الصوت وعلم البلاغة
ترتبط الثقافة الغربية ارتباطًا مباشرًا بالحضارة اليونانية القديمة.
عندما كنتُ في سنِّ الخامسة عشرة، شعرت بالصدمة الشديدة، بفضل السيدة بريكي، عند اكتشاف أنَّ أفلاطون، في كتاب «الندوة»، لم يناقش قدرةَ المرأة على الحُب. أدركتُ أنَّ الاعتراف بقدرة المرأة الكاملة على أن تُحب، سيكون اعترافًا بمساواتها إنسانيًّا. أتذكر أنني كنت أفكِّر أنَّ هذا الإغفال كان يُشبه قليلًا تلقيننا في خمسينيات القرن العشرين بأنَّ الحيوانات لا تشعر. فالفكرة هي أن حتى البقرة التي تخور عندما يؤخَذ عِجْلها ليُذبح لا تشعر بيأسٍ نابع من أمومتها.
كنت في السادسة من عمري، حينما كنت أقف مع أمي في ريف نورثمبرلاند. فكانت قد أخذتني لرؤية خيول المناجم. لم تَعُد تُستخدَم هذه الخيول في العمل تحت الأرض في مناجم الفحم وكانت تقضي ما تبقَّى لها من سنوات قليلة دون ألَم في أحد الحقول. كانت أمي متأثرة تأثرًا واضحًا بالسنوات الأخيرة التي قضتها في حُريةٍ، وبينما كنا واقفتَين نشاهدها، انضم إلينا رجلٌ غريب، كان عامل منجمٍ سابقًا، وقد وافقها الشعور. أوضح هذا الرجل كيف كان ينفطِر قلبه دائمًا لرؤية الطريقة التي تُعامل بها، وأسعده دائمًا أنها مُنحت بضع سنواتٍ في حقلٍ فوق الأرض في نهاية حياتها.
قال: «إنها تُحب مثلما نحن نُحب. يعتقد أغلب الناس أنها لا تُحب، لكنها تشعر بالحُب.»
ساد صمتٌ. هدأت أنفاس أمي. وردَّت قائلة: «أعرف ذلك.»
قال: «أعتقد أنكِ لا تستطيعين وضْعَها تحت الأرض بهذه الطريقة إذا كنتِ تعتقدين بأنها تُحب.»
لم أكن طرفًا في هذه المحادثة. لم أكن قد بدأت بَعْد في القراءة عن شيطنة بعض الأعراق لتبرير الإبادة الجماعية لهم، لكن في عقلي الصغير أصبحت هذه الفكرة موضعَ تفكُّر مُهمًّا، على الرغم من أنها في البداية بدَت مبهمة. إذا كنت تعتقد أنَّ نوعًا ما، أو جنسًا ما، أو شخصًا ما لا يستطيع أن يُحب مثلك أو بالتساوي معك، فإنَّ هذا الاعتقاد يمنحك الإذن لتسيء معاملتهم.
قدَّم أفلاطون إلى العالَم حكمةً رائعة، لكنه لم يعتقد أنَّ المرأة يمكن أن تُحب بالمثل، واحتفظ المجتمع الغربي بهذا الافتراض مدفونًا في أعماق بِنيته: وهو الاعتقاد بأنَّ قدرة الرجل الواضحة والمُرهفة على الحُب تفوق قدرةَ المرأة.
في المسارح اليونانية القديمة، كان المُمثلون من الرجال، وكانت القصص تُسلِّط الضوءَ على خطورة قوة المرأة وتعرض تدمير النساء القويات.
لم يكن المسرح حينها إلا غرفة متطورة للفتيان من أجل تبديل الملابس. كان الرجال يوافقون على تجاوزات هيمنة الرجال ويُقِرُّون بدور النساء في تدمير الرجال. أيَّدت القصص رغبةَ الأغلبية في حبس النساء وتجريدهن من كل قوَّتهن.
كانت الدولة تتحكَّم في الكتَّاب والمُفكرين. صدر أمرٌ للفيلسوف العظيم، سقراط، بشرب الشوكران السام عندما اعتُبرت أفكاره مُفسِدَة للشباب. كان كتَّاب المسرح العظماء، إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، يعلمون أنَّ أيَّ تعبير واضح عن عدم دعم المُمولين في الدولة سيُقابل بعقابٍ رادع.
