الذكرى المُتلاشية لقوة المرأة
استمرَّ الكبت الوحشي لصوت المرأة وحرمانها من التعليم والبلاغة، ومع مرور الوقت، ترسَّخت في كل الحضارات الحديثة «الأحاديثُ الكاذبة» بأنَّ المرأة ليس لها صوتٌ حقيقي أو لا تتمتع بالذكاء.
صدَّقها أغلب الرجال وأغلب النساء أيضًا. خلص العلم إلى أنَّ عقول النساء أدنى من عقول الرجال، وأنَّ الأفكار الصعبة قد تضرُّ بهن. كما خلص إلى أنَّ النساء مزعجاتٌ وماكرات ومراوغات، وفي بعض الحالات، سيكون العالَم أفضل من دونهن. هذا باستثناء إذا اقتصر دورهن على إنجاب الأطفال.
لكن، رغم محاولات الرجال الحثيثة، لم يفلحوا في إسكات النساء تمامًا، حتى بعد أن استعانوا بالعديد من النساء كي يَنُبْن عنهم في تلك المساعي.
أدركت فلورنس نايتنجيل أنَّ الاستبداد الذي يفرضه الزواج ورعاية الأطفال هما اللذان قد أوقفاها عن عملها الثوري في التداوي والتمريض.
ثم ظهر بعد ذلك الرجال المُستنيرون. أولئك الذين سبَحوا ضد تيار الرضوخ والإذعان. الرجال الذين أدركوا أنَّ أمهاتهم وأخواتهم وصديقاتهم المُقرَّبات لم يكنَّ أقلَّ منهم شأنًا. الرجال الذين شعروا بالانجذاب نحو النساء الجريئات الشجاعات المُطَّلِعات المذهلات وأحبُّوهن أندادًا لهم.
بل ناصَر بعضٌ من هؤلاء الرجال حقوقَ المرأة.
عندما سألتُ والدي في سن السادسة عشرة لماذا يتلقى أخي تعليمًا أفضلَ وأعلى تكلفةً من تعليمي، فكان ردُّه لامُباليًا. «أنتِ فتاة: والفتيات لا يحتجن إلى تعليم جيد.»
كنت أعلم أنه مُخطئ؛ لأنني كنتُ قد وجدت بالفعل رجلًا مستنيرًا في قاع خزانة. فوجدت الأعمال الكاملة لويليام شكسبير.
إذا قرأت المسرحيات كاملةً، فسترى أنَّ النساء متساوياتٌ مع الرجال في الوعي والذكاء، ويفُزن في معظم المناظرات. شعرتُ أنَّ شكسبير كان يُحِس بي ويعرفني؛ سلَّط ضوءًا واضحًا على إمكانية أن أتكلَّم وأن يُسمَع صوتي طرفًا متكافئًا. أظهرت هؤلاء النساء شجاعةً أكبر من الرجال في قدرتهن على التعبير عن الحقيقة والقوة.
لم تخَفْ هؤلاء النساء أن يكرههن الرجال.
لا أحد يعرف كيف أو لماذا كتب شكسبير عن هؤلاء النساء بطريقةٍ لم يَسبقه فيها أحدٌ في تاريخ الحضارة الغربية. كيف أدرك براعةَ النساء وأثار غضبه أنهن لم يَنعمن بالحرية ليُصبحن مكافئاتٍ للرجال في القانون. لماذا يُظهرهن شريكًا مكافئًا في الزواج حتى عندما لم يكن هناك سبيلٌ ممكن لأن يعترف القانون بالمساواة؟ من المُمكن أنه استمدَّ إلهامه من إليزابيث الأولى، تلك المرأة المثقَّفة الفائقة الذكاء. أو ربما كان متزوجًا من امرأةٍ بارعة تحدَّته، وتفوَّقت في الذكاء والجدال. كان يعلم قَطعًا أنَّ النساء يمكن أن يُحبِبن بشغفٍ وعُمق مثلهن مثل الرجال. كان يعرف أنه يُطلق عليهن «مجنونات» عندما يمتلئنَ حزنًا وغضبًا، وأنهن يستحقِقن العدل.
على عكس العديد من زميلاتي في المسرح، لم أُرسَل إلى مدرسة كبيرة. كانت المدرَسة مُرضِية، لكنها لم تمثل تحديًا، ولم تشجِّع الفتيات على التفوق. لم تُغرَس في نفسي الثقة بقدرتي على خوض غمار المنافسة في أرفع مناصب العالم.
