الرحلة المهنية
«الحياة قصيرة جدًّا، والحِرْفة تستغرق وقتًا طويلًا لتعلُّمها.»
كنت أعلم أنَّ الرحلة ستكون طويلة وشاقة، وأنَّ عليَّ أن أعقد العزم وأتحلَّى بروح المثابرة.
في الأيام التي تلت المناوشةَ التي وقعت مع معلِّم الشِّعر المتعجرف، علمتُ أنه ينبغي لي أن أتعلم كيفية إجادة التدريس، وليس مجرد تعلُّم الصوت، إنما حِرَفيات التدريس.
علمت أنني أحتاج إلى العمل على صوتي.
علمت أنني بحاجةٍ إلى معرفة جوانب كثيرة عن الصوت بقدْرِ ما استطعت. علمت أنَّ عليَّ أن أعمل مع أي شخص، وليس فقط مع المُغنِّين والمُمثلين. علمت أني أحتاج إلى فهم تاريخ تعليم المرأة وكيف تعلَّمتِ التعبيرَ عن نفسها.
لكن في البداية، كان عليَّ أن أكتشف السببَ في أن صوت المرأة أصبح منحسرًا رغم أنه حينما انطلق في البداية كان مُحررًا. ولماذا أظهرت النساء أصواتًا أكثرَ ضَعفًا وحضورًا أقل قوة. ولماذا لم يكن الغناء المدوِّي لجَدتي في آخر أيام حياتها هو الطريقة التي عاشت تعبِّر بها عن صوتها.
وكذلك لم يكن مثل القوة الصوتية الكاملة المُمتلئة باليأس والحزن التي أطلقتها أُمي وهي ترحل عن الدنيا.
تذكرتُ كيف أنجبتْ أخي في المنزل. تذكَّرت الليلة التي سبقت ولادته، حينما كانت تُنظِّف أرضية المطبخ على ركبتَيها لتهيئة المنزل. أيقظنا أبي في الصباح — أنا وأختي — على خبر وصول جون. ركضنا لنراه هو وأُمي في فراش الزوجية.
وبعد مرور سنوات على ذلك، دار حوارٌ بيني وبين أمي.
«أليس غريبًا أننا لم نسمعكِ وأنت تلدين جون؟»
وبأسلوبها البسيط الذي خلا من التأثُّر، قالت: «لم أُصدر أيَّ صوت لأنني لم أرغب في إخافتكم.»
«وهل كتمتِ كلَّ هذا الألم في داخلك؟»
أومأت برأسها موافقةً.
«عُلِّمَت» أمي جيدًا. عُلِّمت ألا تُثيرَ قلق الآخرين.
تعلَّمت في وقتٍ مبكِّر من اشتغالي بالتدريس التمييزَ بين الصوت الطبيعي والصوت المُكتسَب من العادات.
طالبٌ يقف بجسدٍ متهدِّل ونَفَسٍ سطحي: «هذه الطريقة التي أقف بها بشكلٍ طبيعي.»
طالبٌ بالكاد يُسمع صوته: «هذا هو صوتي الطبيعي.»
تعلَّمت أن أردَّ عليه، فأقول: «لا، هذا هو صوتك المكتسَب من عاداتك. هذه العادات تُعيق خروجَ صوتك الطبيعي القوي تمامًا.»
ثم بدأتُ ألاحظ أنه بالنسبة إلى كثيرٍ من النساء، يُشعرهن حضورهن وصوتهن الطبيعي الكامل القوي بالخوف، كما يُشعرهن بأنهن مفضوحات مكشوفات وتحت الأضواء. صارت عاداتهن أقنعةً تخفي ذواتهن الطبيعية، وكانت في الغالب وسائلَ حماية لهن. لم يُكافَأن على قوَّتهن، أو الأسوأ من ذلك، عُوقبن بسببها.
لهذا، فإنَّ بعض الرجال وجميع النساء الذين درَّست لهم في حياتي يحتاجون إلى مكانٍ آمن ليكتشفوا فيه أصواتهم الطبيعية.
ويجب أن يكون ذلك من منطلق خيارٍ واعٍ.
كانت أقنعتهن، ولا تزال غالبًا، أداةً للبقاء على قيد الحياة، ولا يُمكنهن إزالتها من دون قرار واضح منهن. وإلى جانب هذا القرار، يجب تشجيعهن، وعدم توبيخهن إذا اضطُررن للعودة إلى عادتهن.
وهي أن تفقدي حضوركِ وصوتكِ الطبيعيَّين.
«أكون، أو لا أكون، تلك هي المسألة.»
السبب في أنَّ هذا السطر يلقى صدًى واسعًا معنا جميعًا، هو أنَّ شكسبير يتحدَّث عن الحضور والاختيار بأن تكون حاضرًا.
إنَّ التأثيرات الجسدية والعاطفية والفكرية والروحية تُدمِّر حضورنا وصوتنا الطبيعيَّين. فتخرجنا الأحداث من حالة التوازن وتدخل الجروح أجسادنا وتضرب بجذورها. وقد تترسَّخ تلك التأثيرات بقوةٍ كبيرة لدرجةٍ نفقد فيها أنفسنا، ومن ثَم حضورنا.
