التعليم
أدرك الآن، بينما أتقدَّم في العمر، ومن خلال لقاءاتٍ قصيرة مُفعمة بحضور كامل، أنَّ مهنتي كانت أمرًا لا مفرَّ منه. مثل قِطَع صغيرة من الزجاج الملوَّن التي تشكِّل نافذةً زجاجية ملوَّنة، فإن تجميعها لا يبدو مكتملًا إلا من بعيد وبعد مرور الوقت.
أتذكَّر أنني كنت أبكي وحدي في المقاعد الأمامية لمسرح جرينتش أثناء مشاهدة المشهد الأخير من مسرحية «مجموعة الحيوانات الزجاجية» (ذا جلاس ميناجيري) لتينيسي ويليامز. في الخطاب الأخير، هَرب الشخصية الرئيسية — توم — من والدته وأخته. كانت أخته المعاقة تجمع الحيوانات الزجاجية، وأينما هرب كانت لا تُفارق ذهنه حينما يرى الزجاجات الملوَّنة في نوافذ المتاجر. استعصى عليَّ أن أفهمَ بوضوح كيف تفهَّمتُ الحزن الذي شعر به توم، لكنَّ هذا هو سِحر المسرح. نحن نفهم الأمور قبل أن تحدُث لنا، أو أنها تكون مدفونة في داخلنا حتى إذا عبَّر المرء عن صورٍ شعرية دقيقة، فإنَّ تلك الصور تستدعي إلى أذهاننا ذكرى بدقةٍ مُماثلة.
كنتُ وحدي في المسرح لأنَّ عائلتي لم تكن لديها أي رغبة في الذهاب معي. وكان داعيًا إلى الذهول أن أُدرك الآن أني اعتدتُ الذهاب وحدي إلى المسرح في سن السادسة عشرة؛ إذ إن مهنتي حتَّمت عليَّ، من آنٍ لآخر على مدار ٤٥ عامًا، أن أجلس وحدي في آخر المسرح حيث أسوأ المقاعد التي يُسمع منها الصوت!
كنتُ دائمًا أعرف أن مَطلبي الحقيقي هو التواصُل والحضور. ومع ذلك، ارتبط هذا المطلب معي بشعورٍ بالخزي؛ إذ لاقيت باستمرارٍ صعوبةً في التحدُّث أو أن أحظى بالحضور. فالجُرح عميقٌ وما زلتُ أجد لمسَه موجعًا. أُعلِّم الآخرين ما يستعصي عليَّ فِعله. لم تكن الغاية هي التحدُّث بكلامٍ جميل يليق بالطبقة العليا، إنما إعادة تمكين الصوت لدى أولئك الذين عجزوا عن إطلاق صوتهم وكلماتهم وأفكارهم. وكذلك كيفية اكتشاف الجمال الطبيعي في كل صوت. وبالطبع، كانت النساء محورًا مركزيًّا في مسعاي؛ لأنهن في قاع المجتمع وفقًا لتفكير أغلب الناس، ولا يزال عليهن أن يخترنَ التحدُّث، وإبداء رأيهن والتعبير عنه بسهولة، وهو ما يُمثِّل الصفةَ الأكثر أهميةً في أي عمل سلطوي.
بصفتي طفلةً خجولة ومُتحاورة متردِّدة، فإنَّ إرسالي إلى تعلُّم الإلقاء لم يُحسِّنِّي، إنما أثار فضولي حول سبب عدم إبدائي أيَّ تحسُّن. كنت أعلم أنَّ لدي صوتًا، لكنه لم يكن متجاوبًا معي. لم يكن صوتي مُطلقًا أو مُتحكَّمًا فيه؛ لذا لم تكن التمارين على الكلام والمدى الصوتي تُجدي نفعًا.
إذا لم تُجدِ التمرينات نفعًا وتغيُّرك، فلِمَ المواظبة عليها إذن؟ وكانت النتيجة أنَّ مُعلِّمي أبلغ عني بأني كسولة!
كان شغفي في المدرسة متجهًا إلى الشِّعر، وشكسبير، والفلسفة، والأدب الإنجليزي، والتاريخ. وحينما بلغتُ سن الثالثة عشرة، وجدتُ طريقي إلى المسرح الذي كنت أزوره بقدْرِ ما أستطيع.
في البداية، في الثالثة عشرة من عمري، ذهبت إلى المسرح الجديد بمدينة روملي، ثم بدأت السفر إلى مسرح جرينتش أو مسرح «أولد فيك» في لندن. أدركتُ الآن أنَّ التمثيل الرائع جعلني في حالة حضورٍ بدرجةٍ لم يكن ممكنًا لي أن أعيشها في المنزل.
لم أكن أعرف أني أبحث عن الصوت والتمكين الصوتي، لكن كنتُ أدرك حينها حقًّا أني أبحث عن قصص مُهمة، وكلام صادق، وراوي قصص مُتحمِّس.
كنتُ متلهفةً إلى الحوار والنقاش.
أُرسِلت، وأنا في سن الخامسة، إلى مدرسةٍ صغيرة مختلطة حيث بقيتُ هناك حتى سن التاسعة. كانت السيدة أوتواي، صاحبة المدرسة، امرأةً غريبة الأطوار وفائقة الذكاء؛ كانت تُعلِّم الأطفال ذوي السنوات السبع الجدَل السقراطي.
أجبرتنا السيدة أوتواي كذلك على تعلُّم قصيدةٍ كلَّ أسبوع، وإذا لم نتعلَّمها بدقة، كان علينا البقاء في المدرسة حتى نُتقنها.
ما استمتعتُ بدراسته لم يكن الصوت، إنما الكلمات وبِنيَة الجُمَل. ما فهمته، في سنٍّ مبكرة جدًّا، بفضل حبِّ أُمي للشعر وحبِّ جَدتي لراوية القصص، هو أنَّ الفكرة وإيقاع الكلمات وسرعتها وصوتها ومعناها لا تتكشَّف لي إلا عندما أُلقيها بصوتٍ عالٍ أو أسمعها.
