الفصل الأول

البدايات

ماكبث : ما هذا الصوت؟
سيتون : إنه صراخ النساء.

وُلِدتُ في شقةٍ تابعة لمجلس البلدية في بيمليكو، لندن. كنا نعيش في الطابق الثالث، وكانت أقرب صديقة لأمي تعيش في الطابق الأرضي. كان شائعًا بين أفراد أسرتي أنَّ صديقة أمي كان بمقدورها سماع صُراخي «واضحًا كالجرس» وعميقًا ومجلجِلًا عبْر كل الجدران والأرضيات التي تفصلنا عنها. وبذلك، لم تكن ثمة مشكلة تتعلَّق بصوتي …

في أثناء استلقائي على ظهري وأنا طفلة صغيرة، كان جسدي في وضعٍ صحيح بشكلٍ طبيعي. فكانت الأرض تحمل الثِّقَل الكبير لرأسي. أما الكتفان فكانتا مرتكزتين ومسترخيتين تمامًا، مما يعني أن مع وَضْع رأسي كانت حنجرتي مفتوحة. فكان بمقدوري فتحُ فمي بالقدْر الذي أحتاج إليه لإطلاق الصوت.

كان جسدي الصغير يعرف بالفطرة أنني بحاجة إلى التنفُّس حتى أبقى على قيد الحياة، وكذلك حتى ينطلق صوتي.

تبدأ اللحظة الأولى عند خروجي من الرحم إلى الحياة باستنشاق الهواء، متبوعًا بصرخة تُعد بمثابة صرخة إلى العالم. ومع هذا النَّفَس يتغذَّى القلب بالمشاعر، والعقل بالتفكير.

تُعَد المعرفة التي تحملها كلمة «الإلهام» في طيَّاتها معرفةً حقيقية. فنحن نحتاج إلى أخذِ نَفَسٍ كامل حتى نفهم فكرة. وكذلك نحتاج إلى أخذ نَفَسٍ كامل حتى نُلهِم ونُلْهَم. وطَوال حياتنا، يتعيَّن علينا أن نختار أخْذ نَفَسٍ كامل لنواجِه ونَمُرَّ بمشاعرَ لا نرغب في مواجهتها، ولنتذكر ما لا نرغب في تذكُّره. وتصبح اللحظة الأخيرة من الحياة هي لفظ النفس الأخير. وذاك هو التحرُّر النهائي لأرواحنا.

في كثير من الأحيان، أتساءل عن اللحظة التي اختارت فيها نفسي الصغيرة ألا تأخذ نفسًا كاملًا، وأن تُقلِّد أنفاسَ والديَّ اللذَين لم يكونا يرغبان في الشعور بها. كغالبية الأطفال، كنت أعلم، ومن دون تفكير، أنَّ النَّفَس يُحدِّد حجم الصوت الذي أحتاج إلى إصداره.

عضويًّا، يؤدي استنشاق الهواء إلى اتساع القفص الصدري، من الأمام، والجانبين والخلف، دون أن ترتفع الكتفان أو الجزء العلوي من الصدر، وبينما تتَّسع الضلوع، يتحرك الحجاب الحاجز لأسفل (وهو عضلة مرتبطة بالجزء السفلي من القفص الصدري ولا يمكننا الشعورُ بها)، وينبسط بعد أن كان متخذًا شكلَ قبَّة. مع هذه الحركة، نشعر بعضلات البطن السفلية تتحرك لأسفل إلى منطقة الأربيَّة. وكلما كان النَّفَس أعمق، ازدادت قوة الجسم والصوت، وازداد شعورنا بالحيوية واليقظة.

كل الأطفال يعرفون هذا الأمر. كلما تطلَّب الأمر أن يكون الصوت أكثرَ إلحاحًا وتأثيرًا وضخامةً لاستدراج الانتباه إليه، صار النَّفَس أعمق.