«إنَّ العصي والحجارة قد يُكسِّران عظامي، لكن الكلام لن يؤذيني.» هذا المَثَل غير صحيح. لا سيما إذا حدَث ذلك بانتظام. فعندما يحدُث، ننغلق على أنفسنا وننسحب، وذلك عن طريق الانتقال إلى الدائرة الأولى أو الهجوم على عالمنا في الدائرة الثالثة.
«أتَحَمَّل الرجم بالمقاليع وتَلقِّي سهام الحظِ الأنكد.» إما أن تقاسي هذا أو تختاري الاعتراض عليه.
«إذ لولا هذا الخوفُ، لما صَبَرَ أَحَدٌ على المذَلَّات، والمَشَقَّات الرَّاهنة، ولا على بَغْي الباغي، ولا عَلَى تَطَاوُل الرجل المُتكبِّر، ولا على شَقَاءِ الحب المرذول، ولا على إِبطاءات العدل، ولا على سلاطَةِ السُّلطة»، ها هو هاملت الذي يسرد هذه الصدمات التي تَحطُّ منا. لكنه كان رجلًا قويًّا متمتعًا بامتيازات عالية.
لا أحدَ يخوض غمارَ الحياة من دون أن يتعرَّض لصدمةٍ أو اثنتَين. لكنِ الرجال المتمتعون بالامتيازات يتعرَّضون بلا شكٍّ لصدمات أقلَّ مما يتعرَّض له الرجال الأقل حظًّا في الامتيازات.
وتشعر النساء من جميع الطبقات الاجتماعية بتلك الصدمات على نحوٍ أكثرَ قسوة.
هناك الكثير من القصص التي تُحلِّل مقاومة الرجل وسرعة تعافيه عند التغلُّب على «سهام الحظ الأنكد»، مقابل قلة قليلة من النساء، فربما لا يتوقَّع العالم من النساء التعافي من مثل هذه الصدمات.
لقد اضطُرت النساء لآلاف السنين إلى ابتكارِ طرقٍ للنجاة يُخفين بها حضورَهن وصوتهن الطبيعي. وعلى أي شخص ليس في السلطة أن يفعل هذا، أو يختار أن يبدوَ غريبًا.
بالنسبة إلى النساء، فإنَّ جمالنا، وذكاءنا، وإبداعنا، وفصاحتنا لا تزال تشكل تهديدًا، واختيارنا بأن نُخفيها أو نكشف عنها هو أمرٌ يتحدَّد لحظةً بلحظة. فالكشف عنها يُعرِّضنا لخطرٍ محتمَل بالعقاب.
والنجاة كثيرًا ما تكلِّفكِ استخدام الأقنعة.
الابتسام عندما لا ترغبينَ في الابتسام.
والموافقة عندما لا ترغبينَ في الموافقة.
التملُّق. المغازلة، التظاهر بأنكِ أقلُّ ذكاءً مما أنتِ عليه.
العمل على إرضاء الآخرين ومحاولة نيْل إعجاب مَن تكرهينهم.
كلُّ هذه الاستراتيجيات باتت مفهومة تمامًا بعد آلاف السنين من القمع والعقاب المُحتمَل.
«ليس سوى الاتصال!»
كل حالٍ أنتِ عليها مرتبطة بكل شيءٍ في العالم وفي نفسك.
يعتمد حضورك القوي في العالم، الذي يرتبط بكونكِ حاضرة في داخلك، على الحرية الطبيعية الكاملة، وقوة جسدكِ وجهازكِ التنفسي والصوتي المُرتبطين أحدهما بالآخر.
وتصبحينَ في قوَّتك وحضورك الكاملَين عندما تكونين متصلةً بنفسك اتصالًا كاملًا. فيكون الجسد والعقل والقلب والروح مُتصلين، وليسوا مُنفصلين ومقسَّمين.
كل توتُّر غير ضروري في جسدكِ — مهما كان صغيرًا — يؤثِّر في حضوركِ الداخلي وفي العالم. فيقل ما تُعطينَه وما تتلقَّينه. كل توتُّر غير ضروري يُثبِّط من قدرتنا على الاستماع والردِّ على ما نسمع.
كل توتُّر غير ضروري يُعيق تنفُّسكِ، وهو ما يعيق مدى صوتكِ وصداه وكلامكِ، ويعيق قدرتكِ على التفكير والشعور والتفاعل مع العالم من حولك.
من التمرينات المُثيرة للاهتمام هو أن تنظري إلى صوركِ منذُ الطفولة حتى مرحلةٍ مبكرة من البلوغ. قد تبدئين في رؤية العلامات التي تُوحي لك بالكيفية التي انحط بها قدْرُكِ ومتى بدأتِ تفقدين قوَّتك.