في النهاية، بدأتُ أشارك في المسرح، وعلَّمَنا مُدرِّس الغناء نظامَ التنفُّس الكلاسيكي الذي يتَّبعه المُغني.
في مدرسة البنات، حصلتُ على فرصةٍ لأداء أدوارٍ رئيسية في مسرحيات شكسبير. كانت التوجيهات الخاصة بالصوت التي تُعطى لنا هي أن ترنَّ مديرة المدرسة جرسًا يدويًّا صغيرًا في آخر القاعة إذا لم تستطِع سماعنا، حتى مع وجود جمهور. قد يبدو الأمر مبالغًا فيه، لكنه لم يكن مختلفًا عن المسرح، عندما كان يصيح الجمهور إذا لم يستطِع سماعَ الصوت. كان هذا حدثًا معتادًا. فكان الجمهور يطلب سماعَ القصة كاملة. بينما الآن قلَّما يحدُث ذلك، فمن المُحزن أنَّ الجمهور رُوِّض على ألا يُطالِب بقصة مسموعة بأكملها.
لن يُسمَح لمعظم معلِّمي اليوم بالتدريس الآن؛ إمَّا لأنهم كانوا غير مؤهَّلين أو أنهم غريبو الأطوار للغاية. كانوا يشردون بعيدًا عن المنهج، وألهمونا بلحظاتٍ غير تقليدية من الشَّغف وأحيانًا بحقائقَ قاسية.
لكن، في سن الخامسة عشرة، بدأتُ في قراءةِ كتبٍ، كنت إذا ذَكَرْتُها لمعلِّميَّ، فإما أن تُقابَل بالتجاهُل وإمَّا أن تُثير قلقهم.
ثم كانت مُعلِّمة اللغة اللاتينية — السيدة بريكي — مَن لاحظت ما كنت أقرؤه وأبحث عنه. فمرَّرَت إليَّ سرًّا نسخةً من كتاب «الندوة» لأفلاطون؛ لهذا أدرك الآن أنها خاطرت بنفسها.
تناول الكتاب نقاشًا يونانيًّا عظيمًا عن الحُب. بدا كتاب «الندوة» مشوقًا وجذابًا للغاية من الناحية الفكرية، لكن ما أثار حيرتي أنه لم يأتِ أيُّ ذِكرٍ عن المرأة. عندما أشرتُ بتلك الملاحظة إلى السيدة بريكي، ضحِكت بصوتٍ عالٍ وفي سعادة. فكنت قد عثرتُ على خيطٍ آخر لحل اللغز. إنَّ النقاش الإغريقي العظيم عن الحُب لا يذكر النساء أبدًا.
لا يزال لديَّ كتاب الدراما الإغريقية الذي أعطتني إياه مُعلِّمتي في الدراما لأقرأه. لم أُعِد الكتاب إليها؛ إذ إنه كان مشوقًا للغاية. كانت قد اشترته حديثًا؛ لذا وَجَب عليَّ حينها أن أعرف أنها ستحتاج إليه مرةً أخرى. نُشِر الكتاب عام ١٩٦٨ وكان يحتوي على مجموعةٍ من المسرحيات الإغريقية. بدت الترجمة حرفيةً وأكاديمية وصعبةَ التفسير، لكنني رغم ذلك كنت مولعةً به.
كنت قد تعلَّمت اللاتينية وليس اليونانية. وحتى أفكَّ غموضَ هذه المسرحيات، كان عليَّ البحث في المكتبة وإرسال العديد من أمناء المكتبة المُتنهِّدين من التعب لإحضار الكتب من أرشيف الكتب. كنت أجمع قِطَع اللغز معًا، فباغتتني الصدمة الحقيقية عندما قرأت «اليومنيدس» لإسخيلوس. فوجدت إلهات الانتقام، تلك النساء الشمطاوات القبيحات المُريعات. أولئك اللاتي يُطارِدن ويلاحِقن الرجال الذين أساءوا إلى النساء والأطفال، ويسعَين إلى تحقيق العدالة من أجلهم.
كانت إلهات الانتقام تُطارد أوريست الذي قتل أمَّه لأنها قد قتلت والده — أجاممنون — ذلك المحارب العظيم وقاهر الطرواديين. كان أجاممنون قد ضحَّى بابنته ليُغيِّر مسارَ الرياح حتى يتمكَّن من الإبحار إلى الطرواديين. فقتلت الأمُّ قاتلَ ابنتها. فقلت في نفسي إني فهمت الأمر. بدأ العنف الذكوري سلسلةَ القتل. أبٌ يقتل ابنته ظلمًا تحت مُسمَّى التضحية. لماذا يجب أن يُضحى بنا جميعًا؟ لكن كم أُسلِّي قلبي بأنَّ هناك مجموعةً من النساء كانت تطارد الرجال.
أعجبتني إلهات الانتقام.
أعجبني النجاح المسرحي الذي حقَّقه إسخيلوس في مسرحية «اليومنيدس». لم يكن من المفترَض أن تظهر إلهات الانتقام. ولم يكن من المُفترَض أن يظهر الرعبُ الذي يُسبِّبنه. لكنه عرَضها على المسرح. كنت سعيدة حينما اكتشفت أنَّ الصدمة التي أحدثها وجودُ نساء قبيحات وقويات على المسرح كان لها تأثيرٌ كبير لدرجةِ أنَّ الرجال أُغشي عليهم.
اكتشفتُ أيضًا أنَّ النساء لم يُمثِّلن نسبةً من الجمهور في اليونان القديمة. فاقتصر سماع هذه المسرحيات العظيمة، التي تتناول موضوعاتٍ عن القوة والقيادة والنقاش الأخلاقي، على الرجال. ولم يُسمح إلا بحضور بعض العاهرات، اللاتي يُطلَق عليهن اسم «فتيات الناي»، اللاتي يُلبِّين شهوات الرجال الجنسية.
احتجتُ إلى مناقشة مسرحية «اليومنيدس» مع شخصٍ ما. وجدتْ أمي أنَّ هذه النصوص بذيئة، وكنت أعرف أنها لن تتقبَّل إلهات الانتقام؛ عادةً لافتقارهن إلى الجاذبية الأنثوية. كانت قد أوضحت لي مِن قبلُ أنَّ الطريقة، التي كنت أرتدي بها ملابسي وأجادل بها وامتناعي عن تمويج شعري ليأخذ شكل كتلةٍ ثابتة، ليست سبيلًا نافعًا لأسلكه في الحياة.