كانت هناك، ولا تزال، مدارس للفتيات تتبنَّى رؤيةً تتمثَّل في تنصيب النساء في الأدوار القيادية. مدارسُ كانت المُعلِّمات فيها غالبًا «عانسات»، يحملن خطةً سياسية بشأن حقوق المرأة.
لكني علَّمتُ نفسي بنفسي، مثلما فعلَتِ الآلاف من النساء.
من خلال قراءة أعمال شكسبير بصوتٍ عالٍ، تعرَّفتُ الأفكارَ وكيفيةَ التفكير بطريقةٍ أفضل وأكثر وضوحًا. كانت محاولةً وحيدة، لكنها فتحت بابًا إلى عالمٍ آخر.
إنَّ آلاف النساء والرجال الأقل حظًّا قد تعلَّموا المهارات التي تعلَّمها الصفوةُ من الرجال بهذه الطريقة. يمكن للعقل الفضولي والطموح أن يتعلَّم من خلال الاستماع. الاستماع بانتباهٍ إلى نقاشٍ مسرحي مؤثِّر. الاستماع إلى الأشخاص الذين تُعجَب بهم عندما يتحدَّثون، أو إلى أولئك الذين تُدرك أنك يجب أن تتحدَّث إليهم، أو إلى أولئك الذين تعرف أنك يجِب أن تتحداهم. وعليك الاستعداد جيدًا لأولئك الذين يُخيفك حضورهم: هذا قد يعني أن تتذكَّر البقاءَ حاضرًا في الدائرة الثانية معهم وأن تتنفَّس. قبل اجتماعٍ. حضِّر بصوتٍ عالٍ الأفكارَ التي تعرف أنه يجب الحديث عنها.
في هذه الأيام، ينبثق بعضُ أفضل المتحدثين والمتكلِّمين من المجتمعات التي لا تزال تحمل طابعًا شِعريًّا، ألا وهم رواة القصص. هم أشخاصٌ لا تُقيدهم البيئة الأكاديمية، أو الخوف من الوقوع في الخطأ. هم أشخاص يُبدون اهتمامًا بإحداثِ تأثير بسرد القصص.
في معظم التقاليد، كانت النساء دائمًا هنَّ المتعهدات بالقصص. وبالأحرى، القصص والمعلومات التي، قبل الكتابة، كان من الضروري معرفتها وتذكُّرها. قصص عن تاريخ إحدى الجماعات. جغرافية البيئة؛ موقع المياه أو مرعى خصيب، أو المبادئ والقوانين الأخلاقية لإحدى الجماعات. ولِعِظَم قَدْر القصص، كان الرواة مُعظَّمين مُكرمين، ويُحمَلون إذا عجزوا عن السير واللحاق بالمجموعة. فكان الكبار منهم يحظَون بالتقدير والإجلال.
إنَّ المربِّية في «روميو وجولييت» تعرف تاريخَ المرحلة الأولى من حياة جولييت وتحفظه. لا يعرف والداها شيئًا عن طفولة ابنتهما. ولا نعلم نحن اسمَها أبدًا: ليس إلا أنها المُربِّية، امرأة من الطبقة العاملة تعمل في خدمة عائلة ثرية. ليس ثمَّة دليل على أنها تستطيع القراءة، لكنها تستطيع أن تتحدَّث وتعبِّر بدقة عما تعرفه.
لم أكن أعرف جَدتي إلا بأنها جَدتي حتى سن الرابعة عشرة عندما كنت أتطلَّع إلى شهادة زواجها.
«اسمك وينيفريد إديث!»
«أصدقائي ينادونني ويني.»
لم أسمع قط ذلك الاسم من قبل. جميع مَن كنت أعرفهم كانوا ينادونها بجَدتي.
تطلِق المربِّية في «روميو وجولييت» على ابنتها التي فقدتها اسمَ سوزان. كان شكسبير يعرف أنَّ الجَدات يُنادَين ﺑ «الجَدات»، وكذلك المُربِّيات ﺑ «المربِّيات». يتوارى الاسم الحقيقي خلف مسمَّى الوظيفة أو العمل عندما يوظِّف الأثرياء أفرادًا من الطبقات العاملة.
من أقدمِ مواضعِ التندُّر في المسرح — اليوناني والروماني — هو الخادم الذي يفوق سيِّده أو سيِّدته ذكاءً. فيبدو متحدثًا أكثرَ ذكاءً وبراعةً ومهارةً من «أسياده» الذين تلقَّوا تعليمًا باهظ الثَّمن.