أنظر إلى نفسي وأنا في الرابعة من عمري، حينما كنتُ أتخذ وضعيةً بجانب طاولة لا يزال أخي يمتلكها. استؤجر مصورٌ لالتقاط صور لي ولأختي. ارتسمت على وجهي ابتسامةٌ كادت تبدو طبيعية. بدوت مُتحفِّظة. بدت علامات مبكِّرة لخجلي الذي لا يزال من طبعي. كنت حاضرةً لكن حذِرة. كان جسدي مُتراجعًا إلى الخلف قليلًا. ربما لم يُعجبني اللطف المصطنع الذي أظهره المصوِّر. ربما كنت أشعر خشيتَه من عدم استجابتي. كنت دائمًا أشعر بالتفضيل الذي يمنحه الرجال لأختي التي كانت أكثرَ انفتاحًا.
يستمر الشعور بالتحفُّظ بينما أتفقَّد نفسي وأنا أتقدَّم في العمر.
أتمتَّع دائمًا بالحضور، لكن ليس بالدرجة الكافية حتى يشعر الآخرون بأني مُسبِّبة للمتاعب، بيدَ أني كنتُ هكذا قطعًا داخل عقلي.
إنَّ ذكرياتي الأولى عن والدي هي إدراكي لغيابه عن المنزل. فحضور ربِّ المنزل كان مُعديًا؛ إذ تتغير الطاقة المُنتشرة في المنزل عند عودته من العمل. ويكون حاضرًا في المنزل إذا كان بوسعه أن يكون مرحًا، وهو ما يعني عادةً أنكِ مُضطرة للضحك من نِكاته. ولم أكن كذلك. فكانت النِّكات متكررةً وكان الضحك مُتوقَّعًا دائمًا.
كان يُحب أمي، لهذا كانت تستأثر في بعض الأحيان بحضوره الكامل؛ أما أختي فكانت تُغازله وتُرضيه، ولهذا كانت في وضعٍ آمن. غاب حضور جَدتي؛ إذ إنها لم تشعر بالاستمتاع، وبالرغم من خوفها منه، كانت لديها الشجاعة لئلَّا ترضخ لخوفها واعتمادها عليه. تلقَّيت حضورًا وحبًّا غير مشروط من أُمي وجَدتي، لذا بقي إحساسي بالذات مصونًا، وتعلَّمت، عند بلوغي سنَّ التاسعة، كيف أُصبِح مصدرَ إزعاجٍ حاضرًا بقوة لوالدي.
بينما تقدَّم بي العمر، لم يَهِن جسدي أو يتضاءل حضوري.
أما السبب الأول فهو أنني كنت ماهرةً في الألعاب الرياضية التي تدعم الراحةَ البدنية والتوازن والتنفُّس: التنس واللعبة الجماعية اللكروس. كلتا الرياضتين تحافظ على جسمٍ مُتزن.
وأما السبب الثاني الذي جعل جسدي مُتزنًا فهو أنَّ الزمن الذي نشأت فيه — في خمسينيات القرن العشرين — لم يكن هناك تعلُّق شديد بالكمال أو بإضفاء طابعٍ جنسيٍّ على الأطفال. كل الفتيات في المدرسة كنَّ يرتدين أحذيةً وملابس عملية، ولم يُحاول سوى قِلَّة منهن وضْعَ مستحضرات التجميل. لم تكن الأجسام تُمتَدح بهذه الدرجة أو تُؤذَى بهذا القدْر بالطعام والسجائر والمُخدِّرات والكحول. كان من الأسهل بكثيرٍ الحفاظ على التوازن في خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينياته.
ما أراه في الصورة هو حضور شخص جريء في حالة خمول.
حضور شخصٍ مُتعطش إلى المعرفة ويبدو بهيئةٍ شديدة الجِدية لدرجةٍ حالت دون استحواذه على إعجاب الكثيرين. شعر كلٌّ من الأساتذة والأقران بأن جِديَّتي مُملة، ولم أكترث لذلك بطريقة أو بأخرى.
لم أكن بحاجة لأن ألقى إعجابًا وهو أمرٌ غير شائع بين الأولاد أو حتى بين البنات. كان لديَّ اهتمام شديد بالكتب وكان يُطلَق عليَّ حينها المهووسة، وكثيرًا ما كان المُعلِّمون ينتقصِون من قيمتي لأن طموحي يفوق كوني مجرد فتاة!
وكان لذلك أثرٌ في الكيفية والوقت الذي استخدمتُ فيه صوتي. كنت أغمغم عندما يتحتَّم عليَّ المشاركة في حوارٍ عابر. فكنتُ أغمغم في حوارٍ غير رسمي، وبعد ذلك، أُظهر «حماسة شديدة» عند المشاركة في حوارٍ جادٍّ. بدَت حماستي وقاحةً في نظر كثيرين، ولكن الأساتذة القلائل الذين فهِموا شغفي أولَوني اهتمامًا شديدًا. كان بإمكان صوتي أن ينشط دائمًا عندما يكون الأمر مهمًّا.
شعرتُ ببعض العزاء في محاضرات الدراما. لم نكن ندرس غير الأعمال الكلاسيكية؛ لذلك كان الأمر جيدًا بالنسبة إليَّ. كنا ندرس شكسبير والشِّعر.
في صور طفولتي، يُمكنني ملاحظة القوة والعناد والرغبة الجامحة في البقاء على قيد الحياة، وهي ما كان، وربما لا يزال، يُساء فهمها على أنها الكبرياء.