حتى عندما كنت في الرابعة من عمري، كنت أدخل في صراعٍ وأتشاجر معها عندما تحاول أن تُلبِسَني فستانًا جميلًا.
يئست مني، لكنها لم تستطِع منْعَ نفسها من توجيه تعليقات لاذعة على ملابسي وَوزني وشَعْري.
كانت تؤمن بأنَّ المرء عليه أن يحاول تقديمَ أفضلِ ما في وُسعه. وأن يحاول ترْكَ انطباعٍ جيد، مثل أختي. إذ كانت تُصفِّف شعرها وترتدي ملابسها على أكمل وجه، وكذلك تصقل أظافرها، ولديها أصدقاء «ناجحون».
أدركت أمي فيما بعدُ الخطأ في طريقتها.
لسببٍ لا أذكره، اصطحبتُ أمي لمشاهدة عرضِ ديبورا وارنر لمسرحية «تيتوس أندرونيكوس» عام ١٩٨٧ في مسرح الباربيكان. كنت قد أسهمت في العمل على هذا العرض. كانت لافينيا تُشاهد زوجَها وهو يُقتَل. أما هي فاغتصبها القاتلان، وقطَّعا يدَيها ولسانها ليمنعاها من ذِكْر أسماء الجناة.
ظهرت لافينيا في ذلك العرض، بتشوُّهات جسدية فظيعة، وكانت ملابسها بأكملها متسخةً وملطخة بالدم، وظلت بالملابس نفسِها حتى موتها ونهاية المسرحية.
في نهاية العرض، حينما كنا نشرب كأسًا من النبيذ، كان تعليق والدتي الوحيد هو: «لماذا لم يُنظِّفوها ويُلبِسوها فستانًا جديدًا؟»
قلتُ لها: «أمي، هل سيُصبح الوضع جيدًا عندما ترتدي فستانًا مكويًّا جديدًا، وتستحم، وربما تعقد أنشوطة حول يديها المبتورتَين؟»
نظرتْ إليَّ وبدأت تضحك حتى انهمرت الدموع على وجهها. فضحكنا معًا. توقَّفت بعد أن استعادت حالتها الأولى، فقد توصَّلت إلى علاقةٍ جوهرية من خلال قوة المسرح.
قبل سنواتٍ، كانت أختي قد تعرَّضت لنزيفٍ دماغي مُهلِك. عندما قُمنا بزيارتها في مستشفى كوينز سكوير، كان واضحًا، على نحوٍ مؤلم، أنَّ زوجها وأصدقاءها لم يزوروها. لقد هُجِرت هذه السيدة الجميلة الأنيقة. في تلك الليلة في المسرح، نظرت أمي في عينَيَّ وقالت: «عندما كانت سوزان في المستشفى ولم يأتِها زائرون، فكَّرت أنَّ باتسي كان سيأتيها زائرون. لدى باتسي أصدقاء أوفياء.»
فسخرتُ منها قائلةً: «إذن، فشعري وملابسي لا يحملون هذا القدْر من الأهمية؟»
وافقتني قائلةً: «أجل، إنهما يدُلان على مظهركِ الخارجي، وليس على شخصك، ولا جوهرك، لكن كان بوسعك أن تجمعي بين المظهر والجوهر.» كانت دائمًا تستأثر بالتعليق الأخير بطريقتها الهادئة المتواضعة!
عندما اكتشفتُ إلهات الانتقام لأول مرة وأنا في الخامسة عشرة، ذهبتُ إلى جَدتي للحديث عنها وعن الغضب والسخط.
كانت تدخِّن وتمص نعناعها في آنٍ واحد، وهي عادةٌ كانت تُثير فضولي دائمًا.
لم تُبدِ إعجابها. «لماذا تخبرينني؟ هل لأني عجوز قبيحة غاضبة؟ هل لأنني عجوز شمطاء؟»
«لا، أعتقد لأنهن مثيرات للاهتمام.»
توقَّفت فترةً طويلة. لم يُسمَع إلا صوتُ المص، وتَحرُّك اللعاب حول طقم أسنانها. «ربما ليس كلهن عجائز قبيحات، ربما أنَّ بعضهن شاباتٌ وجميلات.»
«تَذكُر المسرحيات، يا جَدتي، أنهن عجائز قبيحات.»
«إنَّ الذي قال ذلك لَرجلٌ. ربما عندما تُظهِر النساء غضبهن، يرى الرجال أثرَ أعمارهن وقُبحهن. تُهاجَم الكثير من النساء بسبب غضبهن ويزداد الهجوم عليهن لأنهن شابَّات جميلات. الرجال يرَون ما يريدون رؤيته.»
ازداد إعجابي بعد ذلك بغضبِ إلهات الانتقام. قد تكون جَدتي على حق.
كنت مستاءة من أنَّ أثينا — إلهة الحكمة — أطفأت غضب إلهات الانتقام، وأعادت تسميتهنَّ باسم «الرءوفات» (الرأفة، وهو ما طلبته أمي منِّي عندما كنت أتجادل مع والدي. «تحلَّيْ بالرأفة معه.») وأرسلتهن بعيدًا عن ضوء الشمس ومرأى البشر إلى رحم الأرض في الأسفل، من خلال كهف. وهو المسار العكسي للولادة، حيث العودة إلى الرحم.
كنت أعتقد أنَّ هؤلاء الكتَّاب الإغريق من الرجال يعرفون شيئًا في غاية الأهمية عن قوة المرأة. فالدلائل مُنتشرةٌ في كل مكان.
إنَّ غضبنا يُثير اشمئزازَ الرجال ولهذا لا بد من ترويضه. إذ إنه يُذكِّرهم بقوَّتنا وبظلمهم تجاهنا.