لا أحدَ يعرف بالضبط فيما كان يُفكِّر هؤلاء الكتَّاب بشأن المرأة، ولكن هناك مؤشرات. ربما أن بعضهم شعر بالشفقة وبشيءٍ من القلق عندما كتبوا عن تحطيم النساء. كانت الحضارة اليونانية واضحةً في خوفها من قوة المرأة واشمئزازها منها. لم يكن ذلك الشعور خافيًا بأي شكلٍ من الأشكال. كانت الأمازونيات مقاتلات أسطوريات وأدرك جميع الرجال اليونانيين أنه لا بد من السيطرة عليهنَّ أو تحطيمهن. فكان ذلك بمثابة إرهاب شديد وكراهية للنساء.
حُبِسن في الداخل، أُرسلن لأعمال النسج والغزل، وكان مُتوقَّعًا منهن أن يصبرنَ سنواتٍ على انتظار عودة أزواجهن، ويُنصَّبن في مكانةٍ عالية عندما يتحلَّين بالجمال ثم يُكرَهن لفرض سيطرتهن على رغبة الرجال. أُلقي باللَّوم على هيلين طروادة على المجزرة التي ارتكبها الرجال وصارت في انتظار رجمها بالحجارة حتى الموت.
كانت أندروماك زوجةً مثالية لهيكتور، ولهذا السبب رَغِب فيها جميع اليونانيين. ستنصبُّ عليكِ اللعنات إذا كنتِ تتمتَّعين بقوةٍ جنسية، وإذا كنتِ تتصرَّفين باحترامٍ وشرف.
يجب ألا تفوز النساء.
يجب إخضاعهن بالقوة أو بالاغتصاب أو بالتشنيع أو بتجريدهنَّ من حُريتهن. احبسهن؛ إذا كنَّ ذوات جمال، فيُقدَّسْن، أو إذا لم تشعر الفتيات الجميلات بأنك جذَّاب، يُغتصَبن.
ولا تمنحهن حظًّا من التعليم.
قبل الديمقراطية اليونانية، ساد نظامٌ أرستقراطي كان أكثرَ لُطفًا في التعامل مع النساء ذوات الامتيازات، وأثمر هذا النظام أيضًا عن الكاتبة التي اعتبرها جميع الشعراء اليونانيين أنها الأعظم بينهم جميعًا، إنها امرأة هي: صافو.
لم يتبقَّ سوى أجزاء من عملها، لكننا علِمنا ببراعتها لأن الكتَّاب الرجال امتدحوها في وقتٍ لاحق.
وبذلك كان اليونانيون على دراية بأن النساء يُجِدن الكتابة.
علَّقوا تحديدًا على صياغاتها. والصياغة جزء لا ينفك عن علم البلاغة، فالبلاغة تصقل الصوت المادي والكلمات بالقوة، والفعالية والإثارة.
علم البلاغة هو فنُّ الحديث بكلامٍ مؤثِّر ومقنع. إنه عِلم يعني فعليًّا التأثير. التأثير في الآخرين عندما تتحدَّث، التأثير في نفسك، والتأثير في الجسد والعقل والقلب والروح. والتأثير في الأفكار. أن تطرح الأسئلة وتبحث عن الإجابات.
علم البلاغة هو وصفٌ للقواعد والأنماط التي يُمكننا استخدامها بينما نتحدَّث للتركيز والتغيير في الآخرين تغييرًا شاملًا. وهذا يشمل الأساليب البلاغية، والإيقاع، والسرعة، وخصائص اللغة التي تساعد المُتحدثين على التأثير والتغيير في الجمهور.
اقتصر تعليمُ البلاغة على الرجال ذوي الامتيازات. ولكن إذا لم تكن قد تلقيت هذا التعليم، فإنَّ الكلمة قد تتسبَّب في إخافة الكثيرين وتنفيرهم.
أتفهَّم أنه يحمل في أذهاننا طابعًا صارمًا إن لم يكن جافًّا، ولكنني أشعر بقوة أن البلاغة تحاول تنظيمَ الأشكال المادية للصوت والإيقاع، والتكوين المتأصِّلين فينا.
إنَّ البلاغة جزء منَّا وأداة تُسهِّل من سردِ قصصٍ مؤثِّرة. يمكن تحليل جميع الخطابات العظيمة التي أثَّرت في الجمهور أو غيَّرت العالم من أجل اكتشاف جميع الأساليب البلاغية التي استخدمها المُتحدِّث كثيرًا على نحوٍ طبيعي وفطري.