يُمكنني ملاحظة حاجتي إلى الحُب، ومن ثَم التعامل بمرونة مع الضَّعف.
الآن يُمكنني ملاحظة أنه، بعد فترة، سيتحرَّر الانفتاح في داخلي من خلال الفَقْد والحزن. يُمكنني ملاحظة انكسار قلبي الذي سمح بدخول التعاطف والشفقة إلى الفتاة الصغيرة التي تناضل من أجل صوتٍ ينعم بالمساواة.
كان جزءًا مما منحني هذا الانفتاح هو التجارب التي تعرَّضتُ لها كوني طالبة ومُعلِّمة. ثمة مداخلُ كثيرة تفضي إلى الغرفة نفسها. عليك أن تكتشف الكثيرَ من المداخل في عملك ليظهر المدخل إلى الطالب، ثم يُظهِر الطالب مدخلًا قد اكتشفه ويعلِّمك إياه في المقابل.
بدأت التدريسَ في الفترة التاريخية التي حصلت فيها النساء تحديدًا على المساواة القانونية في المملكة المتحدة. وهذا منحَ عملي ضرورةً سياسية، لكني لم أستطِع فهْمَ سببِ عدم تقدُّم أصوات النساء وقوَّتهن بوتيرة أسرع. ولم يُمكنني أن أفهم، فيما بعدُ، السببَ وراء أن الطالبات اللاتي وُلِدن بعد عام ١٩٧٥ لم يشعرنَ بالحاجة المُلِحَّة إلى التحدُّث بقوة: بدا الأمر وكأنهن مُنحن المساواةَ كحقٍّ مُسلَّم به، ولم تستدعِ بذل الجهد من أجلها.
إنَّ وضع هؤلاء الطالبات هو النقيض التام للنساء ما قبل المساواة، اللاتي كن يعلمن أنَّ عليهن التحلِّي بالوضوح والفصاحة حتى يؤخَذ كلامهن على مَحمل الجِد.
خلال أواخر ثمانينيات القرن العشرين ومن ثَم تسعينياته، كانت النساء الشابَّات يُخبرنني أنهن لا يحتجن إلى العمل على هذا الأمر، لأننا أصبحنا على قدم المساواة الآن. حتى العَقدِ الأولِ من الألفيةِ الجديدةِ لم تكن النساء الأصغر سنًّا يُدركنَ أنهن أيضًا يجب أن يعملن على طريقةِ تواصلهن إذا أردنَ أن يُستَمَع إليهن.
جزءٌ من ردة الفعل الغاضبة من الرجال هو أنهم لم يَعُد عليهم التظاهر بأنهم مهتمون بنا.
تأتي أكثر النساء فصاحةً من عوالمَ لا يوافق فيها الرجال على مساواتهن بهم، أو لا يتظاهرون بالموافقة على تلك المساواة. فيعلو سقف الرهانات ويزداد الازدراء من رجالٍ انكشفت شخصيتهم الحقيقية، كما كانت الحال بالنسبة لي في شبابي.
في الفترة التي أكتب فيها هذا، في عام ٢٠٢٢، أنا أكثر تفاؤلًا مما كنت من قبل بشأن الشابات اللاتي أعمل معهن. فإنهن مُستعدَّات للعمل والتفوق بصوتهن ولُغتهن، ولا ينتظرن الشفقة، أو أن يلعبنَ دورَ الفتاة الضحية.
عندما بدأت التدريس، تركَّز كل العمل الصوتي مع النساء على البلاغة، إلا إذا كانت ممثلة أو مُغنِّية. لم يكن هناك أيُّ شيءٍ لأفعله مع الجسم أو التنفُّس أو الاستفادة من جمال الصوت القوي الحر.
أما العمل مع الرجال فكان يعتمد أكثرَ على الناحية الجسدية، فلم يكن صوتهم الطبيعي مكبوتًا. وكان متوقعًا من الرجال أن يستخدموا أصواتهم.
أبسط استراتيجيات الحفاظ على القوة، هي رفضُ التعليم لأولئك الذين يُمثلون تهديدًا لك. إنَّ أي دراسة للتوثيقات الكاملة التي تضمُّ جميعَ المناقشات المنعقِدة في البرلمان وقتَ إصدار قوانين التعليم في منتصف القرن التاسع عشر، تكشف عن الخوف الذي شعرَت به الفئة القليلة ذات الامتيازات من تعليم الجماهير: وفي وقتِ هذه المناقشات، لم ينظر إلا في أمرِ الرجال من الطبقة العاملة. ولم يَرِد ذِكْرُ النساء.
كانت المشكلة بالنسبة لأصحاب الامتيازات أنَّ التصنيع في بريطانيا كان يعني حتميةَ تعليم الرجال من الطبقة العاملة. فاقتضت الكفاءة أن يتعلم بعضهم القراءة والكتابة والحساب البسيط. وهذا بدوره كان سيُتيح الإنتاجَ بكمياتٍ ضخمة.
هناك وثائقُ واضحة تكشف عن القلق الشديد لدى المُحافظين الفيكتوريين من خطورة تعليم الطبقات العاملة القراءة والكتابة؛ لكن، في النهاية، قُيِّمَت المزايا الاقتصادية على أنها تستحق المخاطرة.