الجدال، المسرح، الموسيقى، العمارة، الرياضيات، سبْر أغوار النفس من خلال التعبير اللفظي. استخدام الاستعارة. التوازن بين العقل والعاطفة. كلُّ ذلك نُقِل من خلال الإغريق، ثم أُعيد اكتشافه، وإحياؤه من جديد في أوروبا في عصر النهضة.
لكن ما ورِثته النساء كان مُدمِّرًا.
شنَّ الإغريق حملةً مدروسة لتدمير جميع المجتمعات التي تحكمها امرأة ويمكن لأساطيلهم أن تصل إليها فعليًّا. فحبسوا النساء وراء الأبواب المُغلقة: صار الغرض من حياتهن هو إنجاب الأطفال والنَّسْج. والسبب وراء ذلك هو قوة أصوات النساء، وليس لضعفهن.
كان لدى الإغريق معرفة واعية وذكرى مُخيفة عن قوة المرأة. فتَشَكَّل لديهم إنذارٌ دفعهم إلى ارتكاب إبادة جماعية للنساء. تلعب النساء في المسرحيات — التي لم تُشاهدها أيُّ امرأة — أدوارًا بوصفها طاقةً مُرعبة عند تحريرها، وقوةً مُخيفة لا يمكن هزيمتها. ومع الخوف تأتي الكراهية. لذلك لم يُسمح للنساء بأن يتمتَّعن بمساواةٍ عادلة وبنصيبهن الذي يستحققنه من العالم: ولم يَعُد الأمر مقتصرًا على التعاطف والإنجاب، إنما امتدَّ إلى عقولهن البراقة، وقوَّتهن وإبداعهن، وكذلك تفكيرهن المنطقي.
كانت إلهات الانتقام يأتينني كلَّ يومٍ في مرحلة مبكرة من البلوغ قبل عام ١٩٧٥. كان غضبهن محبوسًا في أعماق معظم النساء اللاتي عرفتهن، وكذلك في بعض الرجال. في سبعينيات القرن العشرين، كان الجلوس لمناقشة الأفكار مع النساء أمرًا خطيرًا. لم نكن نتفقَّد المكان بحثًا عن الرجال، أو نَرُد بسرور على تعليقاتهم وعرْضهم لتناول مشروب، أو على دعوتهم للانضمام إلى المجموعة، كنا غالبًا ما نُعامل على أننا إلهات الانتقام.
محاولة التقرُّب الأولى: «مرحبًا أيتها السيدات، هل أنتن بحاجةٍ إلى رفقة؟»
فنجيب بردٍّ مُهذَّب: «لا، شكرًا.»
محاولة التقرُّب الثانية: «أوه، أنتن حقًّا لا تُرِدْن الجلوس وحيدات!»
نُجيب بردٍّ أكثرَ حَزْمًا: «لسنا وحيدات.»
الهجوم الأول: «ما مشكلتكن؟»
الهجوم الثاني: «أنتن قبيحات على أي حال.»
الهجوم الثالث: «كنت أعرف أنكن مِثليات مُشْعِرات.»
الهجوم الرابع: «ما تحتاج إليه الفتيات هو أن يُنظَر إليهن بإعجاب، أمَّا أنتن فلا تستحققن حتى الاغتصاب.»
قد يبدو من الصعب تصديقُ هذا الحوار الآن، لكن قد تَسرد عليكِ هذا المشهد، كلمةَ كلمة، أيُّ امرأة كانت تجلس مُستغرِقة في محادثةٍ دون حضور أي رجلٍ معها. وتصبح مغادرة الحانات إحدى سبل النجاة.
عندما كنتُ في المدرسة، عرَّفتُ الفتيات الأخريات عن إلَهات الانتقام، لكنهن لم يُبدين اهتمامًا بها. بل كان اهتمامهن متجهًا نحو الأولاد وأن يُصبحن مشهورات. كانت الفتيات والأولاد، الذين التقيتُ بهم، ينظرون إليَّ باعتباري شخصيةً جادة للغاية، وعندما كنت أخرج لمواعيدَ غرامية كان عليَّ أن أستمسِك بقوَّتي مع الأولاد مثلما كان عليَّ أن أفعل مع والدي.
كان الاختيار واضحًا والتضحية فورية. كنتُ أواعد شابًّا وسيمًا وذكيًّا يكبُرني في السن بعام.
كنت مُعجبةً به.
كنا في فصل الصيف عندما اقترح أن نلعب التنس.
كنتُ لاعبةً جيدة، لا، بل كنتُ لاعبة ماهرة. فزتُ في بطولات وتدربتُ مع أفضل المُدربين. لم يكن على دراية بذلك. حاولت تجنُّب اللعب، لكنه أصرَّ. وقال إنه يُحب اللعبة.
وصلنا الملعب وبدأنا في الإحماء. رأيت أولى بوادر الدهشة على وجهه عندما أعدتُ الكرة بسرعة ودقة. في أثناء الإحماء بضربات البدء، تسبَّبت ضربتي المستديرة القوية في ظهور دهشة أكبر على وجهه، وأخذ إحساسه بالخوف يزداد.
فاز في القرعة وسدَّد ضربة البدء. لكني فُزت بالشوط.
عندما غيَّرنا الجانبَين وتبادلنا الأماكن، تحدَّتني عيناه بأن أفوز وأظهرَت لي أيضًا عواقبَ الفوز.
عندما كنت أنطِّط الكرة استعدادًا لتسديد ضربة البدء — لا يزال بإمكاني تخيُّل الكرة وهي ترتد بجانب قدمي، بالأحرى بجانب الحذاء الخفيف الذي كنت أرتديه — راقبتُ الارتداد وثمَّة صوت واضح في رأسي قال: «يمكنكِ أن تفوزي في اللعبة وتخسريه أو تخسري اللعبة وتخسري نفسك.»
رفعتُ بصري ورأيته مستعدًّا لاستقبال الضربة.
فسدَّدتها.
بالكاد كسب نقطةً في الجولتين اللتين لعبناهما. ولم أرَه مرةً أخرى.