ليس من المفروض أن يُلتزَم بالبلاغة التزامًا صارمًا بالدرجة التي تجعلها ثقيلةً على النفس، لكنها بابٌ يمكن من خلاله أن يخطوَ المرء خطواتٍ ليتعلم الكلام المنطوق ويعلِّمه، ويكون فعالًا وكذلك مؤثرًا على المستوى الجسدي قدْر الإمكان. لذا، ثمَّة قواعد يجب تعلُّمها وأخرى، في بعض الأحيان، يجب كسرها.
طوِّرت هذه القواعد البشرية من أجل سرد قصصٍ مؤثرة في أثينا، لكننا نعرف الآن أنَّ اليونانيين كانت تجمعهم معاملاتٌ تجارية مع العديد من الحضارات الأخرى، فنقلوا عنها حتمًا قصصًا وأساليب بلاغية ثم بنَوا عليها.
عرف اليونانيون القدامى أنَّ تحقيق الديمقراطية غير مُمكن ما لم يكن كلُّ رجلٍ أثينيٍّ حرٍّ مُستعدًّا وقادرًا على الوقوفِ في اجتماعٍ والمجادلةِ بأسلوبٍ مؤثِّر لصالح قوانين أو ضدها.
اعتمدَت قوة الرجل على قدرته على التحدث إلى جمهورٍ وتغييره تغييرًا شاملًا، ومن ثَم كانت جزءًا بالِغ الأهمية من التعليم.
في القرن الخامس قبل الميلاد، فُتِحت مدارس لتعليم البلاغة في أثينا. اقتصرت تلك المدارس على الرجال أصحاب الامتيازات. وعندما غزا الرومانيون اليونان، بدءوا في تطوير قواعد الحديث المؤثِّر والبناء عليها.
تعتمد البلاغة على ثلاث مراحل عمل مُترابطة.
(١) الإلقاء
القدرة على الحضور واستخدام جسدك، نَفَسَك، صوتك، حديثك لتوصيل فكرة أو قصة أو نقاش ذي أهمية بأسلوبٍ مؤثر. تعلَّم الطالب أنه حتى يَحظى بالسُّلطة، عليه أن يقف في اتزان تام، ويحافظ على تواصل بصري واضح، ويتنفَّس بعُمق ومن منطقة العضلات السفلية حتى تنطلق الكلمات، ويُدعم الصوتُ الحُر القوي بالمدى والصدى الصوتيَّين. إنَّ الإلقاء هو المهارة التي أُعلِّمها في البداية، فينتج عنها صوت مسموع وواضح ومُعبِّر من شأنه أن يغمر الجمهور بالإثارة ويُلهمهم. ولن يتحقَّق ذلك إلا عندما تكون العضلات المُتحكمة في الكلام قويةً ومرنة لتحقيق الوضوح، وتغيير السرعة والإيقاع داخل الكلمات ومن خلالها.
لم يُكتَب الكثير عن الإلقاء. أحدُ أسباب ذلك أنَّ الطلاب الذكور المُتميزين لم يكونوا قد فقدوا حضورهم وصوتهم الطبيعيَّين، ولم يتسبَّب نمط حياتهم في تقويض صِلتهم باللغة. ولأنهم كذلك كانوا مُدركين بأنهم سوف يتحدَّثون في كثير من الأحيان إلى مستمعين صارمين، عُلِّم الطلاب بأنَّ عليهم أن يسرُّوا مسامعَ الجمهور بطريقة إلقائهم. قبل أن تتمكَّن من توصيل أي فكرة أو شعور، فأنت بحاجةٍ إلى حضورك وجسدك وصوتك. اعتاد هؤلاء الشباب استخدامَ صوتهم باستمرار؛ لهذا لم يفقدوه قط. ولم تكن أصواتهم بحاجةٍ سوى إلى التعزيز. كان الهدف من التدريب على الإلقاء هو أن يبدوَ طبيعيًّا، وليس منمقًا أو شعريًّا.
يأتي بعد الإلقاء الأسلوب البلاغي.
(٢) الأسلوب البلاغي
الأسلوب البلاغي ليس عنصرًا شكليًّا، إنما هو راسخٌ في داخلنا.
عندما يتمتَّع الجهاز الصوتي بالقدرِ الكافي من الحرية لإلقاءِ خطابٍ، يمكنك حينئذٍ التركيزُ على إمتاع الجمهور بالمنطق والعاطفة، وجذبهم للاستماع، والتغيير بل وحتى موافقتك في الرأي. إنَّ الأسلوب البلاغي والسرد القصصي عنصران متأصِّلان في جوهرنا. ببساطة، إذا قرأت أو قصصتَ على طفلٍ حكايةً مُمتعة، يمكنه الاستماعُ إليك بوضوح، وبفطرته يشعر بالعنصر المؤثِّر من حيث الأسلوب. وبذلك فهو يتعلَّم البلاغة وأنت تقرأ له.