إنَّ حجم الفصول في المدارس الحكومية، الذي يسع ١٥٠ طالبًا، يعني أنَّ التعليم كان يُلقَّى بالتلقين. لهذا كان من المستحيل أن تُدرس في مثل هذه الفصول ذات الأعداد الضخمة العلوم الإنسانية، واستخدام الصوت، ورسميات النقاش والجدل المنظَّم. أدرك الفيكتوريون من الطبقة العليا أنَّ الصوت والتنظيم الرسمي للعرض كانا، ولا يزالان، منبعَ القوة في القيادة، وذلك وفقًا لما تلقَّوه من تعليمهم الخاص ومن خلال ارتباطهم المباشر بما تلقَّوه من الحكمة القديمة.
إنَّ الصوت والخطابة ضروريان لأي شخصٍ يُبدي اهتمامًا بالسُّلطة.
بالطبع، كان المُعلِّمون الثاقبو النظرِ يكتشفون الأولاد الصغار الأقل حظًّا والأذكياء في الوقت ذاته، وكانوا يعثرون على طريقةٍ لإرسالهم إلى جامعتَي أكسفورد وكامبريدج. تتناول رواية «جود الغامض» للكاتب توماس هاردي، روايةً مؤلمة عن هذا السيناريو. كانت التضحية كبيرة، وتظل كذلك أحيانًا.
كانت الفتيات الصغيرات أيضًا يتعلَّمن، وكان الاختيار يقع على بعضهن، مثل جَدتي، ممن لهن عقول مدهشة ودءوبة، ليُصبحنَ معلِّمات، لا ليذهبن إلى الجامعة.
لقد كان هناك دائمًا شباب من الطبقة العاملة يتَّسمون بالذكاء والمرونة والشجاعة، شقُّوا طريقهم وسط جميع العقبات التي واجهتهم في بيئاتهم لينجحوا ويجدوا مكانهم المناسب على طاولة السُّلطة. ولكن الأكثر إبهارًا هن النساء اللاتي، رغم ما يتعرَّضن له من تحيُّز وخسارة أكثر من الرجال، حقَّقن الشيء نفسَه؛ وكان عليهن أن يُضفنَ إلى ذلك إيجادَ صوتهن واحترام قوة الخطاب الرسمي.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، بدأتُ أدرك صعوبةَ تعليم النساء استخدامَ أصواتهن، ولا يزال الكثير مما اكتشفته آنذاك أثناء تعليمهن موجودًا لدى العديد من النساء.
إنَّ المرة الأولى التي طُلب مني فيها تدريس الصوت وحدَه لمجموعةٍ من النساء اللاتي لم يكنَّ ممثلات، كانت في مدرسة تأهيلية للفتيات في لندن. كانت فتيات من عائلات ثرية، يرتدين ملابسَ من تصميم مُصمِّمات أزياء، وما يزلن يُكملن «تأهيلهن».
كانت مسئوليتي بسيطة: يجب أن يكون صوتهن مسموعًا وواضحًا حتى يتمكنَّ من الفوز بزوج ثري. ويجب أن يؤنسن أزواجهن ولا يُعارضنهم.
أوضحت لي مديرة المدرسة أنَّ الرجال الذين سيتزوجون منهن لا يحتاجونهن جاداتٍ أو صاحباتِ رأي. وعبَّرت عن تلك المسألة بحزمٍ شديد.
«إنَّ الرجال الذين يلتقِينَ بهم لا يرغبون في سماع أفكارهن. يُحب هؤلاء الرجال أن يكونوا هم أصحابَ الرأي الوحيد. وعلى الفتيات مؤانستهم والاستماع إليهم بانتباهٍ وموافقتهم الرأي.»
أُخبِرت بأنهن سيتزوجن من قادة في الصناعة، وكان متوقَّعًا مني أن أعلِّمهن كيفيةَ تأييد آراء الرجال وإبقاء سَيْر المُحادثات ممتعًا، وأن يسترنَ على أي وقاحةٍ قد يظهرها أزواجهن. كانت الثرثرة ستُصيب أزواجهن بالملل؛ لذا كان من الواجب على زوجاتهم التعامُل مع أي ضيوف «مملِّين».
كان هذا في عام ١٩٧٦.
يكره العديد من القادة — وبعضهم الآن من النساء — الطابعَ غير الرسمي للمحادثات العابرة، والدخول إلى مكانٍ يقتضي هذا النوع من التواصل. ويشعر الكثيرون منهم بالارتياح الشديد إذا كانوا برفقة أزواجٍ يمكنهنَّ إبقاءُ سير المحادثة خفيفًا وبمنأًى عن الاستفزاز.
قالت المديرة إنَّ الفتيات يجِب أن يتمتَّعن بالقدرة على افتتاح حفلة، وتقديم مُتحدث، وأن يكنَّ مُضيفاتٍ مثاليات، فيُقدِّمن بوضوح الضيوفَ الذين سيقدِّرون بعضهم بعضًا، وأن تعرف متى يرغب الرجال في أن تُغادر النساء حتى يتسنَّى لهم مناقشة أمور العمل.