سلْ أيَّ امرأة، وستكون لديها تجربة مُماثلة. إنها قصة تتعلَّق بلحظةٍ لا تُنكرين فيها قوَّتك أو ذكاءك أو فِطنتك أو موهبتك، وأنتِ مُدركة بأنك تُخاطرين بفقدان شخص تهتمِّين بأمره. كنتُ محظوظة أن ذلك حدث في حياتي وأنا في سنٍّ صغيرة. إنَّ العديد من النساء كن أكبر سنًّا بكثير عندما تحتَّم عليهن التمسُّك بقوتهن، على الرغم من أنَّ الخسارة كانت أشدَّ قسوة. لم أقَع في غرامه؛ لذا لم تكن المخاطرة عالية بتلك الدرجة.
كانت شخصيتي المُكتملة ستعترض على شُربِ زوجي الخمرَ قبل الزواج منه. لم أستطِع تخيُّل حياتي من دونه، ولكني، بطريقةٍ أو بأخرى، عرفت أنه سيختار الخمر. كنت خائفة جدًّا من اختباره. مثلي مثل الكثيرين الذين يحبُّون، اعتقدتُ أنَّ مشاعري تجاهه ستنتصر وتحلُّ محلَّ الكحول. ربما كانت أمي تعتقد الشيء نفسَه عن والدي. لكن الحُب يجب أن يوضع تحت الاختبار، ونحن لا يُمكننا اختبار مَن نُحب إلا إذا كان لدينا ما يكفي من تقدير الذات، ونتمتَّع بالمساواة، ومن ثَم لا نشعر بالخوف.
تضع مسرحيات شكسبير الحبَّ تحت الاختبار. أحيانًا يجب أن تكون الفتاة مُتنكِّرة في شخصية رجل حتى يتمكَّن زوجها المُحتمَل من تقدير ذكائها ومن ثَم منحها مساواتها وهيبتها.
عندما كبِرت، أدرك بعض النساء والرجال أن جِدِّيَّتي كانت مفيدة.
في بعض الأحيان، كان الغرباء يلاحظون جِديتي ويثقون فيَّ. ثم أبدأ في سماع الاعترافات.
في سن السابعة عشرة، بدأت أعمل في متجر كبير ذي أقسام. كنت أقضي سنتَين من الانقطاع عن الدراسة. ترقَّيتُ سريعًا وأصبحت أدير قسمَ الألعاب. كانت تعمل تحت إشرافي امرأةٌ في أواخر الأربعينيات. كانت تُظهِر جمالًا في ثيابها وشَعرها المُصفَّف وأظافرها المطلية، وأوضحت تمامًا أن يوم راحتها هو الأربعاء. ولم تدَع مجالًا للنقاش.
كانت امرأةً رائعة مثيرة للإعجاب. بدأنا نتحدَّث معًا. كانت ذكية ووسيمة. ولم تكن متزوجة. واحترمتُ أنَّ هذا موضوعٌ يُحظر التطرق إليه. لم يبدُ أنَّ لديها الكثير من الأصدقاء: فكانت وحيدة. لم تُكمل تعليمها، لكنها كانت واسعةَ الاطلاع. تحدَّثنا عن كتبٍ وأفكارٍ. ثم في يوم من الأيام، عندما لم يكن في المتجر أحدٌ، شعرتُ أنها تريد أن تقول شيئًا. فانتظرت.
رأيتها تأخذ نفَسًا عميقًا ثم قالت: «هناك سببٌ وراء تخصيصي يوم الأربعاء يومًا لراحتي. كل أربعاء، أقابل رجلًا. رجلًا أحبُّه. هذا هو يومنا.»
«وهل هو يحبُّكِ؟»
«أوه نعم. لقد قضينا معًا ما يقرُب من ٢٥ عامًا.»
«وتتقابلان الأربعاء فقط؟»
«إنه متزوج ولديه أطفال.»
كان إيقاع حياتها مُنظَّمًا على حياة هذا الرجل. كانت حياتها مكرَّسة له. كان لديه أسرة وأطفال، وهي التي كانت تُرافقه كلَّ أربعاء. لم يسبق لها قط أن قابلت أيَّ شخص آخر. كان حُبَّها. لم تقضِ معه أيَّ إجازات، أو عطلات نهاية الأسبوع، أو أعياد ميلاد، أو عيد ميلاد المسيح، ليس إلا الأربعاء فقط. استمعتُ، وطرحتُ أسئلةً بين الحين والآخر. على مدار الأسابيع التالية سمِعت المزيد. كانت تلتقي به في الفندق الصغير نفسِه في الساعة الثامنة صباحًا، ثم يُغادر هو في المساء. كانا يتسكَّعان، مثلما يقول ابني الآن. كانت تعرف أمورًا بسيطة للغاية عن حياته.
لا تعرف رقمَ هاتف له أو لمكان عمله. نادرًا ما يشتري لها هدايا، ولم يُعطِها مالًا قط، لكن كان بوسعها أن تمكثَ ليلة الأربعاء في الفندق إذا اختارت ذلك.
كانت بمثابة جارية بلا مقابل. لم تجمع ثروةً، وكان هو المكافأة. أحبَّته وكان كافيًا لها، وكل شيء كان يسير وفقًا لشروطه.
وفي يوم خميس، جاءت إلى العمل وبدا الانزعاج واضحًا عليها. عندما تُصبح منزعجة، تتعامل بفظاظة مع العملاء. كنا مشغولين؛ لذا عوَّضت تقصيرها في المتجر. لم تَعُد بعد الغداء. فغطيت مهامها.
أخبرتني يوم الجمعة أنه لم يأتِ إلى الفندق.
وازداد استياؤها يومًا بعد يوم حيث لم يأتِها خبرٌ منه ولم تستطِع هي الاتصال به.
بدأتُ أتلقى شكاوى من فظاظتها. لم أكن أعرف ماذا أفعل. فكنتُ أحتفظ بسرِّها.
بعد ثلاثة أسابيع حلَّت لغز غيابه. لم أعرف قط كيف فعلت ذلك.
جاءت إلى العمل وأخبرتني. كان قد مات على إثرِ إصابته بأزمة قلبية. كانت الجنازة قد بدأت وانتهت ولم تكن قد علِمت أيَّ شيءٍ عنها.