من الصعب الوصول إلى هذا النَّفَس العميق عند الاستلقاء على الظهر. ترتخي عضلات البطن بفعل الجاذبية، ولهذا تحتاج إلى مساعدة حتى تشارك بقوة وبشكلٍ كامل. إذا لم يكن الطفل مقيدًا بقِمَاط، فسوف يرفع ساقَيه وركبتاه مثنيَّتان، وقدماه ورَبْلَتا ساقَيه متدلِّيتان. هذا الوضع يُتيح مشاركةَ عضلات التنفُّس السفلية، ما يسمح بالتدفُّق العمودي للهواء الذي يدعم حركةَ الإنسان وصوته وإحساسه وفكره، ويسهل خروجَ صوتٍ عالٍ وقوي.

يُصبح المدى الصوتي حينها حرًّا ومرنًا؛ لذا يصدر الطفلُ الصوتَ المراد التعبير عنه. فيصدر صوتًا وفقًا لما يشعر به، فإذا شعر بالأمان، صار صوته معبرًا عن حالته.

يُعَد الشهيق الخطوةَ الأولى في التنفس الطبيعي. أما الخطوة الثانية فهي التوقُّف اللحظي عندما تتوقف العضلات. بعد ذلك، تتحرك الضلوع وعضلات البطن لتحرير النفس. وحينئذٍ يحدث توقُّف قصير آخر قبل الشروع في أخذِ شهيقٍ من جديد.

إنَّ عملية التنفُّس القوية والمؤثِّرة المُشار إليها تدعم كلَّ الجوانب المساهِمة في حضورنا الكامل.

عندما نفقد القدرةَ على أخذِ نفَسٍ كامل، وهو ما يحدث لدى أغلب النساء، نفقد قوَّتنا وسلطتنا. سيُضعفنا أيُّ فقدانٍ للقدرة على التنفُّس، وإن كان بسيطًا. حينما نتنفس، نستجمع قوَّتنا، وحينما نُخرج هذا النَّفَس، فإننا نُحرِّره في الهواء الطلق. يحظى التنفُّس بأهمية بالغة بالنسبة لنا، حتى إذا حدث أي مكروه في الحياة، فإنَّ أثَره ينعكس على التنفُّس قبل أن تبدأ أعضاؤنا الأخرى في إدراك ما يحدث.

عام ١٩٧٨، كنت أُدرِّب مجموعةً من الأطباء في شمال لندن. كانوا قد طلبوا مني مساعدتهم في تحسين قدرتهم على التواصل مع مرضاهم. وكنا نُناقش كيف يُقيَّد الصوت الطبيعي الحُر وينحبس في الجسم. وخَلصنا إلى أنَّ كل شيءٍ يبدأ وينتهي بالتنفُّس. بمجرد العبث بالإيقاع الطبيعي للتنفُّس، سيتأثر الصوت سلبًا، ولن يَعود حرًّا بعد ذلك. بعد الجلسة، بقي أحد الأطباء منتظرًا. فأثار اهتمامه فكرتي عن أنَّ جميع مشكلاتنا مع الصوت تبدأ من التنفُّس، ثم دعاني لزيارة أحد العنابر الخاصة به.

التقيتُ به هناك بعد يومَين، واصطحبَني مباشرةً إلى أحد الأقسام. فكان قسم الأطفال.

قال: «استمعي.»

فاستمعتُ.

سَمِعتُ ما قد سَمِعه. كان هؤلاء الأطفال يبكون بصوتٍ مكبوتٍ وضعيفٍ ومضطرب، وليس بذلك الصُّراخ الحُر الذي كان يجب أن ينطلق منهم. لاحظ الطبيب صدمتي.

قال: «انظري إلى أنماط التنفُّس لديهم.» فأدركت ما كان يقصده: كان بمقدوري فعلًا ملاحظةُ أن نمط التنفُّس لديهم مُتجزِّئ ومتقطِّع ومكبوت.

«لقد تعرضوا جميعًا إلى اعتداءٍ جسدي.»

كانوا أطفالًا مُعنَّفين.

كانت الصدمة شديدةً وقوية. شعرت أن حركتي قد شُلَّت. لكن سرعان ما اعترى هذه الأصوات تغيُّر ملحوظ وواضح في أقلِّ من عام.

كان العنبر يضم صبيانًا وفتياتٍ صغيرات. استقبلتهم الحياة جميعًا استقبالًا مروعًا، وسرعان ما امتدَّ الإيذاء إلى تنفُّسهم، ثم إلى صوتهم.