كنت قد شهِدت هذا في الستينيات والسبعينيات في حفلات العشاء مع والدي، حينما تمتثل المُضيفة للحظة المقدَّسة، فتنهض بلطفٍ من الطاولة لتقودَ النساء إلى غرفة الجلوس لشُرب القهوة، تاركةً الرجال مع كئوسهم من نبيذ البورت ومناقشاتهم المُهمة. لكني كنت أعتقد أنَّ هذا العهد قد اندثر.
عندما اقترحتُ بعضَ الأعمال التي يمكن إجراؤها على المحتوى وإضافة عِلم البلاغة للتركيز على أصواتهن، قالت بحزمٍ: «لا، لا. هذا صعب جدًّا عليهن وليس مفيدًا.»
اصطُحِبتُ في جولةٍ حول هذا المبنى الجميل في كنسينجتون.
في غرفةٍ كبيرة رائعة، دُعِيتُ لمشاهدة الدرس. كان في الداخل ١٤ فتاة شابة في ثيابٍ أنيقة، تقع أعمارهن بين الثامنة عشرة والعشرين، وكنَّ يتدربنَ على بعض المِشْيَات الأساسية.
كان في وسط الغرفة مسرحٌ له درجات سُلَّم على كِلا الجانبَين. وكانت على خشبة المسرح منصةُ الخطابة وكرسيٌّ أنيق ذو ظهرٍ عالٍ. ووقف في جانب الغرفة جزءٌ من سيارةٍ. عند تفحُّصه عن قُرب، أدركت أنه كان المقعد الخلفي لسيارة بنتلي. كان بالإمكان فتْحُ الباب الخلفي، وبدا المقعد ذا تنجيدٍ فاخر. كان الدرس هو أن تصطفَّ الفتيات في طابورٍ للتدريب على الصعود بأناقةٍ على الدرجات الجانبية لخشبة المسرح؛ ثم يتوقَّفنَ عند المنصة لينظرنَ إلى الجمهور ويبتسمن إليه؛ ثم يتدربنَ على الجلوس على الكرسي في وضعيةٍ جيدة ومريحة، وأن يُبقين الركبتَين والفخذَين وعضلات الساق ملتصقةً بعضها ببعض. ثم يقِفن ويسِرْن عبْر المسرح وينزلن من الدرجات الجانبية الأخرى. ثم يتحرَّكن إلى ذلك الجزء من السيارة. فيفتح المعلِّم البابَ الخلفيَّ ويتدربنَ على دخول السيارة بأناقة، دون أن تظهر ملابسهن الداخلية. ثم يُغلَق الباب ويُفتَح حتى يخرجنَ من السيارة دون أي كشفٍ غير مرغوب فيه عن الملابس الداخلية.
كانت هذه الحلقة من الفتيات تؤدي هذه التدريبات بالتناوب طوال مدة الدرس بأكمله، وكانت دائمًا تحت إشراف معلِّمٍ مجتهد يُصحِّح لهن أيَّ قصورٍ في أناقتهن.
يتدرَّب المُمثِّلون غالبًا بطريقة مُماثلة إذا كان من الصعب عليهم صعودُ المسرح أو التعامل مع أحد الأشياء المُستخدَمَة عليه. لكن الهدف من تدريب هؤلاء الفتيات كان الحصول على زوج.
توقعتُ أن أجِد الفتيات اللاتي التقيتُ بهن مُنزعجات، لكن على العكس، وجدتُ شابَّات يرتدين ثيابًا جميلة، وسريعات التأثر وذوات غضب مكبوت.
كان الانطباع الأول أنهن جميعًا يحملنَ ذلك الشعور بالملل والإرهاق المُميِّزَين لأصحاب الامتيازات، خاصةً أولئك الذين ليس لديهم أيُّ شغفٍ في الآفاق. لا حبَّ في حياتهم، ولا سعي فكريًّا، ولا قضية يهتمُّون بها؛ ولا سبب حقيقيًّا يدفعهم إلى النهوض في الصباح إلا لارتداء أحدث الأزياء. لم يكن لديهنَّ هذه المُلهِّيات التقنية، لذا كنَّ محروماتٍ.
وقد أُخبِرن جميعًا بأنهن لا يتمتَّعن بالذكاء.
تخيلتُ أنهن، في المراحل الأولى من التعليم المدرسي، كنَّ في فصولٍ دراسية مع طالبات متفوقات ومتحمِّسات، لكنهن لم يتمكنَّ من مواكبتهن. فأصبح آباؤهن، الذين لم يفخروا بنتائج امتحاناتهن أو يُبدوا اهتمامًا بها، يُنفقون المال لمنحهنَّ بعضَ الجاذبية السطحية والآداب.
جلس في آخر الفصل عددٌ قليل من الطالبات الذكيات بالطبع، لكنهن جلسنَ متجهِّمات. كنَّ متمرِّدات، يكرهنَ تعليمهنَّ تمامًا وربما كلَّ الفرص الضائعة للاندماج الفكري. لكن بدا كثيرٌ منهن راضيات عن أنفسهن لكونهن غبيات. إنَّ النبرة التي تقول بها بعض النساء إنهن غبياتٌ قد تبدو كما لو كنَّ فخورات بجهلهن: «أنا غبية جدًّا!» تُقال بنبرة استهزاء من النفس مع انتظار التصفيق لهن.