إذا ألقيتَ بصوتٍ عالٍ نصًّا ذا بِنية منظَّمة، فأنت تفهم البلاغة.
ثمَّة هالة من الغموض كانت تُحيط بالبلاغة.
بالطبع، كان دائمًا هناك رواة قصص موهوبون بشدة لكنهم ليسوا من الطبقات المُتميزة، أو رجال فهموا الحاجة إلى الإلقاء، وتسرية الجماهير، وإمتاعهم والتغيير فيهم، واستخدموا البلاغةَ دون معرفة منهم بمصطلحها.
لم تُعلَّم جَدتي البلاغة، ولكن مثلها مثل العديد من النساء اللاتي لم يُكملن تعليمهن، فهمَتْها وتحلَّت أمامي بالشجاعة لتستعرض مهاراتها. قال لي المُمثل الشهير روبرت إديسون الذي اشتُهر بإلقاء الشعر: «إذا استمع الواحد منَّا إلى الجمهور، فسيعرف إذا كانت تُعار إليه آذان صاغية أو أنه استحوذ على اهتمامهم. تُصبح لديك معرفة واسعة بالأسلوب البلاغي لأنه صار بوسعك أن تشعر بتأثيره، فيُدرَك تأثير الأسلوب من ردِّ فعل الجمهور.»
أُفكِّر في جَدتي وتعليقها اللاذع الذي أصاب حقيقةً في داخلي. وهو أنَّ شكسبير كتب ما «قلناه نحن»: بالنسبة لجَدتي، فإنَّ «نحن» قُصِد بها الطبقات العاملة. فهمتْ أنَّ الأسلوب والبلاغة ليسا مَسعيَين أكاديمِيَّين، بل يعرفهما جميع رواة القصص.
ثمَّة أدلةٌ كثيرة على أنَّ المثقفين استقَوا دائمًا الأفكار من التراث الشعبي؛ بالأخص تقاليد الطبقات العاملة. خضعت الرقصات الشعبية إلى عملية تحسينٍ وتنقيح وطُّورت لتُصبح رقصاتٍ تليق بالبلاط الملكي. وأُضيفت لمساتٌ جمالية على الرقصة الأصلية ثم استأثرت بها الطبقات العُليا. لاقت الموسيقى والأغاني الشعبية المصيرَ نفسَه. رُوِّض أصحاب الامتيازات أيضًا عندما سرقوا الرقصات والقصص الشعبية. إنَّ ما اعتُبِر أنه رقصٌ وإلقاءٌ حرٌّ باعث على البهجة، صار مقيدًا ورصينًا و«راقيًا». حمل المُغنُّون المتجولون والمهرجون قصصًا خطيرة وبذيئة إلى البلاط الملكي، ثم استؤثر بتلك القصص وصُبغت بصبغة «حضارية». في القرن التاسع عشر، قرأت الطبقات الوسطى قصصًا خيالية كانت قد نقِّحت من النُّسخ القديمة، فصارت قصصًا أخفَّ في المحتوى الجنسي والطابع العنيف.
خضعت كلُّ هذه الإبداعات الشعبية إلى بنيةٍ منظَّمة: كان لها إيقاع، وسرعة، وتكرار، وبداية ونهاية. حملت القصص في طياتها أسلوبًا وعواطفَ مؤثِّرة وطابعًا أخلاقيًّا، ومنطقًا: مشاعر وأخلاقًا ومنطقًا. سأكتب لاحقًا في الكتاب عن الطريقة التي يمكنك بها فهْم هذه المصطلحات فهمًا شاملًا وتجسيد هذا العمل.
إذا استولت الطبقة المتميزة، كما نعلم، على القصص والرقصات من الطبقات العاملة وجعلوها أكثرَ خضوعًا لأذواقهم، يُمكننا أن نفترض بقوة أنَّ الرجال تعاملوا مع قصص النساء التي سمِعوها بالطريقة نفسها.
خمَّنت الممثلة إيما تومسون في إحدى المرات أنَّ جميع القصائد «المجهول مؤلفها» كانت من كتابات نسائية.