إذا كنت ذكيًّا ويُحيط بك أشخاصٌ مُتعلمون ومثقفون، يمكنك بسهولة اكتسابُ اللغة واللهجة. فيمكنك ملاحظة ما يحدث، وتنفيذه أفضلَ من المتعهدين بالأمر نفسه. ومع ذلك، من المهم أن تعرف بأن القدرة على التحدُّث بفعالية هي السرُّ.
في مسرحية «الليلة الثانية عشرة»، تسيطر ماريا على السيد أندرو أجوتشيك الذي تلقَّى تعليمًا باهظ الثَّمن. يمكنها القراءة والكتابة وتعلَّمت تزوير خط يدِ سيدتها أوليفيا. ثم تسلك طريقًا لتحسين وضعها؛ إذ في الواقع، تدور مؤامرتها حول خداع خادمة أخرى حتى تتمكَّن من الزواج من السيد توبي بيلتش وتصبح سيدة.
في أعمال شكسبير، لا يمكن التعرُّف على النساء الذكيَّات الفصيحات إلا حينما تتنكَّر المرأة في هيئة رجل. إنه قناعٌ خادع يسمح للرجل بالدخول في محادثة عميقة ومتكافئة مع امرأة، دون أن يعرف أنها امرأة. هذا التنكُّر علَّم الرجال أنَّ النساء قد يكن مكافئاتٍ لهم، إن لم يكنَّ أفضلَ منهم في العقل والصوت.
لقد وجدت النساء متنفسًا لتحسين وضعهن الاجتماعي في تعلُّم الكلام والتعبير عن أنفسهن ببراعة، وأسهم هذا التعبير في إخفاء أصولهن.
في مسرحية «مهنة السيدة وارن» للكاتب جورج برنارد شو، تبدأ السيدة وارن كعاهرة في محطة فيكتوريا ثم تُحسِّن من نفسِها لدرجةِ أنها صارت نموذجًا للمرأة المثقَّفة الراقية المنتمية إلى الطبقة العليا. والشيء الوحيد الذي تفعله لابنتها هو أنها تدفع مقابل توفير أفضل مستوًى من التعليم يمكنها الحصولُ عليه.
منذ عدة سنوات، دُعيتُ إلى حفلٍ في شقةٍ في شارع فيفث أفنيو بمدينة نيويورك. أخبرني أصدقائي الأمريكيون أنَّ الشقة لسيدة إنجليزية من الطبقة الأرستقراطية ذات أصل متواضع. كانت شقة جميلة. ولكن عندما قُدِّمتُ لمُضيفة الحفل، شعرتُ بخوف حقيقي منها. كانت تتمتَّع بأناقةٍ وأدبٍ لا غبار عليهما، لكنها كانت تقاوم أيَّ محاولة اندماج معي. لم تكن قد عرفت أنني مدرِّسة للتدريب على الصوت والكلام حتى تقديمي إليها. منذ تلك اللحظة، لم يكن مرحَّبًا بي بالرغم من محاولة إخفائها لذلك ببراعة. في وقتٍ لاحِق من المساء، وجدنا أنفسنا وحدَنا لبضع دقائق. وكان بقية الحضور غارقين في ضحك صاخب في شُرفتها الواسعة.
تطلعَت إليَّ مباشرة وقالت: «أنت تعرفين.»
فنظرتُ إليها. «نعم، أعرف.»
«أتعرفين أنني فتاة من الطبقة العاملة من برمنجهام؟»
«لم أكن أعرف أنكِ من برمنجهام، لكني أعرف أنكِ دَرَستِ لهجتك على نحوٍ يُشهَد له».
«إذن، كيف عرفتِ؟» اختفت كلُّ معالم التوتُّر، وكانت تبتسِم بفضول.
«لأنها مُتقَنَة بدرجةٍ مُبالغ فيها.» هكذا بالتحديد انكشف أمرُ إليزا دووليتل. «ولن أخبر أحدًا بذلك.»
ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ أخرى. «أشكركِ.»
حتى وفاتها، كنا نلتقي ونشرب الشمبانيا، وعرفتُ محطاتٍ من رحلتها المميزة حتى تُصبح «أرستقراطية» لكن من «أصل متواضع» وفقًا لتحفُّظها الواعي. إنها النسخة الحديثة من السيدة وارن في زمنٍ لم يكن فيه «فيسبوك» ليكشف المسار الذي يتَّخذه المرءُ في حياته: كانت عاهرة بَنَتْ حياتها وثروتها بطريقتها الخاصة.