كان غضبها وحزنها واضحَين، ولم أعرف كيف أساعدها. كنتُ عاجزة.
ثم في أحد الأيام، دخل مسئولو الموارد البشرية إلى القسم وذهبتْ لتحضُر اجتماعًا معهم. ثم عادت لأخذ أغراضها.
«لقد فُصِلت عن العمل.» سارت بعيدًا في حزنٍ لا يُسلَى مدفوعةً بموجةٍ من الغضب والحزن.
بقيتُ وحدي في القسم واقفةً بلا فائدة بجانب خزينة الدفع. ذهبتْ ولم أتبعْها.
لم أرَها مرةً أخرى.
كانت جارية مُطيعة. مُحبَّة بلا حقوق.
اختارت وضَحَّتْ، لكنها لم تكن مدرَّبة أو متمكِّنة من إظهار غضبها له، احتفظت بمطالبها في قلبها. لا بد أنه وَثق من أنه يكفيها، وأنَّ الأربعاء كان كافيًا وأنها لا بد أن تكون مُمتنَّة لهذا.
هل كان مدركًا أو مهتمًّا بوحدتها وتضحياتها؟ وأنها لم يكن لديها خيار إلا أن تشعر بالغضب على وفاته؟
«لا يمكنك أن تأكل كعكتك وتحتفظ بها.»
في مسرحية «نساء طروادة» ليوربيديس، بعد تدمير الطرواديين، تنتظر النساء ذوات الامتيازات لسماع مصيرهن. إنَّ بولكسينا — الابنة الصغرى لهيكوبا وبريام — تفهم هذه التضحية. كانت تعمل كاهنةً ووصيفة لزيوس الذي قد خانهم جميعًا. لقد بنَوا معابدَ، وأشعلوا البخور، وكرَّسوا حياتهم له، وقد تخلَّى هو عن رابطتهم المقدَّسة.
تعمل الخادمات على خدمةِ شخصٍ يشعرن أنه أفضلُ منهن. إما أن يكون إلهًا، أو حبيبًا بالنسبة لبعض النساء. والخادمات لا يتمتَّعن بالمساواة، ولقد قضينا حياتنا خادماتٍ طَوال قرونٍ على أملِ ألا نتعرض للخيانة. إنَّ هذا الموضوع يحمل أهميةً بالغة حتى إنني كتبت فصلًا حوله، وهو الفصل السابع عشر.
التقيتُ بإلهات الانتقام متجسِّدات في بعض النساء اللاتي درستهن في سجن هولواي للنساء. قَتَلتْ هؤلاء النسوة الرجالَ الذين اعتدَوا عليهن. عندما بدأن في طعن هؤلاء الرجال، لم يتمكنَّ من التوقُّف. أصيب القانون الذكوري بالهلع من أنَّ هؤلاء النساء لم يسدِّدن طعنةً واحدة، إنما عدة طعنات. فالإساءة المُختزَنة فيهن أجبرت ذراعهن والسكين الذي في أيديهن على طعن أجساد المعتدِين مرةً تلو الأخرى. أثَّرت وحشية الهجوم عادةً على الحكم الصادر عليهن. وكان أشدَّ قسوةً لأنَّ الرجال لم يستطيعوا فهْم ما حدَث. نحن نحتفظ في داخلنا بالغضب لأننا نعرف أنه يُضفي علينا قبحًا وضَعفًا أمام الرجال.
الأمر بسيط. ظلَّ الغضب مروَّضًا فترةً طويلة حتى إنه حينما تحرَّر، لم يكن هناك ما يُطفئه. لم تعرف إلهات الانتقام الكلل في سعيهن وراء تحقيق العدالة للنساء. بالطبع، لم يتمكنَّ من التوقُّف. ليس مُمكنًا لرجلٍ أن يتوقف إذا ما بدأ في ضرب شخصٍ معادٍ له. هذه الصورة هي واحدة من أعظم قصص هوليوود التي تتناول ضحايا الظلم، والتي تعلَّق بها الجميع ومجَّدوها. لكن الأمر يختلف إذا كانت الضحية من النساء.
إذا لم تُظهِر النساء غضبَهن، فسوف يخرج بطريقةٍ ما بعد سنوات من الكبت، وحينها لن يمكن إيقافه، أو أنه سينقلب على جسد المرأة نفسِها. شهِدتُ هذا الأمر في بداية تدريسي في سجن هولواي للنساء ووجدتُ نقيضَ ذلك في سجن بنتونفيل الرجالي. عندما يغضب السجناء الرجال، يُطلقون غضبهم إلى الخارج. فيضربون، ويتصارعون ويكسِّرون زنازينهم.
أمَّا في هولواي، فبدأت ألاحظ كيف يُسحب الغضب الذي شعرَ به هؤلاء النساء نحو أنفسهن. كن يجرَحن أنفسهن وتحدَّثن معي بصراحة عن مدى إسهام ذلك في تخفيف غضبهن.
أوضح لي ذلك ما كنتُ قد شهِدته، لا سيما في جَدتي.
في المكتبة التي عمِلت فيها عام ١٩٧٢ بعد عملي في المتجر الكبير، بدأتُ ألاحظ كيف أُسكِتت الأصوات الروحانية للنساء. كان هذا من خلال لقاء وصداقة غيَّرت حياتي مع قسٍّ، الموقَّر كما كان يُطلق عليه.
كان الموقَّر في الثمانينيات من عمره. رث الهيئة، غالبًا ما يبدو غيرَ حليق وغيرَ نظيف. تظهر ياقته البيضاء مفكوكة ومتَّسخة حول رقبته النحيلة. ولم يتبقَّ له سوى بضع أسنان. كان له عينان مُفعمتان بالحيوية. كنت أحبُّ أن أكون على المكتب عندما يأتي.
بدت الكتب التي كان يقرؤها مثيرةً للاهتمام. فبدأنا نتحدَّث معًا. كان يعرف أشياءَ كنت أرغب في معرفتها.