إنَّ الأسلوب البلاغي، أثناء التواصل، يشتمل على الأفكار والمشاعر ويدفع بسيرهما إلى الأمام.
يحمل الأسلوب البلاغي التأثيرَ العاطفي للقصة ويوضِّحه.
إنَّ أبسط مثال على ذلك هو «كان يا مكان … وعاشوا جميعًا في تباتٍ ونبات». تمنحنا هذه الأشكال البلاغية البسيطة القدرةَ على تحمُّل الرعب أو الحزن في القصة مع العلم بأنها ستحمل نهايةً سعيدة. وتضع حدًّا للقصص التي لا يمكن احتمالها وتجعلها محتَمَلة.
لكنَّ الأسلوب يفعل شيئًا آخرَ لا يقل أهميةً عندما نروي قصصًا صعبة ومهمة. إنه يحرِّك سيرَ الأحداث إلى الأمام. يشجِّع الراوي على عدم الانغماس عاطفيًّا، بل يشجِّعه كذلك على المضي قُدُمًا والبحث عن حلٍّ من أجل استمرارية البقاء والحياة. بهذه الطريقة، فإنَّ الأسلوب يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإيقاع، والإيقاع يحمل في داخله السرعة. إنَّ نصًّا ذا بنيةٍ منظَّمة يُشبه المدوَّنة الموسيقية التي تحرِّك المتحدِّث إلى الأمام بسرعاتٍ مختلفة.
ويُعَد الإيقاع الأساسي هو العمبقي، وهو المقابل اليوناني للركن الشعري، على غِرار خطوة راقصة. دي-دوم، مقطع غير مشدَّد ثم مقطع مشدَّد.
أن تكون أو لا تكون، دي-دوم، دي-دوم، دي-دوم.
هذا الإيقاع هو جزء منَّا، إنه نبض القلب. دي-دوم. إنه أول وآخر إيقاعٍ يسمعه كل الرجال والنساء. نبض القلب أو الإيقاع العمبقي ليس مجرد إيقاع يفهمه المثقَّفون فحسب. إنما هو إيقاع يمثل قوة الحياة، يأخذنا إلى الأمام حينما نتحدث. إلى الأعلى والخارج: دي-دوم. إنه صوت ضخ الدم وسريانه.
يعبَّر عن الإيقاع العمبقي في مقاطع الكلام. إنه الإيقاع الأساسي في الشكل البلاغي. لكن نظرًا إلى أنَّ الحياة تصدمنا وتصدم قلوبنا، يتغير الإيقاع في النص المنطوق ليواكب التغييرَ الذي طرأ علينا. لكن الإيقاع ليس منتظمًا على الدوام. فالقلب يرتجف، ويتخطى نبضه، ثم يتعافى من الركود الذي أصابه عن طريق التحوُّل من نبضات القلب العمبقية المُنتظِمة إلى إيقاعاتٍ أخرى.
يكشف الإيقاع العمبقي عن التشديد، والسرعة، واللحظات التي ينكسر فيها الإيقاع والسرعة: يُسرِّع، أو يُبطِّئ، أو يتوقَّف.
(٣) تسلسل الأفكار واللغة
يقول علماء الأنثروبولوجيا إنَّ إحدى اللحظات العظيمة التي سمحت للجنس البشري بالسيطرة على الكوكب هي حينما نَمَت عقولنا حتى تمكَّنا من التفكير على نحوٍ متسلسل: «انظر إلى آثار الغزلان في الأرض: إنها تسلك هذا الاتجاه، نحو البحيرة. لنتتبَّع الغزلان.»
ستُّ مراحل من التفكير تحفز على المضي قُدُمًا.
إنَّ هذا التسلسل في الصيد هو مسار التفكير نفسه في قول:
«أكون أو لا أكون: تلك هي المسألة.»
ثلاث مراحل من التفكير تحفز على المضي قُدُمًا.
أُطلق على هذه الرحلة الفكرية المتسلسلة اسم «التفكير الكلاسيكي»، وعلى غِرار فتْحِ دمية روسية، فإنَّ التسلسل يبحث عن نتيجة، حل، فَهْم. إنَّ الطفل الذي يفتح الدمية يشارك في العملية المادية لفعلٍ ما من أجل العثور على مركز الشيء.
نحن نفعل الشيء نفسَه عندما نستخدم الكلمات والأفكار لحل مشكلة أو قضية. ويصبح العثور على الكلمات والأفكار ملموسًا عند نطقها بصوتٍ عالٍ: فالجانب المادي للحديث يوضح ما يدور في العقل.