إنَّ اعتقادي، الذي شَكَّله لقائي مع الطبيب، هو أنَّ الطفل عندما يبكي، يكون مضطربًا ويحتاج إلى راعٍ لمساعدته.

عند رفع الطفل وحمله بلطفٍ وتهدئته، يتوقف عن البكاء، لكن ليس ممكنًا التحرُّر من الصدمة التي تسبَّبت في البكاء إلا عندما يتنهَّد الطفل. هذا النوع من التنهيد بمثابة إعادة ضبط للتنفُّس ليعود إلى حالته الطبيعية، وفي الوقت نفسه يساعد في التخلُّص من الصدمة التي كانت سببًا في البكاء في المقام الأول.

ربما يساعد العِناق الدافئ الذي يحمل حبًّا وأمانًا ولطفًا في إعادة ضبط تنفُّس الإنسان بعد أي صدمة، مهما كان عمره. قدَّمت لي تجربتي مع الطبيب أيضًا إجابةً على لغزٍ أثار قلقي منذ سن السادسة.

في الرابعة من عمري، انتقلنا من لندن إلى الضواحي. كانت لدينا حديقة، وفي الوقت الذي بلغتُ فيه السادسة من عمري، صارت لدَينا أرجوحة.

كانت هذه الأرجوحة مصدرَ سعادتي، وبالأخص أنَّ أُمي علَّمتني كيف أقفز منها. فقد أوضحت أمي أنه يمكن القفز بنجاح في اللحظة التي تشعر فيها بأنك مُعلَّق في الخلف وأنت جالسٌ على الأرجوحة، قبل أن تتأرجح نحو الأمام، وفي اللحظة التي تتحرك الأرجوحة إلى الأمام لتدفعك من المقعد. وما تشعر به في تلك اللحظة التي تُصبح فيها معلقًا في الخلف هو الشعور الذي تحتاج إليه كي تقفز بنجاح.

أدركت أنَّ هذه الحركة كانت مرتبطة بتنفُّسي. فقد ظلت قفزاتي جيدة ما دمتُ أجعَلُ تنفُّسي الكامل مقترنًا بذلك التعليق الخلفي. فتبدأ القفزة في تلك اللحظة. وكان عليَّ أن أبدأ في إخراج النَّفَس بمجرد أن تتحرك الأرجوحة إلى الأمام، فيحملني ذلك النَّفَس بأمان إلى الأرض.

كنت أقضي ساعات على تلك الأرجوحة. فكانت مصدر تهدئةٍ لنفسي وكنتُ مدركةً لتأثيرها هذا. وإذا تمكَّنت من الجلوس على الأرجوحة، متى شعرت بضيق، كان بمقدوري أن أعيدَ ضبط تنفُّسي وتوازُني. أدركتُ أن الضيق الذي أبديتُه كان سببه عدم توافق تنفُّسي مع تعليق الأرجوحة، وأني إذا قفزت بدون تلك الحساسية، فسأصطدم وأُلحِق أذًى بنفسي.

بذلك، كانت الأرجوحة بالنسبة إليَّ بديلًا عن العِناق والأحضان. وبالرغم من حنان أمي وجَدتي، لم تكونا من مُحبي العِناق، ولهذا وجدتُ طريقةً أخرى لإعادة ضبط تنفُّسي عند الشعور بالانزعاج.

في الوقت المناسب، يبدأ الطفل في المشي. عندما يقف، من المُهم للغاية أن يشعر بالأرض من خلال قدمَيه، لا سيما الجزء الأمامي من القدم.

تربطنا أقدامنا بالأرض. ويعتمِد التنفُّس الكامل لدينا بمدى الارتباط الذي نشعر به من خلال الأرض.

تعتمد القوة البشرية الكاملة والفعَّالة، سواء البدنية أو الصوتية، على نقطتَين أساسيتَين. فقوَّتنا لا تكمُن في الجزء العلوي من الصدر، إنما في أقدامنا والتنفُّس من عضلات أسفل البطن. يمكن إيضاح ذلك بسهولة إذا حاولت دفْعَ جسمٍ ثقيل. وحينئذٍ تؤدي الذراعان القويَّتان والعمود الفقري المُستقيم دورًا مهمًّا، لكن الأساس الذي يعتمد عليه الصوت البشري القوي والجسم المستقيم هو القدمان اللتان تدعمان عمليةَ التنفُّس من عضلات البطن السفلية.