إنَّ أول حكومة عمالية برئاسة توني بلير كانت تضم عددًا غيرَ مسبوق من النساء اللاتي انتُخبن في البرلمان والسُّلطة. تلقَّت أغلب هؤلاء النساء تعليمًا حكوميًّا ولم يحظَين برفاهية التعلُّم الشفهي أو دراسة البلاغة.
عملتُ مع بعضٍ منهن. كان أحد الأمور التي شغلت بالهن هو: ارتباكهن وإعجابهن بقدرة عضو البرلمان من الحزب المحافظ على مناقشة مسألة، ثم يُبعده عنها سؤالٌ مطروح، وبعد ١٠ دقائق، وبعد مشاجرة فكرية ومقاطعته عدةَ مرات، يجد طريقةً ليعود مرةً أخرى إلى المسألة التي كان قد تركها منذ فترة. لم يتعلَّم هؤلاء النساء النقاشَ أو لم يُمارسنه حتى وصلنَ إلى مناصبَ في السُّلطة.
جاء المحافظون، نساءً ورجالًا، من مدارسَ خاصة ودرسوا الأعمالَ الكلاسيكية واعتادوا العروضَ التقديمية، أسبوعيًّا إن لم يكن يوميًّا، أمام الجمهور طوال حياتهم المدرسية والمهنية. التعلُّم الشفوي. تدرَّبوا على الأساليب والتراكيب النصية، وقرءوا بصوتٍ عالٍ الأعمال الكلاسيكية التي تُعَد نصوصًا ذات بنيةٍ قوية. على سبيل المثال، إذا درست كتاب «الفردوس المفقود» لميلتون، فسيُحتِّم عليك النص أن تسرد قصةً ملحمية، ثم تبعُد عن السرد لاستكشاف تشبيهٍ طويل له علاقة بالقصة — ربما يشغل ١٠ أسطر — قبل أن تعود إلى القصة وتستمر في سردها.
هذه عملية بسيطة، لكنها تحتاج إلى الممارسة باستخدام الصوت والعقل. تدرَّب كما لو كانت الفكرة بمثابة رحلة، فتبدأ على الطريق مع بداية فكرة، وتستعد في جميع الأوقات أن تتوقَّف أو تُرجئ التفكير والتنفُّس إذا اقتضى الأمر. إذا اضطررت إلى تحويل المسار فجائيًّا حينما تُباغتك مقاطعة هجومية من خَصْم واستلزم الموقف منك إبداءَ ردِّ فعلٍ فوري، فتعلَّم أن تسلك هذا المسار الجديد — وهو الرد على خَصمك — لأطول فترة يقتضيها الموقف. ثم يُمكنك العودةُ وطاقتك مُتجدِّدة لتواصل الطريقَ والفكرة التي توقَّفت عندها. إنه إحساس داخل جسدك يمكنك أن تشعرَ وتمرَّ به، ويمكن فيما بعدُ تطبيقه على كل أنواع التواصل. تعلَّمت هؤلاء النساء الطموحات الواعدات هذه المهارةَ في ثلاث جلسات وبدأن في التحكم في خصومهن والنقاش على أساس أنهن مكافئات.
في بداياتي مع التدريس، كنت أعلم أني متحاملة ضد أسلوب الحديث الصارم و«الرسمي». ذاك نوع الحديث الذي كنت أتدرَّب عليه في دروس الإلقاء.
أُرسلت إلى دروس إلقاء لأتعلَّم الكلام بثقةٍ ومن دون تلعثم وغمغمة. اتَّقد حبي للشِّعر، لكنني وجدت أنَّ التحدُّث علنًا أمام الفصل يحمل القدْر نفسه من الصعوبة. كنت أخشى الانتقاداتِ القاسيةَ من المعلِّم. كنت أُلقي الشِّعر بصوتٍ عالٍ في غرفتي بالمنزل، لكن كان ينعقد لساني أمام الناس. لم أذهب إلى الحفلات لخوفي من التواصُل المطلوب مع الأطفال الآخرين.
