو محاولة إرضاء الآخرين، لكنها كانت واثقةً فيما لديها من معرفةٍ صالحة. كانت ستنضمُّ إلى مجموعة الساحرات المُنتظرات على الأرض القاحلة، أو إلَهات الغضب لو كانت قد قابلتهن. كانت خياراتها أكثر محدوديةً؛ لأنها على الرغم من أنها جذابة — كانت تُوصف في كثير من الأحيان بأنها امرأة جميلة — إلا أنها لم تكن تُعتبر جميلةً بالقدْر نفسِه الذي كانت عليه والدتي.

أما والدتي مارجريت، فلم يكن لديها خيارات أيضًا، واختارت، بما لا تُلام عليه، أن تعيش في أمانٍ لكن مُهمَلة في محْبَسِها الجميل بالضواحي.

إني ونساء جيلي، اللاتي يعتقدنَ أننا حصلنا على المساواة، اقتحمنا البابَ الذي كان مغلقًا أمامنا لآلاف السنين، وهنَّ يتوقعنَ الترحيب بنا وأن يدعونا الرجال من حولنا إلى الجلوس على طاولة السُّلطة. وعندما لم يحدُث ذلك، حاولنا استرضاءهم، وحاولنا أن نكون مثلهم غاضباتٍ ومندفعاتٍ … وعندما لم يفلح شيء من هذا، اختارت بعض النساء الانسحاب مرةً أخرى والرُّكُون إلى المُسَالَمة. وآثرنَ البقاء هادئات وصامتات من أجل الحفاظ على كرامتهن.

لكن، أرى بارقةَ أملٍ في الشابَّات الواثقات الخُطى اللاتي يُكِنِنَّ الاحترام بعضهن لبعض وللعالم من حولهن، اللاتي يَجِدنَ سُبُلًا للتعبير عن قوَّتهن الكاملة والمساواة. هن اللاتي لا يُهْزَمن بفضلِ ما يتمتَّعن به من قوة الدائرة الثانية الطبيعية المُتزنة: إنهن يُغيِّرن العالم.

أشعر أني محظوظة أني شهِدتُ هذه اللحظة التي فيها تتحلى الشابَّات بالتوازن الكافي ليُدركنَ أنَّ عليهن ألا يُسِئنَ استخدام قوَّتهن، إنما ينبغي لهنَّ أن يُحسِنَّ استخدامها. وتدرك النساء في شتَّى أنحاء العالم أن معارفهن وقصصهن تَحظى بأهميةٍ بالِغة.

رغم كل الصعوبات، فإن أعدادًا مُتزايدة من النساء يتَّخذنَ خطواتٍ إلى الأمام فيجدنَ أن النقطة المثالية هي مركز أرجوحةِ الاتزان، ويقفنَ راسخاتٍ على الأرض، ويأخُذنَ نفَسًا عميقًا نقيًّا يتحرَّر معه صوتُ المرأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