ثمَّة أهمية بالِغة للقدمَين والتنفُّس من العضلات السفلية، ويُعَد فهْم ذلك أمرًا حاسمًا لدى النساء؛ إذ إنَّ الموضة والثقافة هما اللتان تُعيقان هاتين النقطتَين القويتَين لديهن. هذا بصرف النظر عمَّا إذا كان ذلك متمثلًا في ارتداء الحذاء، أو ربط القدمَين، أو شد عضلات البطن، أو ارتداء ملابس ضيقة، أو ارتداء ملابس إذا تحركتِ بها بطريقةٍ ما تكشف كثيرًا من جسمك.

هل من الصدفة أننا عُلِّمنا أن نبدوَ وكأننا لا نستطيع الركض أو التنفُّس بقوة؟

معظم الأطفال في سنِّ الرابعة، سيكون لديهم عمود فقري مُستقيم على نحوٍ صحيح عند الجلوس.

يتجلى دور العمود الفقري في دعم الجسم، لكنه إذا انحنى، فإنه يمنع المرور الحر للنَّفَس، ويزيح الرأس عن مكانه، الأمر الذي يزيد من توتر الصوت.

ينتشر ظهور كل هذه التشوهات الجسدية لدى الفتيات الصغيرات أكثرَ من الصبية، وتظهر الآن بسرعةٍ أكبر مما كانت عليه عندما بدأتُ التدريس قبل ٤٥ عامًا. ففي أيامنا هذه، عندما أكون في المدارس الابتدائية والثانوية، أرى الفتيات الصغيرات واقفاتٍ على أساسٍ غير ثابت لأن أقدامهن ليست مُتصلة بالأرض ورُكَبهن متصلِّبة. وصارت منطقة الحوض لديهن مدفوعة للأمام، وهو ما يتسبَّب في إجهاد الكتفين والمنطقة العلوية من الصدر. ومثل هذه الإجهادات التي تعتري الجسد تتسبَّب في إعاقة التنفُّس والصوت، مما يؤثر سلبًا في قوة حضورهن وطريقة إلقائهن.

قلما التقيت بفتاة في سن الثامنة عشرة لا تظهر عليها بعضٌ من هذه التشوهات أو كلها. لكن انتشارها يظهر بدرجةٍ أقل بين الرجال. فبعضُ هذه التشوهات لم تظهر إلا منذ ٣٠ عامًا. يُعزى أحد الأسباب إلى نمط الحياة الذي بات مفروضًا كذلك على الفتيات من منطلق أنه الدارج في عالم الأزياء؛ وجميع ما قُدِّم إليهن من عاداتٍ في عالم الأزياء، أضعفهن.

أُدرك الآن أنني منذ سن الرابعة كان لديَّ ميلٌ قوي ورغبة عارمة لدراسة الصوت والتنفُّس والكلام. لم أكن أعرف أنها تتعلَّق بالتركيب البِنيوي أو بالحضور، لكن ما رأيته تمثَّل في أن النساء يتعرَّضن إلى التجاهل والإهمال والإقصاء. لم أكن أمتلك الكلمات التي أملكها الآن، لكن عندما كبِرت، وقفت في وجه أي شخصٍ يُلمِّح بأن الفتيات حمقاوات: كنت أعرف أنني لست حمقاء، لكن الشعور بالعجز الذي أصابني من هذا الظلم المُهين ترسَّخ أثره في صوتي وثقتي.

كنتُ دائمًا ألاقي صعوبةً مع التنفُّس والتحدُّث بطلاقة، وكان يُقال لي باستمرار إنني خجولة أو ليس لديَّ شيء لأقوله. لكن هذا لم يكن حقيقيًّا. إنما كانت لديَّ آراء وأفكار كثيرة، وكنتُ أتمنَّى لو أني أُعبِّر عنها.