أعرف أنَّ هذه استراتيجية للدفاع، وخطةٌ تجعل بعضَ الرجال يجدون هؤلاء الفتيات جذَّابات.
لكن هذه كانت المرةَ الأولى التي سمِعت فيها النساء يعترفن «بالغباء» بكل سهولة. لم يكن لهذا أن يُسمَح به في مدرستي.
اكتسبَت نظرة الفخر بالجهل والغباء زخمًا في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، وأدلى العديد من طالباتي بتصريحاتٍ مُماثلة، أحيانًا في تحدٍّ صريح للنسوية، ولكن أيضًا كنوعٍ من الكسل، ورفض تحمُّل مسئولية الارتقاء بعقولهن.
المرة الأولى التي أخبرتني فيها إحدى الطالبات بأنها غبية، قلت: «لا أعتقد أنكِ كذلك». قلت كلامًا مُماثلًا لهؤلاء الشابات فحصلتُ منهن في الحال على بعض الاهتمام. بدا الأمر كما لو لم يقُل أحدٌ لهن ذلك من قبل؛ فشعرن بالهدوء وبدأن في العمل.
اتَّبعت التعليمات وعلَّمتهن كيف يستخدمنَ أصواتهنَّ وكيف يستخدمن أصواتهن بوضوح. أعطيتهنَّ نصوصًا بأسلوب الكتابة المُنظَّمة وقصائد مؤثِّرة وشجَّعتهن على مناقشتها. استمتعن بالتحدي ولاحظت أنَّ بعضهن اشترَين مجموعاتٍ شعرية. كنَّ يُجاهدن بشكل خلَّاق مع اللغة، والبنية الشعرية، والأفكار. لاحظت أيضًا أنه كلما ازدادت المناقشات عُمقًا وبدأن في التعبير عن أفكارٍ قوية، كن لا يلبثن أن يسخرن أو يضحكن على أنفسهن، أو يُقهقهن أو يتهربن من مواجهة فكرة عميقة. ويُعاقِبن أنفسهن قبل أن يُعاقَبن.
ووجدن كذلك أنه من الصَّعب أن يُعبِّرن بوضوح وإيجاز من دون إعطاء مقدمة طويلة. هل كن يتقصَّين الفكرة، ويكتشِفنها بما يتناسَب مع منظورهن؟ هل كان عليهنَّ الاستطرادُ في الحديث قبل أن يُدركن ما يعرفنه؟ أم إنهن كن يُبرِّرن الفكرةَ قبل التعبير عنها؟
ناقشنا هذا مع إحدى المجموعات التي أظهرت درجةً كبيرة من الاهتمام.
اعتقدن أنَّ كلتا الاستراتيجيتَين جعلتهن «يستطردن في الحديث». استخدمت إحداهن تلك الكلمات اقتباسًا من كلام والدها عن والدتها: «والدتك تستطرد في الحديث.»
نحن جميعًا نستطرد في الحديث عندما نُعبِّر عن فكرةٍ جديدة ونبحث عن الكلمات. وكذلك عندما نشعر أننا لا يُصغى لحديثنا أو يُستمع إليه. كلما أكثرت في التدريب على التعبير عن نفسِك بصوتٍ عالٍ، قلَّ استطرادك في الحديث. تستطرد الفتيات لأنهن لا يحصلن على الوقت أو المساحة للتدرُّب بصوتٍ عالٍ. لا يزال الكثير من المُعلِّمين يمنحون الأولاد وقتًا أكثرَ من الفتيات ليخطفوا الأضواءَ بفكرة مُهمة. إذا سمحتَ للمتحدِّث بتكرار الفكرة مرةً أخرى على الفور، فإنه سيُعدِّل على نفسه ويُصبح أكثرَ تنظيمًا وإيجازًا بدرجة ملحوظة.
اقتبست من ويليام هازلت (١٧٧٨-١٨٣٠): «أقواله تُشبه عادةً خطابات النساء: حيث تجد خلاصةَ الكلام كله في الحاشية.»
أثار ذلك اهتمامهن.
ذات يومٍ، طرحت السؤالَ الذي كنتُ أفكِّر فيه طوال الوقت.
«لماذا يبدو عليكن دائمًا أنكن شاعراتٌ بالملل؟»
ساد الصمت … تبِعته أصوات الضحك. ثم قالت إحدى الفتيات الفائقات الذكاء التي بدَت في البداية مُتجهِّمة: «من الأمان أن يبدوَ عليكِ الملل.»
«لكن إذا بدا عليكِ الملل، فستجذبين الأشخاص الذين يحبُّون أن تكوني مُملة.» كان بمقدوري أن ألاحظ أني قد جذبت انتباهها. «إنكِ تأخذين من الحياة ما تُعطيها إياه. من فضلكن أظهِرن الاهتمام، أظهِرن الاهتمام بالحياة.»
دُعيت إلى مكتب المديرة لمناقشةِ ما أنجزته. يا إلهي. كان هذا أعلى أجرٍ على الإطلاق تقاضيتُه في الساعة.