كانت قصَّته أنه كاهن كاثوليكي يوناني، ولكنَّ آراءه ودراساته لم تكن مقبولة لهم. وفي تلك الآونة كانت الكنيسة الأنجليكانية قد منحته منزلًا. كان يُقدِّم خدماتٍ عندما تظهر حاجةٌ إلى كاهنٍ بديل. سمِعته يُلقي موعظةً، كان جيدًا وخطيرًا ومثيرًا. كان باحثًا وعالمًا لاهوتيًّا بارعًا وفوضويًّا. كان يقرأ اليونانية، والآرامية، والعبرية، والآرامية النبطية.
ترجم بعضَ مخطوطات البحر الميت وعرَّفني على الأناجيل الغُنُّوصيَّة.
كان الشخص الأول الذي سمِعته يقول إنَّ الكنيسة كان يجِب أن تُعهَد إلى مريم المجدلية. كان أول رجل ألتقي به تُغضبه الطريقة التي عاملت بها الكنيسة المسيحية النساء. بدأنا نتقابل لتناول الغداء والشاي. لم تكن المُقابلات تحمل اهتمامًا جنسيًّا أو مريبًا، أراد فحسب أن يُساعدني في الإجابة عن أسئلتي.
الأمور الأخرى التي عجزتُ عن فهْمها.
«الرائحة المنبعثة منه.»
«وكونه مثيرًا للاهتمام.»
كان صبورًا وحماسيًّا. شارك بعضَ الكلمات وكيف كانت قد تُرجِمت، والتغييرات الدقيقة التي طرأت على المعنى، وهي ما دفعت المعتقَد المسيحي نحو اتجاهٍ لقمع مساواة المرأة بالرجل.
أوضح لي قائلًا: «للعذراء معنيان، أحدهما يعني العفاف. والآخر يعني النقاء الروحي.»
كانت مريم تتمتَّع بالنقاء الروحي.
«لا يقول يسوع «أنا الطريق، الحق، الحياة.» إنما يقول: «أنا طريقٌ، حقٌّ، حياةٌ.»»
بالطبع: صُحِّحَت.
كان هذا عام ١٩٧٢. ولم يكن ذلك فكرًا تقليديًّا أو رائجًا في ذلك الوقت، إنما كان رجلًا عجوزًا غاضبًا من معاملة كلتا المَريمتَين.
ذات مرة، كتب لي اسمًا على قصاصة ورق: كارل ياسبرس. طبيب نفسي وفيلسوف. دسستُ الورقة في جيبي. وبعد هذا اللقاء، غاب الموقَّر أسابيعَ، وعلمتُ في النهاية أنه قد توفِّي وأن أبحاثه نُقلت إلى عهدة الكنيسة الأنجليكانية.
أدركت الآن أنني قابلتُ رجلًا مستنيرًا. رجلًا سبَح ضد تيار المعتقَدات السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية. رجلًا عرف الحقيقة عن المساواة الحقيقية للمرأة والإساءة التي تعرَّضن لها. كان أحد المُسبِّبات الرئيسية لغضب الموقَّر هو حرمان النساء من أعلى مستويات الممارسة الروحية المُتمثِّلة في الحديث عن النصوص المقدَّسة والقدرة على زعامة عبادات وطقوس دينية. وكان ذلك قبل فترةٍ طويلة من تنصيب النساء في الكنيسة الأنجليكانية. وهو ما أثار إعجابي.
كانت قناعته أنَّ ذِكْر الكلام المقدَّس يحملك على التغيير، وأنَّ الصفات المحسوسة من الكلمات عند النطق بها بصوتٍ عالٍ قد تُشفي روحك، وأنَّ النساء يجب أن يُتاح لهن ذلك التغيير والشفاء.
بعد وفاته بدأتُ أقرأ لكارل ياسبرز. إنَّ البحث الذي أثاره عملُ ياسبرز في داخلي كان حولَ ما أسماه «الزمن المحوري». كان هذا هو الزمن (٥٠٠–٣٠٠ قبل الميلاد) الذي أنتج أو أوجد جميعَ الديانات والفلسفات العالمية الحالية المؤثِّرة (الهندوسية، البوذية، الأنبياء العبريين، الكونفوشيوسية والفلاسفة اليونانيين). وجميعها استثنى النساء من الأدوار المقدَّسة.
أكان هذا مفتاحَ اللغز؟ لقد فقدَتِ النساء قوتهن في المجتمع في اللحظة التي حُظِرت فيها أصواتهن الروحانية.
ذكَّرني الموقَّر بأسئلةٍ كنت قد طرحتها عندما كنتُ أصغرَ عمرًا. ذكَّرني بالسؤال الذي طرحته على أحد المعلِّمين بعد أن فرغنا من صلاة الصباح وغناء الترنيمة المُفضَّلة لي «إلهي وأب البشر». كنت قد جُلْتُ ببصري في أرجاء القاعة ولم يكن هناك أيُّ رجلٍ، فسألت: «لماذا لا نُغنِّي «أُمنا وأم النساء»؟»
كنتُ في الحادية عشرة ولم يكن السؤال مقبولًا. ترسَّخ هذا السؤال في ذهني عام ١٩٧٦، عندما صدر كتاب ميرلين ستون بعنوان «عندما كان الرب امرأة». أتذكَّر أنني كنتُ أقرؤه في الطابق العلوي من الحافلة التي كانت تسير ببطءٍ في شارع أبرستريت في حي إزلنجتون. رفعت بصري وتطلَّعت من النافذة، حيث تظهر العديد من تجارب حياتي تحت المجهر بوجهٍ مختلف.