أردتُ أن أفهم لماذا لا يُمكنني التعبير عن نفسي بحرِّية، لكن الأهم من ذلك أني أردتُ أن أعرف السبب في كبتِ أصوات النساء، لا سيما أولئك اللاتي أحببتهنَّ وعرفت أنهنَّ ذكيات وشغوفات. لحُسن الحظ أنهن، على حدِّ علمي، لم يُجبَرن على الصمت بالعنف، إنما بالازدراء بسبب افتقار الطبقة العاملة التي ينتمين إليها إلى التعليم، وبفعل قدرة الرجال الخفية التي كانت تُتيح لهم تجاهُل النساء بأسلوب لطيف.

كانت النساء اللاتي عاصرتهنَّ في مرحلة مبكرة من حياتي أكثر إثارةً للاهتمام مما بَدوْنَ عليه.

خلال نصف قرن من شغفي الشخصي بتدريس أهمية الحكايات والحضور والصوت، قابلتُ عملاءَ وطلابًا لا يمكنهم استيعاب «الغُصَّة المُوجِعة» التي تُسبِّبها قصة غير محكيَّة ظلَّت حبيسة في نفسك.

ومن دون استثناء، جميع مَنْ حيَّرَتْهم الغصة الموجعة التي يتسبب فيها العجز عن سرد حكاياتهم، كانوا من الرجال.

أول مواجهة واعية لي مع غياب المساواة بين القصص التي تُحكَى بحرية وتلك الحبيسة بداخلنا، كانت في أوائل السبعينيات، من خلال محادثة أجريتُها مع مُعلِّمة في المدرسة الملكية المركزية حيث كنت أَدرُس. كانت مع الروائية الرائعة وخبيرة التربية، أودري لاسكي. سردَتْ لي أودري برَويَّة وحذَر قائمةً بأولئك الذين يُستَمَع إلى حكاياتهم من دون صعوباتٍ كثيرة:
  • «الرجال المُميَّزون،

  • ذوو البشرة البيضاء،

  • المسيحيون،

  • الأسوياء،

  • الأصحاء بدنيًّا.»

أنارت القائمة صورةً في عقلي، مثلما يستقر رسمٌ مُتغيِّر الألوان على نمطٍ، وقدَّمت لي شكلًا ونمطًا واضحَين حتى أرى العالم وأشعر به وأفهمه بطريقةٍ مختلفة.

ليس مُمكنًا التقليل من أهمية هذه القائمة. وبالرغم من أن بعض الكلمات عفَّى عليها الزمان، إلا أنها كانت أول وصفٍ واضح سمِعته يوضح الجدال المتصاعد حول «اللباقة السياسية»، وأثارت في داخلي فهمًا مفاجئًا بأن ذلك حتمًا كلُّ ما يتعلق بعدم المساواة. حقيقة أن الطائفة المتبقِّية منَّا كانت في مواجهة النخبة الظالمة، أولئك الرجال ذوي الأفضلية الذين من أول نفَس وصرخةٍ لهم لم يُستمع إليهم فحسب، إنما يُقَرُّ بحديثهم.

كانت قوانين المساواة، التي كان من المُزمَع إقرارها في المملكة المتحدة في منتصف سبعينيات القرن العشرين، ستحُضُّ على إحراز تقدُّمٍ وتبدأ في الكشف عن قصصٍ لمجموعاتٍ كُبِت صوتُها ولم تكن ضمن قائمة أودري.

إنَّ التغيير يستغرق وقتًا، والتعليم يجب أن يتغيَّر مع الوقت. كل يوم أسمع قصصًا تُعطيني الأمل، ولكني ما زلتُ أتساءل إن كانت أودري تعرف مدى دقة ترتيب الفئات في قائمتها: الرجال المُميزون، ذوو البشرة البيضاء، المسيحيون، الأسوياء، الأصحاء بدنيًّا. لقد قابلت رجالًا ليسوا مُميزين، ولا من ذوي البشرة البيضاء، ولا هم مسيحيون، ولا أسوياء، وغير أصحاء بدنيًّا، لكنهم أوجدوا مكانًا لصوتهم وسردوا قصصهم بِحُرية. نعم، لقد حاولوا بقوة. نعم، لقد بذلوا ما في وُسعهم. لكنهم في النهاية اعتبروا حقَّهم أمرًا يُستخفُّ به.