نظرَت إليَّ بارتياب.
«الفتيات يستمتعن بدروسك. على أي شيءٍ تعملين؟»
«أعمل على ألا يستطردنَ أو يكنَّ مُملاتٍ في طريقة شرحهن.» اعتقدت أنَّ ذلك كان قريبًا بما يكفي من الحقيقة.
«ماذا تعنين بالاستطراد؟»
«أن يعرفنَ ما يُرِدْن قوله لكنهن يستغرقن وقتًا طويلًا حتى يصلن إليه.»
«لا! عليكِ ألا تفعلي ذلك. سيستمتع أزواجهن بأنهن لا يعرفن سريعًا ما يُفكِّرن فيه، وسيستمتعون بتعليم تلك المهارات لزوجاتهم. يُحب الرجال أن يقودوا النساء، وليس أن يلاقوا اعتراضًا منهن. أنتِ لا تفهمين الأمرَ يا باتسي: تحتاج هؤلاء الشابات إلى رجالٍ أقوياء. لا يمكنهن العيشُ من دونهم. وآباؤهن على علمٍ بذلك، ولهذا السبب هنَّ هنا. هؤلاء الفتيات غير مؤهلاتٍ أن يكنَّ مُستقلَّات.»
درَّسْتُ في كينسينجتون عامًا. ولم يطلبوا مني العودةَ إلى التدريس عامًا آخرَ! كانت المديرة أول معلِّمة ألتقي بها تدعم السُّلطة الذكورية. وأول عنصرٍ نسائي مساعد في إضعاف قوة المرأة.
لم يُوجَد مثلُ هذا النوع من المُعلِّمات في مدرستي أو في المدرسة الملكية المركزية، ولهذا فإنني في غاية الامتنان.
لقد تغيَّر الوضع منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، لكن ليس بالقدْر المأمول.
أُدرِّس في مدارس في جميع أنحاء المملكة المتحدة، وفي المدارس المُختلطة لا تزال جميع السِّمات المميزة للمدرسة التأهيلية موجودة.
يُشجِّع المُعلِّمون جميعَ الطلاب على إبداء آرائهم، لكن الفتيات اللاتي يفعلن ذلك غالبًا ما يمزحنَ لإثارة الضحك أو يسخرن من أنفسهن بعد التعبير عن فكرةٍ صائبة وقوية. ويستغرقن وقتًا أطول للدخول في صُلب الموضوع، وتقديم تفاصيل تدعم الموضوع بمزيدٍ من الأمثلة قبل طرح صُلب الموضوع. غالبًا ما يستطردن، فيمكنك أن ترى بأن المُستمعين صاروا يشعرون بالملل؛ ولكن ثمة مهارة تمنح زمام التحكُّم في الحديث فترةً طويلة وفي الشعور بالملل الذي يُصيب المستمعين. إنها مهارةٌ ليست مؤثِّرة كثيرًا، لكنها على الأقل تجذب الاهتمامَ إليكِ.
إنَّ الفتيات اللاتي يُبدِين أولًا اهتمامًا بالحديث يكنَّ ذوات صوت أعلى ويكن أقلَّ جِدية من الفتيات اللاتي يُبدين اهتمامًا بمستوًى عميق من المعرفة: فتبقى هؤلاء الفتيات صامتات. فيُحرزن تقدُّمًا في عملهن. ويَنْأيْن بأنفسهن عن المجازفات، ويطوِّرن الأفكار والمعرفة لكن دون أن يتدرَّبن على استخدام أصواتهن.
هؤلاء هن الفتيات الصامتات المُتألقات اللاتي يجب أن يدخلنَ جامعتَي أكسفورد وكامبريدج ولكنهن لم يتدرَّبن بعدُ على استخدام أصواتهن الحقيقية من أجل إجراء مُقابلات تتطلب مستوًى عاليًا من الدقة.
أدرِّب ثُلةً من القائدات الأكثرِ تأثيرًا على أن يثِقنَ فيما يعرفن، ويقُلْنَ ما يعرفْنَه من دون مقدِّمات أو ضرب عدة أمثلة على كيف عرفنَ ما توصَّلن إليه، فأُعلِّمهن ألا يُبرِّرن ما يعرفنه. وأن يكنَّ مباشراتٍ ويُصِبن صلبَ الحديث وألا يُضيِّعن الوقت.
ثم أدرِّبهن على الامتناع عن السخرية من أنفسهن لكونهن بارعاتٍ وموهوبات؛ إذ إنَّ ذلك يسمح للرجال بأن يسخروا منهن أيضًا. أُعلِّمهن ألا يهزأن من أنفسهن. وأن يتحدَّثن في صلب الموضوع في أقربِ وقتٍ بدلًا من إرجاء ذلك لوقتٍ لاحق، وألا يشعرن بالخجل مما لدَيهن من المعرفة. وألا يسمحن للرجال بتوجيههن في اجتماعٍ أو بتجاهُلهن. وألا يسمحن مطلقًا لأي أحدٍ أن يسلب المعلومات التي اكتسبنها بشِقِّ الأنفس ثم يُصرِّح بها كما لو كانت ملكًا له.