كان تلعثمي عند الحديث يُقابَل بالسخرية، ويزداد رعبي عندما يشارك الفصل في القراءة، كلٌّ في دوره. في الواقع، كنا نقرأ النصَّ أولَ مرة بصوتٍ عالٍ، ومثلما سيؤكد أيُّ مُمثل بارع على كلامي، فإنَّ هذه أصعب مهمة يمكن القيام بها. لعلَّ هذا أحدُ أهم الأسباب التي تجعل الشباب يشعرون بالفشل عندما يُحاولون قراءةَ نصٍّ مُهم. كنت في غاية الخجل. لكني أدرك الآن أنَّ هذا الخجل كان مرتبطًا بعدم قُدرتي على إجراء محادثة عابرة. كما قد ذكرت، كنت طفلةً جادة ولم ألقَ إعجابًا من الآخرين لهذا السبب. كنت أكره دروسَ الإلقاء. ولم أنجح فيها، أيًّا كان نوع هذا النجاح!
في صباح أحد الأيام، سألتُ أُمي إن كان عليَّ الاستمرار في دروس الإلقاء أم لا. كانت عاملة النظافة، السيدة داك، في المطبخ وسمِعت شكواي صدفةً. فظهرت عند مدخل الباب. إنَّ الصورة الذهنية المُترسِّخة عنها الآن وآنذاك هي أنها امرأة أثقلتها أعباء الحياة. كانت تمشي كما لو كانت تجرُّ عربة في حقلٍ موحِل.
«ليتني أستطيع تحمُّل تكلفة دروس مثل تلك لبناتي. إنها ستمنحهن بدايةً أفضل في الحياة.»
كان الشغف ووضوح الكلمات في حديثها مؤثرَين بقوة حتى إنني بدأت الذهابَ منذ ذلك الحين إلى الدروس بروحٍ مختلفة وامتنانٍ عميق.
لم ألتحق بمدرسةٍ كبيرة، لكنها لم تكن مدرسةً تُعلِّم الفتيات كيف يُرضين الرجال. كان لديَّ مُعلمات شجَّعنني. قدَّمن ما في وُسعهن في ظلِّ ما أتاحه المكان والزمان اللذان كن يدرُسن فيهما.
كانت السيدة أوتواي تُدرِّس الفلسفة للأطفال في عمر ست سنوات. جعلتنا نكتشف الشِّعر، ولم تُشر قط إلى أنه ليس بوسع فتاة أن تقرأ قصيدةً عن الحرب كتبها أحدُ الرجال.
إنَّ السيدة بريكي، بالإضافة إلى كونها مُعلِّمة ضليعة في الأدب الكلاسيكي جازفت بأن مرَّرت لي خلسةً كتابًا أدبيًّا خارجَ المنهج، لاحظت فضولي، وأعتقد أيضًا شجاعتي في عزوفي عن التسكُّع مع الفتيات اللاتي يَحظين بشعبية واسعة. عرفتْ كذلك أنَّ فوضويتي تحمِل في باطنها إبداعًا، وكانت منذ ذلك الحين حازمةً وتمنح اهتمامًا مطلقًا. أخبرتني بأن كتابتي فوضوية وسيستعصي على أي أحدٍ قراءةُ أفكاري المُثيرة للاهتمام إذا لم أُحسِّنْها. هذا دفعني لتعلُّم الكتابة بحروفٍ مائلة، فغيَّرت من طريقة كتابتي خلال فترة مؤلِمة في سنِّ الرابعة عشرة. تذكرتْ أمي أنني كنت أجلس وأبكي من الإحباط عدةَ أشهر بينما كنت أتعلَّم ببطءٍ الكتابةَ بوضوحٍ وبخطٍّ جميل. لم أُدرك إلا فيما بعدُ أنَّ العذاب الذي شعرت به عند الحاجة إلى الكتابة بوضوحٍ كان هو نفسه الذي شعرت به عند الحاجة إلى التحدُّث بوضوح. ولا أزال أشعر به. لكنَّ كليهما كانا ضروريَّين لي لتعزيز قدرتي على التعبير عن أفكاري.
منحني هؤلاء النساء التشجيعَ والدعم، لكنني كنتُ أعلم حاجةَ عقلي إلى صقله وتحسينه أكثرَ من ذلك.
خلال أسبوع واحد في المدرسة المركزية الملكية، تعلَّمت أنَّ بعض الرجال يعتقدون أنَّ أصوات النساء أدنى منهم ولا يُمكنها أن تقدِّم نصًّا عظيمًا. وكان هذا التحدي الكبير التالي الذي كان عليَّ مواجهته.