لم أقابل قطُّ امرأة، حتى التي يعتبرها كثيرون أنها صاحبة امتيازات، كانت قادرة على فعل ذلك. لقد عوقبنَ جميعًا، بطريقةٍ ما، على جرأتهنَّ على إظهار حضورهن الكامل في العالم.

وفي قاع كل مجتمع توجَد المرأة.

وفي الجسم يُشْعَر بتلك «الغُصَّة المُوجِعة» التي يُسبِّبها الامتناعُ عن الحديث أو مشاركة القصة. فتظل مكبوتةً بداخلنا، وتُقوِّض من قوة حياتنا البشرية: قوة التنفُّس والحضور، ومن ثَم، صوتنا. إنه ليس من وحي الخيال، بل هي حقيقة، أن كينونتنا تجزأت وصرنا نشعر بالاعتلال. يمكن التخلُّص من هذا القيد وإعادةُ اكتشاف حضورنا الكامل وصوتنا: حينها سنُعيد اكتشافَ صوت المرأة.

كنت أعرف وأنا في الثامنة من عمري أنه لا يُسمح للنساء بممارسة قوَّتهن الصوتية والفكرية والروحية الكاملة أمام الرجال. وكنت أعرف أنَّ القوة العاطفية للنساء ودموعهن وغضبهن، كانت محلَّ سخرية أو يراها الرجال مثيرةً للاشمئزاز، وكنت أعرف أنَّ الرجال ليسوا مُضطرِّين أن يستمعوا إلى النساء؛ وإذا فعلوا ذلك يجب أن تشعر النساء بالامتنان.

لاحظت كيف تحتاج النساء إلى إبداء الإعجاب بهن، ولهذا صرنَ ماهراتٍ في التخفِّي وراء الأقنعة ورسم الابتسامة والمُجاملة، ثم ينتقدن الرجال عندما يُغادرن الغرفة. أدركتُ أنَّ السبب في هذا هو عجزهنَّ عن إظهار مشاعرهن الحقيقية.

رأيتُ رجالًا يُعجبون بنساءٍ قويات أو جذَّابات، لكني سمعتُهم أحيانًا يسخرون منهن عندما يعتقدون أني لا أسمعهم. كان والدي يُبدي إعجابًا، ثم يعزف عنه عندما تتحدَّث أمي، ويتجاهل جَدتي عن عمدٍ.

لاحظت كلَّ هذا وأكثر، لكن لم يكن لديَّ مَنْ أتناقش معه. كانت أختي وأصدقائي سعداء بهذا النفاق: لكني لم أكن كذلك.

بدا والدي وضيعًا، وبطريقةٍ أو بأخرى، وجدت أنَّ قدرة أمي على الانتقام منه مُزعجة بالقدْر نفسِه من خلال توجيه تعليقات ساخرة لاذعة له بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا.

كنت أعرف أنَّ النساء مقيداتٌ لأنهن لا يتمتَّعن بالمساواة. هكذا أخبرني المعلمون والأولاد والرجال، وعاشت أمي حياةً لا مساواة فيها بدلًا من أن تُظهِر للعالم كلِّه عقلها الراجح الذكي.

لم تخضع حياتها للحظاتٍ من التأمُّل وإعادة النظر فيها، فكانت رفاهتها وأمانها الاقتصادي مُتمدَين كليًّا على والدي، على الرغم من أنهما عندما تزوَّجا كانت تترقَّى سريعًا في مناصبَ بالخدمة المدنية. وكانت تكسب أكثرَ مما كان يكسب لبضع سنواتٍ بعد ذلك.

وكان عليها بناءً على طلبِه أن تتوقَّف عن العمل وألا يكون لها سبيل إلى أمواله، وألا تعرف أبدًا كم يكسب وأن عليها أن تطلب منه كلَّ شيء.

منذ سن التاسعة، أُرسِلتُ على مضضٍ إلى معلِّمين في الإلقاء والخطابة لمساعدتي على الكلام، وهي تجربة كانت بالنسبة لي وللمُعلمين غيرَ ناجحة، لكن مسيرتي المهنية الرسمية بدأت عند تلك النقطة.