بعد ذلك بفترة طويلة، تحدثتْ إليَّ عبْر الهاتف صديقتي المُمثِّلة أوليمبيا دوكاكيس. كان ذلك عام ١٩٩٩. تلقيتُ نصًّا مذهلًا منها. كان لديها جزء قديم من مسرحية فارسية. كانت تعود إلى زمنٍ قديمٍ جدًّا، منذ ٥٠٠٠ سنة. أرادت أن تتدرَّب عليه معي. كان هناك مشهدٌ قصير كانت قد ترجمته. كان الإطار الزمني لأحداث المسرحية هو فترةً تمتَّعت فيها النساء بقوة روحانية كاملة، وربما بالقوة كلها. عاشت الكاهنات في ركن قدس الأقداس بالمعبد. وكانت النساء يُعتبَرن المدخلَ المقدَّس إلى الإله. في المسرحية، يكسِر الرجال بعنف أبوابَ الحَرَم الداخلي للنساء ويشرعون في فعلِ ما يفعله بعض الرجال: اغتصاب الكاهنات، وتشويههن والهجوم بعنفٍ عليهن. ينتزع أحدُ الرجال سكينَ القرابين من المذبح العالي، ويطرح الكاهنة العليا أرضًا، ثم يأخذ السكينَ ويُجبرها على الإمساك به. ثم يثني ذراعها ويدَها حتى يصبح السكين موجَّهًا إلى رَحِمِها، ثم يقول لها: «وجِّهي قوَّتك لإهلاك نفسكِ.»
هذا كلُّ ما تناوله ذلك الجزء من المسرحية القديمة.
عُدت بالذاكرة إلى الوراء إلى فتاة جميلة شابة كنتُ قد ساعدتها في تعلُّم القراءة في هولواي، وكانت قد قطعت إحدى حَلَماتها في أوج غضبها ويأسها.
لكن ما حدث في النهاية، أننا لم نعمل أنا وأولمبيا على هذه المسرحية؛ فلم يسنح لنا الوقت أبدًا. وتحدَّثت، فيما بعدُ، إلى عالِمٍ جليل عن هذا الجزء.
فقال: «لا تتطرقي إليه، سيُصيبك بلعنة!»
قبل أن أبدأ تدريبي في المدرسة الملكية المركزية، كنت أعرف أن رحلتي في الحياة كانت عن الكلمات، الشِّعر، شكسبير، المسرح، وقمع النساء سياسيًّا.
لم أكن أعرف أنها كانت عن الصوت حتى الأسابيع القليلة الأولى من التدريب.
ألقيتُ الشِّعر أمام الناس وكنت في غاية السعادة أننا، خلال الأسابيع الأولى، طُلب منَّا أن نحضِر قصيدة من اختيارنا إلى قاعة الدرس.
فاخترت قصيدةَ «إنه جميلٌ ومناسب» (دولس إي ديكورم إيه) لويلفريد أوين، الشاعر البريطاني الرائع الذي عاصر الحربَ العالمية الأولى ومات قبل أيام قليلة من إعلان السلام.
المُعلِّم الذي أصِفه ليس العظيمَ جيرارد بينسون، الذي علَّمني أيضًا الشِّعر، لكنه رجلٌ لم يكن عاديًّا.
عندما ألقيتُ كلمات أوين، رأيتُ تلك الابتسامة الخفيفة الذكورية الماكرة التي رأتها جميع النساء. ظننت أنني ألقيتها بمهارة. لكنه لم يتحدَّث عن عملي. ولمَّح، ولا تزال على وجهه تلك الابتسامةُ الماكرة التي تغير في نبرة صوته، إلى أنَّ الرجال وحدَهم هم مَن يستطيعون إلقاء قصائد أوين.
«لماذا؟» كنت أعرف أنه بدأ يكرهني بشدة.
«لأن النساء لا يقاتلن في الحرب؛ لذا لا يمكنكِ تخيُّل كيف يبدو الأمر.»
«هل قاتلت في إحدى الحروب؟»
كان بالفعل يشير إلى الطالب التالي لينهض.
قلت بصوتٍ أعلى. «هل قاتلتَ في إحدى الحروب؟»
«لا.»
«إذن، لا يُمكنكَ إلقاءُ هذه القصيدة، أليس كذلك؟»
تنهَّد. ولا تزال الابتسامة الماكرة على وجهه.
«هل تقصد أنَّ النساء ليس بمقدورهن إلقاء قصائد سوى تلك التي كتبتها النساء، والرجال لا يمكنهم إلقاء قصائد سوى تلك التي كتبها الرجال؟»
بدأت الابتسامة تتلاشى.
«لا.»
«إذن، ماذا تقصد؟»
«أعتقد أنكِ بإمكانكِ إلقاءُ قصائد أوين، لكن من وجهة نظرِ فتاةٍ تنتظر رَجُلَها الشاب في إنجلترا.»
شعرتُ بتلك الطاقة المُرعبة تتجمَّع في مَعِدتي. والغضب يتزايد.
وإلهات الانتقام يدخلن جسدي.
«هذا سخيف! ولا يعكس احترامًا للقصيدة. ولا لكلماتها، ولا للموقف. فموضوع القصيدة له علاقة بأن تبقى في الوحل وترى الموت بعينيك، وليس أن تجلس بجانب النار ولديك كوب شاي في انتظار عودة خطيبك!»
انفجرت الطاقة من محبسها ولم يَعُد بوسعي إعادتها الآن.
رأيته يستعد لإيذائي. أراد أن يؤذيني حقًّا. كان قد تلقى الصدمة التي فجَّرتُها، فاستعاد نفسَه بما يكفي لينتقم. عادت الابتسامة لكنها كانت أكبرَ وأكثر وضوحًا.»
«ما لم تفهميه بَعْد هو أنَّ صوت المرأة لا يمكن أن ينافس صوت الرجل. وليس ممكنًا لصوتكِ أن يعبِّر عن الصورة الكاملة لأهوال الحرب.»
كنتُ جالسة على كرسي من القماش.
ونهض الطالب التالي.
كانت نقطةً مفصلية. لقد منحني، من دون قصد منه، الطريقَ الذي سأسلكه.
صحيح أنَّ لدينا كلامًا ومشاعرَ وأفكارًا وروحًا. لكن جميعها يتجلى من خلال الصوت.
كان هذا المسار سيصبح مجال دراستي، ليس فقط للنساء ولكن لأي شخص لا يشعر بحقه في التحدُّث أو الحضور. أي شخص لديه قصة مهمة ليرويها.
إنه الصوت.
إنَّ أحد المعلِّمين المريعين الذي يدرِّس متلذذًا بتحطيم طلابه بدلًا من إعادة تمكينهم، هو مَن منحني مساري ورحلةَ حياتي.