شجَّع مصطلح «التفكير الكلاسيكي» الكثيرين على الشعور بأنه مهارة نخبوية، وليس مهارةً بشرية فطرية. يمكن لأي شخصٍ ممارستها وصقلها لتصبح سلاحًا قويًّا في المناظرة، أو رواية القصص وبناء الحوار، أو في المناقشات التي تسعى إلى التوصُّل إلى قرارٍ ونتيجة. يُمكننا جميعًا أن نخوضَ رحلةَ تتبُّع الغزلان!
إذا قرأت النصوص الكلاسيكية بصوتٍ عالٍ، يمكنك الشعور بهذا التسلسل وكشفه. وعند الحديث عن هذه النصوص، يمكنك تمرينُ عقلك لتقوية وتعزيز قدرتك على التفكير والتعبير عن نفسك في أفكارٍ مصاغة متسلسلة. حتى وقتٍ قريب، عُلِّم عددٌ قليل جدًّا من النساء أو تلقَّين تشجيعًا على التفكير والتحدُّث بهذه الطريقة. اختارت بعض النساء دخولَ الأديرة حتى يُسمح لهن بالتفكير ودراسة النصوص الكلاسيكية، واستكشاف نطاق الأفكار والمشاعر وعُمقها.
- التكرار: تستخدِم جميع القصص والأفكار القوية التكرارَ لتسليط الضوء على الرسائل القوية في القصة وبناء التوقُّعات لدى الجمهور. «لديَّ حُلم …»
- التضاد: صراع الأضداد. طرفا الجدال. الصراع المُحتدِم بين القلب والعقل الساعي نحو
الفهم. «هذه الحرب الأهلية تنشب بين ما أحبُّ وما أكره». الحبُّ مقابل الكراهية. «وانظر
إلى النهار الشجاع الذي ينزوي في الليل المخيف». النهار مقابل الليل، مع «الشجاع» مقابل
«المخيف».
يستخدم الأطفال هذا في القصص وفي استكشاف عدالة العالم: هذا مقابل ذاك. يتطوَّر هذا التأرجح في الفكر والقلب ويتعقَّد، ثم يُساعدنا على فهمِ ما نفكِّر فيه ونشعر به.
- المحتوى: في البلاغة أيضًا مصطلحاتٌ لوصف طبيعة ونوعية القصة التي يحتوي عليها القالب البلاغي.
- اللوجوس: الحجَّة، الرأي، الحقائق التي تدعم المنطق.
- الباثوس: الاستمالة العاطفية، الشفقة، الرحمة، الحزن.
- الإيثوس: الأخلاق والمصداقية، مغزى القصة.
كلُّ نوعية لها لغة مختلفة. يتَّسم اللوجوس بأنه أكثرُ عقلانية و«استنادًا إلى البيانات». أما الباثوس، فيتطلَّب الاستعانة بصور بلاغية واستعارات. ويستخدم الإيثوس لسبر أغوار المبادئ الأخلاقية، والعدل، والصواب في قصةٍ أو مناظرة. هناك مئاتٌ من الأشكال البلاغية التي تُسهم في تعزيز المحتوى، لكن تُعد هذه الأشكال الثلاثة في غاية الأهمية لإثراء عقولنا وقلوبنا وشعورنا للتمييز بين الصواب والخطأ.
بدأ اليونانيون حملةً متعمَّدة لحرمان النساء من أصواتهن وقدرتهن الطبيعية على ترتيب الأفكار، وذلك عن طريق حرمان النساء من تعلُّم البلاغة وعدم منحهن فرصةً لاعتياد التواصل وممارسته.
عندما سقطت الحضارة اليونانية، حلَّت محلَّها إمبراطورية أكثر وحشيةً وبطشًا، وهي الإمبراطورية الرومانية التي نعتمد عليها حقًّا.
لبث الرومان طويلًا بما يكفي حتى نسِيَ الناس أنَّ النساء، في يوم من الأيام، كان لهن صوتٌ وقوة. نسيت أوروبا أنَّ النساء يمكن أن يمتلكن القوة، ويخترن مَن يتزوجن، ويحتفظن بثرواتهن. وتُنبذ مَن استطاعت منهن أن تتذكَّر ذلك. فلم يَعُد الذهاب إلى المعالجات إلا في حالةٍ ميئوس منها، وتعرَّضت العرَّافات للمطاردة.
باتت الساحرات ينتظرن ماكبث على أرضٍ قاحلة.