«لقد التقيتُ بوليام شكسبير ووقعت في حُبِّه … كان لا بد أن يكون شكسبير فتاةً سمراء.»

مايا أنجيلو

التقيتُ شكسبير عندما كنت في التاسعة من عمري. لم يكن اللقاء في المدرسة، ولكن في نسخةٍ مهترئة لمجموعة أعماله الكاملة كانت مُخبَّأة في إحدى الخزانات بمنزلي. كان العثور عليها مفاجأةً في منزلٍ لا يوجَد فيه كُتُب. كم كان، ولا يزال، باعثًا على الراحة أن تقرأ الكلمات التي أهداها إلى النساء. لقد شهدنَ بشجاعة استبدادَ الرجال، فتفوَّقن عليهم بدهائهن، ولم يلقينَ بالًا لازدرائهم واختبرنَ سلطتهن القانونية. في مسرحياته، وجدت رجالًا يعترفون بالمساواة العاطفية والفكرية والروحية للنساء، فأحبُّوهم من أجل ذلك. وكثيرًا ما كان يتحدى رجلٌ منفردٌ ازدراءَ الرجال للنساء؛ فيظهر رجل لطيف ليُبدي دعمَه وحبَّه لهؤلاء النساء «اللاتي لا يتمتعن بالجاذبية». ورجلٌ يسبح ضد التيار الرائج لعدم المساواة مع النساء. فبدا بطلًا في عالمٍ ظالم.

كطفلة، كان يُثير استيائي دائمًا أنَّ أغلب المؤلَّفات التي رأيتها تُعرض لشكسبير كانت النساء فيها ضعيفاتٍ مُتذمِّرات، وهي صورة كنت أعرف وقتها أنها ليست من كتاباته. إنَّ شكسبير الذي أفهمه وأُدرِّس أعماله هو منارةٌ للإنسانية والعدالة، ونموذجٌ أخلاقي ظلَّت روحه مرافقة لجميع شخصياته، فكتب عن عيوبهم وكذلك عن عظمتهم بأسلوبٍ مُفعم بالتعاطُف دائمًا وبالتسامح كثيرًا. استرق الحكايات بلا شكٍّ من النساء، لكنه أخذ جوهرها وبِنْيَتَها وأضاف إليها عمقًا وبُعدًا. ثم تحدَّانا لننظر إلى مواطن التشابُه والتعقيد لدَينا، ثم إلى انعكاس صورتنا التي تُزعجنا.

«أن نكونَ أو لا نكون، تلك هي المسألة.»

هذه العبارة هي افتتاحية أحدِ أشهر خطابات هاملت. هاملت، رجلٌ ذو حظوة، لم يفقد إلا من وقتٍ قريب إحساسَه بالوجود، فحاول جاهدًا أن يستعيدَ تواصُله مع ذاته بعد الصدمة والعواقب التي ألمَّت به من مقتل والده. وهذه مسألةٌ يمكن لكل واحدٍ منَّا، لا سيما النساء، أن يفهمها ويُدليَ بدلوه فيها.

في السنوات الأولى من حياتي المهنية، كنتُ أعرف أنَّ الصوت الحُر الطليق الذي يولد به معظم الناس يتضاءل لدى البعض ويبقى على حالته الأصلية مع البعض الآخر. كان بوسعي أن أُلاحظ ذلك في أجسادهم وجهازهم التنفُّسي، وأسمعه في القيود التي تعتري أصواتهم. ثم بدأت أدرك مصدرَ الفَقْد: فكان حضورهم الحقيقي. لم يكونوا حاضرين بكيانهم. وهنا تكمُن المسألة.

أرجوحة التوازن

نفقد حضورنا الحقيقي أو كياننا بإحدى الطريقتَين.

الطريقة الأولى والأكثر شيوعًا والخيار الأسهل لنا هي الاختباء من المصدر الذي يسعى إلى كبت أصواتنا. يُمكنك ملاحظة أثر هذه الطريقة في أجساد الآخرين، أو الشعور به في داخلك. ما يحدث هو انهيار داخلي قوي؛ انفصال عن العالم الخارجي، يصير الجسد متوترًا ومنطويًا على نفسه ومشوَّهًا وضعيفًا، مما يُضعِف من قوَّته. ومِنْ ثَمَّ يقل التنفُّس. ويترتَّب على ذلك تقييد إيقاع التنفس وكبته وتجزئته. إذا انسحبت حتى ولو مؤقتًا من حول الناس والمواقف التي تُشعِرك بالخوف، فيُمكنك أن تُحسَّ بهذا الشعور. يمكنك أن تشعر بهذا الانهيار. سوف تتجنَّب كثيرًا أن تستخدِم صوتك، أو تضحك بصوتٍ عالٍ، أو تصرخ كثيرًا، أو أن تعبِّر عن رأيك أو حقيقتك، أو أن تختار إرضاءَ الشخص الذي يملك السلطة عليك. هذا قد يعني أنك في دائرة الحماية والأمان، ومع ذلك قد يراك الآخرون مُفيدًا أو حتى جذابًا. ولذلك، يحمل هذا الخيار في جنباته شعورًا بالأمان، وإذا شعرتَ بالأمان لفترة طويلة بما يكفي، قد تتمكَّن من التحكُّم في الشخص الذي يعتقد أنَّ لديه السلطة دون أن يدريَ بذلك.

الخيار الثاني هو خيارٌ صعب، وسيعني في أحسن الأحوال أنك ستُنبَذ من دائرة التأثير؛ وستُستبْعَد منها. أما في أسوأ الأحوال، فستتعرض لمعاملةٍ قاسية. يتعلَّق هذا الخيار بالتظاهر بالقوة على عكس ما تُضمره: أن يكون صوتك عاليًا، أن تأخُذ مساحةً كبيرة جدًّا. أن يكون صوتك عنيفًا ولحوحًا. أن تصارع بجسدك وصوتك من أجل أن تجد لنفسك مساحةً وتجذب الانتباه إليك.

نادرًا ما يمتلك الأشخاص الذين لا يتمتَّعون بالمساواة رفاهيةَ الظهور بكيانهم الحقيقي الأصلي وبالصورة الطبيعية للجسد والتنفُّس والصوت. إنَّ النقطة، التي نسعى جميعًا إليها ونعرفها بطريقة أو بأخرى، موجودة. إنها نقطة التوازن. في العصور القديمة وحتى في عصورٍ ليست بعيدة جدًّا، كان هذا التوازن هو النموذج الذي يُدرَّس إلى القادة في مدارس مثل إيتون. وكان الهدف هو أن يتعلَّموا كيفية استخدام قوَّتهم من دون إساءة استخدامها. أن يصلوا إلى النقطة التي تقع بين إظهار العدوانية وإضمارها. تلك النقطة التي لم يتوقَّع أبدًا أن يشغلها الذين لا يتمتَّعون بالمساواة.

نقطة ارتكاز أرجوحة التوازن: ليست في الأعلى، ولا في الأسفل، إنما في المنتصف.

منذ آلاف السنين، هناك حملة مُتعمَّدة تمامًا تشنُّها جميع الحضارات الرئيسية الحالية لتقويض القوة الطبيعية للمرأة، إن لم يكن لتدميرها. وتتجسَّد هذه الحملة بصورة ملموسة في كيان كل امرأةٍ وفي جسدها وصوتها.

لم تَسْلَم أيُّ امرأةٍ من أثر تلك الحملة، حتى لو لم يُلاحظ منه سوى أبسط صور التشنُّج البدني، أو الانسحاب، أو التنازل.

لقد حصلت النساء على المساواة القانونية في المملكة المتحدة منذ ما يقرب من ٥٠ عامًا، ولكن معظمهن بقينَ جالساتٍ على المقعد المُنخفض من أرجوحة التوازن. بعضهن تقدَّمنَ إلى المقعد الصاعد، وتمكَّنَ عددٌ قليلٌ جدًّا من العثور على نقطة التوازن المتمثلة في نقطة ارتكاز القوة لديهنَّ.

هؤلاء نساء رائعات كنَّ أكثرَ اجتهادًا في العمل وأكثرَ موهبةً من أغلب الرجال في العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